معارك الصُّغد الحامية.. يوم فتح قُتيبة بن مسلم الباهلي بُخارى وسمرقند!
تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT
"إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه، ويذبَّ بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو وقْما (قمعا وخسارة)، ووعد نبيه النصر بحديث صادق، وكتاب ناطق، فَقَالَ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»".
(قتيبة بن مسلم الباهلي مخاطبا جنده عند ديار بخارى)
انطلقت الفتوحات الإسلامية إلى العراق والشام في الأشهر الأخيرة من عُمر الخليفة الأول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في عام 12هـ، وذلك بعد حروب طاحنة قضى فيها المسلمون على المرتدين من القبائل العربية، وأعادوا لملمة شعثهم، ومن ثم عمدوا إلى مواجهة أقوى جبهتين في ذلك الزمان؛ الفُرس الساسانيين والروم البيزنطيين، وعلى مدار عشرين عاما أو يزيد قليلا تمكَّن المسلمون من فتح العراق وبلاد الشام ومصر وأجزاء واسعة من بلاد فارس.
ولكن وفاة عمر بن الخطاب (الخليفة الثاني) -رضي الله عنه- ومقتله على يد أبي لؤلؤة المجوسي في عام 23هـ أحدث اضطرابا في إيران، فقد ارتدت كثير من مناطق الوسط والجنوب الفارسي عن المعاهدات التي أبرموها مع الفاتحين المسلمين في تلك المرحلة، لا سيما في مناطق اصطخر والبيضاء وغيرها، ولهذا السبب قرر الخليفة الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن يُعيّن واليا جديدا على البصرة، يملك حماسة الشباب، وطاقة متدفقة لإعادة المناطق الفارسية إلى طاعة الخلافة الراشدة، ثم يشرع في توسيع عمليات الفتوحات في مناطق خراسان والسند، وصولا إلى الهند.
فتوح خراسانوكان فتح خراسان، وهي المنطقة التي تشمل اليوم أفغانستان وشرق إيران ومناطق جنوب جمهورية تركمانستان، بداية من عام 22هـ، ففي ذلك العام أمر الخليفة عمر بن الخطاب بتدفق الجنود إلى هذه المناطق وفتحها على يد الأحنف بن قيس التميمي، ويبدو من رواية الطبري أن الأحنف بن قيس هو الذي أشار على عُمر بن الخطاب بفتح هذه المناطق؛ إذ يقول: "وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف بن قيس، وعرف فضله وصدقه"[1]، وما بين عامي 18هـ وحتى 23هـ، وهو عام وفاة الخليفة عمر، تمكَّن المسلمون من ضم جميع أقاليم فارس وخراسان.
لكن مقتل عُمر -رضي الله عنه- على يد أبي لؤلؤة المجوسي قد أحدث هزّة عنيفة في إيران التي نفضت يد الطاعة، وانقلبت على المسلمين، وحين استقر القرار لعثمان بن عفان -رضي الله عنه- أعاد هيكلة الولايات وتعيين ولاة جدد، لا سيما ولاية البصرة التي كانت مسؤولة عن عمليات الفتوحات في إيران، وكان واليها حينذاك منذ زمن عمر الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري، فأرسل عثمان قيادة جديدة شابة تمثّلت في عبد الله بن عامر بن كُريز القرشي ابن الخامسة والعشرين ربيعا حينذاك، وقد انطلق منذ وطئت قدماه البصرة في عام 29هـ يعيد السيطرة على هذه المناطق الشاسعة من وسط وجنوب إيران، وكذلك مناطق خراسان. وهو ما يذكره البلاذُري في "فتوح البلدان" حين يقول: "فلما استخلف عثمان بن عفان ولّى عبد اللَّه بن عامر بن كريز البصرة في سنة ثمان وعشرين ويقال في سنة تسع وعشرين وهو ابن خمس وعشرين سنة، فافتتح من أرض فارس ما افتتح ثم غزا خراسان في سنة ثلاثين"[2].
غير أن استشهاد عثمان بن عفان في عام 35هـ وأحداث الفتنة التي استمرت عقب وفاته طوال خلافة علي -رضي الله عنه- ثم في السنوات الأولى في الدولة الأموية في خلافة معاوية أدّت كلها إلى توقف عمليات الفتوحات عند حدود خراسان، وكان الإقليم الذي يجاور خراسان هو إقليم ما وراء النهر، أي ما وراء نهر جيحون الذي يُقال له اليوم أموداريا، وهو يشمل أراضي أوزباكستان وطاجيكستان وأجزاء من كازاخستان وأفغانستان وجنوب قيرغيزستان اليوم، وهي أغلب مناطق تركستان التاريخية.
فتوحات ما وراء النهر الأولى وارتدادها يبدو أن الحكم بن عمرو الغفاري ومن بعده الربيع لم يتوغلا خلف نهر جيحون كثيرا؛ ولكن جاء من بعدهم عبيد الله بن زياد فتوغل في تلك المناطق على الإبل. (مواقع التواصل)بلغ سعيد بن عثمان سمرقند وقد وجد أهلها مستعدين له، حاشدين كل طاقتهم وعددهم، فمكث يوما يريح جنده من عناء الطريق، فلما كان من الغد اشتدّت المعركة بين الجانبين، واستمرت على مدار ثلاثة أيام، وقيل استمرت شهرا كاملا، ويبدو أن الشهر الكامل هي المدة الأرجح؛ لمنعة سمرقند وحصانتها وارتفاعها عن السهول والمزارع المحيطة بها، ونشب القتال بين الجانبين في منطقة لا تبعد عن الأسوار، حتى قيل إن سعيد فقد إحدى عينيه في تلك المعركة، ثم حاصرهم حتى بدا له أن قادة الصغد وكبار أمرائهم وأبنائهم قد انزووا إلى حصن بعيد فحاصرهم فيه، ثم تمكن أخيرا من أسرهم.
فلما رأى أهل سمرقند أسر كبرائهم وافقوا على الصّلح والتبعية للمسلمين كما فعل أهل بخارى على أن يدفعوا سبعمئة ألف درهم، وأن يعطوا المسلمين رهنا من كبار أمرائهم، وأن يدخل المسلمون المدينة، فدخلها سعيد في ألف فارس وسار فيها حتى خرج من الباب الآخر، ثم انصرف إلى عسكره ورجع من سمرقند إلى ترمذ في الجنوب وعبر نهر جيحون صوب مرو عاصمة خراسان، يقول الطبري: "وناهضه الصغد، فقاتلهم فهزمهم وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا منهم خمسين غلاما يكونون في يده من أبناء عظمائهم، وعبر فأقام بالترمذ، ولم يف لهم، وجاء بالغلمان الرهن معه"[5] إلى مرو.
قتيبة بن مسلم الباهلي وفتح بخارى وسمرقندوهكذا كان الفتح الأول لسمرقند على صعوبته صُلحا بين الطرفين على شروط وجزية مع ضمان الحكم الذاتي للصغد والترك لهذه المناطق، الأمر الذي سمح لهم بانتقاض العهود مرة بعد أخرى، وبعد وفاة معاوية وارتقاء ابنه يزيد بن معاوية للخلافة، أحب والي خراسان حينذاك سلْم بن زياد أن يؤكد سيادة المسلمين على سمرقند فعبر إليها سنة 62هـ، فجدّد أهلها الصلح والتعاهد معه، وأدوا إلى سلم الجزية وهدايا أخرى كثيرة أُرسلت إلى مقر الخلافة في دمشق، ولكن بعد وفاة يزيد بن معاوية في عام 64هـ والصراع الذي نشب بين عبد الله بن الزبير في الحجاز والجزيرة العربية من جهة، وعبد الملك بن مروان من جهة أخرى، فضلا عن استغلال بعض ولاة هذه المنطقة للأوضاع مثل موسى بن عبد الله بن خازم والي ترمذ المتمرد على ولاة خراسان الذي حال دون عبورهم نهر جيحون لأعوام طويلة حتى مقتله في عام 85هـ/704م، كل ذلك أدى إلى هذا تعطيل إعادة الفتوحات[6].
قُتيبة من مسلم الباهلي كان بخلاف مَن سبقوه من الفاتحين أشد حرصا لا على تأكيد السيادة الإسلامية فقط، بل وعلى نشر الإسلام، لا سيما مدن مثل بخارى وسمرقند وغيرها. (مواقع التواصل)في غضون ذلك، أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق والشرق الإسلامي عامة قائدا جديدا إلى هذه المنطقة وهو قُتيبة بن مسلم الباهلي في عام 86هـ/705م، ذلك الذي لن يتمكن من تأكيد السيادة الإسلامية على سمرقند وبلاد الصغد فقط، بل ستمتدّ فتوحاته حتى يطرق أبواب الصين هنالك عند مدينة كاشغر وما وراءها.
والحق أن قُتيبة من مسلم الباهلي كان بخلاف مَن سبقوه من الفاتحين أشد حرصا لا على تأكيد السيادة الإسلامية على هذه المناطق فقط، بل وعلى نشر الإسلام فيها، لا سيما حواضرها الكبرى مثل بخارى وسمرقند وغيرها، ومنذ وطئت قدماه خراسان وما وراء النهر سنة 86هـ عزم على العبور إلى ما وراء النهر عدة مرات بجيوش كثيفة، وقد امتاز قتيبة بطيب الخلال، وحرصه على نشر الإسلام، حتى إن الطبري ينقل عنه بعض خطبته التي قالها لما جاء أول مرة إلى تلك المناطق، وجاء فيها:
"إن الله أحلّكم هذا المحل ليعزّ دينه، ويذبَّ بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو وقْما (قمعا وخسارة)، ووعد نبيه النصر بحديث صادق، وكتاب ناطق، فَقَالَ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ». ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب، وأعظم الذّخر عنده فقال: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، إلى قوله: «أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ» ثم أخبر عمن قُتل في سبيله أنه حيّ مرزوق، فقال: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)"[7].
بمثل هذه الروح انطلق قُتيبة بن مسلم في بلاد ما وراء النهر، وسرعان ما كان النصر حليفه، والمغانم طوع بنانه، فقد استولى على مدينة بيكند على طريق بخارى، واستعان المسلمون بغنائمها على مواصلة العمليات العسكرية في تلك المناطق، وفي عام 88هـ تمكن من فتح بعض نواحي بخارى، ثم تأكيد السيادة الإسلامية على بخارى ذاتها وفتحها عام 90هـ، ولم يقبل من أهلها الحكم الذاتي كما فعل الفاتحون المسلمون من قبله، وإزاء هذه الفتوحات السريعة التي بلغت الآفاق، خاف الصُّغد في سمرقند من قُتيبة، وأرسل زعيمهم طرخون إليه فدية كبيرة، وبالفعل رجع قتيبة هذه السنة عن سمرقند، ولكن في ربيع العام التالي 91هـ انطلق صوب نواحي سمرقند مثل كش ونسف وغيرها، ولم يتعرض له طرخون خوفا من قوته، ولما رأى أهل الصغد جُبن طرخون عن مواجهة قتيبة بن مسلم وجيوشه وتقاعسه ثاروا عليه، وسجنوه وعينوا بدلا منه قائدا جديدا اسمه غُوزك، جاء بروح انتقامية وثورية ضد المسلمين.
خريطة لِبلاد ما وراء النهر خلال القرن الثامن الميلادي. (ويكيبيديا)وإزاء هذه التطورات في سمرقند انتهج قُتيبةُ نهج المفاجأة والخداع العسكري، فأظهر أنه يريد الحرب ولكنه عمل على المناورة والخداع والتمويه، فأظهر أنه يريد سمرقند ونواحيها أولا، ولكنه اتجه شمالا إلى خوارزم وفتحها بسهولة، وقياسا على تكتيكات قتيبة السابقة توقع أهل سمرقند أنه لن يغزوهم في ذلك العام، وهو ما أكدته تحركات قتيبة بالفعل، حيث أرسل الغنائم والثقل العسكري مع أخيه عبد الرحمن بن مسلم إلى مرو عاصمة خراسان، ثم كتب إليه وهو في الطريق أن يوجه الثقل في سرية تامة إلى سمرقند على أن يلحق به هنالك ببقية الجيش[8].
هنالك وقف قتيبة في جيشه خطيبا يقول: "إن الله قد فتح لكم هذه البلدة (خوارزم) في وقت الغزو فيه ممكن، وهذه السُّغد شاغرة برجلها، قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، منعونا ما كنا صالحنا عليه طرخون، وصنعوا به ما بلغكم، وقال الله: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ»، فسيروا على بركة الله، فإني أرجو أن يكون خوارزم والسُّغد كالنضير وقريظة"[9].
وبالفعل التقى الجيشان عند أسوار سمرقند، حين ذلك أُسقط في أيدي الصغد، وأرسلوا على الفور إلى ملوك الترك والصين وفرغانة وغيرهم ليمدوهم على المسلمين، وكان قتيبة قد خصَّص فرقة للاستطلاع والمراقبة تمكنت من استكشاف مجيء قوات تركية كثيفة، واستطاع صالح بن مسلم أخو قتيبة وعبد الرحمن أن يوقعها في فخّ أعدّه لها، مع حصار شديد ورمي بالمجانيق، وهجوم لا يتوقف من قتيبة ورجاله، حتى انثلم في سور المدينة ثلم، حين ذلك انكسر أهل سمرقند، واستسلموا وأعلنوا الهزيمة والصلح على شروط قتيبة، وقد اشترط عليهم أن يؤدّوا مليون (ألف ألف) درهم عاجلة، ومئتي ألف درهم سنوية، وبالإضافة إلى جزية من الرؤوس تكون من الشباب فقط، وأن تُحرق الأصنام التي كانوا يعبدونها، وأن تُهدم بيوت النيران التي كان يتعبّد فيها المجوس الزرداشتية، ولأول مرة يأمر قتيبة ببناء مسجد جامع في سمرقند، ثم وهو الأهم أن يوطّن فيها المسلمون بأُسرهم وأبنائهم[10].
ولم يتوقف عند هذا الحد، فقد علم غدرهم ونكوصهم عن معاهدات الصلح مع المسلمين من قبل، ولهذا عيّن عليها أخاه عبد الله بن مسلم الباهلي، وأضاف إليه حامية عسكرية كبيرة لأول مرة. وهكذا دانت سمرقند للمسلمين على يد قُتيبة بن مسلم الباهلي هذا القائد الكبير الذي استمرت فتوحاته في تركستان وصولا إلى الصين التي أجبر إمبراطورها على دفع الجزية للمسلمين، كما يثبته كُتّاب التواريخ كالطبري وابن أعثم والبلاذري وغيرهم، وذلك تاريخ غابر وعامر، حيث لا يكاد يُصدّق أن يفتتح المسلمون في أزمنة قليلة من حدود الصين إلى جنوب فرنسا!
_______________________________________
المصادر
[1] تاريخ ابن جرير الطبري 4/94. [2] البلاذري: فتوح البلدان ص390. [3] ابن أعثم الكوفي: الفتوح 4/190. [4] ياقوت الحموي: معجم البلدان 3/409. [5] تاريخ الطبري 5/306. [6] تاريخ الطبري 6/398، 399. [7] السابق 6/424. [8] ابن أعثم الكوفي: الفتوح 7/236، 237. [9] الطبري: السابق 6/472، 473. [10] الطبري: السابق 6/475.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: هذه المناطق عبد الله بن ن المسلمون فی تلک على ید فی عام فی ذلک
إقرأ أيضاً:
عُمان التي رأيت
أن تحظى بمرافقة ملك البحرين في زيارة دولة، وتحديداً لسلطنة عُمان، واحدة من أبرز المحطات التي ستظل محفورة في ذاكرتي بكل تفاصيلها. منذ اللحظة الأولى لوصولنا مسقط، شعرت بعمق الترحيب وكرم الضيافة الذي لم يكن مجرد مظاهر أو بروتكول، بل عكس أصالة الشعب العُماني وصدق مشاعره.
كرم الضيافة والبروتوكول المُبهر
منذ اللحظة التي وطأت فيها قدماي أرض عُمان، والتي سبقت وصول الملك بيوم واحد.. وفي كل خطوة أنبهر أكثر وأكثر بدقة المراسم والبروتوكول الذي أُعد لاستقبال الوفد. كانت كل التفاصيل استثنائية، فالجميع يقابلك بابتسامته العمانية الساحرة، التي تحتفي بكَ أيّما احتفاء، فتشعر وكأنك في وطنك. حيث يرافقك في كل خطوة اهتمام بالغ.
ولعل ما أضفى على هذه التجربة المزيد من الاحتفاء، مرافقة الأخوين العزيزين قصي أبو الفضل وخلف بومحمد من المراسم السلطانية، اللذين جسدا كرم الضيافة العُمانية بأبهى صوره. لم يدخرا جهدًا في تقديم كل ما يمكنهم من اهتمام وكرم بالغ، ولو كان بإمكانهم أن يحملونا على أكتافهم لفعلوا. شعرنا جميعاً في كل لحظة بالدفء الذي يعكس روح هذا الشعب العظيم.
بين الطبيعة
يكفيك أن تستيقظ في أول صباح لتتناول فطورك على وقع زخّات المطر في مطعم الفندق المُطل على ساحل خليج عمان، والذي تلفّه الجبال الشاهقة التي يتّسم بها هذا البلد الجميل، ليأتيك مسؤول المطعم العماني ”علي“ الذي يحمل في ابتسامته وبشاشته الروح العمانية الأصيلة ويزهو بك ويملؤك بالترحيب حتى تتقطّر خجلاً.
والفندق بحد ذاته قصة مثيرة، فبهو الاستقبال في ”الطابق الرابع“، بينما غرف الإقامة توزّعت بين الثاني والثالث!.
عبق الماضي وروح الأصالة
يكفي أن تشم رائحة اللبان في كل مكان لتتأكد أنك في "سوق مطرح". فتشعر وكأنك تسير في رحلة عبر الزمن. الأزقة الضيقة والمحال الصغيرة المليئة بالقطع التراثية المختلفة، من الحُلي التقليدية إلى العطور والبخور، كانت تعكس طابعًا خاصًا لهذا السوق. اشتريت بعض التذكارات التي ستظل دائمًا تُذكرني بهذا المكان الساحر. كان الباعة يتحدثون بحب عن منتجاتهم، ما أضفى على الزيارة طابعًا إنسانيًا دافئًا.
ومن هذا المكان العريق، كانت أول جولاتنا في عمان يوم الوصول.. ولن أنسى ذلك العُماني بلحيته البيضاء النقيّة الذي استوقفنا في السوق ورحّب بنا أيّما ترحيب!، وأصرّ علينا أن نرافقه ليستضيفنا ويُكرمنا دون أن يعرف من أين نحن وسبب زيارتنا لهذا البلد العظيم. لنكتشف فيما بعد أنه أحد تُجّار سوق مطرح.
روحانية تُلامس القلب
عندما دخلت جامع السلطان قابوس الأكبر، شعرت بهيبة المكان وسكونه الذي يلامس الروح. كان الجامع بتصميمه الفريد وزخارفه الهندسية المتقنة تجسيدًا للجمال الإسلامي الذي يعانق البساطة والرهبة. يكفيك أن تعرف أن السلطان قابوس -طيب الله ثراه- كان يهتم بهذا المعلم، حيث جعله منارةً للإسلام ورمزًا للتسامح والحداثة المتناغمة مع الأصالة.
ما أثار إعجابي أكثر هو مركز التعريف بالإسلام المصاحب للجامع. هذا المركز يعمل بأسلوب بسيط ومؤثر، حيث يهتدي من خلاله بين 600 إلى 700 إنسان سنويًا لهذا الدين العظيم. ما يميز هذا الجهد أنه يركز على هدايتهم للإسلام دون توجيههم لمذهب بعينه، بل ينصب الهدف على إيصال الرسالة السامية للإسلام. كانت هذه المبادرة تمثل تجسيدًا عمليًا لمعاني التسامح والاعتدال التي تُعرف بها عُمان.
إلى جانب ذلك، تحيط الجامع حدائق أندلسية تأسر القلب بجمالها وتناسقها، حيث تجتمع النباتات والأشجار في لوحة فنية متناغمة تُشعرك وكأنك في أحد قصور غرناطة. أما الزخارف في الجامع، فهي قصة بحد ذاتها؛ أنماط هندسية دقيقة تتشابك مع الخط العربي الأنيق لتخلق مشهدًا بصريًا يخطف الأنفاس.
صرح الثقافة والفن
لا يمكن أن أنسى زيارتي لدار الأوبرا السلطانية، هذا المكان الذي يجسد الفخامة والإبداع الفني. كانت أمسية استثنائية، حيث حضرت عرضًا موسيقيًا للفرقة الموسيقية العسكرية، بحضور جلالة الملك الأجواء كانت ساحرة، والمكان بحد ذاته تحفة معمارية تُبرز اهتمام عُمان بالفنون والثقافة.
ما شدني بشكل خاص في دار الأوبرا هو الزخارف المبهرة التي تزين جدرانها وسقفها، حيث تعكس مزيجًا متناغمًا من التراث العُماني واللمسات العصرية. الزخارف تحمل روح الأصالة، مستوحاة من الهندسة الإسلامية والنقوش التقليدية، لكنها تُقدَّم بأسلوب حديث يليق برقي المكان. شعرت بالفخر أن تكون لدينا في المنطقة مثل هذه الصروح التي تعكس حضارتنا.
ويكفي الوصف الذي وصفها به جلالة الملك في كلمته بسجل كبار الزوار بأنها "تمثل تجسيدًا حقيقيًا للفن والثقافة في سلطنة عمان الشقيقة، إن هذه الدار تمثل رمزًا للارتقاء والتعبير عن الهوية العمانية الغنية بالثقافة والإبداع والتجديد"..
العشاء السلطاني
أما قصر العلم، فهو لوحة معمارية فريدة تتجلى فيها الفخامة والجمال. زخارفه تأسر العين، حيث يبرز اللون البني في تصميمه، ممزوجًا بارتفاع أسقفه وإضاءاته المذهّبة التي تعكس رقي المكان وعظمته. كان العشاء السلطاني الذي أقامه جلالة السلطان لأخيه جلالة الملك المعظم في قاعة مهيبة داخل القصر، حافلًا بالحفاوة البالغة والضيافة الرفيعة.
كانت مراسم العشاء دقيقة ومنظمة، حيث تجلَّت أبهى صور المراسم السلطانية، بدءًا من انسيابية الحركة والسير المنتظم، وصولًا إلى الترحاب الدافئ الذي يملأ الأجواء. لن أنسى "الكنعد" العُماني، هذا الطبق الفريد الذي لا يزال مذاقه العذب على لساني.
وكان لي وافر السعد أن جلست بجوار سفراء موقّرين من الخارجية العُمانية ”مبارك الزكواني“ و“خالد الجرادي“. أبهرتني أحاديثهم التي تنم عن ثقافة واسعة وروح عُمانية أصيلة. حتى أننا في بعض الأحيان كنا ننسى الأطباق التي أمامنا، غارقين في حديث يفيض بالمعرفة والإلهام.
ختام المذكرات: أثر عُمان في نفسي
لا تكفي كلمات الشكر والثناء عرفاناً بالحفاوة والضيافة التي غُمرنا بها من لدن جلالة السلطان هيثم بن طارق، ومن هذا الشعب الغالي جداً على قلوبنا، وماهو إلا تقديراً وإجلالاً لمقدم جلالة الملك المعظم وترحيباً بزيارته التاريخية لهذا البلد العريق.
زيارتي لعُمان تجربة فريدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. أعود إلى البحرين محملاً بالذكريات الجميلة واليقين بأن هذه الزيارة ستكون فصلاً جديداً في سجل التكامل والتعاون بما يعود بالخير والنماء على بلدينا العزيزين.