الجزيرة:
2025-03-04@17:56:18 GMT

هيئة المفاوضات السورية.. تعثر النشأة وتأخر الإنجاز

تاريخ النشر: 14th, August 2024 GMT

هيئة المفاوضات السورية.. تعثر النشأة وتأخر الإنجاز

لا تزال الهيئة التفاوضية السورية -التي تم تأسيسها بالرياض في نوفمبر/تشرين الثاني 2017- تشهد عديدا من التحولات في بنيتها التنظيمية وهيكلة تكتلاتها وأولوياتها وقوانينها الانتخابية.

وتعتبر الهيئة التفاوضية نسخة مطورة عن الهيئة العليا للمفاوضات التي تشكلت بالرياض أيضا في ديسمبر/كانون الأول 2015، لخوض مفاوضات جنيف السياسية مع الحكومة السورية، وكان يشغل منصب المنسق العام للهيئة يومئذ رئيس الوزراء السوري الأسبق رياض حجاب.

تبديل الجياد

وقبل تأسيس الهيئة التفاوضية بيومين، شهدت الهيئة العليا للمفاوضات يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 سلسلة من الاستقالات، أبرزها استقالة منسقها العام رياض حجاب، والمتحدث الرسمي باسمها رياض نعسان آغا، مما أدى لإحداث تغيير في ملامحها العامة على صعيد الاسم والتكتلات والشخصيات، مع ثباتها على المرجعية، وهو ما فسره أعضاء في الهيئة -بحسب ما نقلته مصادر خاصة للجزيرة نت- بأنه "بداية التدرج في إحداث انقلاب رحيم، بقصد التخفف من أعباء وقيود سياسية معينة".

وكان أعضاء من المستقيلين قد عللوا -في وقت سابق- استقالاتهم بأنها اعتراض على محاولات تمييع الهيئة وتشتيت ثوابتها، فقد اعتبر البيان الذي أصدره المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات حينها أن "منصة موسكو (التي أدخلت في الهيئة) هي منصة صنعتها روسيا، الدولة المحتلة وحليفة نظام الأسد، لاختراق المعارضة وتمزيق صفوفها، وأولى بها أن تكون في صف النظام، وإن قبولها بين صفوف المعارضة، وبشكل خاص في وفدها المفاوض، هو قبول لتمثيل النظام نفسه".

ومنصة موسكو هي تجمع لعدد من الشخصيات والكيانات السياسية التي تؤمن بالرؤية الروسية للحل في سوريا، انبثق عن جولتي محادثات استضافتهما موسكو عام 2015 تحت اسم "اللقاء التشاوري السوري السوري"، وجمع بين ممثلين عن الحكومة السورية وشخصيات اختارتهم موسكو مما تُعرف بـ"معارضة الداخل"، في حين رفض الائتلاف الوطني للمعارضة المشاركة آنذاك في أي محادثات خارج إطار الأمم المتحدة، كما أن رحيل الرئيس بشار الأسد لم يكن شرطا مسبقا فيها.

في المقابل، قال الرئيس السابق لهيئة التفاوض السورية نصر الحريري -في حديثه للجزيرة نت- إن "الهيئة كانت تحرص على حضور كل الفاعلين، ولقد واجهت كل الضغوط ولم تتغير سياستها مطلقا تجاه ثوابت الثورة، وإن نتائج مؤتمر الرياض الثاني تتطابق مع نتائج مؤتمر الرياض الأول المنعقد في ديسمبر/كانون الأول 2015″، ورفض الاتهامات الموجهة إليها، مؤكدا أن "القول إن الجسم السياسي لهيئة التفاوض عند تأسيسه لا يمت بصلة لهيئة المفاوضات العليا، غير دقيق على الإطلاق، ولقد تابع الأعضاء المنتخَبون من حيث انتهى زملاؤهم".

وبهذا، تكونت الهيئة التفاوضية السورية في أثناء التأسيس من 36 عضوا: 8 من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، و4 من منصة موسكو، و4 من منصة القاهرة، و8 مستقلون، و7 من الفصائل العسكرية، و5 من هيئة التنسيق الوطني. وبعد انتهاء ولاية الحريري في رئاسة الهيئة التفاوضية، خلفه أنس العبدة الرئيس الأسبق للائتلاف، وبعده بدر جاموس الأمين العام الأسبق للائتلاف الذي لا يزال رئيسا للهيئة التفاوضية، وتم التمديد له سنتين أخريين بعد إجماع الأعضاء في 21 يوليو/تموز 2024 على تعديل النظام الداخلي.

ومنصة القاهرة تكتل سياسي يجمع عددا من الكيانات والشخصيات، انبثق عن اجتماع في القاهرة للمعارضة السورية برعاية المجلس المصري للشؤون الخارجية عام 2014. ولا توجد هيكلية واضحة للمنصة ومكوناتها، إلا أنها تألفت من تيار "قمح" بقيادة هيثم مناع، وتيار الغد السوري بقيادة أحمد الجربا، وشباب الحراك الثوري السوري بقيادة فراس الخالدي، وبعض الشخصيات المستقلة مثل جمال سليمان وجهاد مقدسي وآخرين. أما هيئة التنسيق الوطني -ومقرها دمشق- فقد تأسست عام 2011 من عدة أحزاب سياسية صغيرة وشخصيات معارضة مستقلة من داخل سوريا وخارجها.

وبالرغم من تباين أسس ومرجعيات التكتلات السياسية المكونة لها، فإن أدبيات الهيئة العليا للمفاوضات -بحسب مصادرها الرسمية- تقوم على ركيزتين أساسيتين: "التمسك بوحدة الأراضي السورية، وتأسيس نظام يحوي كل أطياف الشعب لا مكان فيه لبشار الأسد ورموزه"، معتبرة أن "الحل السياسي هو الخيار الإستراتيجي" الذي تعتمده وفق بيان جنيف 1 والقرارات الدولية 2118 و2254 التي تنادي بوجوب إنشاء هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، "لا دور ولا وجود للأسد ومن اقترف الجرائم بحق الشعب السوري فيها، بدءا من المرحلة الانتقالية". وهي التفاصيل ذاتها التي ركز عليها البيان الختامي لمؤتمر الرياض الثاني، المرجعية الأساسية لهيئة التفاوض التي أكدت أن المفاوضات المباشرة تختلف عن المفاوضات المشروطة، وأن "المطالبة بالقرارات الدولية ليست شرطا، بل هي أساس للتفاوض".

مناورات على الأولويات

ومنذ بدء المفاوضات في جنيف، كان الخلاف بين المعارضة والنظام على رسم خريطة الوصول للحل السياسي وتطبيق القرارات الدولية الساعية لحل القضية السورية، فقد أصر النظام على وجوب البدء بسلة مكافحة الإرهاب والعنف، لتليها باقي السلال المطروحة من قبل الأمم المتحدة، والتي تتمثل في تأسيس هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، وصياغة الدستور، والانتخابات. في المقابل، كانت الهيئة العليا للمفاوضات تصر على وجوب البدء بالعمل على تأسيس هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات قبل أي سلة أخرى.

وسلال التفاوض هذه هي مقاربة أعلن عنها ستفان دي ميستورا في الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف عام 2017، تشير إلى إطار عمل يتضمن 4 سلال تتناول: القضايا الخاصة بإنشاء حكم غير طائفي، ووضع جدول زمني لمسودة دستور جديد، وكل ما يتعلق بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وإستراتيجية مكافحة الإرهاب والحوكمة الأمنية.

وإثر الضغوط الدولية، استجابت الهيئة العليا للمفاوضات لطلب الوسيط الدولي ستفان دي ميستورا بشأن ضرورة تشكيل فرق فنية قانونية وسياسية، موازية لعملية التفاوض، لدراسة السلال الأربع ودعم القرار السياسي، بشرط أن يكون الأمر خارج مسار الجولات التفاوضية. وحسب الحريري، فقد تم ذلك مع دي ميستورا وفق قاعدة: "لن يتم الاتفاق على شيء حتى يُنتهى من الاتفاق على كل شيء"، أي أنه تم الاتفاق على تقديم دراسة نظرية للملفات الأربعة، وعند إنجازها يتم الذهاب إلى التنفيذ.

وفي السياق، أكد الحريري للجزيرة نت أن النظام السوري "ليس جادا في مناقشة أي من السلال الأربع، وأنه لا يريد التفاوض، وهدفه العرقلة واستنزاف الوقت"، موضحا أنه "لم يحضر ولا جلسة واحدة من الجلسات التي دعا إليها الوسيط الدولي، وكان الحضور دوما يقتصر على الأمم المتحدة وفريق الهيئة التفاوضي!".

وبذلك، كانت النتائج النهائية دوما تصب في صالح النظام السوري -الغائب الحاضر- وأذرعه الساعية لإغراق المعارضة بالتفاصيل، مستغلا هذه المناورات لإضاعة الوقت وتوسيع السيطرة على الأرض وإنشاء علاقات ثنائية وحوارية مع الدول خارج مظلة الأمم المتحدة، لفرض شروطه مجددا.

اجتماع الهيئة العامة للائتلاف السوري المعارض برئاسة نصر الحريري (مواقع التواصل) نزع الدسم

ورغم نجاح روسيا في الحصول على "نفوذ" لها في هيئة التفاوض، فإنها لم تنجح في إسقاط عبارة "وجوب رحيل الأسد" من المرجعية السياسية للهيئة، مما دفعها -حسب الحريري- لعقد مؤتمر "سوتشي" مباشرة، وهو المؤتمر الذي رفضته الهيئة بالرغم من الضغوط الإقليمية والدولية عليها، معللة ذلك بأنه خطوة للالتفاف على الحل السياسي، ومحاولة لإعادة تأهيل الأسد، وحرف لمسار الوساطة الذي ترعاه الأمم المتحدة.

وأكد رئيس هيئة التفاوض السابق للجزيرة نت: "لقد تعرضنا لضغوط من دول خارجية لإسقاط عبارة رحيل الأسد، وكان موقف الوسيط الدولي ملغوما وحاول إقناع الهيئة بالابتعاد عن العبارات الاستفزازية وعلى رأسها رحيل الأسد، لأنها تعطيه الحجة بعدم الحضور". وكان دي ميستورا طرح مبادرة تنفيذية على الهيئة التفاوضية السورية في يوليو/تموز 2015، تنص صراحة على إبقاء بشار الأسد لحين إجراء انتخابات.

كما أن وزير الخارجية السوري وليد المعلم أشار في 2016 إلى أنه "ليس هناك شيء في وثائق الأمم المتحدة يتحدث عن مرحلة انتقالية في مقام الرئاسة"، مبينا أن "المرحلة الانتقالية في مفهومنا هي الانتقال من دستور قائم إلى دستور جديد، ومن حكومة قائمة إلى حكومة فيها مشاركة مع الطرف الآخر". ولأن الهيئة لم توافق على هذا الطلب، لم يحضر النظام السوري إلا جلسة مفاوضات واحدة عقدت بعد "مؤتمر الرياض 2" مباشرة، حسب الحريري.

وفي حديثه للجزيرة نت، يحذر الباحث السياسي أحمد رمضان من خطورة غياب الإستراتيجية التفاوضية لدى هيئة التفاوض السورية، موضحا أن "كل الأجسام التفاوضية السورية لا تملك إستراتيجية ولا خبراء ولا تقنيين، ولم تنجح في تشخيص إستراتيجية النظام التفاوضية، ومعضلتها أنها دوما ما تحاول محاكاة المزاج العام لا المصالح الوطنية، متناسين أن المفاوضات عمل غير شعبي، فهدف المفاوض جلب حقوق الناس وليس رضاهم!"، مشيرا إلى أن "تصلب هذه الأجسام بالمواقف السياسية ليس نتاج وعي سياسي، بل نتاج جهل بالخارطة التفاوضية وغياب الإستراتيجية. وعليه فإنهم يتشنجون في مواقفهم خوفا من مصادمة الرأي العام".

بدر جاموس رئيس الهيئة التفاوضية السورية (رويترز)

ويستدل الحريري ورمضان -في حديثيهما للجزيرة نت- على ضياع بوصلة هيئة التفاوض، بما أعلنته على لسان رئيسها الحالي بدر جاموس من أن أولويتها اليوم جلب الدعم المالي الدولي لتعزيز التعليم وتأهيل المرافق الصحية وتأمين الطعام لمكافحة الفقر، إضافة "لبناء صداقات حتى مع الدول المطبعة (مع الحكومة السورية)"، وهو ما رأيا أنه يدل على عدم وضوح في الرؤية وغياب للإستراتيجية وعدم إدراك للمهمة المناطة بها، وأنه سعي من الهيئة لإثبات وجودها بعد جمود التفاوض، ومحاولة لصناعة مرجعية خاصة تتعدى بها على صلاحيات وأعمال الأجسام المعارضة الأخرى.

ويضع رمضان اللوم على التغييرات التي شهدتها مؤسسات المعارضة السورية، ويصفها بأنها انتقائية وغير قانونية، ويرى أنها محاولة للانقلاب على هذه المؤسسات لنقلها من حالة "الوصاية الجزئية لحالة الوصاية الكلية والمطلقة"، وذلك من أجل "تحقيق السيطرة الكاملة على الهيئة التفاوضية وكافة أجسام المعارضة، وتحويلها لأجسام عاطلة ومعطلة ومستعدة أن تتماهى مع المصالح الدولية"، فالهيئة اليوم -بحسبه- لم تعد تمثل كل السوريين، إذ تغيب عنها كيانات وتيارات مهمة، ولذلك فإن إعادة الهيكلة ضرورة تفاوضية وسياسية وقانونية.

في 18 مارس/آذار 2024، أصدر مركز مدى لبناء السياسات والإستراتيجيات ورقة تقدير موقف بعنوان "نهاية مسار الدستورية واتجاه نحو المصالحة وحكومة شراكة"، تحدثت عن توافق غير معلن بشأن بدء التخلي عن مسار التفاوض الدولي، وذلك لعدم إمكانية تطبيق القرار 2254، ولأن العودة إلى المفاوضات برعاية الأمم المتحدة لم تعد متاحة بسبب حالة الاستقطاب بين الروس والأميركيين، مما يعني -بحسب الورقة التي حصلت الجزيرة نت على نسخة منها- أن السيناريو الأكثر ترجيحا "هو تبني الهيئة مسارا بديلا عن مسار الدستورية، وهو مسار البيئة الآمنة والمحايدة، بما يشكل تمهيدا للدخول في عملية الانتخابات وعقد مصالحة وحكومة مشاركة ما بين نظام الأسد وشخصيات معارضة وهيئات تخضع لتأثير دول النفوذ، على أن يكون ذلك ضمن إطار إقليمي واسع لتطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية بما يضمن نجاح العملية".

وقد بدأ النظام السوري في إحداث تحولات داخلية تعكس انطباعا بوجود تغيرات في بنيته السياسية والأمنية والعسكرية والمؤسساتية، مما يشير -بحسب الورقة- إلى إمكانية أن يكون شريكا أساسيا في المرحلة المقبلة. لكن في المقابل، استبعد جاموس -في مقابلة تلفزيونية- سيناريو الحكومة المشتركة، معللا ذلك بأن النظام السوري هو "نظام صفري لا يريد التنازل عن أي شيء مطلقا"، لكنه استدرك "وهذا لا يعني أننا نوافق على بقاء الأسد وأخذ بعض الوزارات السيادية، فالكل يعلم أن الوزارات لا معنى لها في ظل سطوة القوة الأمنية والعسكرية".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الأمم المتحدة النظام السوری مؤتمر الریاض هیئة التفاوض دی میستورا للجزیرة نت

إقرأ أيضاً:

الفرقة الرابعة.. الإمبراطورية التي نهبت اقتصاد سوريا

دمشق "أ.ف.ب": من مقارّها في تلال وعرة مشرفة على دمشق، استنزفت الفرقة الرابعة، امبراطورية ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الاقتصاد السوري، فنهبت مقدراته واستنفدتها حتى آخر قطرة.

بعد إطاحة حكم الأسد، تعرض الكثير من مقار تلك الوحدة العسكرية السيئة السمعة التي أثارت الرعب في سوريا، للنهب. لكن مستندات متناثرة داخلها تروي تفاصيل عن حياة ترف وثروات تمتع بها "سيدي المعلم"، أي ماهر الأسد، مع المحظيين من معاونيه، فيما كان بعض جنوده يكافحون لتأمين قوت عائلاتهم الى حدّ التسوّل.

وتكشف مجموعة وثائق اطلعت عليها وكالة فرانس برس داخل عدد من هذه المواقع المهجورة الآن، النقاب عن امبراطورية اقتصادية واسعة بناها ماهر الأسد وشبكته من المنتفعين، لم تترك مجالا لم تتدخل فيه، من صنع الكبتاغون والاتجار به وصولا الى فرض أتاوات على المعابر الحدودية والحواجز.

ولطالما اتهمت حكومات غربية ماهر الأسد وأعوانه بتحويل سوريا إلى "دولة مخدرات" أغرقت الشرق الأوسط بأقراص الكبتاغون، وهي مادة منشطة غير قانونية كانت تهرّب خصوصا الى الخليج.

لكن بعيدا من التجارة التي تقدّر قيمتها بأكثر من 10 مليارات دولار، تُظهر المستندات التي تفحصتها فرانس برس كيف تغلغلت الفرقة الرابعة في الكثير من مفاصل البلد، ما جعلها أشبه بـ"مافيا" محظية داخل دولة مارقة.

استولت الفرقة الرابعة على منازل ومزارع، وصادرت بضائع شتى من مواد غذائية وسيارات وأجهزة إلكترونية لبيعها. ونهبت النحاس والمعادن من مناطق دمرتها سنوات الحرب الطويلة.

وفرضت كذلك أتاوات عند الحواجز ونقاط التفتيش، وجنت أموالا من مرافقة صهاريج نفط وحماية مسارها، حتى تلك الآتية من مناطق سيطر عليها الجهاديون. واحتكرت أيضا تجارة التبغ والمعادن.

أنفاق وخزنات

في صلب هذه الشبكة الفاسدة، تربّع المقر الخاص لماهر الأسد فوق متاهة أنفاق محفورة في قلب جبل يعلو دمشق، يتسع بعضها لمرور شاحنة.

وقاد حارس ملثم تابع للسلطة السورية الجديدة فريق وكالة فرانس برس عبر الأنفاق، كما لو أنه دليل سياحي مشيرا الى حمام هنا وغرفة نوم هناك، وما بدا أشبه بمسارات خروج في حالات الطوارئ.

بعد النزول عبر سلم شديد الانحدار مؤلف من 160 درجة، توجد غرف موصدة ببوابات مصفحة.

ويقول الحارس إنه أحصى تسع خزنات داخل إحدى الغرف.

ويوضح كيف أن الخزنات تعرضت "للكسر" والنهب على أيدي أشخاص اقتحموا المكان في الثامن من ديسمبر، بعد ساعات قليلة على إطاحة فصائل معارضة بقيادة هيئة تحرير الشام بحكم عائلة الأسد التي قادت سوريا بقبضة حديد لأكثر من خمسة عقود.

وبحسب مصدر عراقي رفيع المستوى ومصدرين سوريين آخرين، لم يعلم ماهر الأسد (58 عاما) حينها بعزم شقيقه الفرار إلى روسيا. وهرب بشكل منفصل في مروحية أقلته إلى العراق ومنها الى روسيا، عبر إيران على الأرجح.

في المجمع تحت الأرض، تبدو جلية الفوضى: خزنات مفتوحة وصناديق ساعات رولكس وكارتييه فارغة مرمية في كل ناحية. ولا يتضح ما إذا كانت الخزنات قد أُفرغت من الأموال قبل نهبها أم لا.

ويشير الحارس الى مكتب، يقول إنه "المكتب الأساسي" لماهر الأسد، مؤلف من "طابقين فوق الأرض وتحته أنفاق تضم (...) غرفا مغلقة لا يمكن فتحها".

إلى جانب خزنة مهجورة داخل ممر، يمكن رؤية جهاز تغليف حراري جرى استخدامه على الأرجح لتغليف الأوراق النقدية.

ثروات مخفية

في أحد المستندات التي تفنّد بالتفصيل النفقات كافة، وعثر عليه فريق فرانس برس بين مئات الأوراق المبعثرة داخل مكتب أمن تابع للفرقة الرابعة، يظهر أنه كان هناك حتى الرابع من يونيو سيولة نقدية قدرها ثمانون مليون دولار، وثمانية ملايين يورو، و41 مليار ليرة سورية.

وتوثّق مئات المستندات احتفاظ ماهر الأسد ومكتب الأمن بمبالغ شبيهة في الفترة الممتدة بين العامين 2021 و2024.

ويقول الباحث لدى معهد كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط خضر خضور لفرانس برس "هذا ليس إلا عينة صغيرة من الثروة التي جمعها ماهر وأعوانه عبر صفقاتهم التجارية المشبوهة".

ويقدّر أن تكون ثروتهم الحقيقية مخفية "في الخارج، على الأرجح في دول عربية وإفريقية".

ويضيف "كانت الفرقة الرابعة بمثابة آلة لطباعة المال" في سوريا حيث يعيش أكثر من تسعين في المئة من السكان، وفق الأمم المتحدة، بدولارَين أو أكثر بقليل في اليوم الواحد.

دولة داخل الدولة

لم تنجح العقوبات الغربية في كبح جماح ماهر الأسد ورجاله أو الحدّ من نفوذهم طيلة سنوات النزاع.

ويقول العميد السابق في الفرقة الرابعة عمر شعبان الذي عقد تسوية مع الإدارة السورية الجديدة "كانت الفرقة الرابعة دولة مستقلة، تمتلك (...) كل شيء".

وفي حين كان التعامل بالدولار الأميركي محظورا في سوريا، أصبح العديد "من ضباط الأمن أصحاب ثروات، لديهم خزنات وأموال (...) بالدولار حصرا"، على حد قوله.

وأقام أعوان ماهر المقربون في قصور فاخرة واعتادوا على شحن سيارات فارهة من الخارج، بينما كان البلد خارج أسوار قصورهم غارقا في دوامة من الفقر والبؤس والخوف.

بعد أسابيع من إطاحة حكم الأسد، كان سوريون ما زالوا يأتون الى فيلا ماهر الأسد المشيّدة على تلة في منطقة يعفور الراقية، ويفتشون في الغرف القريبة من اسطبلات اعتادت ابنته الفائزة بجوائز عدة، ركوب الخيل فيها.

داخل القصر المنهوب، سأل رجل بانفعال فريق فرانس برس وهو ينتقل من غرفة الى أخرى "أريد الذهب. أين الذهب؟".

لكنه لم يعثر إلا على صور قديمة مبعثرة على الأرض، إحداها لماهر وزوجته مع أولادهما الثلاثة.

الرجل الخفي

لطالما كان ماهر الأسد شخصية غامضة تثير الخوف في سوريا. ويُنظر إليه على أنه الرجل الذي تولّى تنفيذ "الأعمال القذرة للنظام".

ومع أن صوره غُلّقت داخل كل مقر للفرقة الرابعة، لكنه نادرا ما كان يظهر في الأماكن العامة.

ورغم اتهامه من منظمات حقوقية بإصدار أوامر لقتل متظاهرين عزل في سوريا منذ العام 2011، وربط اسمه باغتيالات، لكنه بقي بمثابة "الرجل الخفي"، وفق ما يقول مصدر مقرب من عائلة الأسد لفرانس برس.

ويوضح المصدر "ستجد قلة من الأشخاص يقولون إنهم يعرفونه" شخصيا.

في مقابلة مع قناة العربية السعودية مطلع فبراير، قالت مجد الجدعان، شقيقة زوجة ماهر الأسد والتي غادرت سوريا بعد خلافات معه عام 2008 وتقدّم نفسها على أنها معارضة لعائلة الأسد، إنه كان كريما وأحيانا ذا صحبة طيبة. لكن "حين يغضب، كان يفقد السيطرة بالكامل على تصرفاته واقواله، وهذا ما كان مرعبا في شخصيته".

وكانت الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد بمثابة القبضة الحديد للنظام وارتبط اسمها بسلسلة طويلة من الفظائع.

بعد اندلاع الحرب في سوريا، قالت جدعان في مقابلة مع تلفزيون فرنسي، "ماهر يعرف كيف يدمّر، يعرف كيف يقتل ثم يكذب ليظهر بريئا"، مشبهة قسوته بوالده الراحل حافظ الأسد.

سيارات فارهة

حين يعدّد سكان في دمشق بسخط انتهاكات الفرقة الرابعة، يتردّد اسم آخر إلى جانب اسم ماهر الأسد، هو غسان بلال، مدير مكتب الأمن في الفرقة الرابعة.

على غرار رئيسه، كان بلال مولعا بجمع السيارات الفارهة ويقيم في فيلا في يعفور. وتقول مصادر أمنية إنه غادر سوريا بعد سقوط الحكم.

داخل مكتبه الفسيح في المقر الرئيسي لمكتب الأمن، تكشف معاينة فاتورة تلو الأخرى تفاصيل أسلوب حياته الباذخ. وبين تلك الفواتير واحدة متعلقة بصيانة سيارة الكاديلاك خاصته.

في صيف 2024، شحن بلال إلى دبي سيارتَين من طراز ليكسس ومرسيدس، بحسب وثيقة اطلعت عليها فرانس برس. وتظهر فواتير تسديد مبلغ بقيمة 29 ألف دولار كبدل جمارك وتأمين في دولة الإمارات عبر بطاقة ائتمان مسجّلة باسم شخص آخر.

وتظهر ورقة مكتوبة بخط اليد أنه كان يسدّد، بسبب خضوعه لعقوبات غربية على خلفية اتهامه بانتهاكات لحقوق الانسان، بدل اشتراك بمنصة "نتفليكس" للأفلام "بواسطة أحد الأصدقاء عبر بطاقة ائتمان في الخارج".

وتتضمن قوائم أخرى نفقات، غالبيتها منزلية ولأولاده أو للمطبخ أو لشراء الوقود ومصاريف أملاك بينها الفيلا التي تعرضت لاحقا للنهب.

وبلغت قيمة تلك النفقات خلال عشرة أيام فقط من شهر أغسطس 55 ألف دولار.

في الشهر ذاته، كتب جندي من الفرقة الرابعة الى بلال متوسلا منحه "إعانة مالية (كونه) بوضع مادي سيء جدا".

وقد صرف له بلال 500 ألف ليرة سورية كإعانة، أي ما يعادل حينها 33 دولارا، فيما تظهر وثيقة أخرى ضبط أحد جنود الفرقة الرابعة يتسوّل في الشوارع أثناء دوامه.

رجال المال

وتمّ إحراق آلاف المستندات والملفات، على ما يبدو، لكن العديد من الوثائق السرية التي نجت تحمل في طياتها معلومات كثيرة.

من بين الأسماء البارزة المذكورة في بعض الوثائق والتي ساهم أصحابها في تمويل الفرقة الرابعة، تبرز أسماء رجال أعمال مدرجين على لوائح العقوبات، على غرار خالد قدور ورئيف القوتلي، والأخوين قاطرجي المتهمين بجني مئات الملايين من الدولارات لصالح الحرس الثوري الإيراني والحوثيين في اليمن، عبر بيع النفط الإيراني إلى سوريا والصين.

وبحسب مصادر أمنية ومن قطاع الأعمال، تولى القوتلي إدارة نقاط تفتيش ومعابر، حيث "فُرضت أتاوات" على بضائع أو جرت مصادرتها.

ونفى قدّور الذي فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات لدعمه ماهر الأسد ماديا في تهريب الكبتاغون والسجائر والهواتف، أن يكون له أي تعامل مع ماهر الأسد حين سعى لأن تُرفع العقوبات الأوروبية عنه عام 2018.

لكنّ قائمة إيرادات المكتب الأمني لعام 2020، أظهرت أنه وفّر نحو 6,5 ملايين دولار في ذاك العام لصالح المكتب.

وتتضمن الوثيقة لائحة طويلة من المبالغ بالليرة السورية ومصادرها المتنوعة، وبينها الدخان الوطني، و"ترفيق"، أي حماية صهاريج النفط، وبيع المصادرات.

مافيا

ويشير خضر خضور إلى أن مكتب الأمن كان يتولى معظم المعاملات المالية للفرقة الرابعة ويصدر بطاقات أمنية للأشخاص الذين تعامل معهم لتسهيل تحركاتهم.

في 2021، قال أحد تجار المخدرات الذي يحمل جوازي سفر لبنانيا وسوريا، لمحققين لبنانيين إنه استحوذ على بطاقة أمنية من الفرقة الرابعة، وإن مكتب الأمن وافق على حماية شحنة مخدرات لتاجر آخر مقابل مليونَي دولار، بحسب إفادة اطلعت عليها فرانس برس في حينه.

وتؤكد مصادر أمنية عدّة لفرانس برس أن بلال كان الشخص الأساس في تجارة الكبتاغون لدى الفرقة الرابعة، واتهمته وزارة الخزانة الأميركية بالفعل بأنه من اللاعبين الرئيسيين في تلك التجارة.

وزارت فرانس برس مصنعا لإنتاج الكبتاغون داخل فيلا استولت عليها الفرقة الرابعة في بلدة الديماس بريف دمشق قرب الحدود مع لبنان. وكانت غرفها مليئة بصناديق وبراميل من مواد الكافيين والإيثانول والباراسيتامول المستخدمة في صنع المخدر.

ويقول سكان محليون إنه لم يُسمح لهم أن يقتربوا من الفيلا، وكان يُمنع حتى على الرعاة التواجد في التلال المحيطة.

ويقول ضابط سابق أمضى جزءا من خدمته في مكتب الأمن دون الكشف عن اسمه، إن المكتب كان يتمتع بـ"حصانة وكان ممنوعا على أي جهة أمنية التعرّض لأي عنصر إلّا بموافقة ماهر".

ويضيف "كانت مافيا، وكنت أعلم أنني أعمل لدى مافيا".

تركوا الشعب يجوع

وطارد جشع الفرقة الرابعة عائلات على مدى عقود، كما تُظهر رسالة كتبها عدنان الديب، وهو مشرف على مقبرة في مدينة حمص (وسط).

عند حاجز مهجور للفرقة الرابعة قرب دمشق، وبين مئات المستندات المتسخة والمرمية أرضا، عثر فريق فرانس برس على رسالة من ديب يطلب فيها من الفرقة الرابعة استعادة مزرعته.

ويروي الديب لفرانس برس كيف أن الفرقة الرابعة صادرت فيلا تملكها عائلته وقصورا أخرى مجاورة قبل عشرة أعوام في قرية كفرعايا قرب حمص.

ورغم عدم السماح له بالاقتراب من ممتلكاته، كان على الديب دفع الضرائب المتوجبة على العقار الذي حولته الفرقة الرابعة بحسب قوله، إلى مكاتب، بينها أحد فروع مكتب الأمن، ومستودعات للمواد المصادرة، وغرفة أشبه بسجن.

خلال جولة في العقارات المصادرة، يقول أحد السكان لفرانس برس "مكتب أمن الرابعة هنا كان خطا أحمر لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه".

ويروي كيف وجد بعد فرار العناصر كمية هائلة من البضائع المصادرة وبينها سيارات ودراجات نارية ومئات غالونات زيت القلي.

ويضيف "تركوا الشعب يجوع فيما كان كل شيء متاحا لهم هنا".

وتُظهر وثيقة من أحد العقارات المصادرة، أن مواطنة بلغ عدد أفراد عائلتها 25 شخصا، كان قسم منهم يقيم في خيمة وآخرون في "قنن للدواجن"، طلبت أكثر من مرة أن يخلي عناصر من الفرقة الرابعة منزلها لتقيم فيه مع عائلتها.

حصة الأسد لبشار

لم تسيطر الفرقة الرابعة على أي قطاع في الاقتصاد السوري بقدر سيطرتها على سوق المعادن.

ويقول العميد الشعبان "كان ممنوعا أن يحرّك أحد الحديد من دون موافقة الرابعة"، مضيفا أن التعامل بالنحاس مثلا كان حقا "حصريا" لها.

ويروي الضابط في مكتب الأمن الذي رفض الكشف عن اسمه، كيف توافد عناصر من الفرقة إلى احدى ضواحي دمشق بمجرد سيطرة القوات الحكومية عليها حينها، وبدأوا يسحبون أسلاك النحاس والحديد من المنازل المدمرة.

ويقول رئيس غرفة الصناعة السابق فارس الشهابي إن أحد مصانع المعادن الذي كان يديره أحد شركاء ماهر الأسد، كان يحتكر السوق، وأُجبر الجميع على الشراء منه حصرا.

و"لم يعد بإمكان" العديد من المعامل العمل جراء هذا الضغط، وفق الشهابي.

ويوضح أن ماهر الأسد و"أصدقاءه" كانوا يسيطرون على حصة كبيرة من الاقتصاد السوري، لكن المستفيد الأكبر كان بشار الأسد.

ويقول الشهابي "كانت شركة واحدة... والقصر الرئاسي كان دائما المرجع".

ويؤكد الضابط السابق في مكتب الأمن أن حصة من الأرباح والمضبوطات كانت تذهب دائما الى القصر الرئاسي.

إرث سام

ورغم أنه لم يتبق من الفرقة الرابعة اليوم إلا مستودعات مهجورة ومقرات منهوبة، يحذر الخبير في الشأن السوري لارس هاوخ من مؤسسة "كونفلكت ميدييشن سولوشنز"، من أن إرثها قد يكون ساما جدا.

ويقول "كانت الفرقة الرابعة لاعبا عسكريا، وجهازا أمنيا، وكيانا استخباراتيا، وقوة اقتصادية وسياسية، ومؤسسة إجرامية عابرة للحدود".

ويضيف "مؤسسة ذات تاريخ يمتد لعقود، وقدرات مالية هائلة، وعلاقات وثيقة مع النخب، لا يمكن ان تختفي ببساطة".

وينبه الى أنه "فيما فرّت القيادة العليا من البلد"، فقد تراجعت "نواتها الصلبة"، ومعظمهم من الموالين للحكم السابق، إلى المناطق الساحلية ذات الغالبية العلوية، الطائفة التي تنتمي إليها عائلة الأسد.

وسعت السلطات الجديدة منذ وصولها الى دمشق مرارا لطمأنة الأقليات بأنهم لن يتعرضوا لأي أذى، لكن أعمال عنف طالت العلويين في مناطق مختلفة، خصوصا في وسط البلاد وغربها.

ولا يستبعد هاوخ وجود أسلحة مخبأة في مخازن، تضاف اليها "مليارات الدولارات" التي كانت موضّبة في خزنات الفرقة الرابعة.

وينبّه من أن "كل ما يلزم لتمرد طويل الأمد متوافر... إذا فشلت عملية الانتقال في سوريا في أن تكون شاملة بالفعل وتحقق العدالة الانتقالية".

مقالات مشابهة

  • الفرقة الرابعة.. الإمبراطورية التي نهبت اقتصاد سوريا
  • الزراعة السورية: نحتاج للتمور العراقية وهذه أبرز التحديات التي نواجهها
  • مقتل عنصرين من الأمن السوري في اللاذقية جراء كمين لـفلول النظام المخلوع
  • صحافة عالمية: إسرائيل لن تستأنف القتال في غزة قريبا رغم تعثر المفاوضات
  • مدينة جرمانا السورية.. جارة الفيحاء
  • الشركات السورية تكافح مع وفرة السلع المستوردة وتعثر الاقتصاد
  • هيئة البث الإسرائيلية: تظاهرات قرب منزل نتنياهو احتجاجًا على تعثر اتفاق وقف إطلاق النار
  • إسرائيل تحذر النظام السوري من إلحاق الضرر بالدروز
  • في بيان نادر.. إسرائيل تحذر النظام السوري من إيذاء الدروز
  • شاهد | كيف يواجه النظام السوري الجديد كيان الاحتلال؟