يحل شهر أغسطس من كل عام لتتجدد ذكرى زعماء الوفد العظماء سعد زغلول، ومصطفى النحاس، وفؤاد سراج الدين الذين تركوا لنا تراثا من القيم والمبادئ الجديرة بالاقتداء أجيالا خلف أخرى. أما الزعيمان سعد والنحاس فقد رحلا فى اليوم نفسه وهو الثالث والعشرين من أغسطس، حيث رحل الأول سنة 1927، بينما رحل النحاس عام 1965، ثم شاء القدر أن يرحل ثالث الزعماء فؤاد سراج الدين فى الشهر ذاته ولكن فى يوم 9 سنة 2000.
ولم يكن غريبا أن يتعرض الزعماء الثلاثة للسجن والنفى والإقامة الجبرية ومحاولات الاغتيال المادى والمعنوى بسبب كفاحهم فى سبيل الوطن دون أن تلين لهم عزائم، أو يخضعون لسلطة احتلال أو حكم مستبد.
يشترك الزعماء الثلاثة فى عدد من السمات التى تمثل عنصرا أساسيا فى أى مشروع اصلاح وطنى وهى الإيمان العميق بالوطنية المصرية، والحرص على الحفاظ على تماسك الأمة، وإعلاء مبدأ سيادة الدستور والقانون فوق أى شىء، فضلا عن نبذ الوسائل غير المشروعة فى السياسة لتحقيق أى غاية، والتمتع بكرامة وعزة نفس عظيمتين.
كان الزعماء الثلاثة من دارسى القانون والعاملين به، فأما سعد فقد درس القانون مبكرا وعمل محاميا، ثم قاضيا قبل أن يعمل وزيرا للمعارف ثم الحقانية، ثم زعيما موكلا من الشعب المصرى للمطالبة بالاستقلال، ثم رئيسا للحكومة الوحيدة التى حازت لقب حكومة الشعب فى تاريخ مصر الحديث. وأما مصطفى النحاس، فقد تخرج فى مدرسة الحقوق سنة 1900 وعمل محاميا، ثم قاضيا ثم عمل وزيرا للمواصلات قبل أن يتولى زعامة الوفد خلفا لسعد ويشكل الحكومة عدة مرات. وكذلك الأمر بفؤاد سراج الدين الذى عمل لسنوات طويلة بالمحاماة قبل أن يتفرغ تماما للعمل السياسى.
لقد شكل القانون فى حياة الزعماء الثلاثة مسارا مشتركا، لذا فقد حرصوا خلال عملهم السياسى على تنفيذ مسيرة الاصلاح والبناء من خلال تشريعات وقوانين استهدفت الحداثة، والعدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية، والتنمية الاقتصادية والمجتمعية، ولم يشكل الوفد حكومة قبل 1952 دون أن يترك خلفه تشريعات جديدة تمثل نواة للحداثة المصرية التى نراها الآن. وكان التزام زعماء الوفد بالدستور والقانون والذود عنهما نموذجيا لدرجة أنهم رفضوا مكاسب عديدة شخصية وحزبية حرصا عليهما.
كما تميز الزعماء الثلاثة بالحرص الشديد على استلهام آمال الأمة والتعبير عنها، فصك سعد زغلول المبدأ الأهم فى تاريخ الوطنية المصرية الحديثة وهو أن الحق فوق القوة، وأن الأمة (الشعب) فوق الحكومة. لقد كانت كل حكومة وكل سياسى تحوز المسئولية فى مصر تفرض آراءها وتصوراتها ورؤاها على الوطن، وتهتم بتسيير الأمور وفق ما تراه سلطة الاحتلال أو يتصوره الحاكم الوارث لحكم مصر، فجاء سعد ومن بعده النحاس ليقررا أن المحكومين هم أصحاب السلطة الحقيقية، وأن مهمة أى حكومة هى تنفيذ أوامر الشعب.
وتمثل الأخلاق العامة عنصرا حاكما فى أداء الزعماء الثلاثة، فكل منهم كان يخوض معارك الأمة بشرف وكرامة وصلابة، فاشتهر سعد بعفة اللسان، والحرص على الاستقامة، وكان النحاس مثالا يحتذى فى التقوى والنزاهة والشفافية لدرجة أن خصومه كانوا يعتبرونه وليا من أولياء الله الصالحين، كما كان سراج الدين نموذجا عظيما فى دعم الطبقات الأدنى رغم إنتماءه للطبقة الأرستقراطية.
ويبقى الإيمان بحرية التعبير وحرية الرأى محورا أساسيا فى سير الزعماء الثلاثة الذين طبقوا الديمقراطية على أنفسهم أولا قبل أن يتبنوا المطالبة لها للأمة، باعتبارها طريق الخلاص. فرحمهم الله جميعا.
وسلامٌ على الأمة المصرية.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: نظرات زعماء الوفد الوفد سعد زغلول مصطفى النحاس سراج الدین قبل أن
إقرأ أيضاً:
عودة: ألم يحن الوقت ليكون لنا وطن يجمعنا ولا تمزقه خلافات الزعماء؟
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد قراءة الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "نعيد اليوم لدخول ربنا يسوع المسيح إلى الهيكل، إتماما للشريعة. يعتبر هذا العيد أحد الأعياد السيدية الإثني عشر الكبيرة من السنة الطقسية، ونحن نتعلم فحواه اللاهوتي من أيقونة العيد وتراتيله. تظهر أيقونة العيد والدة الإله وسمعان الشيخ في الواجهة، فيما يرسم يوسف الخطيب وحنة النبية في الجزء الخلفي للأيقونة. أتت مريم إلى الهيكل في اليوم الأربعين لتطهيرها طاعة للشريعة (لا 12)، حاملة زوج يمام أو فرخي حمام لتقدم ابنها لله كباكورة ثمارها كما نقرأ في سفر العدد أن «كل فاتح رحم من كل جسد يقدمونه للرب» (لا 18: 15). وقف سمعان الشيخ أمام المذبح مادا يديه لاستقبال الرجاء الذي كان ملتهبا في داخله، وداخل ضمير كل أبرار العهد القديم الذين يمثلهم سمعان. ولما حمل الطفل يسوع، نطق نشيده الشهير: «الآن تطلق عبدك أيها السيد على حسب قولك بسلام...» الذي نتلوه في نهاية صلاة الغروب، متنبئا بأن الطفل سيكون «نور إعلان للأمم ومجدا لشعبك إسرائيل».
أضاف: "لقد قدمت والدة الإله ابنها إلى الهيكل «كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوسا للرب» (لو 2: 23). بعد مباركة الطفل قال سمعان لمريم: «ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل وهدفا للمخالفة، وأنت سيجوز سيف في نفسك»، ولعل هذه هي النبوءة الأولى التي يوردها الإنجيلي لوقا وتتعلق بآلام المسيح المقبلة. نرتل في صلاة سحر العيد: «لقد سبق سمعان فتنبأ لوالدة الإله قائلا: وأنت أيتها البريئة من الفساد، سيجوز سيف في نفسك، لأنك ستشاهدين على الصليب ابنك الذي نهتف نحوه قائلين: مبارك أنت يا إله آبائنا». إن النور الممنوح للأمم ولكل مؤمن هو نور الثالوث القدوس غير المخلوق. فكما نال إشعياء تطهيرا عندما مس السيرافيم شفتيه بالجمرة المحرقة (إش 6)، هكذا نال الشيخ سمعان تطهيرا ومعرفة الخلاص عندما سلمته العذراء مريم الرب، «النور الذي لا يعروه مساء»، كما نرتل في صلاة السحر".
وتابع: "عندما حمل سمعان النور بين يديه امتلأ نورا، وتغذى بجسد الرب، تماما مثل مؤمني الأجيال اللاحقة الساكنة في نور المسيح، لإن تقبل المسيح هو مثال الذبيحة الإفخارستية غير الدموية. تضع تراتيل اليوم على لسان سمعان، فيما هو منطلق إلى الموت بعدما عاين الرب المخلص متجسدا، المهمة التي سيقوم بها بعد موته، إذ ينطلق ويأخذ رتبة الأنبياء ليبشر بخلاص الجنس الترابي بنزول الرب إلى الجحيم. تقول الترانيم: «لقد هتف سمعان قائلا: إنني ماض لأظهر لآدم الثاوي في الجحيم وأقدم البشائر لحواء، مستبشرا مع الأنبياء وهاتفا: مبارك أنت يا إله آبائنا» وأيضا: «إن الإله يوافي إلى الجحيم، منقذا الجنس الترابي، فيمنح العتق لجميع المأسورين والبصر للعميان، وكذا للبكم أن يصرخوا: مبارك أنت يا إله آبائنا». للقاء بين سمعان الشيخ والمسيح الطفل يمثل اللقاء بين العهدين القديم والجديد. إنه احتفال بتحقيق وعد الله بالعتق والخلاص لمن يسميهم الرسول بولس «إسرائيل الله» -الكنيسة، وللعالم من خلال الكنيسة. لكن العتق والخلاص لا يتحققان إلا عبر آلام الرب المصلوب وموته. الطفل الصغير، الإله الأزلي، يتمم مهمته بإرادته الطوعية في السير نحو الصليب. لذا، يعتبر هذا العيد من الأعياد الكبيرة في الكنيسة".
وقال: "في هذا العيد يقدم الحمل والراعي ليستقبله ليس سمعان فقط، بل نحن أيضا. هو آت إلينا، يلاقينا حيث نحن، في وسط عذاباتنا وتطلعاتنا لكي ننال الظفر الذي حققه لنا. نستقبله مثل سمعان ونرحب به، نستقبله داخلنا، لا بل نأكله ونشربه في الإفخارستيا، في كل مرة نتناول جسده ودمه الكريمين. لذا، فإن دعوتنا في هذا العيد المبارك أن ننتظر الرب بشوق، ونتلهف للقياه في المناولة المقدسة، وهذا يتم عبر التوبة الصادقة والعمل بوصاياه، وأولاها المحبة. ألا أهلنا الرب أن نكون مستعدين للإنطلاق بسلام، وأن تكون أواخر حياتنا مسيحية سلامية بلا حزن ولا خزي وجوابا حسنا لدى منبر المسيح المرهوب، متممين بقية زمان حياتنا بسلام وتوبة كما نطلب في كل صلواتنا".
أضاف: "قدمت والدة الإله أثمن ما لديها، ابنها، إلى الهيكل. فلنتعلم من هذا العيد أن ننذر قلوبنا للرب، ونقدم أقصى ما لدينا للوطن: حبنا وولاءنا ودعمنا. ألم يحن الوقت ليكون لنا وطن يجمعنا ولا تمزقه خلافات الزعماء ومن ينصبون أنفسهم قادة، وأهواؤهم ومصالحهم وشبقهم إلى السلطة أو التسلط؟ هل كثير أن يحلم اللبنانيون بوطن متماسك، محكوم من سلطة قوية، عادلة، تفرض هيبتها على الجميع بقوة القانون والعدالة؟ المساومات والترقيع والحلول الوسط لا تبني دولة. الحلول الجذرية المبنية على الدستور والقانون هي التي تؤدي إلى قيام الدولة، ووحدهم رجال الدولة يعملون بتجرد، ويتخذون القرارات الصعبة التي تضع مصلحة البلد فوق كل المصالح، ويجاهدون من أجل تغيير العقلية والنهج اللذين أوصلا البلد إلى الإنهيار والتفكك، ولا يخضعون لأي ضغط أو ابتزاز أو تهديد. بالتصميم والشجاعة والإصلاح والشفافية، لا بالتعلق بأعراف غريبة عن روح الدستور ونصه، تستعيد الدولة دورها، وتستعيد ثقة أبنائها واحترام الخارج. عندها فقط يلتفت العالم إليها ويساعدها على النهوض وبناء ما قد هدمته الحروب المدمرة والمواقف العبثية".
وختم: "صلاتنا أن يعود الجميع إلى رشدهم ويسمعوا صوت الضمير والواجب، ويضعوا مصلحة البلد قبل شغفهم بالسلطة، ويلتفتوا إلى معاناة المواطنين، وفي طليعتهم من هجروا من أرضهم أو فقدوا أحباءهم أو خسروا منازلهم وأرزاقهم، لتستقيم الأمور ويخلص لبنان. الوقت ثمين ولبنان بحاجة إلى عمل مضن وجهد كبير. أملنا ألا يطول".