مواجهات محتدمة تشعل شمال شرقي سوريا.. ما موقع الوساطة الروسية؟
تاريخ النشر: 13th, August 2024 GMT
تتصاعد حدة التوترات على ضفتي نهر الفرات شمال شرق سوريا على وقع المواجهات المتبادلة بين قوات سوريا الديمقراطية "قسد" من جهة، ومقاتلي العشائر في المنطقة وقوات النظام السوري المدعومة بالمليشيات الإيرانية من جهة أخرى، في حين تسعى روسيا عبر نفوذها إلى تهدئة التوتر بين الجانبين في دير الزور.
واشتعلت المواجهات في شمال شرق سوريا، في أعقاب شن مقاتلين مما يعرف بـ"جيش العشائر" هجوما على مناطق سيطرة "قسد" المدعومة من الولايات المتحدة، انطلاقا من مناطق النظام السوري غربي نهر الفرات، الأربعاء الماضي.
وخلال الأيام القليلة الماضية شهدت المنطقة مواجهات وقصف متبادل أطراف النزاع ما أسفر عن قتلى عسكريين لدى الجانبين وضحايا مدنيين.
والجمعة الماضي، قُتل مدنيا بينهم أطفال عقب قصف مدفعي استهدف قرية الدحلة الواقعة في ريف محافظة دير الزور شرق نهر الفرات.
وفي حين ذكرت مصادر محلية أن ميلشيات موالية لإيران كانت وراء "المجزرة"، اتهمت "قسد" قوات النظام السوري بالوقوف وراء الهجوم الذي استهدف كلّا من قريتي الدحلة وجديد بكارة في ريف دير الزور الشرقي.
وفي سياق التطورات العسكرية، تفرض قوات سوريا الديمقراطية حصارا على ما يعرف بـ"المربع الأمني" التابع للنظام السوري في ريف محافظة الحسكة لليوم السادس على التوالي.
ويضم "المربع الأمني" الواقع في مدينة القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة، فروع الأجهزة الأمنية للنظام السوري ومؤسسات الدولة، وسط مساعي روسية لفك الحصار عن النظام وتهدئة التوترات المتصاعدة في المنطقة.
ومساء الاثنين، أعلن قوات سوريا الديمقراطية عن تنفيذ "عملية استهدفت ثلاثة مواقع لقوات النظام السوري في محافظة دير الزور، أسفرت عن مقتل 18 عنصرا وجرح آخرين"، موضحة أن الهجوم جاء ردا على "مجزرتي الدحلة وجديد بكارة".
ووفقا لبيان قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، فإن الهجوم الذي طال نقاط للنظام السوري في قرى على الضفة الغربية لنهر الفرات شرقي دير الزور، هي الكشمة والبوليل والطوب، أسفر عن "مقتل اثنين آخرين في اشتباك منفصل"، فضلا عن تمكنها من "الاستيلاء على 11 بندقية من نوع كلاشنكوف ومعدات عسكرية إضافية".
في غضون ذلك، ذكرت مصادر محلية أن 8 من عناصر ميلشيا "لواء الباقر" الموالية لإيران لقوا حتفهم عقب استهداف مركبتهم بطائرة مسيرة مجهولة الهوية على طريق الدوير - الكشمة بريف دير الزور الشرقي.
"صدامات متكررة"
مدير قسم التحليل السياسي في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، سمير العبد الله، يرى أن "ما حدث في دير الزور خلال الأيام الماضية ليس سوى تكرار للصدامات التي تعيشها المنطقة بين أبناء العشائر وقوات قسد".
ويوضح في حديثه لـ"عربي21"، أن تلك الصدامات تأتي "نتيجة للوضع المتأزم تحت سيطرة قسد، خاصة العناصر غير السورية، وما يرافق ذلك من حرمان للمنطقة من الاستفادة من مواردها النفطية الغنية وتهميش أبنائها".
وكانت المنطقة شهدت العام الماضي انتفاضة شعبية واسعة ضد قوات سوريا الديمقراطية التي تهيمن عليها وحدات الحماية الكردية، في مناطق شمال شرقي سوريا، بما في ذلك دير الزور والرقة رفضا لـ"تهميش المكون العربي وقيام قسد بسرقة ثروات المنطقة".
وفي أواخر آب /أغسطس من العام الماضي، اندلعت الاشتباكات المسلحة التي ترافقت مع سخط شعبي متصاعد في المنطقة عقب اعتقال "قسد" قائد مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل المعروف بلقب "أبو خولة".
وسرعان ما اتسعت رقعة المواجهات حينها إلى مساحات واسعة من مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية، وتصدر إبراهيم الهفل، شيخ قبيلة "العكيدات"، الحراك العشائري ضد قسد، قبل أن ينسحب إلى مناطق النظام السوري مع إعلان قوات سوريا الديمقراطية استعادة سيطرتها وانتهاء العمليات العسكرية يوم 8 أيلول /سبتمبر الماضي.
بحسب سمير العبد الله، فإن الجديد في الصدامات هذه المرة أن "الهجوم انطلق من مناطق سيطرة النظام السوري، وبدعم إيراني، في ظل رغبة النظام وحلفائه في تعزيز نفوذهم بالمنطقة، ومحاولة إيرانية لمناكفة الولايات المتحدة".
"لذلك، لا يمكن وصفه بأنه حراك عشائري، بل إنه حراك إيراني لخلط الأوراق"، وفقا لمدير قسم التحليل السياسي في مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
من جهته، يرى الباحث في مركز عمران للدراسات سامر الأحمد، أن "الهجوم الأخير ضد قسد يأتي بعد مساعي إيران لكسب قوات العشائر، ما أسفر عن تهميش إبراهيم الهفل إلى حد كبير، ليتحول إلى واجهة إعلامية".
ويوضح في حديثه لـ"عربي21"، أن النفوذ الفعلي في الميدان يعود إلى ما يعرف "بأسود العكيدات" التي يقودهم هاشم السطام، إيراني الولاء، حسب تعبير الأحمد.
جهود روسية للوساطة
في السياق، تعمل روسيا، حليف النظام السوري، إلى تهدئة التوترات المتصاعدة في المنطقة وفك الحصار الذي تفرضه قوات سوريا الديمقراطية على قوات النظام السوري في "المربع الأمني" في ريف محافظة الحسكة.
والاثنين، أجرت موسكو جولة جديدة من المفاوضات لبحث فرص التهدئة مع "قسد"، وذلك بالتزامن مع تواصل طرفي المواجهات المشتعلة حشد قواتهما، بالتزامن مع موجة نزوح جماعية للمدنيين.
وذكرت صحف محلية، أن وفدا روسيا يضم عناصر من قوات النظام السوري وضباطا روسيا برئاسة قائد القوات الروسية العاملة في سوريا، سيرغي كيسيل، وصل إلى القامشلي في ريف الحسكة عبر حوامة عسكرية.
وتسعى موسكو إلى الحد من تصاعد التوترات بين قسد والنظام السوري وفك الحصار المفروض على مقار النظام في القامشلي، منذ الأربعاء الماضي، حسب مصادر محلية.
وهذه ثاني جولة تفاوضية تجريها روسيا في ظل المواجهات بين قسد والنظام السوري المدعوم بمليشيات موالية لإيران، حيث وصل يوم الجمعة الماضي وفد ضم كيسيل وضباط من النظام، إلا أن المحادثات لم تسفر عن وقف الاشتباكات المشتعلة.
سمير العبد الله، يوضح أن روسيا أرادت من خلال وساطتها أن تعزز دورها في المنطقة التي تتمركز فيها القوات الأمريكية، وتحقيق مكاسب لحليفها، النظام السوري".
وتنتشر قوات تقودها الولايات المتحدة ضمن ما يعرف بـ"التحالف الدولي" في شكل قواعد عسكرية، في مواقع مختلفة من شمال شرقي سوريا، بما في ذلك محافظة دير الزور التي تحتضن حقول نفط "كونوكو" و"العمر" و"التنك".
ويرى مدير قسم التحليل السياسي في مركز حرمون، أن "فشل الوساطة الروسية يعكس تعقيد الوضع وتشابك المصالح المتضاربة، حيث تجد روسيا نفسها مضطرة للتعامل مع تحديات متعددة في سوريا، بدءا من دعم النظام السوري، مرورا بالحفاظ على علاقات مع قسد، وصولا إلى إدارة التوترات مع تركيا وإيران".
"وقد تستغل قسد هذا التصعيد في تعزيز هيمنتها وسيطرتها الأمنية على المنطقة"، حسب العبد الله.
في السياق ذاته، يشير سامر الأحمد في حديثه لـ"عربي21"، إلى أن الروس يحاولون تهدئة التوترات في المنطقة لكن لم ينجحوا إلى حد كبير"، مستدركا أن "هناك تفاهمات أولية غير واضحة الملامح بعد، تم التوصل إليها حديثا عبر الوساطة الروسية، تشمل منع هجمات العشائر وفتح الطرقات المؤدية للمربعات الأمنية وإدخال المياه".
ويربط الأحمد إمكانية تراجع التوترات في المنطقة بقدرة الوسطاء الروس على الحد من اشتعال المنطقة، موضحا أن "الجميع يضع يده على الزناد"، حسب تعبيره.
في هذا السياق، ذكرت منصات محلية أن "قسد" سمحت بدخول "صهاريج المياه إلى الأحياء الواقعة في المربع الأمني التابع لنظام الأسد" في الحسكة، في إشارة إلى تقدم في الوساطة الروسية.
ويرى الباحث في مركز عمران للدراسات، أن روسيا "تمتلك أدوات سياسية وأمنية للضغط على كل من قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري".
أما سمير العبد الله، يشدد في ختام حديثه لـ"عربي21"، على أن "الوضع العام في المنطقة معقد ومفتوح على جميع الاحتمالات".
و"قد ينجح التدخل الروسي في الحد من التصعيد مرحليا، لكنه قد لا يكون كافيا لمنع تصاعد التوترات على المدى الطويل، خاصة مع وجود العديد من الأطراف المتنافسة ذات الأهداف المختلفة"، وفقا لمدير قسم التحليل السياسي في مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات سياسة دولية سوريا قسد الإيرانية روسيا دير الزور إيران سوريا روسيا دير الزور قسد المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة قوات سوریا الدیمقراطیة قوات النظام السوری الوساطة الروسیة فی المنطقة السوری فی دیر الزور حدیثه لـ ما یعرف فی ریف
إقرأ أيضاً:
العلاقات الروسية السورية.. أبعاد تاريخية واستراتيجية لسورية الموحدة
يناير 31, 2025آخر تحديث: يناير 31, 2025
رامي الشاعر
أفضت المحادثات الروسية السورية -الثلاثاء الماضي- والتي تمخضت عن زيارة وفد روسي رفيع المستوى إلى دمشق برئاسة الممثل الخاص لرئيس الاتحاد الروسي، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف إلى مباحثات إيجابية وبناءة، تركزت على أبعاد العلاقة التاريخية والاستراتيجية بين البلدين وخصوصاً فيما يتعلق باستقلال، وسيادة، ووحدة أراضي الجمهورية العربية السورية.
بالإشارة إلى اللقاء الذي استغرق أكثر من ثلاث ساعات تخلله غداء عمل ضم الوفد الروسي وممثلين عن الحكومة السورية، وممثلين عن مختلف المؤسسات الحكومية الروسية، فقد عكست الزيارة محددات أبعد مما يقال بأن السياسة رمال متحركة، أو مصالح متبادلة، أو خلافات بين حكومتين، بقدر ما جاء اللقاء نابعاً من تاريخية العلاقة بين البلدين وطابعها متعدد الجوانب، والمرتبط ارتباطاً بنيوياً بالثقافة التاريخية والمترسخة في ضمير السوريين، وتطلعاتهم منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.
الزيارة ذاتها، جاءت لتضع النقاط على الحروف، مصححةً الكثير من الخطابات الشعبوية والإعلامية المسيسة التي استهدفت الدور الروسي في سورية، فوضعته في خانة الدفاع عن شخص أو نظام فاسد مستبد، كفرضية لا يمكن لدولة عظمى مثل روسيا أن تضعها في اعتباراتها ومصالحها كحسابات قاصرة وضيقة، بقدر ما جاءت في سياق اتفاقيات وقرارات دولية في مقدمتها القرار 2254 الذي توافقت علية جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، وبرعاية دولية وإقليمية، حيث جلس ممثلو الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي وتركيا والجامعة العربية، الذين أخذوا على عاتقهم ضرورة البدء بتنفيذ القرار كمرجعية أممية، بدءاً من الإجراءات التنفيذية لوقف إطلاق النار، التي تمخض عنها فيما بعد عمليات خفض التصعيد. كما ألزم القرار الأممي جميع الدول في محاربة الجماعات المصنفة إرهابياً استناداً للقرار ذاته، وعلى هذا الأساس القانوني كان التدخل الروسي في سورية في العام 2015، وبعد أن أوشكت دمشق على الدخول في حرب أهلية كان المستفيد الوحيد منها هو تنظيم الدولة الإسلامية، الذي كان يشكل حينذاك القوة الأقوى عسكرياً على الأرض.
لقد طالب النظام البائد مراراً من روسيا الحسم العسكري في إدلب، وفي كل مرة كانت القيادة الروسية ترى في ذلك تجاهلاً لمصير أكثر من أربعة مليون سوري بينهم نازحين من كل المحافظات. الحال ذاته، عندما طلبت القيادة الروسية من رئيس النظام السوري البائد الجلوس مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، للبدء بإجراءات التسوية والانتقال السلمي للسلطة، إلا أنه وفي كل مرة كان يماطل ويطالب بالتسليم غير المشروط لإدلب، وهو ما رأت فيه القيادة الروسية ضرباً من المستحيل، وتجاهلاً للكثير من الهواجس والتحديات الاجتماعية والأمنية لسكان المنطقة الذين يشكلون في غالبيتهم العظمى أشخاصا مطلوبين للنظام.
لم يكن القرار الروسي برحيل الأسد، والطلب من وزارة الدفاع السورية بعدم المقاومة مجرد قرار روسي تم اتخاذه في الساعات الأخيرة وحسب، بقدر ما جاء في سياق متصل، يعود لمراحل ما قبل عملية “ردع العدوان” التي كان مخططاً لها أن تكون حصاراً لحلب لمدة لا تقل عن ستة أشهر.
وفي سياق جاء بين أخذٍ ورد، وصبرٍ وتمهل، سببه التخوف من انفراط عقد الدولة السورية ومؤسساتها، ودخولها في حرب أهلية بين فصائل المعارضة المسلحة والجيش السوري، أدركت روسيا بأن السوريون جاهزون لأي تغيير ما بعد الأسد، وأن الأخير مازال متعنتاً ورافضاً لأية عملية سياسية تفضي لانتقال سلمي للسلطة. وأمام هكذا مواقف اتخذت القيادة الروسية قرارها، فكان ما كان في الثامن من ديسمبر/ كانون الثاني 2024.
في مراحل ما قبل سقوط الأسد، لم تسلم روسيا من اتهامها بفرضية قاصرة سياسياً مؤداها الدفاع عن شخص الأسد. الحال ذاته كان ما بعد سقوط النظام البائد، إذ لم تسلم روسيا أيضاً من اتهامات بعض السوريين، بأن روسيا “سلمت سورية للإرهابيين” حسب زعمهم، و أنّ من جاؤوا إلى السلطة ليسوا على مستوى الكفاءة، متناسين -على أقل تقدير- أن هؤلاء مثلهم مثل أي سوري يناضل لإسقاط الأسد، وأنهم علاوة على ذلك، أفضل بكثير من أداء النظام وأداء باقي مكونات المعارضة في مناطقهم، الذي يوجهون اليوم سهام النقد على السلطة الجديدة، تبريراً لفشلهم، ولمجرد أنهم لم يكن لهم دور في سقوط النظام، بل عدم حصولهم على مناصب في الإدارة الجديدة هذا من جهة، كما انكشافهم وفشلهم في إدارة مناطقهم التي لم تختلف عن مناطق النظام من حيث الفساد والمحسوبيات والصراع على المال والسلطة، وتهميش الكوادر الوطنية، وتجهيل المواطنين وابتزازهم، ولهذا يحجمون عن الاعتراف بأن من دخلوا دمشق هم مناضلون كافحوا من أجل الخلاص من الاستبداد، وتمكنوا من ذلك، فقط لأنهم نجحوا في حوكمة المناطق التي يسيطرون عليها، بالرغم من العقوبات والعزلة المفروضة عليهم، في الوقت الذي فشلت فيه باقي مناطق النفوذ سواء تلك المدعومة من قوى دولية وإقليمية، أو تلك الهيئات السياسية المعارضة التي اعترفت بها غالبية دول العالم.
لنعترف؛ لقد شهدت إدلب خلال حكومة الإنقاذ ما يؤهلها لأن تكون وريثةً، وجسراً لعبور سورية التي خرج من أجلها السوريون مطالبين بالحرية والكرامة، حيث نجحت تجربة حكومة الإنقاذ بتقديم الخدمات للمواطنين، وأسست لنظام صحي وخدمي وتعليمي، وانتشرت الجامعات والمدارس، كما شهدت نوعاً من الحريات العامة وحرية التعبير، وقد شاهد السوريون المظاهرات السلمية في إدلب دون أن تجابه بالرصاص أو التنكيل، وهي الحالة التي لم نشهدها في مرحلة النظام، كما لم نشهدها في مناطق نفوذ المعارضات الأخرى، التي كانت تجابه المحتجين بالرصاص أو التخوين.
لقد قدمت حكومة الإنقاذ في إدلب نموذجاً مصغراً لدولة بخدماتها للمواطنين، وبتوزيعها للمؤسسات الحكومية بين مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية، في الوقت الذي كانت تعاني فيه باقي مناطق النفوذ من حالة سلطوية عسكرية وأمنية، ترافق ذلك مع فقدان للخدمات وغياب للمدارس والتعليم، فتفشت الأمية والفقر والأتاوات والسرقات، وغابت عمليات التنمية في مناطق تشكل خزاناً اقتصادياً في سورية.
هذه المقارنات وحدها كفيلة بأن تفرض حكومة الإنقاذ نفسها كبديل ونواة لحكومة انتقالية شاملة تبدأ بحوار سوري-سوري فعلي، يؤسس لجمعية تأسيسية تعمل على دستور جديد للبلاد. ولهذا يخطأ من يظن بأن الروس كانوا يجهلون هذه التجربة، أو أن الروس يدعمون إرهابيين على حد زعمهم، بقدر ما هو خيار روسي أخذ على عاتقة فكرة الدولة السورية ومؤسساتها، لا أشخاصها، أو مجموعاتها أو تياراتها، وهي الفكرة التي دافع عنها الروس من أجل سورية كشريك استراتيجي، سواء قبل النظام وبعده.
من هذه النقطة بالذات، جاء لقاء الوفد الروسي بالحكومة السورية الجديدة في دمشق، من أجل إعادة سورية كدولة طبيعية تعمل مع دولة عظمى كروسيا لإعادة تموضع سورية في مكانتها الإقليمية والدولية، كدولة موحدة ذات سيادة، ولهذا جاء تقييم الزيارة بأنها إيجابية.
لقد أخذ الطرفان على عاتقهم إنقاذ سورية من مشروع تقسيمها الذي يتربص بها، ولهذا ترى القيادة الروسية بأن من يتولون زمام المبادرة لإنقاذ سورية هم أشخاص لديهم الكفاءة والمسؤولية والوطنية والحرص على سورية وشعبها، وهي عوامل كفيلة لأن تكون نواة لنقل سورية إلى دولة يشارك في بنائها جميع أبنائها على أساس المواطنة المتساوية، بعد أن كانت رهينة بيد ضباط، ووزراء، وأعضاء مجلس شعب، همهم الوحيد الاغتناء على حساب تجويع الشعب السوري، وما على السوريين -دون غيرهم- إلا أن يتكاتفوا ويشاركوا مع سلطتهم الجديدة لعبور سورية إلى بر الأمان، فسورية بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى العامل الذاتي الذي يجمع السوريين، ويوحدهم، وذلك بالنأي بأنفسهم عن النزوع إلى السلطة، كثقافة رسخها النظام السابق.
لقد عكست الزيارة الارتباط الوثيق بعقيدة السوري المؤمن بوحدة كل شبر من ترابه، من المالكية في أقصى الشمال الشرقي في سورية إلى القنيطرة والجولان في أقصى الجنوب الغربي. كما تشير الزيارة مواقف روسيا النابعة من ارتباط السوري بقضيته المركزية فلسطين، كقضية عربية وإسلامية مقدسة، تعد من أولويات السياسية الخارجية الروسية، ولا ينسى السوريون المواقف المبدية والثابتة للاتحاد السوفياتي، التي ورثتها روسيا كمدافعة عن هذه القضايا.
ختاماً؛ وبعيداً عن الإعلام الشعبوي وذبابه الالكتروني الذي مازال يضخ في عقول السوريين إشكاليات تشوش على العلاقات السورية الروسية؛ لا بد من القول، إن علاقة البلدين هي علاقات مبدئية استراتيجية، وهوية سياسية ثابتة لا تتبدل بتبدل الحكومات أو الرؤساء، بل ومرتبطة ارتباطاً تاريخياً بوثاق استراتيجي عصي على المخططات الغربية التي تضع على طاولتها اليوم موضوع تقسيم سورية، من بوابات وهمية كحماية الأقليات وحقوق المرأة وغيرها، في بلد -كسورية- قدم للإنسانية منذ آلاف السنين نماذج حضارية في العدالة الاجتماعية والمساواة والتسامح. فالسوريون قادرون على إعادة وجه سورية الحقيقي، كدولة قوية، سيدة، موحدة، وندّية في علاقاتها مع جميع دول العالم، ومن حسن حظ سورية اليوم، أنها طوت صفحة الاستبداد تزامناً مع تبلور نظام عالمي متعدد الأقطاب، وما عليها إلا أن تُحسن تموضعها في إطار ذلك .