هل لدى كامالا هاريس رؤية للشرق الأوسط؟
تاريخ النشر: 15th, August 2024 GMT
المصدر: آراش عزيزي- مجلة ذا اتلانتك
ترجمة وتحرير “يمن موينتور“
تشترك إدارات باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن في رغبة واحدة مشتركة في السياسة الخارجية: الخروج من مستنقع الشرق الأوسط وتركيز الاهتمام الأمريكي على التنافس المحتمل مع الصين. وحتى في واشنطن المستقطبة بشدة، تتفق أيدي السياسة الخارجية في كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى حد كبير على أن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 كان كارثة كاملة، وأن الولايات المتحدة يجب أن تقلل من تورطها في مشاحنات المنطقة.
ولكن مثل فندق كاليفورنيا، لا يسمح لك الشرق الأوسط بالمغادرة، حتى بعد تسجيل الخروج. أبرم كل من أوباما وترامب صفقات تاريخية يزعم أنها لزيادة الاستقرار في المنطقة والسماح للولايات المتحدة بالتمحور في مكان آخر. لكن الأحداث غير المتوقعة ظهرت لبايدن وترامب، مما دفعهم مرة أخرى إلى إنفاق الكثير من طاقتهم هناك.
لا يمكن لكامالا هاريس أن تتوقع أي شيء آخر إذا فازت بالرئاسة في نوفمبر/تشرين الثاني. لكن النهج الذي من المرجح أن تتبعه في المنطقة ليس واضحا. بشكل عام، من الصعب تحديد سياسة هاريس – فهي عاملة متعددة الاستخدامات سياسيا- إذ عملت لصالحها حتى الآن، مما سمح لجميع أجنحة الحزب الديمقراطي برؤية ما يحلو لهم فيها. يأمل منتقدو دعم بايدن القوي لإسرائيل أن تكون أكثر قابلية للضغط من اليسار بشأن هذه القضية، في حين يجد الوسطيون سجلها المؤيد لإسرائيل في مجلس الشيوخ مطمئنا.
لا تخلو هاريس من خبرة في الشرق الأوسط، لكن تلخيص لقاءاتها ليس مضيئا بشكل خاص. كانت أول رحلة خارجية لها على الإطلاق كعضو في مجلس الشيوخ إلى الأردن في أبريل/نيسان 2017: زارت مخيم الزعتري، أكبر مخيم للاجئين السوريين في العالم، ودعت الرئيس ترامب آنذاك إلى “صياغة استراتيجية مفصلة” بشأن الحرب الأهلية السورية، التي نفذ فيها الرئيس بشار الأسد للتو هجوما كيميائيا مروعا على المدنيين. بعد ذلك بوقت قصير، ذهبت إلى إسرائيل والتقت برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
لا يقدم سجلها التشريعي عن الشرق الأوسط سوى عدد قليل من فتات الخبز. في عام 2017، أدان قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. واختارت إدارة أوباما عدم استخدام حق النقض ضد هذا القرار. شاركت هاريس في رعاية تشريع يعترض على هذا القرار، على أساس أن قرار الأمم المتحدة كان أحادي الجانب ولن يدفع التقدم نحو حل الدولتين، الذي يتحقق بشكل أفضل من خلال المحادثات الثنائية. وبعد عام، أعربت عن أسفها لانسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، الذي قالت إنه “أفضل أداة موجودة لدينا لمنع إيران من تطوير أسلحة نووية وتجنب صراع عسكري كارثي في الشرق الأوسط”. وأوصت في وقت لاحق بإحياء هذا الاتفاق وتوسيعه ليشمل الصواريخ الباليستية الإيرانية. لقد صوتت لقطع المساعدات الأمريكية عن المملكة العربية السعودية في حربها في اليمن ، حتى مع الاعتراف بالرياض كشريك مهم لواشنطن.
حصري- مجموعة هايل سعيد أنعم توظف جماعة ضغط في الكونجرس وسط جهود لتصنيف الحوثيين منظمة إرهابيةكل هذه النقاط، مجتمعة، موحية أكثر من كونها نهائية. وبالتالي فإن أولئك الذين يسعون إلى فهم سياسة هاريس الخارجية المستقبلية يميلون إلى النظر إلى النظرة العالمية الأكثر تفصيلا لفيليب جوردون، أقرب مستشار لنائب الرئيس لشؤون الشرق الأوسط ومستشارها للأمن القومي منذ عام 2022. خدم جوردون في عهد الرئيس بيل كلينتون وكذلك أوباما وكتب عشرات المقالات والكتب. وأشار الراحل مارتن إنديك، السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، العام الماضي إلى أن هاريس “تعتمد بشكل كبير على نصيحته نظرا لخبرته العميقة ومعرفته بجميع اللاعبين”.
مباشرة بعد ظهور هاريس كمرشح ديمقراطي محتمل، استغل بعض المؤيدين في اليسار بشغف كتاب جوردون “خسارة اللعبة الطويلة: الوعد الكاذب بتغيير النظام في الشرق الأوسط” كمؤشر محتمل على معارضته، وبالتالي معارضتها، لخلع الأنظمة غير الصديقة بالقوة. وفي الوقت نفسه، بدأ صقور إيران بمهاجمة غوردون كمدافع سابق عن الصفقة الإيرانية، التي ساعد في تحقيقها كمنسق أوباما للشرق الأوسط من عام 2013 إلى عام 2015. وقد كتب الجمهوريون في الكونغرس بالفعل إلى هاريس للاستفسار عن علاقات غوردون مع روب مالي، مبعوث بايدن السابق إلى إيران الذي وضع في إجازة العام الماضي بسبب التحقيق في تعامله مع المعلومات السرية (غوردون، وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومالي كانوا رفاق كرة القدم في أواخر تسعينيات القرن العشرين).
لكن جوردون ليس سرا بيلتواي راديكالي. إنه خبير في السياسة ويحظى باحترام العديد من الجهات. أوروبي وقع في حب فرنسا في سن مبكرة، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة جونز هوبكنز، حيث كتب أطروحته عن الديغولية. فقد ترجم ذات مرة إلى اللغة الإنجليزية كتابا للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الذي ربما يكون الزعيم الأكثر أطلسية في ذلك البلد في التاريخ الحديث. طمأنت اهتمامات جوردون المبكرة البعض في أوروبا الذين كانوا يخشون في البداية أن أصول هاريس في الساحل الغربي ستميلها أكثر نحو آسيا.
هبة حضرموت الثانية.. أين تتجه المحافظة النفطية مع التصعيد القبلي؟! (تحليل خاص)خدم جوردون فقط في الإدارات الديمقراطية وقضى سنوات جورج دبليو بوش وترامب خارج الحكومة ، وغالبا ما انتقد بشدة السياسة الخارجية للجمهوريين. عندما حاربت إسرائيل حزب الله اللبناني في عام 2006، شارك غوردون في كتابة مقال رأي في صحيفة فاينانشال تايمز وصف فيه دعم واشنطن للحرب بأنه “كارثة”. وبعد ذلك بعام، نشر كتاب “كسب الحرب الصحيحة”، وهو نقد طويل لسياسة بوش في الشرق الأوسط التي دعت إلى الانسحاب من العراق وأفغانستان، وإشراك إيران في مزيج من العقوبات والمحادثات، وتحقيق السلام العربي الإسرائيلي. توقع الكتاب أهداف السياسة الخارجية الرئيسية التي سيسعى كل من أوباما وترامب إلى تحقيقها في المنطقة – لكن السلام العربي الإسرائيلي الذي اقترحه غوردون تضمن عنصرا فلسطينيا لم تفعله اتفاقيات ابرهام التي أبرمها ترامب.
بطبيعة الحال، لن يكون للرئيس هاريس مستشار واحد للسياسة الخارجية، بل مجموعة كاملة منهم، تشمل المجتمعات العسكرية والدبلوماسية والاستخباراتية. وظهر اسم آخر في الأسبوع الماضي: إيلان غولدنبرغ، وهو إسرائيلي أمريكي من الشرق الأوسط قدم المشورة لهاريس بشأن المنطقة طوال فترة توليها منصب نائب الرئيس. عينته هاريس كمنسق لها مع الجالية اليهودية وكلفته بتقديم المشورة لحملتها بشأن إسرائيل والحرب في غزة والشرق الأوسط الأوسع.
يشبه ملف غولدنبرغ ملف غوردون، من حيث أنه ليس أيديولوجيا بقدر ما هو محترف سياسي خدم الإدارة أوباما في مناصب عليا متعلقة بالشرق الأوسط في البنتاغون ووزارة الخارجية. ولطالما دعا إلى حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وأيد سياسة الإدارة أوباما تجاه إيران، ولكن بعد توقيع الاتفاق النووي، دعا غولدنبرغ أيضا إلى تحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى التي كانت متوترة بسبب تركيز الإدارة على إيران. لم يكن هذا القلق مشتركا من قبل العديد من الديمقراطيين في ذلك الوقت.
“استنزاف”.. مقاومة مسلحة غير منظمة تتشكل في مناطق الحوثيينقد يكون افتقار هاريس إلى رؤية كبرى للشرق الأوسط نعمة. ذلك أن آخر رئيس أميركي “صاحب رؤية” في مجال السياسة الخارجية كان جورج دبليو بوش، الذي أنتجت أفكاره الضخمة حول الشرق الأوسط حرب العراق. عندما فكر والد بوش لأول مرة في الترشح للرئاسة، في عام 1988، أشار إلى الحاجة إلى “رؤية شيء”. لكن جورج بوش الأب ، على النقيض من ابنه ، سوف يسجل في التاريخ كصانع قرار مدروس يستمع بعناية إلى النصائح المتضاربة بشكل حاد من حكومته. بعد أقل من عام من ولايته، واجه بعضا من أكثر الأحداث دراماتيكية في التاريخ الحديث، مع سقوط جدار برلين ثم الاتحاد السوفيتي. لا يزال رئيسا للسياسة الخارجية يحظى بإشادة واسعة بين كل من الديمقراطيين والجمهوريين بسبب النتائج التي ساعد في تأمينها – بما في ذلك أوروبا موحدة وديمقراطية وكويت ذات سيادة.
حتى الآن، لا يعرف سوى القليل عن من الذي قد تجذبه هاريس إلى تشكيل سياستها الخارجية، أو حتى ما إذا كان من المرجح أن تجمع هاريس فريقا متنوعا أو فريقا يقيم بشكل مريح في معسكر سياسي واحد. ومع ذلك، فإن انخراط جوردون وغولدنبرغ الطويل والجاد في شؤون الشرق الأوسط يشير إلى أن هاريس سوف تقاوم إغراء غسل أيدي أميركا ببساطة في منطقة تبدو مزعجة. وربما كانت بداية فريق السياسة الخارجية الذي يدرك أن التعامل مع الشرق الأوسط أمر لا مفر منه، ويدمجه مع السياسات التي تركز على مناطق أخرى، بدلا من النظر إليه باعتباره منافسا لها.
لماذا نقترب من حرب إقليمية كارثية؟! لماذا تنتظر إيران الرد على إسرائيل بعد “اغتيال هنية”؟.. (نيويورك تايمز) تجيب (ذا اتلانتك).. خارطة الطريق تكافئ الحوثيين بالشرعيةالمخاطرة بتشجيع الحوثيين.. لماذا ضغطت السعودية لإلغاء قرارات البنك المركزي اليمني؟! (لوموند).. الجيوش الغربية عاجزة عن وقف هجمات الحوثيين
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق تراجم وتحليلاتسلام الله على حكم الامام رحم الله الامام يحيى ابن حميد الدين...
سلام الله على حكم الامامه سلام الله على الامام يا حميد الدين...
المذكورون تم اعتقالهم قبل أكثر من عامين دون أن يتم معرفة أسب...
ليست هجمات الحوثي وانماالشعب اليمني والقوات المسلحة الوطنية...
الشعب اليمني يعي ويدرك تماماانكم في صف العدوان ورهنتم انفسكم...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: السیاسة الخارجیة فی الشرق الأوسط للشرق الأوسط فی الیمن
إقرأ أيضاً:
النتائج المتوقعة بعد الاجتماع العاصف بين ترامب وزيلينسكي
يشكّل الرابع والعشرون من فبراير/ شباط 2024، الذكرى الثالثة للغزو الروسي لأوكرانيا، والذي يُعدّ من منظور موسكو بمثابة معركة وجودية تتصل ببعدَين: أحدهما داخلي يتمثل في بقاء الدولة أو فنائها من الخارطة الجيوسياسية للعالم، وآخر دولي يرتبط بإمكانية عودتها-روسيا- للعب دور محوري في العلاقات الدولية كقوى كبرى، ومن ثم البناء على ذلك لإعادة مجدها كقوى عظمى.
بينما تُمثل للطرف الأورو- أميركي خطوة تأمينية لازمة لاستمرار بسط النفوذ والسيطرة التي امتدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى يومنا هذا، مع الإقرار بوجود بعض التراجعات حول مستوى القبضة المفترضة على مفاصل النظام الدوليّ.
وبذلك يمكن النظر للصراع خارج سياق كونه صراعًا بين دولتين مدعومتين من طرفين مختلفين، إلى دائرة أوسع تتمثل في تحدي إقرار معادلة دولية جديدة تأخذ بعين اعتبارها كل المتغيرات التي أثرت بشكل كبير على قواعد النظام الدولي الأحادي الذي تمَّ بناؤه في العام 1945.
وبمجيء إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تغيرت المقاربة الأميركية لملفّ الأزمة الأوكرانية بشكل مثّل قطيعة كاملة لتعاطي الإدارة السابقة، الأمر الذي يطرح عددًا من التساؤلات، والتي نحاول الإجابة عنها في هذا المقال، ومنها:
إعلانما هي التقاطعات الأمنية بين واشنطن وبروكسل؟ ما انعكاس التباينات القائمة بين الشريكين التقليديين على الأمن الأوروبي؟ ما هي طبيعة المكاسب التي أفرزها هذا الصراع بالنسبة للشرق الأوسط، وإلى أي مدى يمكن تطويرها واستدامتها؟ ما تأثير أي تسوية يتم التوصل إليها على مستقبل النظام الدولي؟
تقاطع الأجندات الغربية في كييفثمَّة تعقيدات جيوبوليتيكية فرضت نفسها على منطقة شرق أوروبا، والتي من بينها سقوط الاتحاد السوفياتي، مما دفع حلف "الناتو" للتمدّد شرقًا، فانضمّت جمهوريات: التشيك، والمجر، وبولندا، للحلف عام 1999، وبين عامَي 2004 و2009 انضمّ للحلف عدد تسع دول من شرق أوروبا، والتي شملت كلًا من: بلغاريا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، ألبانيا، كرواتيا، لتلحق بها بعد ذلك كل من الجبل الأسود، ومقدونيا الشمالية، ليصبح إجمالي عدد الدول التي انضمت من 1999 إلى العام 2020 أربع عشرة دولة، تشكل ما يقارب نصف عدد الدول الأعضاء التي انضمت للحلف الذي تأسس عام 1949.
وبالتالي لم يعد متبقيًا من الدول العازلة بين روسيا و"الناتو" سوى بيلاروسيا وأوكرانيا، وترى روسيا أن انضمام هاتين الدولتين يعني تطويقها وإحكام عملية الخنق الجيوبوليتيكي المفضية لزوالها من الخارطة الجيوسياسية.
فروسيا تقاتل في هذه المعركة المفروضة عليها من قبل حلف "الناتو" بوصفها معركة وجودية لا تحتمل القسمة على اثنين، وهذا ما يُفسر جزءًا من تخلّيها عن دعم حليفها المعزول في سوريا بشار الأسد.
والأجندات الغربية في صعيدها الأميركي والأوروبي متفقة على تعزيز المكاسب الجيوبوليتيكية عبر خنق روسيا أكثر بضمّ أوكرانيا لحلف "الناتو".
وكانت هذه الرؤية محل اتفاق الشركاء الغربيين، خاصة على مستوى الإدارات الأميركية السابقة؛ بدءًا بإدارة أوباما، وإلى حد ما إدارة ترامب الأولى عام 2016، وانتهاءً بإدارة بايدن التي قدمت دعمًا سخيًا لكييف.
إعلانومثّل ذلك اتساقًا كاملًا بين الموقف الأوروبي والأميركي في هذا الإطار، ولكن الوافد الجديد للبيت الأبيض في العام 2025 كانت لديه رؤية مغايرة كليةً لمن سبقوه، ومتناقضة مع الموقف الأوروبي إلى حد التضاد.
فدونالد ترامب لا يرى في الحرب الأوكرانية مصلحة إستراتيجية أميركية، وتتسق رؤيته مع غلاة المتشددين من أنصار النظرية الواقعية الهجومية في العلاقات الدولية، والتي ترى أنّ أكبر الأخطاء الإستراتيجية التي وقعت فيها الولايات المتحدة هو دخولها فيما أسموه بالمستنقع الأوكراني، ويرون ضرورة أن تتفرغ واشنطن لمواجهة ومحاصرة خصمها الإستراتيجي الصين بدلًا من اللهث وراء مكاسب غير منظورة من تمدد "الناتو" في المحيط الحيوي لموسكو.
ولعل أُذن ترامب تبدو مصغية لهذا التوجه الواقعي، وذلك من خلال تبنّيه خطة تضع حدًا لهذه المعركة، حيث قام بالتواصل مع الرئيس بوتين بعد قطيعة فرضتها إدارة بايدن السابقة.
وتبدو دلالات التقاطع في رؤية واشنطن مع حلفائها واضحة من خلال عدم إشراك ترامب حلفاءَه الأوروبيين في المشاورات الدبلوماسية بقيادة ماركو روبيو وزير الخارجية الأميركي، ونظيره الروسي سيرغي لافروف التي جرت بالعاصمة السعودية الرياض، ولا يبدو في الأُفق أي مؤشرات على إشراك بروكسل وحلف "الناتو" في هذه المساعي، ولعل المستغرب أنّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ليس طرفًا هو الآخر.
ومن هنا تبدأ المخاوف الأوروبية في التعاظم، حيث تخشى أن تجد القارة العجوز نفسها طرفًا رئيسيًا في إدارة صراع كبير على أبوابها لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، خاصةً إذا ما توصل ترامب لاتفاق مع روسيا لا يضمن حماية كافية لأوكرانيا، وبالتالي لأوروبا ضد أي تهديدات روسية مستقبلًا.
وتعتبر أوروبا أن استجابة واشنطن لأهداف الكرملين في الحرب ستضر بمصداقية حلف الناتو، وتزعزع استقرارها. وما جرى من مشادة كلامية بين ترامب والرئيس الأوكراني في البيت الأبيض، عمّق المخاوف الأمنية لدى الأوروبيين.
إعلانولعل هذا الانكشاف الأمني الذي يمكن أن تتعرض له أوروبا الحليف التاريخي للولايات المتحدة يستدعي النظر المتعمق لمترتبات استمرار الحرب أو الوصول لتسوية في الملف الأوكراني على الشرق الأوسط.
التداعيات المحتملة لاجتماع البيت الأبيضبداية يُمكن القول إنّ مسرح الاجتماع، قد أُعد بشكل مسبق ليقود إلى تلك اللحظة التي تعالت فيها الأصوات بين ترامب وزيلينسكي، والتي قُصد منها إحراج الضيف الأوكراني، ووضعه تحت الضغط؛ بغية الحصول على تنازلين رئيسيين:
الأول: هو حصول واشنطن على نصيب مقدر من الموارد الأوكرانية النادرة، والتي تقدر بمكاسب تتجاوز قيمتها الـ 500 مليار دولار، نظير الدعم الذي قُدم لها إبان الحرب.
والثاني: يرتبط بقبول كييف بتسوية لا تنطوي على أية ضمانات أمنية من الولايات المتحدة، فتمَّ استفزاز زيلينسكي، بدءًا من انتقاد الزي الذي يرتديه، رغم رمزيته للشعب الأوكراني الذي يخوض حربًا قضت على الأخضر واليابس، مرورًا بتدخل نائب الرئيس الأميركي في سابقة غير متوقعة، وانتهاءً بتلويح ترامب للباب في إشارة واضحة بضرورة مغادرة الضيف للبيت الأبيض.
ويبدو أنّ ما جرى للرئيس الأوكراني يُعد امتدادًا حقيقيًا للأزمة القائمة بين الأوروبيين والولايات المتحدة في مقاربتهما للملفات الأمنية، والتي من بينها ملف حلف الناتو والأزمة الأوكرانية.
فترامب لديه حاليًا كروت ضغط كبيرة للغاية على كييف، والتي بإمكانها تغيير المعادلة، فواشنطن بإمكانها تجميد الدعم العسكري والفني الذي يحتاجه زيلينسكي للدفاع عن أراضيه كخطوة أولى.
أما الخطوة الثانية، فهي منع مبيعات السلاح الأميركي لأوكرانيا، وإنْ توفر تمويل أوروبي لها، فضلًا عن تجميد أميركا مشاركتها في الناتو للدفاع عن أوروبا في حال وجود أي تداعيات أمنية ناتجة عن تطور الأزمة بين موسكو وكييف، ويُعد ذلك كابوسًا أمنيًا غير محتمل للأوروبيين.
إعلانويمكن القول إنّ الاجتماع الفوضوي الذي تم بين الرئيسيين: الأميركي والأوكراني، ستكون له تداعيات محتملة، والتي من بينها خلق موقف أوروبي موحد داعم لأوكرانيا، وإن كانت كلفته الأمنية باهظة على القارة العجوز في غياب الضمانات الأمنية الأميركية لأمنها.
بجانب أنّ العالم ربما يشهد تعنتًا روسيًا غير مسبوق لجهة الشروط التي يمكن أن تفرضها موسكو لحل الأزمة مع أوكرانيا، فبوتين لم يكن يحلم أن يُكشف ظهر غريمه بالطريقة المذلة التي تمت بالأمس، وهي تُعطيه ضوءًا أخضرَ فحواه أنّ أوروبا فقدت حليفًا ظلت تراهن عليه لعقود في إطار معادلتها الأمنية.
والخلاصة في هذا الجانب، هي أنّ كل الطرق باتت تقود لتسوية غير مقبولة لكييف ولحلفائها الأوروبيين.
ولعل هذا الانكشاف الأمني الذي يمكن أن تتعرض له أوروبا الحليف التاريخي للولايات المتحدة، يستدعي النظر المتعمق لمترتبات استمرار الحرب، أو الوصول لتسوية في الملف الأوكراني على الشرق الأوسط.
التسوية المحتملة وانعكاساتها على الشرق الأوسطكما هو معلوم أنّ الحرب في أوكرانيا، كان لها تأثيرات متباينة على دول المنطقة، خاصة فيما يتعلق بواردات الغذاء والطاقة، فالعديد من بلدان الشرق الأوسط تعتمد على القمح الوارد من أوكرانيا وروسيا.
وبطبيعة الحال فإنّ الحرب الدائرة بين كييف وموسكو قد أسهمت بشكل مباشر في إخراج الدولتين من معادلة تصدير الغذاء لدول الإقليم، الأمر الذي أحدث نوعًا من الضغط السياسي والاقتصادي الناتج عن ارتفاع أسعار الغذاء داخل بعض الدول.
والملاحظة الجديرة بالاهتمام هي أنّ أكثر من رُبع صادرات القمح العالمية، يأتي من روسيا وأوكرانيا، ووفقًا للمنظمة الدولية للأغذية والزراعة (الفاو)، تعتمد خمسون دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على القمح الروسي والأوكراني، أي بنسبة لا تقل عن ثلاثين بالمائة من واردات هذه الدول. في مقابل دول استفادت من ارتفاع أسعار النفط والغاز.
إعلانوبنظرة تحليلية فاحصة لإمكانية تأثير التسوية المحتملة للأزمة الأوكرانية الروسية على منطقة الشرق الأوسط، يمكن القول إنّ أحد تمظهرات هذا التأثير، هو تعزيز الدور الجيوبوليتيكي الإقليمي والدولي لمنطقة الشرق الأوسط، وذلك بمعطى الإمكانات المادية والثروات التي تتمتع بها، رغم التحديات السياسية والأمنية التي عاشتها المنطقة؛ بسبب مجموعة من العوامل التي شهدتها المنطقة مؤخرًا، بدءًا بجائحة كورونا، مرورًا بالحرب في السودان التي اندلعت في أبريل/ نيسان 2023، ثم أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول في غزة إلى سقوط نظام الأسد.
فاختيار الرياض لتكون مسرحًا للقاء الرئيسين: الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين لتسوية الأزمة الدائرة بين كييف، وموسكو يعضد فرضية عودة ووجود دور محوري قادم لمنطقة الشرق الأوسط.
فهامش المناورة الذي وفرته الأزمة الأوكرانية لكثير من القوى الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط، والتي لم تقطع علاقاتها بموسكو رغم عمق تحالفاتها الإستراتيجية مع واشنطن، يُعد أمرًا قابلًا للاتساع والاستثمار الإيجابي لجهة تنويع شراكات مع قوى دولية خارج محيط المعسكر الرأسمالي الغربي، وتتوقف عملية الاستفادة من هذه الفرص على عاملين رئيسيين: العامل الأول هو وعي قيادات المنطقة بالمتغيرات الدولية الجديدة، والتي من بينها أنّ الولايات المتحدة نسخة 2025 تختلف عن تلك التي عرفها العالم عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، أما العامل الثاني فهو قليل من الجرأة وكثير من الإدراك بعناصر القوة المتوفرة لدى دول الإقليم.
ولعل الأمر الأكثر أهمية في هذا السياق، هو براغماتية الرئيس الأميركي الجديد، والذي ينظر للعالم باعتباره حسابًا بنكيًا يجب أن يغطي نفقاته اللامحدودة.
وبالتالي تُعد هذه المرحلة مهمة للغاية في تعزيز مكانة الشرق الأوسط الجيوسياسية، وإنجاز ما كان يُعتبر مستحيلًا من قبيل امتلاك التقانات النووية، وتوطين الصناعات الدفاعية، وتحقيق الاستقلال التكنولوجي المفضي لحجز كرسي دائم مع الكبار، وتفادي التراجع الإقليمي والدولي الذي بات مصيرًا تواجهه الكثير من القوى كالاتحاد الأوروبي، وحلف "الناتو"؛ بسبب إدارة ترامب ظهره لهم، فالشرق الأوسط يمكنه أن يكون من بين أكبر المستفيدين من المتغيرات المحتملة لأي تسوية قادمة على صعيد الأزمة الأوكرانية في إطار الصورة الكلية لمستقبل النظام الدولي، أو على أقل تقدير ما يمكن تسميته بترتيبات دولية جديدة. فالعالم بعد الأزمة الأوكرانية سيكون مختلفًا عما سبق من المنظور الجيوسياسي.
إعلان المشهد الجيوسياسي المتوقع بعد التسويةينظر الكثير من المراقبين للصراع في أوكرانيا باعتباره صراعًا بين إمبراطوريتين يتم فيه توظيف أقاليم بعينها لتحقيق مكاسب جيوسياسية، بيد أنّ المقاربة التي يتبناها دونالد ترامب تشكل تحديًا لهذا الافتراض، وذلك من واقع نظرته لهذه الحرب باعتبارها خطأ ما كان له أن يقع، وبالتالي هو لا يعتبرها حرب أميركا بقدر ما أنّها خطأ الإدارات الديمقراطية السابقة، واستمرت بدعم وتأييد أوروبيين.
وحسب المعلومات المتوفرة نجده يتجه لجعل أوكرانيا دولة محايدة، وربما منزوعة السلاح لديها القابلية على التعايش مع جارتها روسيا بدون أي تهديد آنيّ أو مستقبلي، وهو يضع نصب عينيه جائزتين كبيرتين، هما الموارد الكبيرة التي تتمتع بها كييف، وقد سبق له التصريح عن تلك الرغبة بشكل صريح، والثانية هي الاستفادة من الضعف والإنهاك الذي تسببت فيه الحرب لموسكو والتقارب معها لضرب شراكتها الاضطرارية مع بكين، وإبعادها عن الارتماء في أحضان شي جين بينغ.
وهو يستغل في ذلك مخاوف موسكو من تعاظم قوة الصين بحكم الجوار الجغرافي، ويسعى للاستجابة للمطالب الأمنية الروسية عبر تكسير حُلم كييف بالانضمام للناتو لإحداث نوع من التحييد طويل المدى من أي إمكانية لتحالف صيني روسي من قبيل ما جرى إبان الفترة السابقة.
وتظل قدرة واشنطن على إنجاز ذلك قابلة للاصطدام بأحلام بوتين الجيوبوليتيكية التي لا تقبل استمرار فرضية وجود دور مركزي للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في أن يضعوا شروط النظام الأمني الأوروبي دون تدخل موسكو.
ولعل تجاهل ترامب للقارة العجوز ربما شكّل عامل إغراء للكرملين بالاصطفاف مع واشنطن في إطار ترتيبات دولية وليس نظامًا دوليًا جديدًا يوفر قدرًا من الكبرياء المفقودة لموسكو.
على صعيد القارة الأوروبية فإنَّ تجاهل واشنطن لها على الصعيد السياسي والدفاعي سيدفعها في ثلاثة اتجاهات في إطار عملية التموضع الإستراتيجي المفترضة، نتيجة لأي تسوية محتملة بين موسكو وكييف.
إعلانفالاتجاه الأول ينصرف لجهة تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية، وذلك من خلال زيادة حجم الإنفاق العسكري، وتطوير الأبحاث التي تقوي الترابط بين الأبحاث المدنية وأبحاث الدفاع.
والاتجاه الثاني يرتبط بتقليل الاعتماد على روسيا فيما يتصل بتوفير احتياجاتها من الغاز والنفط عبر خلق مصادر بديلة.
أما الاتجاه الثالث، فهو العمل على بناء قاعدة اقتصادية ترتكز على تقوية السوق الأوروبية المشتركة، لتكون المحصلة النهائية أن أوروبا تتمتع بدرجة من الاستقلالية في تحديد وجهتها السياسية، الاقتصادية والدفاعية، ولديها الرغبة في الانفتاح الاقتصادي على الصين.
وفي منحى ذي صلة بالتموضعات المتوقعة كانعكاس للتسوية المحتملة، فإنّ مستقبل الصين في أي ترتيبات دولية سيكون محكومًا بقدرتها على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي، وإدارة علاقاتها مع القوى العالمية الأخرى.
فالصين لديها القدرة على أن تصبح قوة عظمى متعددة الأبعاد، لكنها تواجه أيضًا عقبات كبيرة قد تؤثر على مسارها المستقبلي، وتُمثل عملية عزلها عن التقارب مع موسكو، والعمل على تطويقها ضمن ما يعرف بإستراتيجية التوجّه نحو آسيا ضمن أهم المتغيرات التي ستحدد وبشكل رئيسي حجم ودور بكين في أي ترتيبات دولية قادمة بعد نهاية الأزمة الأوكرانية.
الخلاصةستمثل طبيعة وشكل التسوية التي ستنتهي إليها الأزمة الأوكرانية نقطة تحول في العلاقات الدولية، ويمكن القول إنّ مخرجات هذه النهاية ستنعكس على مختلف دول العالم، ولكن بشكل رئيسي دول الشرق الأوسط.
ومن هنا تأتي أهمية استثمار الفرص التي ستوفرها عملية إقرار تسوية سلمية للصراع بين موسكو وكييف لمصلحة بناء مواقف تفاوضية بنَّاءة تستند إلى وعي وإدراك كامل لعناصر القوة التي تمتلكها دول الإقليم، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة تطوير هامش المناورة الذي تشكل لدول الإقليم إبان الأزمة من جهة، والعمل على التعاطي العلمي والمدروس مع ما يسمى في العلوم السياسية بالنسق العَقَدي للقادة، ونقصد هنا الرئيس دونالد ترامب وتصوراته ومنظومة تفكيره والبيئة المحيطة به لتطوير فهم أعمق يُمكّن دول المنطقة من تحقيق مكاسب إستراتيجية لم يكن متاحًا التفكير فيها من قبل كما تمّت الإشارة إليها في متن المقال.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline