كل يوم جديد يمضي على الشرق الأوسط يباعد بينه وبين السلام سنوات طويلة، ويقوض جدوى الكثير من الاتفاقات التي وقعت طوال العقود الأربعة الماضية، ويبخر أحلام التطبيع الذي سعت له دولة الاحتلال ليكون منفردا بينها وبين كل دولة عربية على حدة، وليست ضمن مشروع عربي واحد كما قررت المبادرة العربية قبل عقدين من الزمن تقريبا.
وكل يوم يمضي تعطي دولة الاحتلال دليلا جديدا أنها لا تعترف بالسلام، ولا تريده أبدا، بل هو بالنسبة لها تقويض لمشروع دولتها ليس بالمفهوم السياسي، ولكن بمفهوم «فلسفة الدولة» الديني الذي تقوم عليه، فهي لا يمكن أن تعترف، أبدا، «بشريك» فلسطيني، رغم أن فلسطين صاحبة الحق التاريخي استجابت للسياق السياسي والضغط الدولي، ووافقت ولو سياسيا على «حل الدولتين».
يعرف الغرب وبما في ذلك أمريكا التي بقيت لسنوات طويلة الراعي الرسمي للسلام في منطقة الشرق الأوسط، وفي القضية الفلسطينية بشكل خاص أن إسرائيل لا يمكن أن تقترب ولو خطوة واحدة باتجاه أي سلام شامل في الشرق الأوسط، وكل ما يحدث طوال السنوات الماضية لم يكن أكثر من لعب بالوقت وفي الحقيقة لعب بسياسة منطقة الشرق الأوسط.
إن الحالة التي يعيشها الشرق الأوسط الآن من ترقب وقلق وغياب اليقين بالخطوة التالية لا تتحمله إسرائيل وحدها، ولكن تتحمله معها الولايات المتحدة التي ما زالت تدعمها سياسيا وعسكريا، وتمارس أعلى درجات الضغط على الكثير من أصدقائها في المنطقة لحماية إسرائيل من أي ضربة إيرانية متوقعة.
لا أحد يريد الحرب أبدا، ولكن يبدو أن انتظارها لا يقل أذى من نارها أبدا، وهذا ما تكشف عنه الأوضاع في المنطقة خلال الأسابيع الماضية، وفي الحقيقة منذ بداية الحرب الظالمة التي يشنها جيش الاحتلال على قطاع غزة، حتى وصل الأمر إلى ما يشبه برميل البارود الذي ينتظر عود ثقاب لينفجر.. رغم أن البعض يرى أن المشهد قد تجاوز عود الثقاب إلى انتظار وصول النار البارود نفسه أما عود الثقاب فقد اشتعل وانتهى الأمر.
ورغم كل ما حدث في غزة وكل الأرواح التي أبادتها إسرائيل، والنيران التي أشعلتها، لكن ردة الفعل العالمية سياسيا ما زالت دون المستوى الإنساني على أقل تقدير إلا حينما يتعلق الأمر بأمن وحماية إسرائيل، فإن الغرب بقيادة أمريكا يجيشون كل طاقاتهم العسكرية والسياسية من أجل ضمان أمن إسرائيل، أما الأبرياء الذين يقتلون كل يوم في غزة فتثبت السياسة العالمية أنها لم تنظر لهم باعتبارهم بشرا يستحقون الحياة.
وشجع هذا الافتقار إلى العمل الحاسم الحكومة الإسرائيلية، التي تواصل عمليات الإبادة. إن صمت المجتمع الدولي، وخاصة من القوى الغربية، لا يؤدي إلا إلى زيادة الطين بلة، مما يعزز الشعور بالظلم واليأس بين الفلسطينيين.
في هذه البيئة الملتبسة والمشحونة، تبدو آفاق السلام أكثر بعدا من أي وقت مضى، والشرق الأوسط يقف على حافة الهاوية التي صنعتها إسرائيل ليس لخصومها فقط ولكن لنفسها أيضا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشرق الأوسط
إقرأ أيضاً:
الفوضى غير الخلاقة في الشرق الأوسط
لست متخصصًا في العلوم السياسية، ولكني باعتباري متخصصًا في الفلسفة يمكن أن يكون لي شأن بفلسفة السياسة، وباعتباري مثقفًا عامًّا لا بد أن يكون لي شأن بالأوضاع السياسية العامة التي تجري من حولنا؛ تمامًا مثلما أن المثقف العام لا بد أن يكون له شأن بوضع الدين في عالمنا بما هو دين، وإن لم يكن متخصصًا في علوم الدين التي تتعلق بتفاصيل الشرائع والأديان وما تنطوي عليه من دراسات مقارنة. الأوضاع السياسية التي تجري في الشرق الأوسط التي بلغت ذروة اشتعالها في عصرنا الراهن، تفرض علينا تأملها ومحاولة فهمها حتى نكون -على الأقل- على وعي بها، ومن ثم نكون قادرين على تحديد مواقفنا منها.
لعلنا نذكر جميعًا المقولة الشهيرة لكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية حتى الفترة السابقة مباشرةً على ثورات الربيع العربي؛ إذ كانت تصف المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط بأنه يهدف إلى إحداث «الفوضى الخلاقة» في هذه المنطقة من العالم، وكانت تقصد بذلك ضرورة إحداث اضطرابات وخلخلة في النظم السياسية القائمة على نحو يسهم في خلق نظم جديدة. ولكن الهدف الحقيقي غير المعلن صراحةً يكمن في بقية العبارة، وهو: خلق نظم جديدة تابعة للسياسات أو المخططات الأمريكية وتخدم مصالحها في المنطقة، وعلى رأسها مصالح إسرائيل ومخططاتها، التي هي ذراع أمريكا والغرب في الشرق الأوسط. نجح المخطط في إحداث الفوضى في العراق وفي ليبيا وفي اليمن وفي السودان، نجح في إحداث الفوضى، ولكنه لم ينجح بأي حال في أن يجعلها خلاقة، سواء بالنسبة للشعوب العربية (على المستوى الظاهري المعلن) أو على مستوى المصالح الأمريكية والإسرائيلية نفسها (على المستوى الحقيقي غير المعلن)؛ إذ تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن: فقد نشأت حركات مقاومة تعادي المخططات الأمريكية في اليمن (الحوثي) وفي لبنان (حزب الله) وفي فلسطين (حماس والحركات الجهادية).
الآن نأتي إلى الوضع الراهن في سوريا، وهو وضع جديد مربك ومحير، وينفتح على سيناريوهات عديدة تستدعي تأملات محايدة للمشهد، أوجزها فيما يلي:
السرعة التي انهار بها نظام بشار الأسد، واستولى بها الثوار على المدن السورية واحدة تلو الأخرى في غضون أسبوع تقريبًا، هو أمر أثار دهشة الناس العاديين والمحللين السياسيين على السواء. وهو ما يدل دلالة قاطعة -كما تبيّن ذلك- على أن هذه الثورة كان مخططًا لها منذ وقت طويل، وكانت مدعومة بقوى خارجية أهمها: تركيا في العلن، وأمريكا وإسرائيل في الخفاء أو على الأقل من خلال الصمت على ما يجري، طالما أنه يجري على النحو المرسوم. ولا شك في أنه لولا هذا الدعم ما أمكن للثوار أن ينتصروا أو يقهروا النظام القائم إلا من خلال حروب دموية طويلة. وليس بخافٍ على أحد أن الدعم الخفي أو الرضا الضمني من جانب أمريكا وإسرائيل يهدف إلى تقليص النفوذ الروسي والقضاء على النفوذ الإيراني في سوريا. ولهذا رأينا روسيا تتخلى عن دعمها لبشار بعد أن أدركت أنها سوف تتكبد خسائر في مواجهة الثورة، بينما هي لديها مواجهات أكثر أهمية بكثير في أوكرانيا. كما أننا رأينا حزب الله يلملم كتائبه ويرحل أفراده مع عوائلهم فارين من سوريا؛ فقد أدركت إيران -مثل روسيا- أن بشار أصبح ورقة خاسرة لا تستحق المراهنة عليها.
كشفت الثورة السورية عن أهوال وفظاعة ووحشية ارتكبها نظام بشار بحق شعبه، من خلال الكشف عما كان يجري في السجون من تعذيب وحشي يفوق الخيال البشري، وإعدامات بالآلاف للأبرياء من المعارضين المدنيين. ولهذا كانت فرحة السوريين عارمة بإطلاق سراح السجناء، وتنفسهم لهواء الحرية لأول مرة منذ عقود عديدة ترجع إلى فترة الأب حافظ الأسد الذي لم يتورع عن إبادة المعارضين من شعبه، فقتل ما يقارب خمسين ألفا من المواطنين في مدينة حماة سنة 1982. ولذلك يحق للشعب السوري أن يفرح ويهنأ بثورته وأن يتطلع إلى مستقبل جديد ينعم فيه بالحرية والديمقراطية.
ومما يستدعي التأمل في مشهد الثورة السورية أن الثوار من حيث مظهرهم ولغة خطابهم يبدون ممثلين لفصيل ديني أو مجموعة من الفصائل الدينية، فلا نجد من بينهم تقريبًا من يمثل المجتمع المدني بسائر أطيافه، وهذا يتبدى حتى في تشكيل الحكومة المؤقتة. حقًا إن زعيم الثوار وقياداتهم يبدون معتدلين ومدافعين عن حقوق الشعب السوري، بل يبدون متحلين بالحصافة السياسية والقدرة على الإدارة. ومع ذلك فإن الحصافة السياسية لا بد أن تُلزِم هذه القيادات الاستعانة بأهل الخبرة من المجتمع المدني في إدارة شؤون البلاد في كل مجال في المرحلة القادمة، وإلا سيكون مصيرهم هو مصير الإخوان الذين أرادوا الانفراد بالسلطة مما عجل بإقصائهم من المشهد. نأمل أن تكتمل الثورة السورية في المسار الصحيح بتحقيق دولة مدنية ديمقراطية، لا دولة دينية؛ لأن النوايا الطيبة -حتى إن كانت خالصة لوجه الله تعالى- لا تكفي وحدها لتأسيس دولة من جديد. ولذلك فإن الثورة لا يزال أمامها طريق شاق وملغوم.