الجزيرة:
2025-03-11@12:55:44 GMT

بندلي الجوزي.. مفكر فلسطيني لمع نجمه في الخارج

تاريخ النشر: 14th, August 2024 GMT

بندلي الجوزي.. مفكر فلسطيني لمع نجمه في الخارج

بندلي الجوزي، مفكر وباحث لغوي، وأديب فلسطيني، ولد في القدس عام 1871م، ويعد من أعلام الاستشراق واللغات السامية، نشر عشرات المؤلفات والمخطوطات باللغة الروسية والعربية، توفي في أذربيجان عام 1942م.

المولد والنشأة

ولد بندلي صليبا الجوزي في القدس عام 1871م، تلقى تعليمه الأولي في مدارس القدس ولبنان، ثم انتقل إلى روسيا.

في عام 1903 تزوج من فتاة روسية تدعى ليودميلا لورنشيتفنا زويفا، ورُزق منها بـ7 أبناء وهم: فلاديمير وجورجي وبوريس وآنستاسيا وألكسندرة وتامارا وأولغا.

قال عنه المؤرخ عجاج نويهض إنه عربي فلسطيني لمع نجمه خارج فلسطين، وامتاز بغزارة العلم ودقة أبحاثه وكثرة مؤلفاته.

الدراسة والتكوين العلمي

تلقى بندلي الجوزي علومه الابتدائية والثانوية في كلية دير المصلبة الأرثوذكسي بالقدس، ثم في مدرسة في قرية بكفتين بلبنان.

وكانت الحكومة الروسية تعنى بتعليم النجباء من العرب الأرثوذكس، فحصل بندلي سنة 1891م على بعثة كنسية إلى روسيا لاستكمال دراسة العلوم اللاهوتية في الأكاديمية الدينية في موسكو.

وهناك اجتذبته الماركسية واستولت عليه القراءة المادية للتاريخ، فقطع دراسة اللاهوت وانتقل سنة 1895م إلى أكاديمية قازان، ومنها نال شهادة الماجستير في اللغة العربية والدراسات الإسلامية، وكان موضوع رسالته "المعتزلة: البحث الكلامي التاريخي في الإسلام".

عام 1909 زار فلسطين والشام مع طلاب روس آخرين، في إطار بعثة علمية لتعلم اللغة العربية.

وعام 1921 نال البندلي شهادة الدكتوراه في الأدب العربي واللغة العربية، وفي السنة نفسها زار إيران في إطار بعثة علمية.

من اليمين: خليل السكاكيني وبندلي صليبا الجوزي وعادل جبر ومحمد رفيق الحسيني (أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي) الوظائف والمسؤوليات

عمل البندلي أستاذا مساعدا للغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة قازان.

وبين عامي 1911 و1917 عمل أستاذا مساعدا لمادتي اللغة العربية والتاريخ الإسلامي في الجامعة نفسها، ثم انتقل للعمل في كلية التاريخ والآداب في الجامعة نفسها حتى عام 1920م.

وفي السنة نفسها سافر إلى مدينة باكو الأذرية وعمل في جامعتها الحكومية أستاذا للغة العربية وآدابها، ثم صار عميدها، وعام 1930م عين رئيسا للقسم العربي في جامعة باكو، وبعدها بعام منحه المجلس العلمي لهذه الجامعة شهادة دكتوراه شرف في اللغة العربية وآدابها.

ترأس سنة 1938م القسم العربي في فرع أكاديمية العلوم في باكو.

إسهاماته

بفضل دراسات بندلي الجوزي انخرط العرب في قراءات جديدة لحركات المعتزلة والقرامطة والزنج والإسماعيلية وإخوان الصفا، وبفضله تنبهوا إلى نقد جدّي رصين، وغير بعيد عن أن يكون الأول من نوعه في اللغة العربية، لمختلف مدارس الاستشراق الغربي حول الشرق الأوسط القديم، وحول الإسلام بصفة خاصة.

واهتم الجوزي بنقل المعرفة إلى أبناء بلده في فلسطين، على الرغم من أنه كان بعيدا عنها، إذ ورد في كتاب "رجال من فلسطين كما عرفتهم"، للمؤرخ عجاج نويهض أن بندلي الجوزي "كتب له أن يبتعد عن وطنه فلا يزوره إلا كل 10 سنين أو 20 سنة مرة".

ولما زار فلسطين سنة 1928م ألقى محاضرات في التاريخ والحركات الفكرية عند العرب والمسلمين، وشارك في أعمال المؤتمر العربي الفلسطيني السابع الذي عقد في يونيو/حزيران من ذلك العام، وانتخب عضوا في اللجنة التنفيذية العربية التي انبثقت عنه.

وبعد عامين عاد إلى فلسطين ليلقي سلسلة من المحاضرات في العلوم الاجتماعية والفلسفية.

ولما كان في بعثة علمية في إيران جلب عددا كبيرا من المخطوطات العربية والفارسية، زوّد بها مكتبة الجامعة.

مؤلفاته تاج العروس في معرفة لغة الروس 1898-1899م. المعتزلة: البحث الكلامي والتاريخي في الإسلام- قازان 1899م. من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام – القدس 1928م (ونال به الدكتوراه). تاريخ كنيسة أورشليم 1910م. جبل لبنان تاريخه وحالته الحاضرة 1917م. أصل سكان سوريا وفلسطين المسيحيين. أصل الكتابة عند العرب. الأمومة عند العرب- تأليف رالكن- ترجمة- قازان 1929م. الإسلام والتمدن. علم الأصول عند الإسلام. رحلة البطريرك ماكاريوس ابن الزعيم إلى بلاد الكرج. أمراء غسان – تأليف نولدكة- ترجمة مع قسطنطين زريق- بيروت 1937م. العلاقات الأنجلو مصرية 1930م. الاصطلاحات العلمية عند العرب المعاصرين 1930م. القاموس الروسي العربي، جزآن 1908م. مبادئ اللغة الروسية لأولاد العرب (جزآن). الطاعون: أعراضه والوقاية منه. دراسات في اللغة والتاريخ الاقتصادي والاجتماعي عند العرب- بيروت 1977م. إضافة إلى 26 كتابا باللغة الروسية، كما ترك 9 مخطوطات بالروسية ومخطوطتين بالعربية. له العديد من المقالات التي نُشِرت في مجلات فلسطينية وعربية كثيرة، منها: النفائس العصرية، المقتطف والهلال. كتب أكثر من 50 مقالة للموسوعة الأذربيجانية. مرضه ووفاته

أصيب بندلي الجوزي سنة 1932م بمرض في القلب أقعده عن العمل حتى سنة 1937م، توفي مطلع سنة 1942م في مدينة باكو ودفن فيها.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات اللغة العربیة عند العرب

إقرأ أيضاً:

لا نفع لأمريكا في عالم أكثر فسادا

قبل بضع سنوات، كنت أعمل المنسق الأول لمكافحة الفساد العالمي بوزارة الخارجية الأمريكية، فزرت بلدا بغرب إفريقيا ضمن عملي الميداني. وحكى لي رجل أعمال أمريكي -كانت شركته تدير مؤسسة وطنية مهمة هناك- عن مسؤول حكومي طلب منه رشوة. ولما سألته كيف خرج من ذلك المأزق، فقال إن المخرج كان بسيطا: «قلت له إنني لن أدخل السجن نيابة عنه».

كان القانون الذي رفض رجل الأعمال خرقه هو قانون (ممارسات الفساد في الخارج) الصادر عام 1977. وقد أصدر الرئيس دونالد ترامب أمرا تنفيذيا في العاشر من فبراير بإيقاف تطبيقه، في تحدٍّ سافر لسياسة الولايات المتحدة وممارستها على مدى خمسين سنة. يزعم ترامب أن قواعد ذلك القانون تحرم شركات الولايات المتحدة من فرص تجارية مربحة. ولكن أدلة هذا الزعم ضعيفة وضئيلة. فالواقع أن اتباع نهج أكثر تساهلا في التحقيق في الرشاوى الأجنبية وملاحقتها قضائيا سوف يضر في نهاية المطاف الشركات ودافعي الضرائب في الولايات المتحدة.

لقد وضع المشرعون الأمريكيون هذا القانون ردا على سلسلة فضائح رشوة في سبعينيات القرن الماضي أحرجت الولايات المتحدة وقوضت سياساتها الخارجية وشراكاتها الدولية، وألحقت الضرر بشركاتها. وثمة عشرات الأمثلة، لكن أبرزها يتعلق برشوة شركة لوكهيد -وهي شركة مقاولات دفاعية أمريكية- لرئيس الوزراء الياباني كاكوي تاناكا. وكانت مناقشات الكونجرس مفصلة ومحددة وواسعة النطاق، وشملت شهادات خبراء ونظرا دقيقا في مجموعة متنوعة من القضايا، منها الآثار المترتبة على القدرة التنافسية الاقتصادية الأمريكية وكيف يمكن النظر في الخارج إلى تطبيق قانون أمريكي خارج الأراضي الأمريكية. وأجيزت النسخة النهائية من قانون ممارسات الفساد في الخارج بإجماع مجلس الشيوخ وتصويت 349-0 في مجلس النواب، مما يدل على إجماع وطني كاسح على أن الممارسات الفاسدة في الخارج معادية للمصالح الأمريكية.

ومنذ ذلك الحين، أصبح هذا القانون حجر أساس للسياسة الاقتصادية الدولية للولايات المتحدة، ومصدر إلهام لدول أخرى، ومصدر اتفاقية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لمكافحة الرشوة لعام 1998. وهو أيضا حجر زاوية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، ويعد على نطاق واسع، سواء في نظر الشركات الأمريكية أو شركائها في الخارج، بمنزلة الفارق الأكبر بين الاقتصاديين الأمريكيين وأمثالهم في الصين وروسيا.

وواقع الأمر أن ما فعله ترامب، باسم الحفاظ على القدرة التنافسية الاقتصادية للولايات المتحدة والحفاظ على امتيازاته الخاصة في السياسة الخارجية، هو أنه أكد أن الولايات المتحدة لا تستطيع المنافسة والنجاح إلا من خلال الممارسات الفاسدة. فلا يقتصر الأمر على تحقير الشركات الأمريكية التي تمكنت من إدارة أعمالها لعقود من الزمن دونما فساد. ولكن ترامب يعرض أيضا جميع الأعمال التجارية الدولية الأمريكية لمطالبات بالرشوة والمحسوبية للحصول على العقود، مقوِّضا بذلك مزايا الولايات المتحدة سواء في الممارسة أو في السمعة.

في طريق العار

ليس قانونيا، بموجب قانون ممارسات الفساد في الخارج، أن «تقوم فئات معينة من الأشخاص والكيانات بدفع مبالغ لمسؤولين حكوميين أجانب للمساعدة في الحصول على أعمال تجارية أو الاحتفاظ بها». وتتضمن هذه الفئة الأشخاص والكيانات المواطنين الأمريكيين والشركات المقيمة، وبعد تعديل عام 1998، أصبحت تتضمن الأجانب أفرادا وكياناتٍ ممن تخضع أنشطتهم داخل الولايات المتحدة لقانون ممارسات الفساد في الخارج. وقد ألزم القانون منذ نشأته الشركات الأجنبية المسجلة في الولايات المتحدة باستيفاء متطلبات محاسبية معينة، من قبيل الاحتفاظ بدفاتر دقيقة وضوابط داخلية للمعاملات.

فأتاحت أمثال هذه المتطلبات للولايات المتحدة أن تقيم دعاوى قضائية أسفرت عن غرامات بمليارات الدولارات. ووقعت بعض تلك الدعاوى خلال إدارة ترامب الأولى. ومما ينفي معاقبة الشركات الأمريكية دونما وجه حق أن أكثر من 40٪ من الملاحقات القضائية في الولايات المتحدة كانت ضد متهمين أجانب، وأن جهات فاعلة أجنبية -أساءت استخدام النظام المالي الأمريكي لارتكاب جرائمها- ممثلةٌ بشكل كبير في قائمة أعلى الغرامات الصادرة بموجب القانون. كما أن ملاحقات قانون ممارسات الفساد في الخارج شملت شركات تعمل في جميع أنحاء العالم، ومنها بعض الشركات التي قوضت المصالح السياسية والاقتصادية الأمريكية من خلال الفساد. وقد استقبلت حكومات أجنبية عديدة هذه الملاحقات استقبالا حسنا، وليس أقل أسباب ذلك أنها أسفرت عن تعويضات دفعها المدانون ورد أموال مفقودة.

ومع ذلك، كان المستفيدون الأساسيون من قانون ممارسات الفساد في الخارج هم شركات أمريكية (ومساهمون فيها) راغبة في العمل بالخارج دون دفع رشاوى. ومن المؤكد أن بعض الشركات الأمريكية استخدمت الرشوة للحصول على امتيازات وعقود. والتاريخ الذي استشهد به أعضاء الكونجرس في قرارهم بالتفاوض على قانون ممارسات الفساد في الخارج واعتماده يشمل أسماء عشرات الشركات الأمريكية التي استخدمت الرشوة في الحصول على امتيازات وعقود شراء وصفقات قيمة. ولكن دفع الرشاوى عمل شائك. ففي مقابل كل صفقة تجارية تتم بالرشوة، هناك أيضا أمثلة لاعتقال سياسيين وانهيار صفقات بسبب الرشوة. فالرشوة، في نهاية المطاف، جريمة، وتلزم المادة 15 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد جميع الحكومات الموقعة على الاتفاقية باعتبارها كذلك. والشركات التي تدفع الرشاوى تسهم في ارتكاب جريمة ونتيجة لهذا قد تواجه عواقب قانونية في أي بلد تعمل فيه.

فضلا عن ذلك، مع وجود قانون ممارسات الفساد في الخارج، فإن تجنب الرشوة لا يكون العيب التنافسي الذي يمكن اجتنابه. فبوسع الشركات الأمريكية أن تقول بوضوح وعزم إنها لا يجوز أن تنخرط في الرشوة خشية ملاحقة الحكومة الأمريكية لها قضائيا فلدى الحكومة الأمريكية سجل طويل من الملاحقات القضائية الناجحة. وكل شخص شارك في أي عملية تفاوضية يعرف أن «إلقاء اللوم على طرف ثالث» هو أحد أقيم الأدوات التفاوضية، ولقد كانت وزارة العدل الأمريكية حتى الآن طرفا مثاليا لتحمل اللوم. وقد ساعد قانون منع الابتزاز الأجنبي، الذي أجازته أغلبية الحزبين في عام 2023، في تحييد أي عيوب تنافسية متبقية قد توجد أمام الشركات الأمريكية التي تمتثل لقانون ممارسات الفساد في الخارج بجعله طلب المسؤولين الأجانب للرشوة قابلا للمقاضاة أيضا.

لقد أصبحت الشركات الدولية التي امتثلت للتشريعات الأمريكية رائدة في تشجيع العمل الحكومي المكافح للفساد ومقاومة الممارسات الفاسدة نفسها.

وحينما كنت رئيسا لمركز (قادة مكافحة الفساد لتحفيز القطاع الخاص)، وهو مبادرة من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التقيت بعشرات الشركات التي التزمت بمكافحة الفساد والرشوة لأنها رأت أن ذلك يصب في مصلحتها المالية. ويشمل أعضاء المركز بعض الشركات الرائدة في العالم، مثل أمازون وجنرال موتورز وسيمنز وتيسلا. وهذه الشركات الكبرى تدعم مشاريع مثل (شبكة النقطة الزرقاء) -وهي مبادرة أنشأتها أستراليا واليابان والولايات المتحدة في عام 2019، عندما كان ترامب في منصبه، وهي الآن تحت رعاية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- التي تتحقق من مصادر التمويل لمشاريع البنية الأساسية الأجنبية، فضلا عن التزامها بقواعد السلامة وغيرها من تدابير الامتثال. بالنسبة لهذه الشركات الكبرى، سيكون فقدان قانون ممارسات الفساد في الخارج ضارا، إذ سيصبح من الأسهل على الشركات غير المؤهلة التي ترغب في دفع الرشاوى كسب أعمال غير مستحقة. والشركات التي تستخدم الفساد للحصول على أعمال غير مستحقة عادة ما يكون أداؤها ضعيفا، وتوفر منتجات وبنية أساسية وخدمات معيبة تضر المستهلكين. ولنا مثال على ذلك في الانهيار المروع لمشاريع الإسكان في جنوب تركيا خلال زلازل عام 2023.

مما لا شك فيه أن بعض الشركات ستحتفل بقرار ترامب. فالامتثال لقانون ممارسات الفساد في الخارج يفرض في نهاية المطاف تكاليف على الشركات، وكثير منها ليست لديها نية لدفع الرشاوى، وحتى المخاطرة النظرية بالتقاضي تشكل عبئا على الشركات العاملة على المستوى الدولي. وهذا مفهوم، فلا أحد يريد أن يتعرض للملاحقة القضائية أو يعمل في ظل شبحها. غير أن الشركات تواجه الآن مشكلة جديدة: إذ تتعرض للتحريض النشط على تقديم الرشاوى فلا تستطيع أن تبادر بالرفض التلقائي الذي يسهله الامتثال لقانون ممارسات الفساد في الخارج. ولذلك سوف تضطر العديد من الشركات الأمريكية إلى توفير المال لدفع هذه الرشاوى لإبرام الصفقات والحفاظ عليها.

وسوف يثقل هذا العبء على الشركات النظيفة والفاسدة على حد سواء.

سوف يصبح كل عقد أجنبي تحصل عليه الشركات الأمريكية الآن ملطخا بشبهة الرشوة. وحتى لو لم يصح ذلك، فإن مجرد الادعاء سوف يعرض هذه الشركات لمزيد من المطالبة بالرشاوى، فنادرا ما تتم صفقة برشوة واحدة فقط. وسوف يظل هذا الارتباط يلاحق الشركات في كل مكان تمارس فيه أعمالها. فإذا كانت قدمت رشاوى لشخص ما لتحصل على عقد أو تنازل في بلد ما، فلماذا لا تفعل مثل ذلك مع غيره؟

ويخاطر ترامب أيضا بمكانة الولايات المتحدة في نظام مراقبة مكافحة غسل الأموال الدولي الذي تديره مجموعة العمل المالي، وهي هيئة حكومية دولية تنسق معايير الممارسات المصرفية. فالرشوة والفساد من أشكال غسل الأموال، وبصفتها عضوا في مجموعة العمل، فمن المتوقع أن تثبت الولايات المتحدة امتثالها لمعاييرها عندما تبدأ عملية التقييم المتبادل للبلاد، وهي عملية تدقيق مطلوبة يجريها الأعضاء الآخرون، في عام 2026. وحتى مناقشة ما إذا كان ينبغي إدراج الولايات المتحدة على «القائمة الرمادية» لمجموعة العمل -وهي عمليا حالة اختبار للصلاحية- بسبب عدم استيفائها للمعايير المطلوبة فقد تتكبد الشركات والبنوك الأمريكية تكلفة كبيرة.

فمعاملات المؤسسات والشركات المنتمية إلى بلاد مدرجة في هذه القائمة تخضع لتدقيق أشد وقد تواجه صعوبة في الحصول على التمويل. فالكيفية التي سيطبق بها الأعضاء هذا التدقيق على قطاع مالي كبير ومهم على المستوى النظامي مثل قطاع الولايات المتحدة بعيدة كل البعد عن الوضوح، ولا يفيد هذا إلا في تسليط الضوء على مدى استثنائية الخطوات التي اتخذها ترامب.

التنازل عن أرض للصين

وثمة مشكلة أخرى في أمر ترامب التنفيذي تتمثل في هشاشة ومخاطر يفرضها على العلاقات التجارية الأمريكية في المدى البعيد. فالفساد ليست له شعبية، ولا لمن يشاركون فيه. ففي حال، أو عند، اكتشاف تورط شركات أمريكية في فساد سابق لصفقات تجارية، فسوف يضر الكشف بالولايات المتحدة، مثلما حدث قبل سن قانون ممارسات الفساد في الخارج: إذ أسقطت فضائح الفساد حكومات أجنبية كانت شريكة للولايات المتحدة، وتحقق فسادها من خلال رشاوى شركات أمريكية. وعندما سقطت تلك الحكومات الفاسدة، خسرت الولايات المتحدة ما يتجاوز الصفقات التجارية. فقد فقدت أيضا الوصول والنفوذ اللذين كانت تحظى بهما من قبل. وكان اجتناب مثل هذا الضرر الذاتي أحد الأسباب وراء سن قانون ممارسات الفساد في الخارج في المقام الأول. وفتح الباب مرة أخرى للفساد، بالإضافة إلى إلغاء إدارة ترامب لبرامج المساعدات الخارجية، ينذر بتدهور قدرة واشنطن على التأثير في التطورات السياسية والاقتصادية والأمنية في مناطق ستكون حاسمة لمستقبل الولايات المتحدة، وخاصة في أفريقيا وجنوب شرق آسيا ونصف الكرة الغربي.

ومن منظور جيوستراتيجي، يمثل تخلي ترامب عن قانون ممارسات الفساد في الخارج قرارا كارثيا. صحيح أن الحكومات الأجنبية لا تتبنى نفس النهج المتحمس لتنفيذ قانون ممارسات الفساد في الخارج (أو ما يعادله على المستوى الوطني) كما فعلت الولايات المتحدة في الماضي، ولكن خلافا للولايات المتحدة اليوم، لا تزال هذه الحكومات تدعي أنها تنفذ بأمانة كامل التزاماتها بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2005 واتفاقية منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لمكافحة الرشوة لعام 1999.

سوف تحرص الصين بشكل خاص على استخدام قرار ترامب ضد الولايات المتحدة. فقد صاغت بكين منذ فترة طويلة استراتيجيتها لمكافحة الفساد بعبارات عدوانية، مشيرة إليها بشكل مختلف على أنها ضرب النمور، وضرب الذباب، وصيد الثعالب، معتقلةً عشرات المسؤولين بزعم أنهم فاسدون. فسوف يشير القادة الصينيون إلى حملتهم الداخلية المستمرة لمكافحة الفساد وسياسة مقاضاة من يدفعون الرشاوى دليلا على أن أنشطتهم التجارية نظيفة وأمينة. في الوقت الذي ينكر فيه ترامب صراحة روح مكافحة الفساد الراسخة في الولايات المتحدة. ولقد كان من الصعب بما فيه الكفاية إثبات أن الصين تستخدم بشكل انتقائي أساليب فاسدة لكسب مواطئ أقدام في أفريقيا، أو جنوب شرق آسيا، أو جنوب المحيط الهادئ، فدونما تعاون من الحكومات المحلية في ملاحقة الفساد بموجب قانون ممارسات الفساد في الخارج، والذي من المؤكد أنه سيتوقف بتوقف الولايات المتحدة عن ملاحقته بقوة، ستفقد واشنطن الرؤية الحاسمة لأنشطة الصين والقدرة على إعاقتها.

ومن المنطقي الزعم بأن الولايات المتحدة كانت، حتى وقت قريب، تقود جهود مكافحة الفساد العالمية وكان الآخرون يعجزون عن القيام بواجبهم. ولن يصحح الاستسلام هذا الخلل. وبدلا من ذلك، يجب أن تكون واشنطن أكثر قوة في فرض القواعد والمعايير العالمية. ولدى حكومة الولايات المتحدة الطرق اللازمة للقيام بذلك على النحو الصحيح. فلديها مجموعة من العقوبات القائمة التي يمكنها فرضها على من ينخرطون في الفساد الدولي، ويمكن أن تفرض عقوبات إضافية على الشركات المالية والمحامين وتجار النفوذ الذين يرسخون الفساد والدول التي تستخدمه استخدام السلاح الاستراتيجي. ولقد أظهر ترامب استعداده لاستخدام الإكراه الاقتصادي للرد على الممارسات الدولية غير العادلة، الحقيقية منها والمتخيلة. ولو أن هناك شكلا واحدا من أشكال التلاعب التجاري يستحق التصدي له بأدوات الحكم الاقتصادي الأمريكي، فهو الفساد.

يمكن أن يقاوم الكونجرس إضعاف ترامب لقانون ممارسات الفساد في الخارج، بالإصرار مثلا على أن يلتزم أي مرشح لأدوار تنفيذ القانون بتطبيق قانون ممارسات الفساد في الخارج واستخدام سلطاته في الإشراف التشريعي لضمان امتثالهم. وللقطاع الخاص أيضا دور يؤديه. فبوسع الشركات الأمريكية أن تلزم نفسها بمعايير مكافحة الفساد بغض النظر عما تفعله الحكومة. فلدى بورصة نيويورك ومؤشر ناسداك مدونات سلوك وأخلاقيات يمكنهما الاستمرار في فرضها، وينبغي أن يحافظ المجتمع المصرفي على معايير مكافحة الرشوة والفساد في المدفوعات والاستثمارات. وفي نهاية المطاف، ستنفذ البلاد والسلطات القضائية الأخرى قوانينها الخاصة ضد الفساد حتى لو لم تفعل الولايات المتحدة ذلك، بل لعلها تستهدف الشركات الأمريكية المشاركة في ممارسات فاسدة في سياق المنافسة الاقتصادية العالمية التي تعمل إدارة ترامب على تضخيمها.

ضرر المدى البعيد

قد يكون ترامب محقا في أن الدول الأخرى على استعداد لاستخدام الفساد لتعزيز مصالحها. ولكن التدني إلى مستواها يمثل استجابة عكسية لهذه المشكلة. فالشركات الأمريكية التي لم تكن تدفع الرشاوى سيصبح الآن مشتبها بأنها تفعل ذلك، أما الشركات التي تدفع الرشاوى فسوف تستنزف أرباح مساهميها وسوف تتواطأ في مشاريع إجرامية وطنية تجعل الحكومات أكثر هشاشة وضعفا وأقل شعبية. وسوف يستغل خصوم الولايات المتحدة معايير إنفاذ القانون المتساهلة حديثا في البلد، وسوف يفوق ضرر المدى البعيد الناجم عن قرار ترامب بالتخلي عن قانون ممارسات الفساد في الخارج أي فوائد معقولة في المدى القريب.

في عام 1975، قال السيناتور فرانك تشيرش، وهو ديمقراطي من ولاية ايداهو وأحد قادة مفاوضات قانون ممارسات الفساد في الخارج إنه «لم يعد كافيا أن نتنهد ونقول إن هذه هي الطريقة التي تدار بها الأعمال. لقد حان الوقت لمعالجة القضية على حقيقتها: وهي أنها مشكلة خطيرة في السياسة الخارجية». وآنذاك، كما هو الحال الآن، يمثل إنفاذ قانون ممارسات الفساد في الخارج أمرا حميدا للولايات المتحدة. فلا بد من استئناف التحقيقات والملاحقات القضائية، قبل أن يتسبب تعليقها في مزيد من الضرر.

ريتشارد نيفيو باحث أول في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا وزميل مساعد في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. شغل مناصب مختلفة في مجلس الأمن القومي الأمريكي ووزارة الخارجية الأمريكية.

خدمة فورين أفيرز

مقالات مشابهة

  • “روتشستـــر دبـــي” تسلط الضوء على دور الأسرة في الحفاظ على اللغة العربية بالإمارات
  • ليبيا.. إعلام مهاجر من جديد..!
  • السد المنيع للأمراض.. ننشر أنشطة معهد أمراض النباتات خلال فبراير
  • لا نفع لأمريكا في عالم أكثر فسادا
  • صدمة.. باير ليفركوزن يعلن غياب نجمه لعدة أسابيع
  • “الإيسيسكو” و”مقياس الضاد” يعززان شراكتهما بمجال تعليم اللغة العربية
  • شيخ الأزهر: تعلم اللغة العربية عبادة لأنها تُعين على فهم كتاب الله تعالى
  • «الإيسيسكو» و«مقياس الضاد» يعززان شراكتهما بمجال تعليم اللغة العربية
  • كيفية تحويل الأموال من الخارج إلى مصر عبر تطبيق إنستاباي؟
  • هل فعلا سيصدر المغرب زيت الزيتون إلى الخارج