الخريجون والواقع الصعب
تاريخ النشر: 14th, August 2024 GMT
سلطان بن محمد القاسمي
تُعد قضية الخريجين الباحثين عن عمل من أبرز التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة، وخاصة في ظل التزايد المستمر لأعداد الخريجين مع محدودية الفرص المتاحة في سوق العمل، وهذه المشكلة لا تؤثر فقط على الجانب المهني والاقتصادي للفرد؛ بل تتعدى ذلك لتلامس جوانب حياته النفسية والاجتماعية، مُسببة آثارًا سلبية تتطلب تدخلًا عاجلًا وشاملًا.
فعندما ينهي الطالب سنوات طويلة من الدراسة في تخصص معين، فإنِّه يملأه الأمل في مستقبل مشرق ووظيفة تليق بتعليمه وجهده. ومع ذلك، يواجه العديد من الخريجين واقعًا صعبًا يتمثل في انعدام فرص العمل المناسبة لتخصصاتهم. هذا الواقع يؤدي إلى شعور متزايد بالإحباط والقلق؛ حيث تبدأ الأسئلة تتراكم في ذهن الخريج: لماذا لم أجد عملًا بعد؟ هل كنت مخطئًا في اختيار هذا التخصص؟ هل سأتمكن من تحقيق أهدافي المهنية؟ هذه الأسئلة تؤدي إلى تدهور الحالة النفسية للباحث عن العمل، خاصة عندما تطول فترة البحث دون جدوى.
كما إن الحالة النفسية للباحث عن العمل يمكن أن تتدهور تدريجيًا مع مرور الوقت؛ حيث يشعر الفرد بأنه غير مجدٍ، وأن كل الجهود التي بذلها خلال سنوات الدراسة لم تُثمر. وهذا الشعور بقلة الحيلة والعجز يمكن أن يؤدي إلى تراجع الثقة بالنفس، مما يزيد من صعوبة البحث عن عمل، ويؤثر سلبًا على قدرة الفرد على التواصل الاجتماعي والمشاركة الفعالة في المجتمع؛ فالخريج الذي يظل عاطلًا عن العمل لفترة طويلة قد ينسحب تدريجيًا من الأنشطة الاجتماعية، ويفقد الحافز للاندماج في الحياة اليومية.
هذا الانسحاب الاجتماعي لا يؤثر فقط على الفرد نفسه؛ بل يمتد ليشمل أسرته والمجتمع بشكل عام. وكذلك الأسرة قد تجد نفسها تحت ضغط متزايد نتيجة للوضع المالي المتدهور، مما قد يؤدي إلى توترات داخلية ومشاكل اجتماعية قد تتفاقم إذا لم تتم معالجتها. كما إن المجتمع بدوره يبدأ في رؤية هؤلاء الخريجين على أنهم عبء اقتصادي واجتماعي، مما يزيد من العزلة والتهميش الذي يعاني منه الباحثون عن العمل.
إنَّ الحلول التقليدية، مثل تقديم دورات تدريبية أو ورش عمل، غالبًا ما تكون غير كافية لمعالجة جذور هذه المشكلة. وهناك حاجة مُلحّة لتقييم شامل للبرامج الأكاديمية المُقدّمة في الجامعات والكليات، وضمان توافقها مع احتياجات سوق العمل الفعلية. وهذا يتطلب من الجهات المعنية وضع خطط استيعابية واضحة تهدف إلى توظيف الخريجين في مجالات تخصصهم، مع التركيز على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي اللازم لهم لتجاوز هذه الفترة الصعبة.
ومن الضروري أن يكون هناك تعاون وثيق بين المؤسسات التعليمية، والحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع بأكمله لضمان توفير فرص عمل حقيقية ومستدامة للخريجين. كذلك يجب أن يكون هذا التعاون مبنيًا على رؤية استراتيجية تهدف إلى تعزيز التوافق بين التعليم وسوق العمل، بما يحقق توازنًا مستدامًا يمكن الخريجين من الإسهام في تنمية مجتمعهم وبناء حياتهم المهنية والشخصية.
وعلاوة على ذلك، فإنَّ القطاع الخاص يؤدي دورًا محوريًا في هذا السياق. ويجب أن يدرك أصحاب الشركات والمؤسسات أن استثمارهم في توظيف الخريجين هو استثمار في المستقبل. والشركات التي توفر فرص تدريب وتوظيف للخريجين، تساهم بشكل مباشر في بناء قاعدة مجتمعية قوية ومستقرة. كما يجب تقديم الحوافز للشركات التي تستثمر في توظيف الخريجين من قبل الجهات المختصة في ذلك؛ بما يعزز من دورها في دعم الاقتصاد الوطني ويقلل من نسبة البطالة.
ولا يمكن إغفال أهمية الدعم النفسي والاجتماعي للخريجين الباحثين عن عمل، وتوفير برامج إرشاد نفسي يمكن أن يساعد هؤلاء الشباب على التعامل مع الضغوط النفسية التي يواجهونها، ويمنحهم الأدوات اللازمة لمواصلة البحث عن فرص عمل وتطوير مهاراتهم الشخصية والمهنية. والدعم النفسي لا يقتصر على تقديم النصائح؛ بل يشمل بناء شبكة من العلاقات التي يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة للباحثين عن العمل، وتعيد إليهم الثقة بأنفسهم وبقدراتهم.
إضافة إلى ذلك، يجب أن تسهم وسائل الإعلام بدور إيجابي في تسليط الضوء على قصص النجاح والمثابرة بين الباحثين عن عمل؛ لأن تقديم نماذج إيجابية يمكن أن يلهم الآخرين ويحفزهم على الاستمرار في السعي لتحقيق أهدافهم. كما إن الإعلام يمكن أن يكون وسيلة فعّالة لتغيير النظرة السلبية التي قد تكون موجودة تجاه الباحثين عن عمل، وتحويلها إلى نظرة إيجابية تدعم وتعزز دورهم في المجتمع.
ختامًا.. إنَّ تحسين الحالة النفسية للباحثين عن عمل ليس رفاهية؛ بل ضرورة ملحة تتطلب تدخلًا فوريًا وشاملًا من جميع الأطراف المعنية؛ فالشباب هم عماد المستقبل، وتوفير فرص العمل المناسبة لهم هو أساس التنمية الشاملة للمجتمع. ومن خلال تبني رؤية استراتيجية بعيدة المدى ترتكز على دعم الخريجين نفسيًا واجتماعيًا، وضمان توافق التعليم مع احتياجات سوق العمل، يمكننا أن نضمن لهؤلاء الشباب مستقبلًا مشرقًا يمكنهم من خلاله الإسهام بفعالية في تنمية مجتمعهم وتحقيق ذواتهم.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ما الذي يمكن أن تفعله قوة الردع النووية لإيران؟
خلال المواجهة الأخيرة بين الكيان الصهيوني وإيران التي شهدت هجمات أميركية- إسرائيلية مركزة وكثيفة بأقصى درجات القصف الجوي التقليدي (غير النووي) واستهدفت علماء إيران النوويين ومقدراتها العلمية ومنشآت برنامجها النووي المنتشرة عبر الجغرافيا الإيرانية الشاسعة، أبدى خبراء وباحثون استغرابًا كبيرًا من غياب عنصر هام جدًا في حساب معادلة الردع والردع المضاد بين إيران والكيان الصهيوني.
ففي ضوء امتلاك إيران مئات الكيلوغرامات من اليورانيوم عالي التخصيب (HEU) بنسبة 60 بالمئة، بحسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولم يصدر أي نفي لذلك من قبل الحكومة الإيرانية ووكالاتها ذات الاختصاص، تساءل الخبراء:
لماذا لم تحسب إسرائيل- عندما بدأت حملتها الجوية على إيران- حساب أن تطوّر إيران من هذا اليورانيوم عالي التخصيب قنابل نووية "قذرة" قادرة على إحداث تلوث إشعاعي خطير إذا أصاب أي منطقة داخل الكيان الصهيوني، فسيجعلها إقليمًا غير صالح للحياة؟ ولماذا لم يطرح هذا الاحتمال أصلًا قيد النقاش والتحليل في مساحات التداول إقليميًا ودوليًا.
قاد هذا التساؤل آخرين إلى اقتراح معادلة ردع نووي إيراني قائم بالفعل، وقد تؤدي في المآل إلى مقايضة تجعل الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية.
قنابل "قذرة"بدوره، يقدّم المفكر الأيرلندي وأستاذ الفيزياء النظرية، البروفيسور توماس غرين، ما يسميه اقتراحًا متواضعًا، مفاده أن إيران تتمتع بالفعل بردع نووي الآن وفق معادلة يُجملها غرين على النحو التالي:
طائرات مسيرة فعّالة + يورانيوم عالي التخصيب (HEU) بنسبة 60 بالمئة = قنابل نووية صغيرة "قذرة" يمكن مقايضتها بشرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية!
لقد أثبتت جولة الصراع الأخيرة التي بدأها الكيان الصهيوني ضد الجمهورية الإسلامية أن الإيرانيين قادرون على إيصال عدد غير قليل من الطائرات المسيرة التي يطلقونها إلى تل أبيب.
إعلانعلاوة على ذلك، قيل لنا إنهم يمتلكون مئات الكيلوغرامات من اليورانيوم عالي التخصيب بنسبة 60 بالمئة. ومن المستحيل أن يغيب عن الجيش الإيراني الوصفة البسيطة "للردع النووي" التي تُشير إليها هاتان الحقيقتان.
إذا أطلقت إيران خمسين طائرة مسيرة انتحارية، كل منها محملة بكيلوغرام واحد من اليورانيوم عالي التخصيب، باتجاه تل أبيب، فمن المؤكد أن يصل ما لا يقل عن 20 طائرة (أو أكثر إذا كان الإسرائيليون وجيرانهم حكماء بما يكفي لعدم اعتراضها).
وحتى لو انفجرت هذه القنابل "القذرة" الطائرة في مواقع عشوائية، فستُلوّث المدينة التي ستصل إليها بفاعلية كبيرة. وسيُشكّل هذا هجومًا يؤدي لحظر دخول طويل الأمد لتلك المنطقة، قد يجعل مدينة مثل تل أبيب غير صالحة للسكن لعقد من السنوات أو أكثر. وستكون ضربة اقتصادية قاصمة.
وهذا أيضًا غير أنيق للأسف: فأي طائرة مُسيّرة تُسقَط ستُلوّث مساحة كبيرة، وقد يحدث هذا داخل دول ليست طرفًا في الصراع. لكن يُتوقع حدوث ذلك.
مقايضة نووية!هذا وضع مُعقّد لأن الحديث هنا يتناول "الردع" تحديدًا. فإذا هدّدت إيران بشن هجوم كهذا، ستردّ إسرائيل حتمًا بقنابلها النووية، مما سيؤدي إلى أسوأ نتيجة مُمكنة. فأي نوع من التبادل النووي سيعني فشلًا تامًا لنظرية أو عقيدة الردع النووي بأكملها.
يرى غرين أن القدرة أو الاقتدار العلمي النووي هي كل ما يهم لأمن إيران. وهي موجودة بالفعل ولا يُمكن انتزاعها بالقوة. لقد فات أوان ذلك بالفعل.
إيران قادرة على القضاء على إسرائيل بقنابل "قذرة". لكن، على عكس الإسرائيليين، الذين يخططون لتدمير الكوكب بأكمله إذا ساءت الأمور بالنسبة لهم، يتمتع الإيرانيون برقيّ واحترام ذاتي كبيرين يمنعانهم من جعل منطقة بأكملها غير صالحة للحياة، مع أنهم قادرون على ذلك بالتأكيد، اليوم!
يمكن بيع هذه القدرة بالسعر المناسب. ثمة مستقبل مشرق محتمل هنا لأن إيران لديها شيء مهم يمكن مقايضته: يمكنها التخلي عن اليورانيوم عالي التخصيب مقابل تخلي إسرائيل عن أسلحتها النووية.
في الوضع المثالي، سيوافق الطرفان على الحد من التخصيب إلى مستويات مناسبة للتطبيقات أو الاستخدامات المدنية فقط. وسيصادق كلاهما على معاهدة حظر الانتشار النووي، ويسمحان بعمليات تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
سيكون الشرق الأوسط الخالي من الأسلحة النووية مصدر ارتياح لجميع سكان الكوكب تقريبًا. وبطبيعة الحال، ستحتفظ الدولتان كلتاهما بالقدرة على تطوير الأسلحة النووية في المستقبل، كما هو الحال عندما تنهار الإمبراطورية الغربية تحت وطأة جشعها وقمعها العنيف، وتزدهر الفوضى العالمية في لحظة مجد غير مسبوق.
تصفير التخصيبالعقبة هنا هي الإصرار الإسرائيلي الدائم على أن تكون قدرة إيران على التخصيب صفرًا، وهو مطلب سخيف لن يقبل به إلا شخص مثل دونالد ترامب وأعضاء حكومته. لكن ربما تعلّم من الفشل المُحرج لمغامراته الأخيرة في دبلوماسية القوة.
لا يمتلك الإيرانيون، ولا يرغبون في امتلاك، أسلحة نووية متفجرة، مع أنهم يريدون القدرة على تطويرها يومًا ما إذا لزم الأمر. ومن ذا الذي لا يرغب في ذلك، وهو يعيش بالقرب من كيان صهيوني بغيض للغاية؟
إعلانفي ضوء كل ما سبق، يعتقد غرين أنه في الوقت الحالي، لإيران ولغيرها كل الحق في تخصيب اليورانيوم للاستخدام المدني. فالجميع له الحق في ذلك. وأي حديث عن "تصفير التخصيب" مجرد هراء.
سيتعين على الإسرائيليين ببساطة قبول حقائق الحياة لأجل التغيير. ويبدو أن إيران فرضت عليهم بعض هذه الحقائق مؤخرًا، وهو ما أثار دهشتهم. وقد أحسنت بفعل ذلك.
والمعلوم منذ عقود في أدبيات السياسات النووية أن الأسلحة النووية ليست للاستخدام بل هي للردع. والردع هنا يعني حماية الدول النووية وقيادتها من التغول الجيوسياسي والابتزاز النووي والتهديد الوجودي.
وكان من أبرز نتائج حرب أوكرانيا أنها أثبتت عدم جدوى الأسلحة النووية في الصراعات الجيوسياسية التقليدية. فروسيا تمتلك آلاف الرؤوس/ القنابل النووية من كل المستويات الإستراتيجية والتكتيكية وربما العملياتية محدودة النطاق، لكنها لم تستعملها ولا يبدو أنها ستفعل.
وكان قصارى الأمر نوويًا أن روسيا صعدت التهديدات أو بالأحرى التحذيرات النووية لأوروبا، بدون كثير جدوى، وأجرت تعديلات على العقيدة النووية الروسية منذ عامين تقريبًا لتأكيد صدقية تلك التحذيرات.
وهذا إجمالًا يؤكد محدودية دور الأسلحة النووية في الصراعات العسكرية واقتصار التلويح باستخدامها على دفع التهديد الوجودي للأمم النووية ومصالحها الحيوية، كما تعرّفها هي بالطبع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline