تعتبر قضية المقابر الجماعية في العراق من أبرز الملفات الشائكة التي عملت الحكومات العراقية على معالجتها بالتعاون مع الأمم المتحدة، إلا أنها واجهت تحديات إنسانية وسياسية كبيرة وعراقيل "بيروقراطية"، وفق خبراء.

وتضم المقابر جثث ضحايا الصراعات المتعاقبة، بما في ذلك الإبادة الجماعية التي ارتكبها صدام حسين بحق الأكراد عام 1988، وعمليات القتل الجماعي التي ارتكبها تنظيم "داعش" بين 2014 و2017.

وقدر "المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق" أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص.

ووفق منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن لدى العراق واحدا من أكبر أعداد المفقودين في العالم، ويقدر عددهم بين 250 ألف ومليون شخص، يُعتقد أن الكثير منهم دُفن في مقابر جماعية.

وبين 2017 و2023، دعم فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم المرتكبة من جانب داعش" (يونيتاد) دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية، ودائرة الطب العدلي، التابعتين للحكومة العراقية.

والفريق الأممي، الذي تم إنشاؤه بموجب قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة" في 2017 ساعد السلطات العراقية على استخراج الرفات البشرية لمساعدة الأهالي في التعرف على هويات ذويها، وكذلك في توفير أدلة جنائية يمكن أن تكون مفيدة لإدانة مرتكبي جرائم القتل.

وساعد الفريق العراق في استخراج 1237 جثة من 14 مقبرة لضحايا مجزرة معسكر سبايكر، حيث قتل تنظيم "داعش" جنودا وطلابا عسكريين فروا من أكاديمية تكريت الجوية بين 12 و14 يونيو 2014.

ومؤخرا، في 28 مايو 2024، أعلنت السلطات العراقية و"يونيتاد" نبش "حفرة علو عنتر"، وهي مقبرة جماعية في قضاء تلعفر. ويُعتقد أن المقبرة، التي تقع على بعد حوالي 60 كيلومتر غرب الموصل، تحتوي على جثث أكثر من ألف شخص.

ويذكر أنه بين 2014 و2017، استخدم "داعش" الحفرة لإعدامات جماعية وإلقاء الجثث فيها.

وبناء على طلب الحكومة العراقية، اختار مجلس الأمن تمديد ولاية "يونيتاد" لمدة عام إضافي واحد فقط، مما يعني أنه سيوقف عمله في سبتمبر 2024، وهو ما سيضع تحديات كبيرة أمام الحكومة العراقية، وفق المحلل السياسي العراقي، أحمد الياسري، الذي تحدث مع موقع الحرة.

وتقول هيومن رايتس ووتش إن "هناك مخاوف من ألا تسد السلطات العراقية الفجوة التي سيخلفها يونيتاد".

وقال رجل عُثر على رفاة والده وشقيقه واثنين من أعمامه في مقبرة جماعية جنوب سنجار للمنظمة: "كان أملنا الوحيد كضحايا وناجين هو "يونيتاد". ستزداد الأمور سوءا عندما يغادرون. لست متأكدا من أن لدى الحكومة العراقية القدرة على سد الفجوة التي ستتركها مغادرة يونيتاد".

ويشير الياسري، في تصريحاته لموقع الحرة، إلى أن فكرة فتح ونبش المقابر تعود إلى فترة مشاركة المناطق الجنوبية والوسطى في انتفاضة عام 1991، ومشاركتهم في البحث عن المفقودين، وهو ما جعل الشعب العراقي ينتبه لهذه القضية.

ويرى أن المقابر "ظاهرة طبيعية" لكثرة الصراعات واستمراها في العراق، بدءا من الحرب العراقية الإيرانية، وحرب الخليج، والانتفاضة الشعبية 1991، مرورا بأحداث 2003، والحرب الطائفية بين 2004 إلى 2007، ثم حرب "داعش" بين 2014 إلى 2017، ثم ما تلاها من عمليات تغييب قسري للضحايا.

لكن إثارة الموضوع الآن مرتبطة باقتراب مغادرة البعثة الأممية، التي تأسست بقرار من مجلس الأمن 2379 لعام 2017، الداعي إلى تعزيز جهود المسائلة عن الإبادة والقتل للشيعة والسنة والإيزيديين وغيرهم من الطوائف والأعراق.

وقال عيسى سعدو، الناشط الإيزيدي المقيم في ألمانيا، لموقع الحرة، إن "موضوع المقابر شائك في العراق لأن هناك مقابر تعود إلى زمن النظام السابق الذي نفذ إعدامات لسكان مناطق الجنوب، وكذلك حملات الأنفال وغيرها في كردستان".

وقال سعدو إن "داعش" المسؤول عن أكبر عدد من هذه المقابر، خصوصا في مناطق الإيزيديين، مشيرا إلى مقبرة الأمهات الشهيرة، حيث قتل "داعش" ودفن النساء الكبيرات بالسن في سنجار، كذلك مقابر كوجو، جنوب شرق سنجار، ومقابر حردان، شمال المدينة، فضلا عن مقابر في ناحية القحطانية، جنوب المدينة، ومقابر أخرى يتجاوز عددها 90 مقبرة.

ويوضح أنه يتم العثور على مقابر جديدة، أي أن عدد المقابر في زيادة.

ورغم كل هذه "الأرقام المهولة، ليست هناك جهود ملموسة لرفع الرفات رغم مسؤولية فريق التحقيق الأممي مع الدولة العراقية عن ذلك". وقال: "عدد المقابر كبير جدا، والجهود ضعيفة للأسف".

ويشير سعدو إلى أن انتهاء مهمة فريق التحقيق، بناء على طلب من الحكومة، قد يؤدي إلى إهمال الملف، ونسف الجهود التي ربما بذلت بالفعل لمعالجته.

ودعا الناشط إلى اهتمام جدي بمسألة المقابر الإيزيدية لأن عددها كبير "وحتى لا تتكرر مثل هذه الجرائم خصوصا بحق الأقليات لأنهم دائما الطرف الأضعف في الحروب"، ولأن إهمال المقابر "قد يعطي فرصة لجهات معينة، وحتى جهات إرهابية للعبث بهذه المقابر وبالتالي إخفاء الجرائم والدلائل".

وقالت سارة صنبر، باحثة العراق في هيومن رايتس ووتش: "المقابر الجماعية تذكير مؤلم بأكثر فصول التاريخ العراقي عنفا، ونبشها أمر بالغ الأهمية للسماح لأسر الضحايا، والبلاد بأكملها، بالحصول على أي أمل في العدالة والتعافي من هذه الجروح. يحق للناس معرفة مصير أحبائهم ومنحهم دفنا لائقا وكريما".

وقالت المنظمة إنه، ومن أجل تعزيز العدالة والمساءلة للضحايا وأسرهم، "ينبغي للحكومة العراقية تكثيف الجهود لاستخراج الجثث من القبور، وتحديد هوية الضحايا، وإعادة الرفات إلى الأسر لدفنها بشكل لائق، وإصدار شهادات الوفاة، وتعويض الأسر، كما يقتضي القانون العراقي".

وقال ضياء كريم طعمة، مدير عام دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية التابعة للحكومة الاتحادية العراقية، للمنظمة، إن المسؤولين نبشوا 288 مقبرة جماعية منذ 2003.

لكنه أضاف: "ما دمنا لا نملك سجلا وطنيا موحدا، لا وسيلة لنا لمعرفة عدد المدفونين في المقابر الجماعية".

ويشير الياسري في تصريحاته لموقع الحرة إلى أن هذا الملف "يصطدم دائما بالبيروقراطية العراقية، وقدرات الحكومات العراقية المحدودة". 

وعلى سبيل المثال، يوجد مختبر واحد في بغداد يتولى فحص الجثث، ولا يسمح للمختبرات في المحافظات أن تقوم بهذا العمل، فضلا عن صعوبة استخراج الجثث، لذلك دعمت المنظمة الدولية إدارة الطب العدلي وإدارة شؤون حماية المقابر في هذا الشأن.

ويرى الياسري أن القضية تحمل أيضا أبعادا سياسية مثلما تحمل أبعادا إنسانية، فالحملات الأمنية التي رافقت البحث في هذا الملف، خاصة بعد 2014، أسفرت عن اعتقال العديد من الأشخاص بتهم الإرهاب، وهو ما أثار إشكالية بين الكتل السياسية.

ويقول إنه على سبيل المثال، تقول الكتل السنية إنه تم اعتقال العديد من أبناء طائفتها بقرارات تعسفية فقط لأنهم يسكنون المناطق التي كانت تحت سيطرة "داعش"، لذلك تحول الموضوع إلى "مانشيتات سياسية في الانتخابات، وتعهدت الكتل السنية بمعالجة هذه الظاهرة لأن الكثير من أبنائها اعتقلوا دون ارتكاب جرائم، وفق ما يقولون".

وتم ضمن هذا السباق السياسي اقتراح فكرة قانون العفو العام عن مرتكبي بعض الجرائم.

وفي هذا السياق، "غازلت الكتل الشيعة قواعدها بالتأكيد على عدم شمول المتهمين بجرائم إرهابية في العفو العام"، وبات النقاش محصورا في: من هم المشمولون بهذا العفو؟ ما هي الجرائم التي يتمتع على أساسها المشمولون بهذا العفو؟".

وهذا يعني أن المقابر لم تترك أثرا إنسانيا فقط، وتركت أثرا سياسيا أيضا، وتحولت إلى برامج سياسية تتنافس عليها الكتل.

ويتوقع الياسري استمرار القضية في الفترة المقبلة لأن الحكومات العراقية "كشفت بمشاركة المنظمة الدولية أجزاء من الحقيقة، ولم تكشف الحقيقة كاملة، لذلك سيبقى ملفا شائكا".

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: المقابر الجماعیة فی العراق جماعیة فی

إقرأ أيضاً:

في قلب العاصفة المالية: المصارف العراقية تناضل ضد الهيمنة الأجنبية

8 سبتمبر، 2024

بغداد/المسلة:  تشهد الساحة المالية في العراق جدلاً متزايداً حول دور وتأثير المصارف الأجنبية، وخاصة الأردنية، على أداء السوق المالية المحلية، إذ يثير هذا التغلغل مخاوف حقيقية بشأن قدرة المصارف العراقية على مواجهة التحديات التي يفرضها وجود هذه المصارف ذات الخبرات الواسعة والعلاقات الدولية المتينة.

والمصارف الأجنبية، التي تتمتع بثقة أكبر من المؤسسات المالية العالمية، تُقدّم خدمات متطورة تلبي احتياجات السوق بطريقة حديثة تتجاوز في كثير من الأحيان إمكانيات المصارف المحلية.

وهذا التفوق يعزز من مكانتها في السوق العراقية، ويجعلها الخيار الأول للعديد من الشركات والأفراد الذين يبحثون عن خدمات مصرفية موثوقة وسريعة، خاصة في ظل تقييد المصارف المحلية بالعقوبات التي تفرضها وزارة الخزانة الأمريكية، والتي أضعفت قدرتها على التعامل بحرية مع الأسواق العالمية.

ضعف التزام المصارف المحلية بالمعايير الدولية

وعلى الرغم من وجود بعض المصارف المحلية التي تتمتع بخبرة واسعة في فهم احتياجات المواطن العراقي، إلا أن ضعف التزامها بالمعايير الدولية يعرقل تطورها ويضعف قدرتها على المنافسة.

ووفقًا للمختص الاقتصادي نشأت كامل، فإن “إعادة تقييم دور المصارف الأجنبية في العراق خطوة حيوية لتعزيز الشفافية ودعم النمو الاقتصادي”. ويرى كامل أن تطوير المصارف المحلية لتصل إلى مستوى المصارف الأجنبية أمر ضروري لتحقيق هذا الهدف.

في هذا السياق، دعا الخبير الاقتصادي أحمد عبد ربه البنك المركزي العراقي إلى إعادة النظر في سياساته المتعلقة بعمل المصارف الأجنبية، وخاصة الأردنية منها. وذكر عبد ربه أن “البنك المركزي يتبنى سياسات ازدواجية تفضّل المصارف الأجنبية على حساب القطاع المصرفي المحلي”.

وأشار إلى أن المصارف الأجنبية تستحوذ على الجزء الأكبر من عمليات التحويل المالي في العراق، مما يهدد استمرارية المصارف المحلية التي تواجه عقوبات من الولايات المتحدة.

القطاع المصرفي العراقي بين الخطر والفرص

ويشير المتخصصون إلى أن القطاع المصرفي العراقي يعاني اليوم من مشاكل هيكلية كبيرة، تثير المخاوف من انهياره بشكل كامل، كما حدث مع القطاعات الصناعية والزراعية.

ويتخوف الخبراء من أن يؤدي هذا الوضع إلى اعتماد العراق بشكل أكبر على الاستيراد الخارجي لتلبية احتياجاته.

في هذا السياق، يُعتبر الملف الاقتصادي والمصرفي في العراق قضية سيادية تمس الأمن والاقتصاد الوطني بشكل مباشر.

ومن هنا، فإن التحديات التي يواجهها القطاع المصرفي تتطلب تدخلًا حكوميًا فاعلًا لدعم المصارف المحلية وتوفير البيئة الملائمة لها للمنافسة مع المصارف الأجنبية، وذلك من خلال سياسات تنظيمية تضمن توازنًا بين الطرفين بما يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني.

 

 

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

مقالات مشابهة

  • اللحظة التي غيرت مسار التحقيق في قضية نارين غوران
  • المرأة العربية وتحديات التتويج
  • بعد حفر 68 مقبرة جماعية ومعرفة 900 ضحية.. يونيتاد يودع العراق
  • لـ 15 أكتوبر.. تأجيل محاكمة المتهم في قضية «خلية داعش قنا»
  • فريق التحقيق في جرائم «داعش» يستعد لمغادرة العراق
  • القوات العراقية تقبض على إرهابي في بغداد
  • مستشار رئيس الوزراء العراقي: نسعى لإنهاء مهام التحالف الدولي
  • عملية مشتركة لمكافحة الإرهاب والمخابرات تنتهي بالعثور على مبرزات مهمة لداعش في صحراء الانبار
  • في قلب العاصفة المالية: المصارف العراقية تناضل ضد الهيمنة الأجنبية
  • النقد الدولي: ندعم الإصلاحات العراقية التي تبعد سوق النفط عن الأزمات