الرواية الأفريقية في القرن الـ20.. شمسٌ لا تغيب
تاريخ النشر: 15th, August 2024 GMT
إيهاب الملاح
في العالم العربي، يبدو حضور الرواية الأفريقية خافتاً، ولا يحتل المساحة التي تليق بها من المتابعة والاهتمام مقارنة بمثيلاتها من الروايات الآسيوية (الهندية، والباكستانية، والإيرانية، والتركية.. إلخ) رغم أن الرواية الأفريقية، وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، استطاعت أن تلفت إليها الأنظار بشدة وتجتذب اهتمام النقاد من كافة أنحاء العالم، وتحتل مساحة ليست هينة في خريطة الرواية المعاصرة.
من القارة السمراء، خرج روائيون عظام أصّلوا لفن الرواية في التربة الأفريقية، وقدموا رواياتٍ عُدت من أعظم وأهم الروايات في العالم، ورسخوا لتيار كامل وأصيل في الرواية العالمية يناهض المركزية الأوروبية وسيطرة الرجل الأبيض، ويعيد الاعتبار للثقافات المحلية التي دمرها الاحتلال الأجنبي والاستعمار الأوروبي.
وتضم قائمة الروائيين الأفريقيين أسماء ضخمة ولامعة بما قدمته من روايات احتلت مكانها ضمن أهم روايات القرن العشرين، وظهرت أسماء جديدة في عوالم الكتابة، مقترنة بحركات التحرر الوطني، والرغبة المحمومة في الإبداع الذاتي.
وسرعان ما فرضت هذه الأسماء بإبداعاتها الروائية حضورها خارج حدودها الإقليمية، خصوصاً في سنوات الستينيات من القرن الماضي التي رفعت شعارات التحرر في كلمكان من العالم.
(2)
من هؤلاء، مثلاً، اسم ليوبولد سنجور Lopold Sangor السنغالي المولود سنة 1906، والذي أسس، مع «ألوين ديوب»، الجريدة الثقافية المتحررة «الحضور الأفريقي» Prsence Africaine سنة 1947، وظل يؤسِّس لهوية ثقافية أفريقية مضادة للتبعية، سواء في قصائده التي صنعت شهرته الشعرية خارج أفريقيا أو مقالاته ودراساته المؤثرة، ومنها ما كتبه تحت عنوان «الزنجية: النزعة الإنسانية للقرن العشرين».
كل ذلك فضلاً عن ممارساته السياسية التي انتهت به إلى أن يكون رئيساً لجمهورية السنغال من سنة 1960 إلى سنة 1980.
وهو يحتل مكانة وثيقة الصلة بقرينه في التوجه إمّيه سيزير Aim Csaire المولود في جزر المارتينيك سنة 1913 بعد سنجور بسبع سنوات، شاعر الهند الغربية الذي كان أول من تولى تأصيل معنى «الزنجية» Ngritude في ثلاثينيات القرن الماضي، بوصفها نمطاً ثقافياً متميزاً من رؤية العالم.
وقد آزر سيزير سنجور في جعل هذه «الزنجية» محور العمل الإبداعي، وذلك على النحو الذي أدى إلى أن تصبح «الزنجية» تياراً تحررياً صاعداً يجذب إليه انتباه المبدعين والمنظرين، خصوصاً أولئك الذين آمنوا بما تنطوي عليه من خصوصية ثقافية تمايز أبناء أفريقيا السمراء عن غيرهم من شعوب العالم المتقدم، ولكن بما لا يعني التخلف أو الانغلاق على النفس.
ولا شك أن ريادة إمّيه سيزير ودوره التأصيلي ومكانته الإبداعية هي التي جعلت الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر يصفه بأنه «أورفيوس الأسود». وكان ذلك في السياق نفسه الذي أدى إلى أن يصبح سنجور أول عضو أسود يتم انتخابه في الأكاديمية الفرنسية سنة 1984.
وهناك غير «سنجور» و«سيزير» أسماء كثيرة، منها «أميلكار كابرال» Amilcar Cabral 1921-1973 المولود في غويانا البرتغالية، السياسي داعية التحرر الوطني، والباحث المناقض لنزعة المركزية الأوروبية الذي أصبحت مقالاته عن دور الثقافة في تشكيل وتوجيه الوعي الوطني أكثر تأثيراً بعد اغتياله في العشرين من يناير سنة 1973.
(3)
ومن هذه الأسماء كذلك، ما اعتبره أبو الرواية الأفريقية المعاصرة شينوا أتشيبي Chinua Achebe الروائي والكاتب النيجيري المولود سنة 1930.
وأتشيبي ينتسب إلى جيل أحدث في حركة التحرر الوطني «سياسياً»، لكنه يحتفظ بريادة الكتابة القصصية «الروائية» في أفريقيا كلها، من منظور تأكيد الخصوصية الثقافية الضاربة بجذورها العميقة في تربة القارة السمراء، فأعماله الإبداعية التي تبدأ بروايته ذائعة الصيت والمكانة والريادة «الأشياء تتداعى» سنة 1958 (وسنخصها بحديث مفصل في مقال تال لتأسيسيتها «تمثِّل استكشافاتٍ جسورة لتحولات الثقافة الأفريقية السمراء من أزمنة ما قبل الاستعمار إلى فترة التحرر الوطني).
وقد حافظ أتشيبي على توجهه الإبداعي حتى بعد اضطراره إلى الهجرة من وطنه نيجيريا إلى الولايات المتحدة بسبب الحرب الأهلية (1967-1970) حيث عمل بإحدى جامعاتها أستاذاً للأدب الأفريقي.
وأتشيبي هو الذي أسس جريدة Okike في سنة 1971 لتكون منبراً للكتابة الأفريقية الأدبية والآراء النقدية التي تسعى إلى تأكيد تحررها وإبراز أصالتها في مواجهة خطاب التبعية السياسية والاتباع الثقافي.
وربما يكون شينوا أتشيبي هو أشهر أديب أفريقي في أوساط القراء العرب (بعد مواطنه النيجيري سوينكا الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1986)، على الأقل بعد أن تُرجمت مجموعة من أعماله اللافتة إلى اللغة العربية، منها روايته الشهيرة «الأشياء تتداعى» وترجمتها أستاذة الأدب الإنجليزي الراحلة أنجيل بطرس سمعان، وصدرت ترجمتها عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر في القاهرة سنة 1971، وصدرت منها ترجمة حديثة قبل بضع سنوات أنجزها عبد السلام إبراهيم، وصدرت عن سلسلة «المائة كتاب» عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
(4)
ولا يقترب من مكانة أتشيبي الروائية في الريادة سوى زميله الكِيني نجوجي واثيونجو Ngugi Wa Thiongo الكاتب الروائي والمسرحي المولود بكينيا شرق أفريقيا سنة 1938 بعد أتشيبي بثماني سنوات، ويعد واثيونجو رائد الكتابة الروائية في شرق أفريقيا منذ أن أصدر روايته الأولى «لا تبكِ يا ولدي» سنة 1964.
ومقالاته ودراساته في الموضوعات الأدبية والثقافية تكشف عن نزعته المعادية للاستعمار والمناقضة لنزعاته المركزية، الأمر الذي انتهى به إلى ضرورة التخلي عن الكتابة بالإنجليزية، والعودة إلى لغته المحلية الأم «الجيكويو» التي يفهمها أبناء شعبه.
وقد صاغ «نجوجي واثيونجو» دعوته هذه في كتابه الشهير «نقض استعمار العقل» Decolonizing the Mind الذي صدر سنة 1986، وهو كتاب يركِّز على الجوانب السياسية للغة في الأدب الأفريقي.
وفي هذا السياق بالطبع، لا يمكن إغفال أو نسيان اسم العملاق الأفريقي وول سوينكا Wole Soyinke الذي ولد بعد أربع سنوات من ولادة أتشيبي في نيجيريا، ومضى في الخط ذاته، خصوصاً في الكتابة المسرحية الجريئة التي عرف بها، جنباً إلى جنب الكتابة الروائية، فضلاً عن مواقفه الجريئة التي قادته إلى السجن سنة 1965 و1967، حيث عانى التجربة التي خرج منها بكتابته «المذكرات» التي نشرها سنة 1972، وقد تُرجمت أعماله أكثر من أقرانه بسبب كونه أول كاتب أفريقي يحصل على جائزة نوبل سنة 1986.
(5)
بالإضافة إلى هؤلاء جميعاً، يبرز اسم الروائي الصومالي نور الدين فرح الذي عرف بروايته «اللبن الحلو المر» التي قادته مع بقية أعماله إلى الشهرة والجوائز العالمية التي نال منها جائزة «بريمو كافور» الإيطالية عن روايته «افتح يا سمسم» سنة 1994، وجائزة «نيوستاد» الأميركية عن غيرها من الأعمال سنة 1998.
طاف نور الدين العالم كله تقريباً، ولكنه لم ينس وطنه ولا مدينة «كلافو» في إقليم أوجادين التاريخي بالصومال، التي تعلّم في مدارسها، وكتب ثلاثيته الروائية الشهيرة عن الصومال، مركزاً على الحرب مع إثيوبيا حول إقليم أوجادين عام 1977، الرواية الأولى المدهشة والمؤثرة بعنوان «خرائط»، وبطلها اسمه «عسكر»، أما موضوعها فهو بحث البطلِ عن هويته، وصراعه بين أمه البديلة مسرا، ووطنه الأم الصومال، بين خريطة الأم/ الجسد التي أنقذت الطفل اليتيم من الموت، وخريطة الوطن/ المكان، يبدو عسكر مثل «هاملت» صومالي، حائراً، متردداً، تصطرع داخله مشاعر الحب والكراهية، ويتنازعه حلم القلم أو خيار البندقية.
وأخيراً، يأتي اسم الشاعر والروائي الإنجليزي «بن أوكري» من أصل نيجيري، الذي عاش في لندن قبل العودة إلى نيجيريا مع أسرته في عام 1968.
وتناقش كثير من أعماله الأولى العنف السياسي الذي شهده بنفسه أثناء الحرب الأهلية في نيجيريا، وله عدة أعمال سردية نالت شهرة واسعة وعظيمة، منها: «طريق الجوع»، «نجوم حظر التجول» وغيرها..
وغادر بن أوكري البلاد حينما حصل على منحة من الحكومة النيجيرية مكنته من قراءة الأدب المقارن بجامعة أَسكس بإنجلترا.
عمل محرراً للشعر بمجلة وست أفريقيا في الفترة من 1983 إلى 1986، كما عمل بهيئة الإذاعة البريطانية بصورة منتظمة في الفترة بين 1983 و1985، وعين عضواً بقسم الفن.
وليست هذه الأسماء المذكورة سوى نماذج تنوب عن غيرها في الإشارة إلى موجاتٍ عالية من التحرر الإبداعي الرائدة التي سعت إلى إزاحة المركزية الأوروبية الإبداعية، وتحطيم القالب المفروض لنزعة العالمية.
وكل هؤلاء، وغيرهم من الأجيال الجديدة، قد أخذوا على عاتقهم «تفكيك» الخطاب الثقافي للاستعمار القديم والجديد والأجدّ، وتعريته من النزعات والمفاهيم الملتبسة به، مثل مفهوم «العالمية» ونزعتها، مؤكدين دور الكاتب الأفريقي الذي صاغ بمقاومته تحرره الفكري وأصالته الإبداعية، منطلقاً في ذلك، من وعيه العميق بالشروط الاجتماعية الثقافية الخاصة به، ومن استلهامه الواعي لميراثه الخاص.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: وولي سوينكا الكتابة الإبداعية الكتابة الأدبية الجوائز الأدبية القارة السمراء أفريقيا فن الرواية الرواية الروایة الأفریقیة التحرر الوطنی
إقرأ أيضاً:
مدينة ألمانية في أحضان رومانية
وتعد مدينة سيبيو الألمانية واحدة من أجمل المدن في رومانيا، وهي من أفضل 10 دول أوروبية يمكن للمرء أن يعيش فيها، ولديها أهمية ثقافية وتاريخية.
و سيبيو تعد أيضا أكبر وأغنى المدن السبع الذي أسسها المستوطنون الألمان في القرن الثاني عشر، والمسمّاة اختصارا ترانسلفانيا، ويوجد في المدينة 3 ساحات رئيسية تضم أكبرها أهم المعالم التاريخية، وتضج بالحياة منذ أكثر من 6 قرون.
ويوجد في المدينة قصر بروكنتال، الذي تم بناؤه منتصف القرن الثامن عشر من قبل مهندس معماري نمساوي، ويستضيف القصر متحفا يعد من أقدم وأرقى المتاحف الفنية في رومانيا. وخارج الأسوار توجد حديقة تضيف لمسة فنية للمكان بأكمله.
وكان بروكنتال ملك مملكة ترانسلفانيا في القرن الثامن عشر، وكان رجلا شغوفا بالفن ومحبا للفنانين، ومقتنيا لمجموعة كبيرة من التحف واللوحات الفنية من مختلف العصور، وقد جمعها في قصر كبير يحمل اسمه وأصبح أهم معلم سياحي في سيبيو.
وتجول مقدم برنامج "المسافر" داخل مدينة سيبيو، وزار متحفها، كما زار مجمعا تحت الأرض، كان عبارة عن منجم قديم للملح، لكنه تحول إلى وجهة سياحية فريدة من نوعها، حيث توجد بحيرة مذهلة تحت الأرض.
30/11/2024