الجزيرة:
2024-09-11@02:40:18 GMT

حرب السلالم في الانتخابات الرئاسية التونسية

تاريخ النشر: 14th, August 2024 GMT

حرب السلالم في الانتخابات الرئاسية التونسية

يحلو للرئيس التونسي قيس سعيد أن يصف المسار الذي فرضه منذ الخامس والعشرين من يوليو/تموز بالعلو الشاهق. هو بذلك يشير في نفس الوقت إلى بعدَين في الوضع الجديد الذي باتت البلاد تعيشه ويصفه أنصاره بالتصحيح، بينما يراه خصومه انقلابًا غير تقليدي على مسار الانتقال الديمقراطي.

يتمثل البعد الأول في رفعة وعلو المسار لجهة ما يرفعه من شعارات ويسوق له من قيم، فهو استرداد للبلاد من يد نخبة سياسية فاشلة ومتناحرة ومتواطئة مع قوى الشر في الداخل والخارج، وهو كذلك حرب على الفساد ودوائر النفوذ السياسية والاقتصادية المتحالفة لتبادل مصالح ومنافع مشتركة على حساب عامة الشعب.

أما البعد الثاني فيحيل على مشقة الطريق التي يرى الرئيس سعيد أنه على الشعب التونسي أن يسلكها في رحلته نحو ما يعتبره تحررًا وانعتاقًا حقيقيًا إلى درجة أنه لا يتوانى في وصف المعركة التي يخوضها بكونها حربًا للتحرير تجري من قبل الدولة والوطنيين المخلصين من أبناء الشعب، ضد من لا يتوانى الرئيس التونسي في وصفهم بالخونة والعملاء، بل أيضًا بالحشرات والمخمورين الذين يجب تطهير البلاد منهم.

في الوقت الذي تصف فيه المعارضة التونسية هذا الخطاب الرئاسي بغير المسبوق في خطورته والذي يقسم التونسيين ويحرض بعضهم على بعض، تلتحق عبارة "البناء القاعدي الجديد" بقاموس الرئيس قيس سعيد لتضع هذه المعركة في إطار أوسع تاريخًيا وجغرافيًا، ذلك أنها ومن منظور مسار الخامس والعشرين من يوليو/تموز تتعلق بمعضلة عانت منها دولة الاستقلال في تونس منذ نشوئها، وهي التي أنتجت مشاكل عويصة سرعان ما تحولت إلى أزمات انتهت في واحدة من ذُراها إلى ثورة ألفين وعشرة التي أجبرت الرئيس الراحل زين العابدين بن علي على الهرب.

إنها معضلة توزيع السلطة والثروة التي تشكل ميراثًا لحقبتَي الراحلين بورقيبة وبن علي، لم يفلح الانتقال الديمقراطي أو لم ينل الوقت الكافي والظروف المناسبة لمعالجتها والتعامل مع مفاعيلها التي تحيل على مجموعة من السلالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية التي صنعت في النتيجة فئات مختلفة ورسمت علاقات أفقية وعمودية مأزومة بينها.

الدولة الاجتماعية

في كل الأدوار التي مرّت بها الدولة والمجتمع في تونس، حافظ مصطلح الدولة الاجتماعية على حضور بارز في خطاب السلطة والمعارضة، مثّل بمقدار ما مساحة مشتركة لم يتم العمل على استثمارها لأجل بناء مشترك سياسي واجتماعي يثمر حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي المستدام، وإنما على العكس من ذلك، شكّل ذلك المفهوم ساحة أخرى للتراشق بل وللصراع السياسي بين منظومة الحكم وتيارات المعارضة التي تناوبت في تعبيراتها الفكرية المختلفة على الحديث باسم الشعب ورفع مطلب التغيير.

لعل هذا الإطار هو الذي سمح بنقاش في بواكير ثورة ألفين وعشرة عن أفق الثورة، وإذا كان المزاج العام الذي غلب هو أن التغيير يجب أن يتجه إلى النظام السياسي وليس إلى الدولة وإدارتها، في محاولة لتجنب الوقوع في نفس الخطأ القاتل الذي وقع فيه نظاما بورقيبة وبن علي، وهو الخلط المرضي بين القائد والحزب الواحد والدولة، فإن ذلك لم يمنع من طرح نقاش واسع لم يأخذ مداه ولم تقده نخبة مستقلة عن الأجندات الحزبية يتعلق بنقد "المنوال القديم"، والدعوة إلى "منوال جديد" يقطع مع الماضي ويؤسس لجمهورية جديدة.

كانت "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة"، ثم الذهاب نحو انتخابات تشكل على أساسها "المجلس التأسيسي" وكتابة دستور ألفين وأربعة عشر وانبثاق خمس هيئات دستورية مستقلة عنه، تعبيرًا بقي فوقيًا عن رغبة التأسيس واستبدال السلالم القديمة بأخرى مختلفة تقود إلى ترقٍ سياسي ديمقراطي شفاف، واجتماعي يكرس اللامركزية التنموية، ويضمن التكافؤ في الفرص، واقتصاديٍّ يكافح مظاهر الفساد والمحسوبية، ويوزع الثروة على نحو يقلص الفوارق بين الجهات، وإعلاميٍّ يضمن حرية الرأي والتعبير، ويفتح المجال أمام نقاش تعددي حر لقضايا الشأن العام بأنواعها.

بقطع النظر عن النوايا الطيبة من عدمها، وعن الأخطاء مقابل العِصي التي وضعت في العجلات لتعطيلها، يتسالم الجميع تقريبًا في تونس على أن غياب التوازن بين النسقين السياسي والتنموي أفقد الانتقال الديمقراطي رصيده إلى حد كبير، وحوله إلى مؤسسات فوقية تشهد محاصصات حينًا وجولات ساخنة من الصراعات الحزبية أحيانًا، وصلت في شكلها إلى درَك يجزم الديمقراطيون في تونس أنه تم جرّ البلاد إليه حتى مهّد في وقت لاحق لطي صفحة القوس الديمقراطي والذهاب بعد إلى ذلك إلى نوع من الحكم الفردي شبه المطلق ذلك الذي كتب فيه الرئيس سعيد الدستور الجديد بنفسه، وفيه منح نفسه صلاحيات غير مسبوقة ومنزوعة من أي إمكانية لمحاسبته على سياساته ومراسيمه، وما يتم فعله تحت مظلة حكمه من قبل الأجهزة التي هي تحت إمرته.

تونس الراهنة

لتونس الراهنة صورتان متناقضتان لدى الحكم والمعارضة، فخصوم الرئيس سعيد يرون أن البلاد دخلت مرحلة من العبث والتخريب الذي تصفه الأرقام والنسب الاقتصادية ويلمسه رجل الشارع في ارتفاعٍ جنوني للأسعار، وفقدان للسلع الأساسية وتردٍّ خطير في الخدمات التي تقدمها الدولة، ومناخٍ اجتماعي محتقن جراء تفشّي البطالة وانعدام الأفق الاجتماعي وانفلات مشكلة مهاجري جنوب الساحل والصحراء.

في حين يرى أنصار "المشروع" الذي يقوده الرئيس سعيد أن البلاد شرعت تستعيد دولتها وعافية مجتمعها، وأنها إنما تعاني تركة عقود، وأن المصاعب الاقتصادية ثمن لا بدّ منه للإقلاع الحقيقي، مشيدين بما تم – من وجهة نظرهم – تحقيقه في الحرب على "لوبيات الفساد" والسياسيين الفاسدين بعد أن كانوا محصنين في أبراج مصالحهم العاجية.

مشيرين إلى أهمية وحيوية عملية "إعادة الهيكلة" التي تمر بها الدولة في سياق التمكين للمنوال الجديد، وهو ما سمح بتجديد الطبقة السياسية الحاكمة في شخص وزراء لم يكن التونسيون يعرفونهم كثيرًا من قبل، وكذلك في شخص محافظين (ولاة) ومسؤولين، كثير منهم ينحدرون من فئات اجتماعية ضعيفة ظلت مهمّشة إلى عقود متتالية.

هي الوجوه الجديدة ذاتها التي تقول المعارضة إنها أمثلة صارخة للمحسوبية وانعدام الكفاءة وافتقاد الحد الأدنى من الخبرة والدراية، فضلًا عن الرؤية لكيفية تسيير دواليب الدولة والاستجابة لمطالب الشعب.

وترى معارضة الرئيس سعيد أن ما بني على ما يعتبرونه انقلابًا من مجلس نيابي ومن مجلس للأقاليم والجهات، وما يتم الترويج له من "شركات أهلية" شرعت تضع يدها تدريجيًا ودون ضمانات على اعتمادات مالية من البنوك وعلى مقدرات للدولة، إنما هي مأسسة للولاء المطلق للرئيس مطلق الصلاحيات وتوزيع للغنائم على من يسيرون في ركابه ويخوضون المعارك الحقيقية والافتراضية ضد خصومه.

اختبار انتخابي

في ظل هذه الهوّة السحيقة بين المقاربتين، من الطبيعي أن تشكل الانتخابات الرئاسية محطة مفصلية يتجدد فيها النقاش الحاد بين الطرحَين، وهو ما كان يجري بشكل ديمقراطي وشفّاف في الانتخابات الرئاسية والتشريعية طيلة حقبة الانتقال الديمقراطي، ذلك أن كل الأطراف ورغم صراعاتها كانت تنضبط للمسطرة الانتخابية الديمقراطية، وتخوض فيما بينها منازلة تتبادل ضمنها المحاسبة والمساءلة والانتقادات اللاذعة والدعوة للتغيير.

وهو الأمر الذي جعل تلك الأطراف المتنافسة والمتنافرة تتقبل في كل مرة النتائج التي يقود إليها الصندوق على الأقل بوصفها نتائج تعيد توزيع موازين القوى وإنتاج أطراف وظروف التحالفات والمعارك السياسية، غير أن الأمر اختلف هذه المرّة في انتخابات ألفين وأربعة وعشرين المرتقبة.

بعد إعلان هيئة الانتخابات في تونس وسط جدل سياسي ساخن عن قبولها ملفات ثلاثة مترشحين، بينهم الرئيس سعيد دون غيرهم، وهي القائمة النهائية التي استبعدت أسماء وصفت بالجدية في منافسة الرئيس الحالي، سارع المترشحون المستبعدون ومِن ورائِهم عامة المعارضين لمسار الخامس والعشرين من يوليو/تموز إلى اتهام سعيد بكونه استعمل السلم الديمقراطي للوصول إلى الحكم، والصعود إلى سدته، ثم قام بسحبه وشرع يتعامل فوقيًا مع الساحة السياسية محتكرًا أجهزة الدولة ومستعملًا مقدراتها؛ لأجل إنتاج انتخابات على المقاس معلومة النتائج مسبقًا.

وهو الأمر الذي نفاه الرئيس سعيد بشدة يوم أودع ملف ترشحه لدى هيئة الانتخابات مكذبًا تسليط أي مضايقات على معارضيه في الوقت الذي تلاحق فيه ملفات قضائية الأغلبية الساحقة من المترشّحين ضده، وتم حجب بطاقة نقاء السوابق العدلية عن بعضهم؛ ما أدى إلى إنهاء مشاركتهم في المنافسة الانتخابية.

تطورات وأدَت التشويق الانتخابي في مهده، فبالنظر إلى الأسماء المطروحة ليس من شك أن الرئيس قيس سعيد بات في طريق مفتوحة نحو عهدة رئاسية جديدة، لم يتردد معارضوه في الحديث عن مسرحية انتخابية ستؤسس لها، نازعين عنها مسبقًا أي شرعية في المستقبل.

وبالنظر إلى محطّات انتخابية سابقة ضمن المسار الحالي يطرح السؤال لدى كثيرين عن مدى شفافية ونسبة المشاركة في هذه الانتخابات الرئاسية، ذلك أن النسب التي تم تسجيلها يضاف إليها مسيرات خرجت لتأييد الرئيس سعيد، وثقت لمشاركةٍ بعضُها تاريخيٌّ في تدنيه، وهو الأمر الذي فتح الباب للقراءة في دلالات ذلك بين من اعتبرها دليل فشل ذريع وعدم شعبية للخيارات الرئاسية، ومن يراها مجرد نتيجة للتأثيرات السلبية لما يصفونه بالعشرية السوداء، في إشارة إلى عشرية الانتقال الديمقراطي.

بين هذا وذاك، تهمس أصوات ضعيفة ومهمشة بأن حرب السلالم السياسية الانتخابية وتلك الاجتماعية والاقتصادية على غاية من الأهمية؛ لأنها مؤشر على التحولات التي تشهدها البنى العميقة للدولة والمجتمع، إلا أن الأهم منها هو الدرس التاريخي المتعلق بالشأن السياسي الانتخابي، ذلك أن طريقة الوصول إلى الحكم من خلال السلم الديمقراطي ثم مصادرته، قد تحسم معركة ضد الخصوم لكنها في المقابل تصنع مشكلة عويصة عانى منها الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وهي كيفية النزول من شجرة الحكم.

فلقد مرت البلاد في أواخر حكمه بجدل بخصوص تعديل الدستور للسماح له بولاية إضافية، وصار يحاول التأسيس لضمانات دستورية قانونية تتعلق باليوم التالي للحكم، أي كيفية الخروج منه، وذلك عبر قوانين من قبيل التنصيص على "عدم محاسبة الرئيس وعائلته أثناء وبعد ولايته الرئاسية"، وكذلك من خلال قانون المراكنة الذي يسمح للرئيس بإحالة أملاكه إلى أفراد من عائلته، غير أن عواصف الغضب الاجتماعي هبّت لتطيح بخططه كلها من قبل شباب في سنة سماها بن علي سنة الشباب وأقنع الأمم المتحدة بتبنيها.

في واقع الحال، يتحدث مراقبون عن حالة من الغموض تمرّ بها تونس سواء في المستوى السياسي أو الاقتصادي والاجتماعي، الواضح الجلي فيها فقط هو استمرار الرئيس قيس سعيد على الأرجح في الحكم وسط تحذيرات من أن الخلطة الملغومة بين القائد والحزب الواحد والدولة، يجري اختزالها حاليًا في القائد الواحد ذي الرؤية الأحادية والصلاحيات المطلقة.

وهذا يؤذن في نظر البعض بأن انتخابات ألفين وأربعة وعشرين لن تكون محطة نقاش عام ومحاسبة وفرز وركون إلى الإرادة الحرة للتونسيين بتنوع أفكارهم ومشاغلهم، لتكون على العكس من ذلك قفزًا فوق الاستحقاقات التاريخية للمرحلة واستمرارًا لأوضاع يقول الحقوقيون وخبراء الاقتصاد والاجتماع إنها من بين الأسوأ في تاريخ البلاد.

فهل سيكون قيس سعيد العهدة الثانية، هو ذاته كما كان في العهدة الأولى؟

ذاك سؤال خطاب وسياسات ونتائج فعلية على الأرض، وحديث لن ينتهي بانتهاء انتخابات ألفين وأربعة وعشرين الرئاسية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الانتخابات الرئاسیة الانتقال الدیمقراطی الرئیس سعید قیس سعید سعید أن فی تونس ذلک أن من قبل

إقرأ أيضاً:

قبل الانتخابات الرئاسية في تونس: هل تتهيأ البلاد لأمر ما؟

ما زال المتابعون للمشهد السياسي في تونس يتحسسون ملامح بلدهم لا يعرفون وجهته ولا يقدِرون على توصيف حاله، كما لو أنهم غرباء فيه أو كما لو أنهم لم يكونوا فاعلين فيه ومتابعين لتفاصيل تحولاته.

اشتغال قيس سعيد منذ 25 تموز/ يوليو 2021 على فكرة تعطيل الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظمات؛ انتهى به إلى "إيقاف" الحراك السياسي وإلى إرباك معايير الفهم والتحليل والاستشراف، فصار الجميع في وضعية انتظار تماما كما المفعول به لا يعلم ما الذي سيحل به من خير أو شرّ.

المعارضة التي كانت تردد أن ما ينتج عن باطل فهو باطل، والتي قاطعت "الاستشارة الوطنية" ثم قاطعت "الاستفتاء على الدستور" وبعدها قاطعت "انتخابات البرلمان الجديد" و"انتخابات المجالس المحلية"، ونجحت في كشف لا شعبية قيس سعيد حيث كانت نسبة المشاركة في كل المحطات ضعيفة جدا، لم تثبت على موقف المقاطعة حين تعلق الأمر بالانتخابات الرئاسية، لكونها من استحقاقات دستور المجلس التأسيسي الشرعي لسنة 2014، ولذلك قرر عدد من الشخصيات السياسية المعارضة المشاركة في منافسة قيس سعيد في انتخابات 6 تشرين  الأول/ أكتوبر 2024.

قيس سعيد الذي ظل مطمئنا إلى كونه سيتقدم منفردا، تفاجأ بـ"فتوى" دستورية ذكية اعتمدتها المعارضة للمشاركة في الرئاسية، حيث اعتبرتها من استحقاقات دستور الثورة وليست من استحقاقات دستور قيس سعيد
قيس سعيد الذي ظل مطمئنا إلى كونه سيتقدم منفردا، تفاجأ بـ"فتوى" دستورية ذكية اعتمدتها المعارضة للمشاركة في الرئاسية، حيث اعتبرتها من استحقاقات دستور الثورة وليست من استحقاقات دستور قيس سعيد.

ظهور بعض الأسماء في المشهد الانتخابي مثل منذر الزنايدي وعبد اللطيف المكي وعماد الدايمي، وما لاقته من دعم شعبي ومن سهولة للحصول على التزكيات الشعبية، جعل قيس سعيد يمضي في السرعة القصوى لتفعيل مبدأ "بقاء أو فناء"، فكانت عملية التصفية عن طريق هيئة الانتخابات التي لم تمتثل حتى لقرارات المحكمة الإدارية التي أقرت حق المقصيّين في الترشح وكشفت عن لا قانونية قرارات هيئة الانتخابات بإسقاط أبرز الأسماء المنافسة لقيس سعيد.

عدة منظمات وهيئات وشخصيات وطنية وحقوقية وقانونية أمضت على بيانات تدعو فيها الهيئة الى احترام إرادة الناخب وعدم التدخل في ضبط العملية الانتخابية خدمة لطرف دون غيره، وتدعوها إلى التزام الحياد والموضوعية.

القاضي السابق المعروف أحمد صواب، والإعلامي زياد الهاني؛ المعارض بقوة لطريقة قيس سعيد في التعامل مع معارضيه، قدما ثلاث قضايا ضد هيئة الانتخابات. وقد نشر الهاني على صفحته الرسمية يوم 7 أيلول/ سبتمبر الجاري نصا جاء فيه: "في إطار حرصنا على النضال القانوني السلمي دفاعا عن حقوقنا الدستورية كمواطنين أحرار وعن قيم الجمهورية التي نؤمن بها وعن دولة القانون والمؤسسات، قمت بمعية صديقي ورفيقي سيد أحمد صواب بصفتنا مواطنين ناخبين؛ برفع 3 قضايا ضد هيئة بوعسكر (..) كما قمنا بإيداع دعوى أصلية لدى المحكمة الإدارية لإلغاء قرار هيئة بوعسكر باعتماد 3 مترشحين للانتخابات الرئاسية فحسب من أصل 6 مترشحين يخولهم القانون ذلك وهو ما يمثل مصادرة لحقنا الدستوري كناخبين في حرية الاختيار..".

الاتحاد العام التونسي للشغل وهو أكبر منظمة وطنية مؤثرة في تاريخ تونس منذ بداية بناء دولة الاستقلال، عقد مجلسه الوطني أيام 6 و7 و8 أيلول/ سبتمبر الحالي في مدينة المنستير ليُعلن عن قرار قوي وهو الإضراب العام في كامل تراب الجمهورية، ويترك لهيئته الإدارية تحديد تاريخه، وسيشمل الإضراب العام القطاع الخاص والقطاع العام والوظيفة العمومية.

قرار الإضراب العام لم يتخذه الاتحاد في تاريخه إلا مرات نادرة تكون فيها المعركة مع السلطة قد بلغت مرحلة كسر العظم، ولعل أبرز مواجهة بين اتحاد الشغل والسلطة في تونس كانت يوم "الخميس الأسود" في 26 كانون الثاني/ يناير 1978، حين دخل الاتحاد بقيادة الزعيم النقابي الحبيب عاشور في إضراب عام تحول إلى ثورة شعبية واجهتها السلطة بعنف وكان فيها ضحايا.

مجلة جون أفريك نشرت خبر منع توزيع عددها لشهر أيلول/ سبتمبر في تونس، وتقول إن السبب يعود إلى تحقيق حول قيس سعيد كمرشح لرئاسية 2024، في حين يعتبر أنصار قيس سعيد أن ما قامت به جون أفريك هو من باب التدخل في الشأن الداخلي لتونس. وكان قيس سعيد نفسه قد عبر عن رفضه لأي تدخل خارجي في الشأن الوطني، معتبرا الانتخابات الرئاسية شأنا سياديا.

كما نشرت جريدة الشروق التونسية بتاريخ 6 أيلول/ سبتمبر الجاري نصا لفؤاد العجرودي يهاجم فيه السفير الأمريكي وقد جاء فيه: "وبالنتيجة يمكن اعتبار جوي هود (السفير الأمريكي) الإرهاب الذي يسير على قدميه، بما يعني أنه جاء الى تونس بمهمة محددة هي كسر الخط السيادي الجديد المنبثق عن 25 جويلية (تموز/ يوليو)..".

ويتهم العجرودي السفير الأمريكي بأنه إذ يدعي العمل على إعادة الديمقراطية إلى تونس فإنما هو يريد "إعادة بناء الرادع الإرهابي"، وهو يقصد من خلال نصه من اعتبرهم حلفاء بريمر، رابطا بين حضور المهاجرين الأفارقة في تونس وبين أنشطة السفير وتنقلاته ولقاءاته بعديد الأطراف التونسية يتهمها العجرودي كما اتهمها قيس سعيد بـ"العمالة".

إن حديث السيادة هو حديث بلا معنى حين يصدر عمن لا يحترمون آراء غيرهم ولا يراعون كرامة مخالفيهم، ولا يترددون في ممارسة البطش حين يمتلكون القوة
المزعج حقيقة هو هذا التدخل المكشوف في المشهد التونسي، وهو مشهد يعترف التونسيون جميعا بأنه مأزوم وبأنه بحاجة إلى معالجات أكيدة وسريعة، ولكنهم جميعا حتى الآن لا يتفقون على الحد الأدنى من طرائق المعالجة وكيفيّات الخروج من الأزمة، بل إن محطة الانتخابات الرئاسية غذّت الخلافات بينهم وكأنهم يرون منصب الرئاسة هو المدخل السحري للعبور نحو مستقبل جميل.

الطرف الأقوى دائما هو من يتحمل القسط الأكبر من المسؤولية عن الفشل وعن حصول تدخلات خارجية، فلا يمكن منع تلك التدخلات إلا بوحدة وطنية يتجاوز فيها التونسيون خلافاتهم الثانوية ليتحدوا حول عناوين رئيسة تبدأ بعنوان السيادة الوطنية، بما يعنيه من سيادة المواطن حين يكون حرا وآمنا في ظل عدالة اجتماعية وأمن مدني وأمان نفسي.

إن حديث السيادة هو حديث بلا معنى حين يصدر عمن لا يحترمون آراء غيرهم ولا يراعون كرامة مخالفيهم، ولا يترددون في ممارسة البطش حين يمتلكون القوة.

لقد عودتنا القوى الكبرى أنها تترك الضعفاء يتناهشون، حتى إذا ما أنهك بعضهم بعضا وجدتهم فريسة سهلةَ التطويع والتطبيع.

x.com/bahriarfaoui1

مقالات مشابهة

  • كيف ينظر قيس سعيد إلى الانتخابات الرئاسية؟
  • هيئة الانتخابات التونسية ترفض مطالب ملاحظة الرئاسية لجمعيات تلقت تمويلات أجنبية
  • ما الذي يبتغيه الرئيس التونسي من إقالة الولاة قبل الانتخابات؟
  • رفض اعتماد بعض الجمعيات التونسية لمراقبة انتخابات الرئاسة
  • المنفي يهنئ تبون لفوزه في الانتخابات الرئاسية
  • من الرئيس؟.. عوامل تحسم المناظرة الرئاسية 2024 المرتقبة بين دونالد ترامب وكامالا هاريس
  • قبل الانتخابات الرئاسية في تونس: هل تتهيأ البلاد لأمر ما؟
  • انتخابات تونس.. الفخّ الذي وقع فيه قيس سعيد
  • «الدبيبة» يهنئ الرئيس الجزائري بفوزه بالانتخابات الرئاسية
  • الخارجية الأمريكية: نبارك النتائج التي خلصت إليها الانتخابات الرئاسية في الجزائر