عقبة نتنياهو: هل تحدد “الساعة الذهبية” مستقبل “اليوم التالي” في غزة؟
تاريخ النشر: 14th, August 2024 GMT
على مدار الأشهر العشرة الماضية للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لم يطرح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أي رؤية واضحة لمستقبل هذه الحرب أو مصير “اليوم التالي” في غزة، بل دأب على تكرار خطابه حول ارتباط انتهاء الحرب بالقضاء على حركة حماس، والتأسيس بعد ذلك لسلطة حكم محلي في غزة، غير معادية لإسرائيل، مع احتفاظها بالمهام الأمنية في القطاع لفترة من الوقت، وذلك دون أن يكون للسلطة الفلسطينية أي دور مرتقب في مستقبل القطاع، على حد تعبيره.
وكان خطاب نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي، في 24 يوليو 2024، تأكيداً لذلك الاستنتاج؛ إذ توقعت الدوائر الأمريكية قبل الخطاب أن يطرح نتنياهو خطته لإنهاء الحرب ومستقبل “اليوم التالي” في غزة، ولكن جاء الخطاب مُحبطاً بالنسبة لهم، وبدا واضحاً أن نتنياهو لا يمتلك رؤية محددة لتلك القضايا المُلحة، سوى استمرار الحرب؛ وذلك نتيجة معطيات اللحظة الحالية التي جعلت مستقبله السياسي مرتبطاً باستمرار حالة الحرب في إسرائيل.
وبناءً على ذلك، فقد بدا لبعض دوائر الفكر الغربية أن الحديث عن خطة “اليوم التالي” لم يصبح أولوية مقارنةً بأهمية الحديث عن ترتيبات اليوم الذي يسبق “اليوم التالي”، أو “اليوم الذي يقع بين اليومين” (The Day in between)، أو ما يُسمى بـ”الساعة الذهبية” (The Golden Hour)، وفق “مؤسسة راند” الأمريكية، وهي الساعة المتوقع أن تبدأ مع تراجع كثافة العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، والتي أطلق عليها الجيش الإسرائيلي “المرحلة الثالثة” من الحرب. وتلك “الساعة الذهبية”؛ إما أن تؤدي إلى سيناريو “الفوضى”، أو تمهد لشكل “اليوم التالي”.
ماهية “الساعة الذهبية”:
في الكتاب الصادر عن “قسم أبحاث الجيش في مؤسسة راند”، في فبراير 2020، تحت عنوان “اغتنام الساعة الذهبية: المهام والتنظيم والقدرات المطلوبة للمرحلة الأولى من عمليات الاستقرار”، تم الإرساء لمصطلح “الساعة الذهبية”، والذي يشير –وفق “راند”- إلى المرحلة المبكرة من عملية الاستقرار بعد الصراع، بما يشمل الإجراءات التنظيمية والقدرات اللازمة لاغتنام هذه الساعة، ووضع الدولة المُتضررة من الصراع على مسار السلام المُستدام.
وأول منْ استخدم هذا المصطلح هو جيمس ستيفنسون، الذي شغل منصب المدير السابق لبعثة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) في العراق، وذلك بعد وقت قصير من الحرب الأمريكية على العراق في 2003. وجاء بهذا المصطلح من المجال الطبي، والذي يصف الدقائق التي تلي الإصابة المؤلمة؛ لتكون الرعاية الطبية المناسبة هي الفرق بين الحياة والموت. وكان يعني بذلك ضرورة استغلال الوقت آنذاك لوضع العراق على طريق السلام المُستدام.
ولا يوجد إطار زمني محدد لهذه “الساعة الذهبية”، ولكن تُعد الأسابيع والأشهر الأولى هي الأكثر أهمية، وتصبح “الساعة” أقل “ذهبية” في المراحل اللاحقة؛ لتدخل دولة الصراع إما في مرحلة الاستقرار أو الفوضى.
وبتطبيق هذا المصطلح على حرب غزة الحالية، فستتمثل “الساعة الذهبية” في الأسابيع والأشهر التي ستلي مباشرةً انتهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية الكثيفة في القطاع، وستسبق الإعلان الرسمي عن انتهاء الحرب، وبدء مرحلة إعادة الإعمار. وعملياً، ستكون هذه الفترة ضمن ما أطلق عليه الجيش الإسرائيلي المرحلة الثالثة للحرب، والتي يدّعي أنه على وشك الانتقال إليها، وهي مرحلة قد تمتد طويلاً.
ووفقاً للتقارير الصادرة عن مصادر عسكرية إسرائيلية، فإن المرحلة الثالثة من الحرب قد تشمل نقل قوات عسكرية إلى الساحة الشمالية مع لبنان، وإراحة جنود الاحتياط الذين قاتلوا لأشهر طويلة في غزة، مع الحفاظ على عدد أقل من القوات العسكرية على الأرض، والتي ستتيح بدء عمليات عسكرية دقيقة ومحدودة حسب الحاجة وبناءً على المعلومات الاستخباراتية.
وعلى الرغم من أن هيئة البث الإسرائيلية نقلت في وقت سابق أن المستوى السياسي وافق على توصيات المستوى العسكري بالانتقال إلى المرحلة الثالثة خلال شهر يوليو 2024، فإن نتنياهو لا يبدو مُستعداً حالياً للدخول إلى هذه المرحلة، على الأقل وفق المعطيات الحالية؛ لأن الانتقال إليها قد يمنح المعارضة والشارع الإسرائيلي الفرصة لممارسة المزيد من الضغوط على حكومته، وربما الذهاب إلى تشكيل لجنة تحقيق في أحداث السابع من أكتوبر 2023؛ لذلك من المُرجح أن يذهب نتنياهو إلى تلك المرحلة بعد “إنجاز عسكري” جديد على الأرض، ربما يتمثل في اغتيال قيادات أخرى في حماس، أو إنقاذ عدد كبير من الرهائن في عملية عسكرية جديدة؛ لأنه في هذه الحالة قد تنقلب موازين الرأي العام الإسرائيلي لصالحه، ويصبح أكثر قوة على الصعيد السياسي. وربما يذهب نتنياهو إلى المرحلة الثالثة؛ إذا قرر فتح حرب موسعة على الجبهة اللبنانية.
إدارة غزة:
بناءً على ما سبق، ووفق المعطيات الراهنة؛ فإن “اليوم التالي” في غزة يبدو بعيد المنال حالياً، فمن المفترض أن يأتي هذا اليوم بعد إيقاف الحرب، وهو ما ربطه نتنياهو بانتصار إسرائيلي حاسم، يُنهي وجود حماس وسلاحها في القطاع؛ وهو ما يراه الكثير من المراقبين الإسرائيليين هدفاً غير واقعي.
لذلك بدأ المحللون الغربيون في الحديث عن “الساعة الذهبية” في غزة، أو خطة اليوم الذي يسبق “اليوم التالي”، ومن بين هؤلاء دانا سترول، مديرة الأبحاث في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” ونائبة مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأوسط، والتي ذكرت في 20 مايو 2024 أن ندرة الحلول الواقعية لـ”اليوم التالي” في غزة تعكس غياباً أكثر إزعاجاً للتخطيط، وأن الأمر الأكثر أهمية هو “اليوم الذي يقع بين اليومين”. وهو كذلك ما أشار إليه ضمنياً، دانييل بايمان، أستاذ الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون، في مقاله الأخير على موقع مجلة “فورين آفيرز” الأمريكية، في 30 يوليو الماضي، والذي جاء تحت عنوان “هل يستطيع أحد أن يحكم غزة؟ الطريق المحفوف بالمخاطر إلى اليوم التالي”.
وفي تلك المرحلة التي يتحدث عنها الخبراء الغربيون، سيحتاج قطاع غزة، حتى مع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية منخفضة الوتيرة، إلى إدارة حكم محلي، تضمن تسيير الشؤون الحياتية اليومية، وإدارة المساعدات الغذائية، وتوفير البنية التحتية الأساسية والسلع الحيوية؛ بما يشمل المياه النظيفة، والكهرباء، والتعليم، والنقل، وأنظمة الرعاية الصحية، وما إلى ذلك. وهنا يظهر السؤال: أي سلطة سوف تُنظِّم الخدمات الأساسية وتستجيب لاحتياجات سكان غزة في سعيهم إلى إعادة بناء حياتهم؟
وربما تشير معطيات اللحظة الراهنة إلى أن هذا العبء قد تتولاه إسرائيل؛ لأنها لم تُقدم البديل. ولكن هناك شبه اتفاق على أن هذه المهمة لا قِبل لإسرائيل بها، ويمكن أن تُحيل مستقبل غزة إلى سيناريو “الفوضى”. وتشير دانا سترول إلى أن “إسرائيل تخاطر بالفعل بعدم التخطيط للساعة الذهبية”.
مستقبل القطاع:
يرتبط مستقبل “اليوم التالي” في غزة، بالأساس، بالكيفية التي ستتعامل بها إسرائيل مع “الساعة الذهبية” القادمة في القطاع. وهنا تظهر عدة خيارات قد تحكم مستقبل “اليوم التالي”، وهي: إدراج غزة ضمن نطاق حكم السلطة الفلسطينية بعد تجديدها، أو تشكيل سلطة حكم محلي من داخل عزة بدعم إقليمي ودولي، أو إعادة احتلال إسرائيل لغزة عسكرياً، أو إعادة سيطرة حماس على غزة، أو دخول القطاع في حالة من الفوضى.
ويمكن القول إن تحديد مستقبل غزة وفقاً لأحد تلك الخيارات الخمسة؛ سيكون نتاج أحد سيناريوهين لتعامل إسرائيل مع “الساعة الذهبية” في غزة، كالتالي:
1- استمرار السياسة الإسرائيلية الحالية: هو السيناريو الأرجح، ويعني أن تبدأ “الساعة الذهبية” في غزة، دون أن تكون إسرائيل قد وضعت خططاً واضحة لمستقبل القطاع، أو إجراء مشاورات إقليمية أو دولية حول هذا الشأن، مع تبني نتنياهو للخطاب ذاته الذي يُردده حالياً. ويعني هذا السيناريو أن غزة؛ إما أن تذهب إلى خيار “الفوضى الشاملة”، أو احتلالها عسكرياً بشكل تام من إسرائيل، وهو ربما ما تدعمه معطيات اللحظة الراهنة. فوفقاً لتقديرات وكالة “الأونروا”، في يوليو الماضي، فقد نزح 1.9 مليون شخص؛ أي نحو 80% من سكان القطاع. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية في فبراير الماضي، فقد دُمِّر أو تضرر نحو 80% من البنية الأساسية المدنية في غزة، وصار القطاع بلا اقتصاد يُذكر، ومعتمداً بالأساس على المساعدات الخارجية.
2- التفاوض حول إعادة تصميم بنية الحكم في غزة: إن الوصول إلى أحد خيارين من إعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على قطاع غزة أو إنشاء حكم محلي جديد؛ يعني أن إسرائيل ستعمل خلال مرحلة “الساعة الذهبية” على تقديم أُطر جديدة لبنية الحكم المحلي في القطاع، وفقاً لرؤيتها، وذلك من خلال التفاوض مع عناصر محلية هناك أو إعادة التواصل مع السلطة الفلسطينية. وفي كلا الحالتين، قد تشهد تلك المرحلة مفاوضات جادة بين إسرائيل من جهة، والأطراف الإقليمية والدولية المعنية من جهة أخرى. ولكن لا يبدو أن نتنياهو؛ إذا استمر على رأس الحكومة في إسرائيل، ينوي الدفع بهذه المفاوضات.
إجمالاً، على الرغم من ضبابية المشهد حول مستقبل غزة؛ فإن التحركات التي ستتخذها إسرائيل خلال ما أطلقت عليه المرحلة الثالثة من الحرب (الساعة الذهبية في غزة)، هي التي قد تحدد مستقبل القطاع في يومه التالي؛ وهو مستقبل للأسف تسيطر عليه الفوضى، وفقاً للتقديرات، خاصةً إذا استمرت معطيات اللحظة الراهنة، وتمسك نتنياهو برؤيته الحالية.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
يوم “السكاكين الطويلة”.. كيف أربكت حماس “إسرائيل” إلى الأبد؟
#سواليف
على الرغم من الاختلال الفادح في توازن القوى العسكرية، بين حركة المقاومة الإسلامية ” #حماس ” و” #إسرائيل “، فقد أدخلت تداعياتُ #حرب_الإبادة على قطاع غزّة (2023-2025)، متغيراتٍ جديدة على الشكل الكلي للعلاقة بين الطرفين، ما قد يعني إمكانية تحوّلها، ضمن عملية صيرورة معقّدة، نحو توازنات مختلفة.
ويعكس هذا تآكل “القيمة النسبية” للأبعاد العسكرية في مستقبل العلاقة، في مقابل تصاعد وزن أبعاد “القوة الشاملة”، بما فيها الأبعاد المعنوية والرمزية والتحررية والسياسية، بما قد يُعزّز، في نهاية المطاف، قدرة حماس على الاستمرار في سياساتها التفاوضية، وربما تسجيلها “أهدافًا متكررة” في المرمى الإسرائيلي، دون أن تضطر لتقديم أشياء إضافية، لم يتم التوافق عليها في اتّفاق وقف إطلاق النار و #تبادل_الأسرى في قطاع #غزة (15/1/2025).
وفي سياق تحليل العوامل/ المحدّدات المؤثّرة في علاقة حماس بـ”إسرائيل”، وسياقاتها الخارجية، ومساراتها، في المدى المنظور، ثمّة أربع ملاحظات:
مقالات ذات صلة بلدية رفح تحذر من كارثة إنسانية جراء انقطاع المياه 2025/03/15الملاحظة الأولى: #العجز_الإسرائيلي
عجزت حكومة بنيامين نتنياهو عن حسم المعركة بالأداة العسكرية، على الرغم من دمجها بكل أدوات حرب الإبادة، مثل: ( استخدام تجويع المدنيين سلاحًا، وإحكام الحصار الاقتصادي عليهم، واستهداف متلقّي المساعدات الإنسانية عدة مرات، وتكرار الاستهداف المتعمّد للمستشفيات والملاجئ والمدارس ومنشآت البنية التحتية، وتنفيذ سياسات “الأرض المحروقة” و”التهجير” و”التطهير العرقي”، ضمن ما عرف بـ “خطة الجنرالات”.. إلخ). كما أخفق نتنياهو وأركان جيشه، في إرغام حماس خصوصًا، وفصائل المقاومة الفلسطينية عمومًا، على “رفع الراية البيضاء”، والنزول على شروط الاستسلام الإسرائيلية، في المفاوضات.
وعلى الرغم من مناورات التفاوض الإسرائيلية المتنوعة واللامتناهية، وقدرة نتنياهو على تعطيل صفقة تبادل الأسرى، عدة أشهر، فقد تصاعدت تدريجيًا ضغوط عائلات المحتجزين في قطاع غزّة، وتعالت الأصوات التي تطالب بتشكيل لجنة تحقيق في إخفاق الدولة في التعامل مع هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ما يعني أمرين:
أحدهما أن نتنياهو وأركان حكومته قد يواجهون، في أمد غير بعيد، يوم “السكاكين الطويلة”، وتبادل الاتهامات بالتقصير والمسؤولية عن الفشل، بين المستويين السياسي والعسكري.
والآخر محدودية أدوات الضغط الإسرائيلية المتبقية، وتآكل جدواها، ضد حماس وقطاع غزّة عمومًا، اللهم إلا في “شراء الوقت” و”التأجيل”، بعد وضوح نتيجة حرب الإبادة في فشل تهجير الغزيين، ناهيك عن كسر إرادة المقاومة.
الملاحظة الثانية: قدرة حماس على #الإرباك
أثبتت حماس قدرتها على “إرباك” الإستراتيجية الإسرائيلية وحرمانها ميزات “المبادرة الاستباقية”، ضد الجانب الفلسطيني؛ إذ يكشف نهج حماس التفاوضي معرفةً عميقة بالعقلية الإسرائيلية، وإمكانية التعويل على المقاومة في تفجير تناقضات الداخل الإسرائيلي وصراعاته، كما تجلّى من الرسائل في العبارات التي وضعتها كتائب القسّام في خلفيات مشاهد تسليم المحتجزين الإسرائيليين، (مثل: “نحن الطوفان… نحن اليوم التالي”، “الأرض تعرف أهلها.. من الأغراب مزدوجي الجنسية”، “اخلع حذاءك، فكل شبر من هذه الأرض روي بدماء الشهداء”، “وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق”، “نحن الطوفان.. نحن البأس الشديد”، صورة قائد كتائب القسام محمد الضيف التي كُتب عليها: “نستطيع أن نغير مجرى التاريخ”.. إلخ).
ويكشف تحليل هذه الرسائل مهارة حماس على الصعد التفاوضية والإعلامية والدعائية؛ إذ قدمت نموذجًا مختلفًا عن نهج “الاعتدال التفاوضي العربي”، منذ اتفاقيات فض الاشتباك بين كل من مصر وسوريا والجانب الإسرائيلي (1974 – 1975)؛ الذي أوصل الدول العربية إلى مسارات التسوية والتطبيع ( كامب ديفيد 1978، ومؤتمر مدريد 1991، واتفاقات أوسلو 1993)، بكل نتائجها السلبية على تماسك المواقف العربية وخلق التضارب بينها.
لقد نجحت حماس في المزاوجة بين المرونة والالتزام بثوابتها وحقوق شعبها، ودفعت “إسرائيل” إلى تغيير معاييرها في الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، على نحو أبرز درجة من “الندية السياسية”، عبر تحسين المركز التفاوضي الفلسطيني عمومًا، والتركيز على قيمة حرية الأسرى، بعد تشكّل طرف فلسطيني مقاوم على الأرض، يستطيع التعبير عن الإرادة الشعبية والتطلعات المجتمعية في تحرير الأسرى من جلاديهم.
وهي قضية تمس كل بيت فلسطيني تقريبًا، وذلك على عكس ما فعله المفاوض العربي والفلسطيني، الذي تجاهل قضية الأسرى، في إطار عملية التسوية، التي ركزت على العملية دون تحقيق السلام الحقيقي، خصوصًا في ظل مسار أوسلو المتعثر.
وعلى الرغم من أن عملية “التفاوض غير المباشر” بين حماس و”إسرائيل”، قد تكون أصعب مفاوضات في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي برمته، فإنها أدّت لثلاث نتائج متداخلة:
أولاها تأكيد “التفوق الأخلاقي” للشعب الفلسطيني على عدوه، وحرص كتائب القسّام على حسن التعامل مع الأسرى الإسرائيليين، (كما تجلّى في صورة المجند المحتجز عومرشيم كوف، الذي قبّل رؤوس آسريه من القسّام في منطقة النصيرات في 22 فبراير/ شباط 2025، ما يؤكّد اهتمام حماس بـ “معركة كسب العقول والقلوب”، بالتوازي مع صمود فصائل المقاومة الميداني.
وثانيتها تكريس مكانة حماس التفاوضية، وإسباغ درجة من “الشرعية الواقعية الإقليمية” عليها، بوصفها “طرفًا مفاوضًا ومسؤولًا وملتزمًا” أمام الوسطاء القطريين والمصريين، على الرغم من تصاعد التهديدات الأميركية، وتكرار المراوغات التفاوضية الإسرائيلية.
وثالثتها أن صمود العامل الفلسطيني وصلابة الإرادة، في مقاومة ضغوط العامل الأميركي الإسرائيلي، قد يحرّكان في نهاية المطاف قدرًا من المساندة العربية والإقليمية، والتوافق حول “الحد الأدنى”، المتمثل في رفض تهجير الشعب الفلسطيني، و”الحد الأقصى” المتمثل في أمرين؛ أحدهما العودة إلى دعم مسار الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو/حزيران 1967، بوصفه “مخرجًا واقعيًا” في التعامل مع تداعيات حرب الإبادة.
والآخر الانفتاح الرسمي العربي على قوى المقاومة الفلسطينية، التي تتلاقى مع الأهداف العربية المعلنة، في منع تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، وبهذا تلعب قضية فلسطين دور “الرافعة”، تمهيدًا لتأسيس حالة من “تماسك” النظام الإقليمي في المنطقة، ضد الضغوط الخارجية، خصوصًا الأميركية.
الملاحظة الثالثة: زيادة مستوى التعقيد
كان لطبيعة الصراع بين حماس و”إسرائيل” انعكاسات على زيادة مستوى التعقيد والتشابك في علاقتهما، خصوصًا بعد هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، الذي جاء في سياق مقاومة تحولات المشروع الصهيوني بعد صعود تيارات “الصهيونية الجديدة”، ذات الطابع القومي/الديني، والتخلّي الإسرائيلي عن سياسات إدارة الصراع أو “تجميده”، والتوجّه نحو مرحلة “حسم الصراع”، بالتهجير والإبادة للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزّة، مع استمرار حصار غزّة وعزلها تمامًا عن الجسد الفلسطيني، ومنع أي احتمال لتوحيد الساحات الفلسطينية، (كما حدث إبان عملية سيف القدس في مايو/ أيار 2021).
وبهذا المعنى، تكون حرب غزّة الراهنة، أعادت تشكيل قواعد صراع حماس و”إسرائيل”، وكذا تفسير الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، معاني الانتصار والهزيمة؛ إذ سيعتمد الانتصار على القدرة على إدارة الصراع، والاستمرار في حشد الطاقات المجتمعية لدى الطرفين، في هذا “الصراع الاجتماعي السياسي المصيري الممتد”.
خصوصًا مع دخوله مرحلة الحسم، ربما في المدى المنظور، وتصاعد احتمال حدوث تصدّعات جوهرية في “إسرائيل” ومعسكر داعميها الدوليين والإقليميين، بالتوازي مع احتمال انتقال الصراع تدريجيًا نحو الضفة الغربية والقدس المحتلة، وربما وصولًا إلى اندلاع انتفاضة فلسطينية شاملة، بسبب “التصادم الحتمي”، بين مكوّنات الإستراتيجية الإسرائيلية: (العنف، وإرهاب الدولة، والإبادة، والتهجير)، في مقابل تداعيات مشاهد “العودة الفلسطينية” الملهمة، على الصعيدين الرمزي والسياسي.
إذ تابع العالم عودة المهجّرين قسريًا، إلى منطقة شمال غزة: (محافظتي غزة والشمال)، عبر شارع الرشيد سيرًا على الأقدام، التي أكدت “عظمة الشعب الفلسطيني، ورسوخه في أرضه، وانتصاره، وإعلان فشل وهزيمة الاحتلال ومخططات التهجير”، كما قالت حماس في بيانها في 27 يناير/ كانون الثاني 2025.
الملاحظة الرابعة: أثر البيئة الخارجية
للبيئة الخارجية، الدولية والإقليمية، أثر على علاقة حماس بـ”إسرائيل”، في ظل تفاعل الضغوط الأميركية في موضوع تهجير أهالي قطاع غزّة، والاعتراض الأممي والدولي عليه، وبروز التحفظ المصري، السعودي، التركي، الإيراني على أطروحات الرئيس دونالد ترامب، بالتوازي مع تآكل أوراق الضغط الإسرائيلية على حماس وقطاع غزّة، بعد استنفاد كل أساليب الضغط المتاحة؛ (سواء عبر الضغط العسكري، أم التجويع والحصار والتهجير، أم شنّ الدعاية والحروب النفسية، كما سلف القول).
وليس مبالغة القول إن هذه التفاعلات الدولية والإقليمية المركّبة تؤكد أن تأثير تبادل الأسرى في نمط العلاقة بين حماس و”إسرائيل”، يكشف مفارقة مهمّة، تُظهر تضعضع صورة نتنياهو وحكومته أمام الجمهور الإسرائيلي، خصوصًا عائلات الأسرى، في مقابل تعزيز صورة حماس أمام أهالي غزّة والشعب الفلسطيني، وكذلك أمام العالم، بوصفها “حركة تحرر وطني”، تعمل على تحرير الأسرى والإنسان والأرض الفلسطينية، من سيطرة الاحتلال الغاشم.
يبقى القول إن المحصلة النهائية لتداعيات حرب غزّة تدفع بالعلاقة بين حماس و”إسرائيل” نحو “توازنات مختلفة”، تعكس طبيعة معارك التحرر الوطني، أكثر من معادلات توازن القوى، بالمنظور الواقعي في العلاقات الدولية، علمًا بأن طبيعة “المرحلة الانتقالية” التي يمرّ بها النظامان الدولي والإقليمي، تسمح، أقله نظريًا، للفاعلين الدوليين والإقليميين بتخفيف قيود بنية النظامين الدولي والإقليمي، (كما تفعل تركيا وإيران وقطر وجنوب أفريقيا.. إلخ).
كما أن تمادي دولة الاحتلال في عدوانها على فلسطين ولبنان وسوريا، وإقليم الشرق الأوسط عمومًا، ربما يدفع إلى تصاعد الصراعات الإقليمية، نحو خروج الأمور عن السيطرة، وبروز تياراتٍ راديكاليةٍ، جهاديةٍ، أو حتى فوضويةٍ عنفيةٍ، بالتوازي مع تدشين مسار عمليةٍ عالميةٍ طويلةٍ لعزل “إسرائيل” ومعاقبتها على جرائمها، خصوصًا بعد انضمام دولٍ عدّةٍ إلى قضية الإبادة المرفوعة من قبل جنوب أفريقيا ضدّ “إسرائيل”.
وكذلك بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحقّ كلّ من بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق، يوآف غالانت، وهي جوانب هامة تعزز “الانتصارات المعنوية” لقضية فلسطين، وتؤكد أبعادها السياسية والتحررية والإنسانية، في مقابل وضوح فشل “السردية الإسرائيلية/ الأميركية”، التي ستبقى تحاول شيطنة الإنسان الفلسطيني العربي، وتجريم حق الشعوب في المقاومة المشروعة للظلم والإرهاب.