حينما نصف الصهيونية بالوحشية، فإننا بذلك نصدر حكمًا أخلاقيًّا مشينًا على أولئك الذين يُسمون بالصهاينة. وهنا لا بد أن نفرق منذ البداية بين الصهيونية واليهودية؛ ثم بين الصهاينة واليهود بما هم يهود. ذلك أن أكثر الناس يخلطون بين هاتين الصفتين: فاليهود هم من يدينون بالديانة اليهودية من بني إسرائيل، وهؤلاء أهل كتاب؛ فكتابهم هو التوراة، مثلما أن الإنجيل هو كتاب المسيحيين، والقرآن هو كتاب المسلمين؛ ودع عنك الخلافات حول شكل الكتاب وأسلوب تنزيله ومدى موثوقية حفظه بصورته الأصلية.
وعلى الرغم من أن خلفاء داود قد طُردوا أكثر من مرة من الأرض التي احتلوها، فقد ظلوا يحلمون بالعودة إليها. وهكذا فإن الصهاينة هم اليهود الذين قاموا بتوظيف رمزية دينية قديمة للاستيطان في أرض فلسطين، وهذا هو المشروع الصهيوني الذي أسسه تيودور هرتزل، بناءً على وعد بلفور، وهو الوعد الذي جسد رغبة المحتل الإنجليزي في زرع الكيان الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط. ومنذ ذلك الحين أصبح هذا الكيان ذراعًا للغرب يدعمه بالمال والسلاح، وشيئًا فشيئًا أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي رأس الحربة في هذه المنظومة العدوانية، بل أصبحت هي الراعي الرسمي المعلن للكيان الإسرائيلي الذي أصبح بدوره الوكيل المعتمد لممارسة الإمبريالية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط: فإسرائيل هي القاعدة العسكرية الأمريكية الكبرى في هذه المنطقة أو هي كما قال الفيلسوف جارودي في كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»: حاملة طائرات نووية أمريكية في شرق المتوسط. وكل هذا قد أسهم بوضوح في تنامي روح العدوان في نفوس الصهاينة، ما داموا يجدون هذه الحماية الجبارة. وأنا أقول عبارة «تنامي روح العدوان» عن قصد؛ بهدف التأكيد على أن هذه الروح في الاعتداء على الغير واحتلال أرضه والإصرار على العودة إلى تلك الأرض باختلاق تصورات ورموز دينية كغطاء لهذا العدوان، هي روح متأصلة في تاريخ اليهود (بينما اليهود المؤمنون حقًّا يؤمنون بأن الشتات قدرهم، وبأن وعد الله لهم لن يتحقق إلا في نهاية التاريخ!).
وحشية الصهاينة في العدوان والقتل والتدمير قد بلغت أوجها، وأصبحت تستولي علينا أو على كل نفس لا يزال فيها ضمير حي أو شيء من الإنسانية. ومهما حاولنا أن ننصرف عن هذا الموضوع إلى غيره، نجد أنه يلح علينا بحيث لا يمكن تجاهله أو نسيانه بحكم اعتياده.
أعلم أن الكتابة لا تغير شيئًا في الأوضاع الراهنة، ولكنها على الأقل يمكن أن تغير شيئًا في نفوسنا بحيث لا ننسى وضعنا الوجودي، وبحيث يمكن أن تدعم مواقف المقاومة لعدوان ووحشية الاحتلال. بطبيعة الحال، فإنني لا أقصد بذلك مقالي هنا، وإنما أقصد كل مقال وكل كتابة تدعم هذا الاتجاه بحيث تشكل ظهيرًا للمقاومة على الأرض. ولا ينبغي أن يفت في عضد نفوس الشرفاء حول العالم ذلك التصفيق الذي ناله رئيس وزراء هذا الكيان الصهيوني في الكونجرس الأمريكي أكثر من سبعين مرة، فمواقف الساسة- حتى إن كانت حقيقية وليست مزيفة أو مدبرة- هي مواقف تعبر عن الدولة والمصالح والرشاوى أحيانًا بسائر أنواعها، وهي تختلف تمامًا عن مواقف الناس والشعوب؛ وهذا ما رأيناه بالفعل مؤخرًا في مواقف شباب الجامعات المناهض للعدوان الإسرائيلي على أهل غزة، سواء في الجامعات الأمريكية أو غيرها من الجامعات الأوروبية. ولكن الحقيقة المؤكدة هي أن العدوان الصهيوني هو في المقام الأول عدوان أمريكي، بدعم أمريكي وبأسلحة أمريكية.
لا يمكن لنفس بشرية سوية أن تصمت عما تراه من وحشية لا تعرفها سوى الوحوش والمفترسات التي تنقض على فرائسها وتنهشها من دون رحمة. ولكن الوحوش- والحيوانات عمومًا- لا تُسأل عما تفعل؛ لأنها تتصرف وفقًا لغرائزها ومنطق وجودها الذي يجعلها تتغذى بعضها على بعض؛ فلا يُقال للنمر: كان ينبغي أن تترفق بفريستك؛ لأنه يفتقر إلى العقل والضمير؛ ومن ثم يفتقر إلى الأخلاق، ولا يُسأل عنها. فما بالك حينما ترى أناسًا في هيئة البشر لا يمارسون حربًا، وإنما يمارسون وحشية القتل المتعمد للمدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال، بل أحيانًا لكل موجود بشري يتحرك على الأرض في نوع من الإبادة البشرية، وهي الجريمة التي أقرتها محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل.
وحشية العدوان الإسرائيلي غير مسبوقة في التاريخ الإنساني المعاصر على الأقل، ولا نجدها حتى في ممارسات النازية بذلك النحو من البشاعة والتكرار في القتل على الهوية. ومما يدعو إلى الدهشة بروح الأسى على البشر أن أولئك اليهود/ الصهاينة الذين طالما اشتكوا من محرقة النازية لهم المعروفة باسم «الهولوكوست»، والذين طالما ولا يزالون يتاجرون بها، هم أنفسهم الذين يمارسون يوميًّا محارقَ للأبرياء من البشر بمن فيهم الأطفال والرضع الذين يحاول أهلهم حمايتهم من نيران العدو داخل المدارس المدمرة وما شابهها مما يظنونها أماكنَ آمنة. ولكن العدو الوحشي لا يعبأ بشيء من ذلك: فهو لا يعرف شيئًا عن أخلاقيات الخصومة والحرب، بل لا يعرف شيئًا عن الإنسانية نفسها، ولا يتصف بشيء من صفاتها وطبائعها. يكفي هنا أن أذكر مثالًا واحدًا: مشهد الرجال والشباب الذين يجمعون أشلاء وكتل اللحم البشري للأبرياء من ذويهم في جرادل وجوالات؛ وهو مشهد تكرر مرات عديدة آخرها ما جرى في مدرسة التابعين، حيث قصف العدو بلا رحمة عند الفجر أبرياء من المصلين والنائمين. هذا الوصف لمآسي البشر الأبرياء يفوق حتى خيال شوبنهاور في تصويره لمآسي الوجود البشري.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذین ی
إقرأ أيضاً:
تقرير يكشف واقع اليهود المتبقين في سوريا.. كم عددهم؟
تناول تقرير لصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية تصريحات رئيس "منظمة العدالة لليهود من الدول العربية"٬ الحاخام إيلي عبادي، لموقع "واي نت" حول أن عدد اليهود في سوريا كان 13 يهوديًا حتى قبل خمس سنوات، ولكن توفي بعضهم بينما غادر آخرون البلاد.
وفيما يخص اليهود الذين بقوا في دمشق، أضاف الحاخام: "لديهم بيوتهم وهم لا يريدون المغادرة. لقد اعتادوا على الحياة هناك". وقال عبادي إن الأربعة الباقين لا يخشون على حياتهم في ظل الوضع الجديد في البلاد.
وتابع الحاخام: "لم يخشوا من الثورة في سوريا أو من سقوط نظام الأسد. هم يعتقدون أنه لن يمسهم أحد". وأوضح أيضًا: "يمكنهم المغادرة، لكنهم معتادون على الحياة هنا. هم كبار في السن ولا يريدون الذهاب إلى بلد آخر. لديهم أقارب في إسرائيل وأقارب في نيويورك وفي أماكن أخرى في الولايات المتحدة".
وتابع الحاخام قائلًا إن هؤلاء اليهود يذهبون إلى الكنيس، لكنهم لا يستطيعون إقامة صلاة جماعية لأنه لا يوجد لديهم من يصلي معهم.
وأوضح: "نظام الأسد لم يمسهم، لكن المخابرات السورية كانت تراقبهم. لا أعرف إذا كان ذلك لأسباب أمنية أو لمتابعتهم".
مستقبل الأقليات الأخرى
وحذر الحاخام من أن الأقليات الأخرى في سوريا قد تواجه مصيرًا مشابهًا بعد سقوط نظام الأسد، قائلاً: "اليهود لم يعودوا موجودين في سوريا، لكنني أخشى على المسيحيين. ليس هناك وقت طويل. الأقليات لم تحظ بحماية تحت الأنظمة السابقة، وهناك خوف كبير من أنهم سيتعرضون للأذى مرة أخرى تحت النظام الجديد".
في الوقت نفسه، نشرت المنظمة تقريرًا جديدًا يصف سلسلة من الاضطهادات، ومصادرة الممتلكات، وطرد حوالي 30 ألف يهودي من سوريا خلال القرن الماضي.
ألف يهودي خلال القرن الماضي
كما قال الرئيس المشارك للمنظمة سيلفان أبيتبول، إن سوريا كانت منزلًا لجالية يهودية عريقة، مع أدلة أثرية على وجودهم المستمر في مدن مثل دمشق وحلب، حيث كانت أعداد اليهود أحيانًا تتجاوز أعدادهم في إسرائيل.
ومنذ 1943 إلى 1958، انخفض عدد اليهود في البلاد من حوالي 29 ألف و770 إلى أقل من 5 آلاف و400 شخص. وفي عام 1991، بقي أقل من 100 يهودي في سوريا. ووفقًا للتقرير، بقي أربعة يهود فقط في البلاد، جميعهم في دمشق.
وقال ستانلي أورمان، نائب رئيس منظمة العدالة لليهود من الدول العربية: "على مدار 75 عامًا، تجاهل العالم عمليات الطرد الجماعي لأكثر من 850 ألف يهودي من الدول العربية".
وأضاف أبيتبول: "بينما تركز المجتمع الدولي على لاجئي فلسطين، من المهم أن نتذكر أن لاجئي اليهود من المنطقة لا يقلون أهمية". وتابع: "نداء العدالة هذا ليس لتقليل من معاناة الفلسطينيين، بل للاعتراف بأن الصراع في الشرق الأوسط خلق فئتين من اللاجئين".