على مدار الأشهر العشرة الماضية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لم يطرح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أي رؤية واضحة لمستقبل هذه الحرب أو مصير “اليوم التالي” في غزة، بل دأب على تكرار خطابه حول ارتباط انتهاء الحرب بالقضاء على حركة حماس، والتأسيس بعد ذلك لسلطة حكم محلي في غزة، غير معادية لإسرائيل، مع احتفاظها بالمهام الأمنية في القطاع لفترة من الوقت، وذلك دون أن يكون للسلطة الفلسطينية أي دور مرتقب في مستقبل القطاع، على حد تعبيره.

وكان خطاب نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي، في 24 يوليو 2024، تأكيداً لذلك الاستنتاج؛ إذ توقعت الدوائر الأمريكية قبل الخطاب أن يطرح نتنياهو خطته لإنهاء الحرب ومستقبل “اليوم التالي” في غزة، ولكن جاء الخطاب مُحبطاً بالنسبة لهم، وبدا واضحاً أن نتنياهو لا يمتلك رؤية محددة لتلك القضايا المُلحة، سوى استمرار الحرب؛ وذلك نتيجة معطيات اللحظة الحالية التي جعلت مستقبله السياسي مرتبطاً باستمرار حالة الحرب في إسرائيل.

وبناءً على ذلك، فقد بدا لبعض دوائر الفكر الغربية أن الحديث عن خطة “اليوم التالي” لم يصبح أولوية مقارنةً بأهمية الحديث عن ترتيبات اليوم الذي يسبق “اليوم التالي”، أو “اليوم الذي يقع بين اليومين” (The Day in between)، أو ما يُسمى بـ”الساعة الذهبية” (The Golden Hour)، وفق “مؤسسة راند” الأمريكية، وهي الساعة المتوقع أن تبدأ مع تراجع كثافة العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، والتي أطلق عليها الجيش الإسرائيلي “المرحلة الثالثة” من الحرب. وتلك “الساعة الذهبية”؛ إما أن تؤدي إلى سيناريو “الفوضى”، أو تمهد لشكل “اليوم التالي”.

ماهية “الساعة الذهبية”:

في الكتاب الصادر عن “قسم أبحاث الجيش في مؤسسة راند”، في فبراير 2020، تحت عنوان “اغتنام الساعة الذهبية: المهام والتنظيم والقدرات المطلوبة للمرحلة الأولى من عمليات الاستقرار”، تم الإرساء لمصطلح “الساعة الذهبية”، والذي يشير –وفق “راند”- إلى المرحلة المبكرة من عملية الاستقرار بعد الصراع، بما يشمل الإجراءات التنظيمية والقدرات اللازمة لاغتنام هذه الساعة، ووضع الدولة المُتضررة من الصراع على مسار السلام المُستدام.

وأول منْ استخدم هذا المصطلح هو جيمس ستيفنسون، الذي شغل منصب المدير السابق لبعثة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) في العراق، وذلك بعد وقت قصير من الحرب الأمريكية على العراق في 2003. وجاء بهذا المصطلح من المجال الطبي، والذي يصف الدقائق التي تلي الإصابة المؤلمة؛ لتكون الرعاية الطبية المناسبة هي الفرق بين الحياة والموت. وكان يعني بذلك ضرورة استغلال الوقت آنذاك لوضع العراق على طريق السلام المُستدام.

ولا يوجد إطار زمني محدد لهذه “الساعة الذهبية”، ولكن تُعد الأسابيع والأشهر الأولى هي الأكثر أهمية، وتصبح “الساعة” أقل “ذهبية” في المراحل اللاحقة؛ لتدخل دولة الصراع إما في مرحلة الاستقرار أو الفوضى.

وبتطبيق هذا المصطلح على حرب غزة الحالية، فستتمثل “الساعة الذهبية” في الأسابيع والأشهر التي ستلي مباشرةً انتهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية الكثيفة في القطاع، وستسبق الإعلان الرسمي عن انتهاء الحرب، وبدء مرحلة إعادة الإعمار. وعملياً، ستكون هذه الفترة ضمن ما أطلق عليه الجيش الإسرائيلي المرحلة الثالثة للحرب، والتي يدّعي أنه على وشك الانتقال إليها، وهي مرحلة قد تمتد طويلاً.

ووفقاً للتقارير الصادرة عن مصادر عسكرية إسرائيلية، فإن المرحلة الثالثة من الحرب قد تشمل نقل قوات عسكرية إلى الساحة الشمالية مع لبنان، وإراحة جنود الاحتياط الذين قاتلوا لأشهر طويلة في غزة، مع الحفاظ على عدد أقل من القوات العسكرية على الأرض، والتي ستتيح بدء عمليات عسكرية دقيقة ومحدودة حسب الحاجة وبناءً على المعلومات الاستخباراتية.

وعلى الرغم من أن هيئة البث الإسرائيلية نقلت في وقت سابق أن المستوى السياسي وافق على توصيات المستوى العسكري بالانتقال إلى المرحلة الثالثة خلال شهر يوليو 2024، فإن نتنياهو لا يبدو مُستعداً حالياً للدخول إلى هذه المرحلة، على الأقل وفق المعطيات الحالية؛ لأن الانتقال إليها قد يمنح المعارضة والشارع الإسرائيلي الفرصة لممارسة المزيد من الضغوط على حكومته، وربما الذهاب إلى تشكيل لجنة تحقيق في أحداث السابع من أكتوبر 2023؛ لذلك من المُرجح أن يذهب نتنياهو إلى تلك المرحلة بعد “إنجاز عسكري” جديد على الأرض، ربما يتمثل في اغتيال قيادات أخرى في حماس، أو إنقاذ عدد كبير من الرهائن في عملية عسكرية جديدة؛ لأنه في هذه الحالة قد تنقلب موازين الرأي العام الإسرائيلي لصالحه، ويصبح أكثر قوة على الصعيد السياسي. وربما يذهب نتنياهو إلى المرحلة الثالثة؛ إذا قرر فتح حرب موسعة على الجبهة اللبنانية.

إدارة غزة:

بناءً على ما سبق، ووفق المعطيات الراهنة؛ فإن “اليوم التالي” في غزة يبدو بعيد المنال حالياً، فمن المفترض أن يأتي هذا اليوم بعد إيقاف الحرب، وهو ما ربطه نتنياهو بانتصار إسرائيلي حاسم، يُنهي وجود حماس وسلاحها في القطاع؛ وهو ما يراه الكثير من المراقبين الإسرائيليين هدفاً غير واقعي.

لذلك بدأ المحللون الغربيون في الحديث عن “الساعة الذهبية” في غزة، أو خطة اليوم الذي يسبق “اليوم التالي”، ومن بين هؤلاء دانا سترول، مديرة الأبحاث في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” ونائبة مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأوسط، والتي ذكرت في 20 مايو 2024 أن ندرة الحلول الواقعية لـ”اليوم التالي” في غزة تعكس غياباً أكثر إزعاجاً للتخطيط، وأن الأمر الأكثر أهمية هو “اليوم الذي يقع بين اليومين”. وهو كذلك ما أشار إليه ضمنياً، دانييل بايمان، أستاذ الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون، في مقاله الأخير على موقع مجلة “فورين آفيرز” الأمريكية، في 30 يوليو الماضي، والذي جاء تحت عنوان “هل يستطيع أحد أن يحكم غزة؟ الطريق المحفوف بالمخاطر إلى اليوم التالي”.

وفي تلك المرحلة التي يتحدث عنها الخبراء الغربيون، سيحتاج قطاع غزة، حتى مع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية منخفضة الوتيرة، إلى إدارة حكم محلي، تضمن تسيير الشؤون الحياتية اليومية، وإدارة المساعدات الغذائية، وتوفير البنية التحتية الأساسية والسلع الحيوية؛ بما يشمل المياه النظيفة، والكهرباء، والتعليم، والنقل، وأنظمة الرعاية الصحية، وما إلى ذلك. وهنا يظهر السؤال: أي سلطة سوف تُنظِّم الخدمات الأساسية وتستجيب لاحتياجات سكان غزة في سعيهم إلى إعادة بناء حياتهم؟

وربما تشير معطيات اللحظة الراهنة إلى أن هذا العبء قد تتولاه إسرائيل؛ لأنها لم تُقدم البديل. ولكن هناك شبه اتفاق على أن هذه المهمة لا قِبل لإسرائيل بها، ويمكن أن تُحيل مستقبل غزة إلى سيناريو “الفوضى”. وتشير دانا سترول إلى أن “إسرائيل تخاطر بالفعل بعدم التخطيط للساعة الذهبية”.

مستقبل القطاع:

يرتبط مستقبل “اليوم التالي” في غزة، بالأساس، بالكيفية التي ستتعامل بها إسرائيل مع “الساعة الذهبية” القادمة في القطاع. وهنا تظهر عدة خيارات قد تحكم مستقبل “اليوم التالي”، وهي: إدراج غزة ضمن نطاق حكم السلطة الفلسطينية بعد تجديدها، أو تشكيل سلطة حكم محلي من داخل عزة بدعم إقليمي ودولي، أو إعادة احتلال إسرائيل لغزة عسكرياً، أو إعادة سيطرة حماس على غزة، أو دخول القطاع في حالة من الفوضى.

ويمكن القول إن تحديد مستقبل غزة وفقاً لأحد تلك الخيارات الخمسة؛ سيكون نتاج أحد سيناريوهين لتعامل إسرائيل مع “الساعة الذهبية” في غزة، كالتالي:

1- استمرار السياسة الإسرائيلية الحالية: هو السيناريو الأرجح، ويعني أن تبدأ “الساعة الذهبية” في غزة، دون أن تكون إسرائيل قد وضعت خططاً واضحة لمستقبل القطاع، أو إجراء مشاورات إقليمية أو دولية حول هذا الشأن، مع تبني نتنياهو للخطاب ذاته الذي يُردده حالياً. ويعني هذا السيناريو أن غزة؛ إما أن تذهب إلى خيار “الفوضى الشاملة”، أو احتلالها عسكرياً بشكل تام من إسرائيل، وهو ربما ما تدعمه معطيات اللحظة الراهنة. فوفقاً لتقديرات وكالة “الأونروا”، في يوليو الماضي، فقد نزح 1.9 مليون شخص؛ أي نحو 80% من سكان القطاع. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية في فبراير الماضي، فقد دُمِّر أو تضرر نحو 80% من البنية الأساسية المدنية في غزة، وصار القطاع بلا اقتصاد يُذكر، ومعتمداً بالأساس على المساعدات الخارجية.

2- التفاوض حول إعادة تصميم بنية الحكم في غزة: إن الوصول إلى أحد خيارين من إعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على قطاع غزة أو إنشاء حكم محلي جديد؛ يعني أن إسرائيل ستعمل خلال مرحلة “الساعة الذهبية” على تقديم أُطر جديدة لبنية الحكم المحلي في القطاع، وفقاً لرؤيتها، وذلك من خلال التفاوض مع عناصر محلية هناك أو إعادة التواصل مع السلطة الفلسطينية. وفي كلا الحالتين، قد تشهد تلك المرحلة مفاوضات جادة بين إسرائيل من جهة، والأطراف الإقليمية والدولية المعنية من جهة أخرى. ولكن لا يبدو أن نتنياهو؛ إذا استمر على رأس الحكومة في إسرائيل، ينوي الدفع بهذه المفاوضات.

إجمالاً، على الرغم من ضبابية المشهد حول مستقبل غزة؛ فإن التحركات التي ستتخذها إسرائيل خلال ما أطلقت عليه المرحلة الثالثة من الحرب (الساعة الذهبية في غزة)، هي التي قد تحدد مستقبل القطاع في يومه التالي؛ وهو مستقبل للأسف تسيطر عليه الفوضى، وفقاً للتقديرات، خاصةً إذا استمرت معطيات اللحظة الراهنة، وتمسك نتنياهو برؤيته الحالية.

 

” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”


المصدر: جريدة الوطن

إقرأ أيضاً:

عدو “إسرائيل” الأول يترجل عن جواده.. القائد محمد الضيف شهيداً

يمانيون/ تقارير لم تكن من كلماتٍ أبلغ في ارتقاء القائد الشهيد “محمد الضيف” “أبو خالد” ورفاقه الشهداء الأبرار، بأنّ الشهادة في سبيل الله هي ما يليق بمثلهم، إذ قالها “أبو عبيدة” بكل عزةٍ وافتخار: “هذا ما يليقُ بقائدنا محمد الضــيف، الذي أرهق الاحتلال لأكثر من 30 عامًا”.

ترجل القائد “الضيف” عن جواده، ليرتقي شهيدًا في معركة “طوفان الأقصى” البطولية؛ معركة هو من قادها وخطّط لها مع إخوانه في المجلس العسكري، تاركًا تاريخًا حافلًا وبصمات حاضرة في المشهد العسكري الفلسطيني.

إذ زفّ الناطق باسم “كتائب الشهيد عز الدين القسام” المجاهد “أبو عبيدة” في بيانٍ عسكري، مساء الخميس، ارتقاء ثلة من المجاهدين الكبار والقادة الأبطال من أعضاء المجلس العسكري، على رأسهم القائد العام الشهيد “محمد الضيف”، بعد رحلةٍ جهاديةٍ استمرت لعقودٍ من الزمن.

بعد أن رسم القائد “الضيف” مشهد انتصار غزة “مقاومةً وحاضنة”، منذ الطلقة الأولى للمعركة؛ جاء هذا النصر الذي جبل بدماء القادة العظماء، فكان نصر أغلى ثمنًا، وأثبته على الأرض قدمًا، وأجدره من بين ادعاءات العز والتمكين تصديقًا.

في تفاصيل المشهد، لابد من استعراض شذراتٍ من سيرة هذا القائد العظيم، إذ ارتبط اسم “محمد الضيف”، منذ التسعينيات بالمقاومة الفلسطينية، فكان أحد أبناء الجيل الأول المؤسس من القساميين، وتحول إلى رمز للبطولة والتخفي، ورغم أنه لم يكن يُرى إلاّ أن بصماته كانت حاضرة بقوة في المشهد العسكري الفلسطيني، كأحد الشخصيات المقاومة الأكثر تعقيدًا في نظر الاحتلال ومؤسساته العسكرية والاستخباراتية، والتي تطارده منذ 33 عامًا.

قاد “الضيف” كتائب القسام، منذ أكثر من ثلاثة عقود، متجاوزًا محاولات الاغتيال المتكرّرة التي جعلته أشبه بالشبح الذي يؤرق الاحتلال الصهيوني، ويعيد صياغة معادلات الصراع في كل مواجهة، وصولًا إلى معركة “طوفان الأقصى” التي أذلت الاحتلال وأثبتت فشله استراتيجيًّا رغم البطش والإبادة التي ارتكبها بعد يوم العبور المجيد، الذي سقطت فيه فرقة غزة في جيش الاحتلال على أيدي أبطال القسام.

   القائد محمد الضيف في سطور

وُلد “محمد دياب إبراهيم المصري”، المعروف بـ”محمد الضيف” عام 1965م، لعائلةٍ فلسطينيةٍ تعود جذورها لقرية “كوكبا”، التي تعرّضت للتهجير من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة 1984م، ونشأ وترعرع في مخيم “خان يونس” للاجئين جنوبي قطاع غزة، حتى استقر به المقام في مخيم “خان يونس”.

تتكون أسرته من 15 فردًا، وكان والده يعمل في صناعة الوسائد وتنجيد الفرش، تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس مخيم “خان يونس”، كبقية اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجروا من ديارهم وأرضهم وممتلكاتهم.

وشكلت مساجد منطقته مرحلة انطلاقته بالعمل الإسلامي منذ صباه، إذ نشأ في بيئة المقاومة، وتأثر منذ صغره بواقع الاحتلال وظروف اللجوء القاسية، ما دفعه للانخراط في صفوف الحركة الإسلامية خلال دراسته في الجامعة الإسلامية بغزة، كما درس العلوم وحصل على شهادة البكالوريوس في تخصص الأحياء، إذ كان فيها من قادة العمل الطلابي ونشطاء الكتلة الإسلامية وهو الإطار الطلابي لحماس.

القائد الضيف وبداية العمل الحركي ومراحل المطاردة:

انضم الشهيد “محمد الضيف” إلى حركة “حماس” منذ نعومة أظفاره وكان عنصرًا نشيطًا في صفوف العمل الاجتماعي، حتى الانطلاقة الرسمية للحركة بالتزامن مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987م، وكان “الضيف” من كوادرها الأوائل.

اعتُقل “الضيف” في إطار الضربة الأولى التي وجهتها قوات الاحتلال للحركة في صيف عام 1989م، بتهمة الانضمام إلى الجناح العسكري للحركة الذي كان الشيخ “صلاح شحادة”، “استُشهد في صيف 2002م”، قد أسسه آنذاك، وكان يحمل اسم “حماس المجاهدين” قبل أن يطلق عليه اسم “كتائب القسام”، وأمضى عامًا ونصف العام في السجن قبل تحرّره عام 1991م.

تدرج “الضيف” في العمل الأمني وملاحقة العملاء ثم في الجهاز العسكري لحركة حماس، وأصبح مطلوبًا بعد مشاركته في تنفيذ العديد من العمليات الفدائية والاشتباك مع قوات الاحتلال للاحتلال، ورفض تسليم نفسه لتبدأ رحلة أطول مطاردة ربما في التاريخ في مساحةٍ جغرافيةٍ صغيرةٍ وضيقة، إلا أنه استطاع خلال هذه الفترة، ومن خلال إتقانه للتخفي وعدم البقاء في مكانٍ واحد لفترةٍ طويلة، كي لا يقع في قبضة قوات الاحتلال حيًّا أو ميتًا.

برز دور “الضيف” بعد استشهاد “عماد عقل” الذي برز اسمه في سلسلة عمليات فدائية في نوفمبر عام 1993م، وأوكلت إليه قيادة “كتائب القسام”، فعمل على قيادة وتنسيق مجموعات الكتائب بين الضفة الغربية وقطاع غزة، بين عامي 1993 – 1994م، وتمكن خلال هذه الفترة من التخطيط وتنفيذ عدة عمليات نوعية، والوصول إلى الضفة الغربية المحتلة وتشكيل العديد من الخلايا الفدائية هناك، كالمشاركة في تنفيذ عدة عمليات فدائية في مدينة “الخليل” والعودة إلى قطاع غزة.

نحن خلقنا لمقاومة الاحتلال إما أن ننتصر أو نستشهد:

وتصاعد الدور الكبير للقائد “الضيف” خصوصًا في التخطيط لعملية خطف الجندي الصهيوني “نخشون فاكسمان” عام 1994م، في بلدة “بير نبالا” قرب القدس، والذي قتل وخاطفيه بعد كشف مكانهم، وألقى “الضيف” بيان العملية بنفسه، وظهر حاملاً بندقية وبطاقة هوية “فاكسمان” التي هربت من الضفة الغربية إلى قطاع غزة.

ومع اشتداد الخناق على المطلوبين للاحتلال في قطاع غزة، رفض “الضيف” طلبًا بمغادرة قطاع غزة خشية اعتقاله أو استشهاده، لا سيما في ظل سياسة قصف المنازل التي يعتقد أن بها أي من المطلوبين، وقال كلمة مشهورة آنذاك: “نحن خلقنا لمقاومة الاحتلال إما أن ننتصر أو نستشهد”، ولذلك كان لا يستقر في مكانٍ واحد حتى أطلق عليه لقب “الضيف” الذي يأتي ويرحل.

استطاع “الضيف” أن يؤمن وصول المهندس “يحيى عياش”، أحد خبراء المتفجرات في الضفة الغربية إلى قطاع غزة بعد تضييق الخناق عليه في الضفة الغربية، وللاستفادة من خبرته في صناعة المتفجرات، ووقف وراء عمليات الثأر للشهيد “عياش”، بعد أن اغتيل بواسطة هاتف مفخخ مطلع عام 1996م، من خلال إرسال “حسن سلامة” إلى الضفة الغربية للإشراف عليها، وقتل في هذه العمليات الفدائية نحو 60 صهيونيًّا.

توارى “الضيف” كليًا عن الأنظار بعد تنفيذ عمليات الثأر “لعياش”، وفي ربيع عام 1996م، شنت السلطة الفلسطينية عملية ملاحقة له في إطار الضربة الكبيرة التي وجهتها لحركة “حماس”، اعتقلت المئات من قادتها وعناصرها، واستطاعت السلطة بعد ذلك من اعتقال “الضيف” عام 2000م، بحجة أنها تريد حمايته من القصف الصهيوني، وسمحت السلطة لمحققين من جهاز المخابرات الأمريكي المعروف باسم “السي آي إيه” من التحقيق معه.

غير أن “الضيف” تمكن فيما بعد من انتزاع حريته من سجن الأمن الوقائي الفلسطيني بغزة ليعود لتشكيل خلايا القسام من جديد بعد مصادرة سلاحهم وذخائرهم، وبدأ بالاستعداد لتنفيذ المزيد من العمليات حتى اندلعت انتفاضة الأقصى في سبتمبر عام 2000م.

اغتيالات فاشلة وإرادة لا تنكسر:

وبعد عامٍ من اندلاع الانتفاضة تعرض “الضيف” لمحاولة الاغتيال الأولى، حيث كان برفقة “عدنان الغول” (استشهد في 22 أكتوبر 2004م)، وهو خبير المتفجرات في كتائب القسام ونجله “بلال”؛ بعد أن أطلقت عليهم طائرة صهيونية صاروخًا في بلدة “جحر الديك”، وقد نجيا من الاغتيال بأعجوبة بعد استشهاد “بلال” في القصف ليغطي والده ورفيق دربه.

ورغم أن “إسرائيل” نفذت العديد من محاولات اغتيال على الأقل ضد “محمد الضيف”، إلا أنه نجا منها جميعًا، وإن كان بعضها قد أوقع إصابات بالغة في جسده، وأخطر هذه المحاولات عام 2014م، خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، إذ استهدفت طائرات الاحتلال منزله وقتلت زوجته وابنه، لكن “الضيف” خرج من تحت الركام ليواصل قيادة المعركة.

ومنذ توليه دفة القيادة، أدار القائد القسامي الخفي “الضيف” العديد من العمليات الفدائية ضد الاحتلال، وكان من أبرز المهندسين لتطوير القدرات العسكرية لحماس، بما في ذلك تصنيع الصواريخ المحلية وإنشاء شبكة الأنفاق العسكرية التي تحولت إلى عامل حاسم في معارك غزة، كما قاد العمليات في قطاع غزة حتى تحريره من المستوطنات عام 2005م، وحوّل القسام من مجموعات وخلايا إلى جيش شعبي منظم.

وفي مايو 2021م، تصاعدت حدة الاعتداءات الاستيطانية على المسجد الأقصى المبارك، وحاولت سلطات الاحتلال تهجير سكان حي “الشيخ جراح”، وفي لحظة محاولة مجموعات المستوطنين إطلاق مسيرة الأعلام قرب “باب العامود”، قصفت كتائب القسام مدينة القدس المحتلة برشقةٍ صاروخيةٍ ضخمة بأمرٍ من قائد الأركان “محمد الضيف”.

وفيما استمرت المعركة لأيام فرضت خلالها المقاومة الفلسطينية فصلًا جديدًا من فصول المواجهة مع الاحتلال، وبرز اسم “محمد الضيف” بعد المعركة كقائدٍ فعلي لها، وارتبط اسمه بها بشكلٍ وثيق، ليصبح الملهم لتشكيلات المقاومة الفلسطينية وجمهورها في الضفة الغربية المحتلة.

عدو “إسرائيل” الأول.. القائد الخفي “الشبح” حاضر في المعركة:

وخلال الكثير من المراحل التي مر بها؛ كان القائد “الضيف” لا يظهر في وسائل الإعلام، ولم يُعرف له سوى تسجيلات صوتية معدودة، لكنه حاضر بقوة في كل مواجهة مع الاحتلال، حيث يُنظر إليه باعتباره العقل المدبر للتكتيكات العسكرية التي غيرت طبيعة المواجهة بين المقاومة والاحتلال.

وخلال معركة “سيف القدس” عام 2021م، كان الضيف وراء استراتيجية استهداف “تل أبيب” بالصواريخ ردًّا على الاعتداءات الإسرائيلية في القدس والمسجد الأقصى، وهو ما فرض معادلة ردعٍ جديدة، أظهر مدى تطور المقاومة الفلسطينية.

وفي الـ 7 من أكتوبر 2023م، أطل القائد “الضيف” ليعلن انطلاق معركة “طوفان الأقصى” التي أشرف عليها وحضر في ميدانها حتى ارتقى شهيدًا، وكان من أبرز أسباب الطوفان هو سلوك الاحتلال الصهيوني، ومخططاته القائمة على حسم الصراع، وفرض السيادة على القدس بمقدساتها، تمهيدًا للتقسيم المكاني والزماني، وبناء الهيكل المزعوم.

وعلى مدار عقود وضعت “إسرائيل” “محمد الضيف” على رأس قائمة المطلوبين، وعدّته أخطر شخصية فلسطينية تهدد أمنها، ورغم كل الجهود الاستخباراتية، لم يتمكن الاحتلال من الوصول إليه، ما جعله يتحول إلى أسطورة وكابوس يطارد الاحتلال، حتى رحل كما يحب شهيدًا في ميدان أعظم معركةٍ شارك في التخطيط لها وقيادتها، وهي المعركة التي أثبتت هشاشة كيان الاحتلال وقابليته للهزيمة.

وعلى مدار شهور المعركة نجحت كتائب القسام في الاستمرار بعملياتها الناجحة والتي أوقعت الخسائر في صفوف جيش الاحتلال، والاحتفاظ بأسرى الاحتلال الذين اعتقلتهم يوم العبور العظيم، لتعلن أخيرًا بعد انتهاء المعركة عن استشهاد قائدها العام.

رحل القائد “محمد الضيف” شهيدًا ويبقى تاريخه الحافل وبصماته حاضرة يستلهم منها الأحرار درب الحرية، وسط إجماع فلسطيني على أنه أحد رموز الصمود الذين صنعوا معادلات جديدة في المواجهة مع الاحتلال، ويقينهم يقول: إن “يستشهد قائد يخلفه ألف قائد”.

وفي الإطار؛ وبعد الإعلان عن استشهاد القائد “محمد الضيف”، ونائبه “مروان عيسى” ورفاقهم القادة: “غازي أبو طماعة، رائد ثابت، رافع سلامة، أحمد الغندور، ايمن نوفل”، توالت ردود الفعل المهنأة، في سيلٍ من البيانات الصادرة عن دول وقوى محور الجهاد والمقاومة من “فلسطين، إيران، اليمن، العراق، لبنان، وغيرها من الدول الحرة.

عبرت البيانات جميعها عن مباركتها باستشهاد القادة، مؤكدةً أنهم “قدموا نماذج حية للأجيال في الإقدام والتضحية والفداء بعد رحلةٍ جهاديةٍ طويلة قضوها مقاومين للاحتلال الصهيوني، ومدافعين عن حقوق الشعب العادلة، منافحين عن مقدسات الأمة في فلسطين”.

ودعت البيانات كلّ “أبناء الأمة وأحرار العالم للسير على طريق الشهداء القادة والاستمرار في تصعيد المواجهة تجاه العدوّ الصهيوني وقطعان مستوطنيه، وتدفيعه ثمن الجرائم الجبانة حتّى تطهير فلسطين من النهر إلى البحر”.

نقلا عن المسيرة نت

مقالات مشابهة

  • اطباء أمريكيون: لم نشهد دمارا كما فعلت “إسرائيل” بغزة 
  • إسرائيل: عائلات المحتجزين طلبت مرافقة نتنياهو في زيارته إلى واشنطن لكن طلبهم قوبل بالرفض
  • عدو “إسرائيل” الأول يترجل عن جواده.. القائد محمد الضيف شهيداً
  • مضوي: “سنعمل المستحيل لتجاوز عقبة أولمبيك أقبو في الكأس وبلوغ الدور المقبل”
  • معهد صهيوني: صورة قاتمة لـ”وضع إسرائيل” في الحرب منذ 7 أكتوبر 
  • “رهينة إسرائيلية” تتحدث عن صدمتها عندما كانت تشاهد نتنياهو يتجاهل الرهائن في غزة
  • “سدايا” تستعرض مستقبل الذكاء الاصطناعي العام والتحديات التي تواجهه بمشاركة أكثر من 16 جهة حكومية
  • هل انتصرت “إسرائيل” في حربها على غزة؟ 
  • مقرر أممي: إسرائيل خلفت دمارا في القطاع لم نشهد مثله منذ الحرب العالمية الثانية
  • وكالة “كناص” الجزائر تفتح أبوابها غدا الجمعة