كان مشهد الأشلاء والدماء المتناثرة من حولي مفزعا بشكل لا يمكن وصفه، حاولت المرور عبر هذه الأشلاء دون أن تمسها قدمي، ولكن كان الأمر أصعب من أن يتصوره بشر، فكأني راقص باليه يتحرك على أطراف أنامله لكن فوق الأشلاء. حتى رقصة الموت هذه لم تكن متاحة، فقد أخذ الرصاص من فوقي يتساقط كالمطر، فلم أجد بدا من الانبطاح على بطني والزحف بين الجثث الممزقة بحثا عن أي ساتر من الرصاص أو الموت الطائر جوا.



كانت رائحة الموت تزكم الأنوف، فضلا عن الحقيقة المضرجة بالدماء، حقيقة أنك تنام وسط أشلاء من تعرف أو تحب، فهذه يد صديق وهذا رأس أخيك وهذا ساق حبيب، في مشهد وحشي وصفته وقتها منظمة هيومن رايتس ووتش بأنها "إحدى أكبر وقائع القتل الجماعي لمتظاهرين سلميين في يوم واحد في تاريخ العالم الحديث"، وذلك في وصفها لما حدث في فض اعتصامي رابعة والنهضة يوم ١٤ آب/ أغسطس ٢٠١٣ م والذي تحل ذكراه هذه الأيام.

اعتصاما رابعة والنهضة في القاهرة جاءا كرد فعل على الانقلاب العسكري الذي قاده وزير الدفاع وقتها عبد الفتاح السيسي ضد أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر الحديث، الرئيس محمد مرسي رحمه الله.

فرغم سلمية الاعتصامين والذي أكّدت عليه تقارير دولية حقوقية كثيرة ذكرنا أحدها في الأعلى، إلا أن ذلك لم يشفع للمعتصمين وتمت شيطنتهم من قبل الإعلام الموالي للنظام العسكري الجديد، ومحاولة عزلهم مجتمعيا ووصفهم بـ "الخراف" كإحدى استراتيجيات الحرب النفسية تمهيدا لـ"ذبحهم" كالخراف وهو ما حدث بالفعل في ذلك اليوم.

هذا النموذج من القيادة الذي يوقف العدوان على غزة في أسبوع ويستقبل قادة الحركة المصنفة إرهابيا في قصر الرئاسة المصري، ويرسل رئيس وزراءه إلى القطاع ويفتح الحدود على مصراعيها لكل ما يخدم المواطنين والمقاومة، أصبح نموذجا لا يجب السكوت عليه ولا يجب أن يستمر طويلا لأنه أصبح يشكل خطرا على المصالح الصهيونية الأمريكية في المنطقة
وهنا من المهم التذكرة بنقطة ضرورية في مسألة أعداد ضحايا فض الاعتصام، وهي أن كثيرا من الضحايا لم يتم توثيقهم كمصابين أو شهداء بفعل رصاص الجيش والشرطة، فأنا شخصيا حين أصبت بطلق ناري في ظهري برصاصة من قناص بالجيش في نهاية اليوم وتم إنقاذي بمعجزة ربانية؛ لم أقم بتوثيق الإصابة بشكل رسمي لأنه من يصل إلى علم السلطات أن له صلة بالاعتصام كان يتم اعتقاله حتى لو كانت إصابته خطرة، أو قتله. وقد تم التعامل مع الرصاصة والجرح بشكل ودي وفي المنزل من قبل جرّاح متعاطف مع المعتصمين.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا والذي جعلناه عنوانا للمقال: كيف كانت المجزرة ممهدة وسببا مباشرا لما يحدث لأهلنا في غزة الآن من إبادة جماعية؟

حين جاء الرئيس مرسي للحكم في 2012م كان واضحا بجلاء من خلال تصريحاته ومواقفه العملية دعمه للقضية الفلسطينية ورفضه لأي عدوان أو مجازر بحق أهلنا هناك، فعلى سبيل المثال، بعد فوزه بالرئاسة بأسابيع قليلة التقى مرسي بكل من خالد مشعل وإسماعيل هنية رحمه الله، في 19 و27 يوليو 2012، وهي خطوة غير مسبوقة دبلوماسيا في مصر.

وحين بدأ العدوان على غزة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012م، اتخذ مرسي موقفا حاسما وأعلن أن مصر لن تظل صامتة إزاء أي هجوم على غزة. وأكد قائلا: "أوقفوا هذه المهزلة فورا، وإلا فإن غضبنا، غضب الشعب والقيادة، لن يمكنكم الوقوف أمامه". هذه اللغة القوية واللهجة الحادة لم تكن معتادة في التصريحات المصرية بشأن غزة على الأقل في العقود الأخيرة، فكانت غالبا لهجة دبلوماسية هادئة تدين العدوان، ولكن دون أن يترجم ذلك إلى عواقب حقيقية على الاحتلال الإسرائيلي.

ولم يتوقف الأمر على إطلاق التصريحات القوية، بل تمت ترجمة ذلك بشكل عملي إلى إجراءات غير مسبوقة، فرغم عمل كافة أجهزة الدولة ضد الرئيس وخاصة الدولة العميقة وأهمها الجيش، إلا أنه بادر بسحب السفير المصري لدى الكيان المحتل وطرد السفير الإسرائيلي من مصر. وقام بإرسال هشام قنديل رئيس الوزراء وقتها إلى غزة على رأس وفد مصري، وأمر بفتح معبر رفح بشكل دائم أمام الفلسطينيين، وسعى إلى التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار يضمن وقف "الاغتيالات والتوغلات الإسرائيلية" وتسهيل حركة المواطنين بعد أسبوع من العدوان الإسرائيلي.

هذه المواقف المتقدمة تجاه القضية الفلسطينية وأهلها تمت ترجمتها عند المواطنين في فلسطين المحتلة إلى جملة أصبحت متداولة على الألسن وقتها، وهي أن هذا عام "الغوث والنصرة" لفلسطين إبان حكم الرئيس مرسي، ففتح المعبر على مصراعيه ودخلت مواد البناء والسلع الضرورية وانتعش الاقتصاد الفلسطيني.

أصبح الرئيس مرسي وخلفيته الأيديولوجية التي يمثلها وهي الإخوان المسلمون؛ محل غضب ونقمة داخل أروقة الحكم في عواصم عربية خليجية وكذلك واشنطن وتل أبيب، فحركة حماس التي قام العدوان عليها في غزة عام 2012 هي إحدى حركات الإخوان المسلمين تاريخيا وفكريا، والرئيس الذي كان يحكم مصر ينتمي للإخوان، بل كان في قمة الهرم القيادي في الجماعة وهو مكتب الإرشاد.

هذا النموذج من القيادة الذي يوقف العدوان على غزة في أسبوع ويستقبل قادة الحركة المصنفة إرهابيا في قصر الرئاسة المصري، ويرسل رئيس وزراءه إلى القطاع ويفتح الحدود على مصراعيها لكل ما يخدم المواطنين والمقاومة، أصبح نموذجا لا يجب السكوت عليه ولا يجب أن يستمر طويلا لأنه أصبح يشكل خطرا على المصالح الصهيونية الأمريكية في المنطقة، وهو ما انعكس في تصريح أندرو ميلر، الذي كان مسؤولا عن متابعة الملف المصري داخل مجلس الأمن القومي الأمريكي خلال فترة أوباما، حيث قال إن السياسة الأمريكية قد تركَّزت على تمكين أولئك الذين يحكمون "والذين يقولون إنَّه ليس عليك سوى أن تسحق هؤلاء الأشخاص (الإخوان المسلمين)" وفق تعبيره.

وهو ما تم تنفيذه بحذافيره في فض اعتصام رابعة والنهضة، فلم يكن فضا عاديا، بل استثنائيا في التاريخ الحديث على حد قول المنظمات الدولية الحقوقية، والملفت أن ذلك تم في فترة حكم أوباما "الديمقراطي"، كما يتم سحق غزة حاليا في فترة حكم الرئيس بايدن "الديمقراطي" كذلك.

من الأهمية بمكان أن نقرأ التاريخ بوعي كامل للسياقات والمآلات، وندرك جيدا أن ما يحدث في غزة الآن هو نتيجة لما حدث في رابعة والنهضة منذ عشر سنوات مضت، وأن الإبادة الجماعية في غزة هي كذلك مقدمة قد تتقدم أو تتأخر لعملية سحق أو إبادة أخرى قادمة في عالم العربي والإسلامي
والذي يؤكد أن الإبادة الجماعية في غزة المستمرة منذ أكثر من عشرة أشهر بدأت إرهاصاتها في مذبحة رابعة؛ هو أنه بعد الإطاحة بالرئيس مرسي وُجهت لديه تهمة "التخابر مع حماس" للرئيس الشهيد، فكانت هذه هي التهمة الرئيسة، وهي تهمة سياسية أريدَ بها توصيل رسالة قوية لكل من يهمه الأمر في الداخل والخارج؛ مفادها أن مرسي تمت الإطاحة به لموقفه من غزة والمقاومة، وأن السحق والإبادة هي الثمن لكل من يدعم المقاومة، حتى لو داخل دولة كبيرة كمصر!!

ولم يتأخر السيسي في استيعاب الدرس الذي كتبه بنفسه بدماء المصريين في رابعة، واعتبر أن بقاءه في الحكم مرتبط بمدى وحشيته تجاه غزة والمقاومة، فأغلق معبر الرفح ومنع إدخال المساعدات إلا بما يسمح به الاحتلال، وأغلق أكثر من ثلاثة آلاف نفق بين القطاع ومصر، وأزال مدينة رفح المصرية من الوجود لضمان السيطرة الأمنية، وكان شريكا استراتيجيا للكيان الصهيوني في خنق القطاع والقضاء على المقاومة بما لا يتسع ذكره في هذا المقام.

لذلك من الأهمية بمكان أن نقرأ التاريخ بوعي كامل للسياقات والمآلات، وندرك جيدا أن ما يحدث في غزة الآن هو نتيجة لما حدث في رابعة والنهضة منذ عشر سنوات مضت، وأن الإبادة الجماعية في غزة هي كذلك مقدمة قد تتقدم أو تتأخر لعملية سحق أو إبادة أخرى قادمة في عالم العربي والإسلامي، وأنّ الصامتين المتخاذلين عن نصر غزة وفلسطين اليوم هم في الحقيقة يقدمون أنفسهم وأبناءهم وأحفادهم للذبح غدا، فالعدو واحد والمعركة واحدة والمصير كذلك.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه السيسي مصر مرسي غزة مذبحة رابعة مصر السيسي مرسي غزة مذبحة رابعة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الجماعیة فی غزة رابعة والنهضة الرئیس مرسی على غزة حدث فی ما حدث لا یجب

إقرأ أيضاً:

تأجيل إعادة محاكمة متهم بـ "غرفة عمليات رابعة" لـ 12 نوفمبر

 

قررت الدائرة الثالثة بمحكمة الجنايات أول درجة المنعقدة بمجمع محاكم بدر، تأجيل إعادة المرافعة في إجراءات محاكمة المتهم حسن حسني حسن القباني بالقضية المقيدة برقم 2210 لسنة 2014 جنايات العجوزة والمعروفة إعلاميًا بـ "غرفة عمليات رابعة".. لجلسة 12 نوفمبر المقبل للقرار السابق وهو اعادة المرافعة. 

صدر القرار برئاسة المستشار وجـدى محمـد عبـدالمنعم وعضوية المستشارين وائــل عـمـران وضياء حامد عامر وسكرتارية محمد هلال.
 

والجدير بالذكر ان المتهم حسن حسني حسن القباني صادر ضده حكم غيابي بالسجن المؤبد كونه هاربًا وقام بعمل اعادة إجراءات محاكمته فور القاء القبض عليه امام المحكمة التي اصدرت قرارها المتقدم. 

ووجهت النيابة العامة للمتهم عدة تهم في هذة القضية منها الانضمام إلى جماعة أسست على خلاف أحكام القانون والاشتراك في اتفاق جنائي الغرض منه التخريب العمدي لمبان واملاك عامة. 

وكانت قد وجهت النيابة العامة للمتهم وآخرين فى القضية تم الحكم عليهم، عدة اتهامات أخري منها "إعداد غرفة عمليات" لتوجيه تحركات تنظيم الإخوان بهدف مواجهة الدولة وإشاعة الفوضى في البلاد عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة"، والتخطيط لحرق الممتلكات العامة والكنائس.

وجاء بأمر الإحالة أن المتهمين ارتكبوا الجرائم موضوع الاتهام خلال الفترة من شهر يوليو 2013 وحتى شهر يناير 2014.. حيث قام المتهمون من الأول حتى السادس بتولي قيادة جماعة أسست على خلاف أحكام القانون، الغرض منها الدعوة إلى تعطيل أحكام الدستور والقوانين ومنع مؤسسات الدولة والسلطات العامة من ممارسة أعمالها، والاعتداء على الحرية الشخصية للمواطنين والحقوق العامة، والإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي.. بأن تولوا قيادة جماعة الإخوان المسلمين التي تهدف إلى تغيير نظام الحكم بالقوة والاعتداء على أفراد ومنشآت القوات المسلحة والشرطة، واستهداف المنشآت العامة ودور عبادة المسيحيين بهدف الإخلال بالنظام العام وتعريض سلامة المجتمع وأمنه للخطر، وكان الإرهاب من الوسائل التي تستخدمها هذه الجماعة في تنفيذ أغراضها على النحو المبين بالتحقيقات.

وأضاف أمر الإحالة أن المتهمين من الأول حتى الرابع عشر أمدوا جماعة أسست على خلاف أحكام القانون بمعونات مادية ومالية، بأن أمدوا الجماعة موضوع الاتهام بأسلحة وذخائر وأموال ومهمات ومعلومات مع علمهم بما تدعو إليه ووسائلها في تحقيق ذلك.

كما نسبت النيابة إلى المتهمين من السابع حتى الحادي والخمسين بأمر الإحالة أنهم انضموا للجماعة مع علمهم بأغراضها.. في حين نسبت إلى المتهمين من الثالث حتى الحادي والخمسين أنهم اشتركوا في اتفاق جنائي الغرض منه محاولة قلب دستور الدولة وشكل حكومتها بالقوة، بأن اتفقوا على إعداد وتنفيذ مخطط يهدف إلى إشاعة الفوضى بالبلاد، يقوم على اقتحام المنشآت الخاصة بسلطات الدولة ومنعها من ممارسة أعمالها بالقوة، وإلقاء القبض على رموزها وقياداتها (رئيس الجمهورية ووزير الدفاع وعدد من قضاتها) ومحاكمتهم تمهيدا لتسمية رئيس جمهورية وتشكيل حكومة لإدارة البلاد.

وأشار أمر الإحالة إلى اشتراك ذات المتهمين في اتفاق جنائي الغرض منه التخريب العمدي لمبان وأملاك عامة ومخصصة لمصالح حكومية ولمرافق ومؤسسات عامة، بأن حرضوا على اقتحام أقسام الشرطة والمؤسسات الحكومية ودور عبادة المسيحيين، ووضع النار فيها.. وكان ذلك تنفيذا لغرض إرهابي وبقصد إشاعة الفوضى وإحداث الرعب بين الناس.

وأسندت النيابة في أمر الإحالة إلى المتهمين الأول والثاني أيضا بأن حرضا على الاتفاق الجنائي، بتحريض المتهمين من الثالث وحتى الأخير، وأحاطهم بالغرض منه.. كما نسبت النيابة إلى المتهمين السادس، ومن العاشر حتى الثاني عشر، ومن الثامن حتى السابع والأربعين، أنهم بصفتهم مصريين أذاعوا عمدا أخبارا وبيانات وشائعات كاذبة حول الأوضاع الداخلية للبلاد، بأن بثوا على شبكة الإنترنت وبعض القنوات الفضائية مقاطع فيديو وصورا وأخبارا كاذبة للإيحاء للرأي العام الخارجي بعدم قدرة النظام القائم على إدارة شؤون البلاد، وكان من شأن ذلك إضعاف هيبة الدولة واعتبارها، والإضرار بالمصلحة القومية للبلاد.

وأضاف أمر الإحالة أن ذات المتهمين أذاعوا عمدا أخبارا وبيانات وشائعات كاذبة، بأن بثوها على شبكة الإنترنت وبعض القنوات الفضائية، وكان من شأن ذلك تكدير الأمن وإلقاء الرعب بين الناس، وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة.. كما حازوا أجهزة اتصالات لاسلكية (هاتفي الثريا وأجهزة بث إرسال واستقبال) دون الحصول على تصريح بذلك من الجهات المختصة بغرض المساس بالأمن القومي على النحو المبين بالتحقيقات.

مقالات مشابهة

  • فصائل المقاومة الفلسطينية: مجزرة المواصي جريمة حرب وعلى المجتمع الدولي وقف العدوان
  • “حماس” ترد على كذب الاحتلال بشأن مجزرة مواصي خان يونس
  • حركة حماس ترد على بيان الجيش الإسرائيلي بشأن مجزرة مواصي خان يونس
  • «حماس»: مجزرة الاحتلال في خان يونس تؤكد مضي نتنياهو في العدوان على غزة
  • حماس تعلق على ادعاءات الاحتلال بوجود عناصر لها فى منطقة مجزرة خان يونس
  • الخارجية العمانية تدين العدوان الصهيوني الذي استهدف الأراضي السورية
  • ما الذي يبتغيه الرئيس التونسي من إقالة الولاة قبل الانتخابات؟
  • أول تعليق من باسم مرسي بعد تعاقده مع طلائع الجيش المصري
  • لـ 12 نوفمبر.. تأجيل إعادة إجراءات محاكمة المتهم بـ «غرفة عمليات رابعة»
  • تأجيل إعادة محاكمة متهم بـ "غرفة عمليات رابعة" لـ 12 نوفمبر