لجريدة عمان:
2024-09-11@03:10:22 GMT

مَـقـامـات بـلال الحسـن

تاريخ النشر: 14th, August 2024 GMT

لم يكن قـد بـلغ العاشـرة حين تـشـرَّد مع أهـله وشعـبـه لتـنـتـقـل الأسـرة مـن حـيفا إلى دمشـق (بعـد الانـتـقال إليها من صـيدا في لبـنـان)، ولـيـجـد نـفـسَـه بعـيـدا من وطـنٍ سـرقـتْـه الصّـهيـونـيّـةُ بالقـوّة، وساعـدها على النّـجـاح في المسعـى تـواطـؤٌ دولـيّ وضَـعْـفٌ عـربـيّ مزمـن. مع ذلك، لم يـسْـكُـن بـلالَ الحسـن شعـورٌ بأنّـه لاجئٌ في سورية؛ ليس فـقـط لأنّ سوريـة وطـنُ الفـلسـطينـيّـين وهُـم أبـناءُ جنوبـها، ولا لأنّـها تُـعامِـل الفـلسطيـنـيّـيـن المقـيـميـن فيها معاملـةَ السّـوريّـيـن من غيـر تمـيـيـز، بـل لأنّـه رَبِـيَ في بيـئـةٍ ما كانـت تـقـيم الفـارقَ بين فـلسطـيـنَ ومحـيـطِـها العـربيّ.

لذلك كان شـديـدَ اليُـسْـر على نـفـسـه أن يـتـنـقّـل، بـأريـحيّـةٍ، بيـن عـواصم البلاد العـربيّـة وأن يـقيـم في ثـلاث منها (دمـشق، بيـروت، الرّبـاط) من غيـر أن تـتسـرّب إليه فـكـرةُ اللّجـوء أو تضـغط على وجـدانه يـوما. أنْـضَـحُ تعـبيـرٍ عن هذا ما قـاله لي يـومـا في مكـتـبـه بمجـلّـة «اليـوم السّابع» في بـاريس، قبـل نحـوِ أربـعةٍ وثـلاثيـن عـاما، حيـن سألـتُـه عـمّـا تـوفِّـره لـه الإقامـةُ في فرنسا من مـمـكنـاتٍ لـم تـكـن متاحـة في لبـنـان، فـتـرة الحـرب الأهـلـيّـة: حيـن كان رئيـسَ تحـرير جريـدة «السّـفـيـر» ومسـؤولا في المـؤسّسات الفـلسـطينـيّـة. أجابنـي قائـلا إنّ باريس من أفضـل الأمكـنـة للعمـل الصِّـحفـيّ والإعـلاميّ وللـتّـواصل مع البـلاد العـربيّـة «لـولا ما تُـشْـعِـرُك الإقـامـةُ فيها من شعـورٍ بـأنّـك لاجـئٌ لستَ من أهـلها». هكـذا كان اللّـجوء، عـنـده، يـتّـخـذ معـنـى أوسـع؛ إنّـه التّـشرُّد خارج الوطـن الثّـقـافيّ، لا النّـزوحُ مـن وطـنٍ صغـيـر إلى وطـنٍ كـبـيـر.

هـذا ما يـفـسِّـر، في جملة ما يـفـسِّـره، ميـلَـه المبكّـر إلى الانـتـماء إلى أطـرٍ عربـيّـة للـعـمل السّـياسيّ («حـركة القـوميّـيـن العـرب»)، والعـمـل في مؤسّـساتـها (مجـلّـة «الحـريّـة» والكتابـة فـيها مع ألمـع أقـلامـها (محسـن إبـراهيم، غسّـان كـنـفاني...) في وقـتٍ اجتـمـع فيـه إخـوتُـه الكبـار الرّاحـلون (خالد وعليّ وهـاني الحسن) في «حـركة التّـحريـر الوطـنيّ الفـلسطيـنيّ» («فـتـح») متـقـلّـديـن فيها كبـرى المناصـب والمسؤوليّـات التّـنـظيـميّـة والسّياسيّـة. وحتّـى حينما اقـتضى نضـالُ شعـب فلسطيـن أن يـقـع الإلـحاحُ على الوطـنـيّـة الفـلـسطيـنـيّـة والتّـشـديـدُ على خاصِّـها وتـظـهيـرُه، مخافـةَ سياسات التّـبـديد العربـيّ للشّـخـصيّـة الوطـنـيّـة -وهي السّياسـة النّـاشطـة إذّاك في فـترةٍ تـقع بين منتـصـف السّـتيـنـيّـات وأوائـل السّـبعيـنـيّات- فوجَـد نـفسَـه (في امتـداد انـفـراط عـقـد «حـركة القـوميّـيـن العـرب») يـنـخرط مناضـلا في «الجبـهـة الشّـعـبيّـة لتحـرير فـلسطيـن» وبعـدها عضـوا في قـيـادة «الجبـهة الدّيـمـقراطـيّـة لتحريـر فـلسطيـن» ثـمّ مـمثِّـلا لـها في اللّـجـنـة التّـنـفـيـذيّـة لِـ«منـظّـمـة التّـحريـر الفـلسطيـنـيّـة»، (حتّى حينما حصـل ذلك كـلُّـه) لم يَـحِـد عـن خياره السّياسيّ العـربيّ الذي استـمـرّ يُـفـصِح عنـه، سـياسـيّـا، في مئـات الدّراسات والمقالات التي نشـرتها لـه «السّـفـير» و«شؤون فـلسطيـنـيّـة» و«مجـلّـة الدّراسـات الفـلسـطيـنـيّـة» و«اليـوم السّابـع» و«الحياة» و«الشّـرق الأوسط»، فـتـفـرَّد - مـن دون أقـرانـه من الكـتّاب والصِّحفـيّـين الفلسطينـيّـين- بالدّفـاع المـزدوج (وفي الآن عـيـنِـه) عن استقـلاليّـة القـرار الوطـنيّ الفـلسطيـنـيّ، في مواجـهة محاولات المصادرة العـربيّـة لـه، وعـن عروبة قـضيّـة فـلسطيـن: في مواجهة سياساتٍ انعـزاليّـة فـلسـطيـنـيّـة كانت تـتـنامى، بالتّـدريـج، إلى أن أنجـبت فضيـحة «اتّـفاق أوسلـو» المشؤوم.

ولـقد اختـار بـلال، منـذ تخرّجـه من جامعـة دمشق في مطلـع ستّـينـيّـات القـرن الماضي، العـمل في الصِّـحافة مـدفـوعا في ذلك بتـكـويـنـه الأدبيّ والسّياسيّ وبـتجـربـتـه المبكّـرة في العمـل التّـنظيـميّ في صفـوف «حـركة القـوميّـيـن العـرب» وبـإيمانٍ -سيـزيـد مع الزّمـن رسوخًا- بأنّ القلـم ليس أدنـى مـقامًا من السّـياسـة، ولا هـو أقـلَّ مفـعـوليّـة، في مسـار الثّـورة، ممّـا تـفـعلُـه البنـدقـيّـة، بل ليس من مـوطئِ قـدمٍ للسّـياسة والنّـضال في التّـاريخ إنْ لم يتـوسَّـلا لنـفسيْـهـما لسـانـا نـاطـقـا: واللّسان النّـاطق، عنـد الفـقيـد، لا يعـدو أن يكـون صحافـة أو أدبـا أو فكـرا. ولقـد كانت هـذه جميـعُها مَـهْـواهُ وزادَ قـلبه والرّوح. فـأمّا الصِّـحافـة فكانت صنْـعـتُـه التي احتـرفـها وبـزغ فيها واحتـلّ مـن المراتب ذُراها حتّى صار في عِـداد الجِـلّـةِ الأجَـلّ من الأقـلام الصِّـحافـيّـة العربيّـة في القـرن العـشرين. وأمّـا الأدب فعاقَـرَهُ مـعاقـرةَ المُـدْمِـن عـليه، فكان لا يني يقـرأ ما يصدر من أعمـالٍ روائـيّـةٍ وشعريّـة وكـأنّـه ناقـد أدبيّ محتـرِف، أو أكاديـميّ متخـصّص في الإنـتاج الأدبيّ. وما كانت سيرتُـه مع الفـكـر أقـلّ؛ إذِ انصـرف إلى قـراءة أمّـهات نصوص الفـكـر العربيّ: في دراسات التّـراث والحداثـة والتّاريخ والحضارة. وحيـن تَـقَـلّـد المسؤوليّـة على رأس مجلّـة «اليـوم السّابع» في باريس (1984- 1991)، أَبَى إلاّ أن يجـتـمع في مـنـبره - الفـريـد في تـميُّـزه - هـذا الثّـالوث: الصِّحافة والأدب والفـكـر. هكـذا كنـت تجـد في ضيافـة صِـحافـيّـي المنبـر (بلال الحسن وجوزف سماحـة) نصوص كـبار الأدبـاء وحواراتـهم (محمود درويش وسميح القاسم وإِميل حبيـبي مثـلا) ونصوص كبار المفـكّرين (هشام جـعـيّـط، محمّـد عابـد الجابري، حسن حنـفي، شاكر مصطفى مثـلا).

الهاجسان ذَيْـنـاك، اللّـذان سَـكَـنـاهُ وشَـغـلاهُ (الهاجس العربيّ، وهاجس الجمع بين السّياسة والصِّحـافة والثّـقافـة)، وَجَـدا لنـفسـيهـما عنـده تصـريـفا مناسـبا وناجـحـا من طـريق مجلّـة «اليـوم السّابع» التي كرّسها منـبرا لهـما. نـوّهـنا، قـبْلا، إلى ما كان من إفـراده أوسـعَ المساحات للثّـقافة والأدب والفـكـر، جـنـبا إلى جـنـبٍ مع السّياسـة والعـمل الصِّـحفيّ، ومـن حِـرْصـه على عـدم تَـضْـيِـقَـتها تحت أيّ ظـرفٍ أو طارئٍ سـياسيّ. ولكـن لا يَـعْـزُبُ عن النّـظـر والانـتـباه، في الوقـت عيـنِـه، ما أفـلـح هـذا العـقـلُ الكبـيـرُ في اجتـراحه على سبيـل تـفـعيـل ديـنامـيّـات التّـواصل والحـوار داخـل العـروبة: بين مشارقـها والمـغارب. لقد تنـزّلتِ المجلّـةُ على يـده مساحـة إعلاميّـة رائـدة في مضمـار تعريف المشـرِق والمغـرب العربـيّـين ببعـضـهما. كـأنّـما هـو أرادها «سـفـيـرا» أخرى شعارُها، هـذه المـرّة،: سفـير المشرق في المغرب وسفيـر المغرب في المشرق (على مثـال شعار «السّـفـير»: سفـير لبنان في الوطـن العربيّ، وسـفيـر الوطـن العربيّ في لبـنان). ولسـتُ أَتَـزَيَّـد حيـن أقـول إنّـه ما اجتـمع المغـرب والمشـرق في دوريّـةٍ واحدة نـظيـرَ اجـتـمـاع أقـلامـهما في «اليـوم السّابع»: الدّوريّـة التي نـجـح الفـقـيـدُ بـلال في أن يصـنـع لها ألـمـعـيّـتَـها التي بها انْـمازت وتَـفَـرَّدت عن نظيـراتها في الصِّـحافـة العربـيّـة.

لـن تَـجِـد في الذيـن عـاشروا بـلال الحسن أو عمـلوا معـه أو كانـوا في جملـة أصـدقائـه مَـن يُـرَخِّـص لـنـفسـه إتـيـانَ صغـيـرِ الكـلام في حـقّـه؛ فـلـقـد كان الرّجُـل، بسامـقِ أخـلاقـه، ونبـيـلِ سلوكـه، وعِـفّـةِ لسانـه، وصِـدْقِـه الطّـافـح على صفـحة وجـهه... أعلى من أيّ مَـأخـذٍ قـد يسـوقُه عليه زيـدٌ أو عمـرو من الذيـن كانوا يَـنْـفَـسُون عـليه نَـجَـاحَـهُ وعُـلُـوَّ فُـوقِـهِ أو كان يُـحْـفِـظُـهـم مركـزُه. حتّى خصومه في السّـياسة والصِّـحافـة احتـرموا فيـه رفيـعَ المناقـب التي بـها تَـحلَّى وتَـسَرْبـل؛ المنـاقـبُ التي هي إذْ تـدُلُّ عليه، دلَّـت على شـريـفِ مَـحْـتِـدِه ونـفـيـسِ معْـدِنِـه في آن.

عـاش مـتواضعا، عـزيز النّـفـس، حاملا فـلسطيـنَـه كلّ يـومٍ في القـلب وبيـن الأصابـع، شـاقّـا سبـيل الدّفـاع المـقـدّس عن حـقوق شعبـه وأمّـتـه، جاهـرا بالحـقّ لا يخشى في الأمـر لومـةَ لائـم. لم يـبحث عن صِـيتٍ ومـجْـدٍ؛ أتـاهُ الأخـير يَـطـرُق بابه من غيـر أن يَـغْـرى به أو تـتـعلّـق نفـسُـه بـه. هكـذا هـو أبـو فـراس في سيـرته الإنسانـيّـة البهـيّـةِ الوَضْحَـاء التي لـن يَـقْـطَع صـداها في الأهـلِ والأصـدقـاء والقُـرّاء غيـاب رَحَـل عنّـا في اليـوم عيـنِـه الذي رَحَـل فيه صـديقُـه محمود درويش، قبل ستّـة عشر عامـا، تاركـا إيّـانـا في حـالٍ من اليُـتْـم العاطـفـيّ الذي لا ينـدمـل جـرحُـه...

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

بينها الهلال.. إليك قائمة بالفرق التي هزّ شباكها رونالدو هذا الموسم

دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- تمكّن كريستيانو رونالدو، نجم نادي النصر السعودي ومنتخب البرتغال، من هزّ شباك المنافسين في جميع المباريات التي خاضها في موسم 2025/2024.

وكان اللاعب البالغ من العمر 39 عاماً قد سجّل 6 أهداف وصنع 2 آخرين أمام 6 أندية ومنتخبات.

مقالات مشابهة

  • السويد: جزى الله الظروف خيراً التي أجبرت مانشيني على التغييرات
  • ناشط يكشف كواليس جريمة سمية العاضي التي هزت صنعاء”
  • كشف تفاصيل جريمة القتل التي ارتكبتها الممثلة ”سمية العاضي” بصنعاء
  • البنية التحتية لمطار العيون تخضع لعملية تطوير شاملة (صور)
  • بينها الهلال.. إليك قائمة بالفرق التي هزّ شباكها رونالدو هذا الموسم
  • بعد التحقيق معه... ماذا قرّر القاضي بلال حلاوي بشأن رياض سلامة؟
  • شاهد.. نادين نسيب نجيم تحتفل بعيد ميلاد ابنها (صور)
  • بلال الراشدي يتوج بلقب بطولة فردي العموم لكرة الطاولة
  • الكشف عن أهم الشخصيات في العالم التي من الممكن أن تصل إلى لقب ”تريليونير”.. تعرف عليها
  • بلال الراشدي يخطف لقب بطولة فردي العموم للطاولة