حذار من الإجماع المفتعل في الاحتياطي الفيدرالي
تاريخ النشر: 13th, August 2024 GMT
اسمحوا لي هنا باستعراض قصة بنكين مركزيين وَقَعَـت أحداثها الأسبوع الماضي. كل من البنكين راسخ منذ أمد بعيد، ويمتد نفوذه إلى ما هو أبعد كثيرا من حدود بلاده، وكل منهما يضطر إلى اتخاذ قرارات تقديرية دقيقة المتوخى منها الاستمرار في خفض التضخم مع تجنب إلحاق ضرر غير مسوغ بالنمو والوظائف. وفي هذه العملية، تنتهي الحال بكل منهما إلى اتباع نهج مختلف تماما في غضون 24 ساعة من الآخر.
بطل القصة الأول هو بنك إنجلترا، الذي يخفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، في أعقاب تصويت بأغلبية خمسة إلى أربعة أصوات، ويعكس هذا تعقيد القضايا الاقتصادية الأساسية. البطل الآخر هو بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي يفخر بصياغة الإجماع ويتوصل إلى تصويت بالإجماع، فقط لكي تنهال عليه الانتقادات من قِبَل المحللين ووسائل الإعلام في الأيام التي تلي قراره.
تُـرى أي البنكين المركزيين يحظى بثقتك أكثر من الآخر فيما يتصل برفاهتك الاقتصادية ورفاهة أسرتك وأصدقائك؟ هذا سؤال مهم، لأن الثقة تدعم قدرة أي بنك مركزي على الوفاء بتفويضه. يستند قسم كبير من البنية المالية اليوم إلى افتراض مفاده أن البنوك المركزية ملتزمة بالحفاظ على ثقة الجمهور في عملية صنع السياسات. ففي نهاية المطاف، يجب أن يكون هدف التضخم مُـقـنِـعا لترسيخ توقعات التضخم؛ وينطبق الشيء ذاته على التوجيه الـمُـسـبَق الذي يهدف إلى تخفيف وعورة تعديلات السياسة بمرور الوقت.
تُدَعَّم الثقة والمصداقية من خلال تقديم قدر أكبر من الشفافية، وهي العملية التي تطورت على مر السنين إلى عقد مؤتمرات صحفية منتظمة ونشر محاضر الاجتماعات ونصوصها. وفي بعض الحالات، يقدم البنك المركزي توقعات كمية ربع سنوية للسياسات الرئيسية والمقاييس الاقتصادية. تعززت مصداقية كل من بنك إنجلترا والاحتياطي الفيدرالي بفضل النتائج الجيدة. لكنهما يختلفان عندما يتعلق الأمر بمقياس مهم يرتبط بالـمُـدخلات: كيفية توصيل عملية صنع القرار السياسي. يُذَكِّـرُني هذا الموقف بمزحة قديمة عن المحامين وأهل الاقتصاد: «على عكس المحامين، الذين يمكنهم أن يسوقوا الحجج عن يقين تام حتى عندما يكون أساس قضيتهم ضعيفا للغاية، يحتاج أهل الاقتصاد إلى أساس متين للغاية للجدال بأي قدر من اليقين على الإطلاق».
بعد دمج أعضاء مستقلين من الخارج في لجنة السياسة النقدية، لا يتردد بنك إنجلترا في الإشارة إلى الانقسامات بين كبار صناع قراراته. جاء التصويت الأخير بأغلبية خمسة إلى أربعة أصوات لصالح الخفض بعد تصويت جرى في يونيو بأغلبية سبعة أصوات إلى صوتين لصالح إبقاء أسعار الفائدة دون تغيير. وفي فبراير، جاء تصويت لجنة السياسة النقدية منقسما بواقع صوتين لصالح رفع أسعار الفائدة، وستة أصوات لصالح الإبقاء على الأسعار دون تغيير، وصوت واحد لصالح خفض أسعار الفائدة. وفي كل حالة، جرى شرح جميع الحجج وراء هذه الأصوات في الأيام والأسابيع التي أعقبت اجتماع لجنة السياسة النقدية.
الواقع أن الكشف عن مثل هذا النطاق من المواقف الفردية أمر غير مسموع به في الاحتياطي الفيدرالي. ففي حين يفخر البنك المركزي الأمريكي بترحيبه بتنوع الآراء أثناء مداولاته خلف الأبواب المغلقة، فإنه مُـنغَـمِـس أيضا في تقليد صُـنع القرار بالإجماع.
وعلى هذا فإن البنك المركزي الأمريكي في الممارسة العملية يفرض حواجز شديدة الارتفاع تحول دون إذاعة الآراء الـمُعارِضة. وحتى محاضر اجتماعات مجلس الاحتياطي الفيدرالي التي تصدر بعد ثلاثة أسابيع من كل اجتماع تميل إلى تجاهل أو تمويه المجموعة الكاملة من الآراء التي تسربت. وللتعرف على ما قيل حقا، يتعين علينا أن ننتظر السجلات المدونة الكاملة، والتي تَـصـدُر عادة بعد مرور خمس سنوات.
أرجو ألا تسيئوا فهمي. إن النهج القائم على الإجماع والذي يساعد في التوفيق بين آراء وتحليلات مختلفة لا يخلو من قيمة. لكن الإجماع المصطنع ــ الذي يُـلاحَـق غالبا لأسباب سياسية، أو لإنقاذ ماء الوجه (افتراضا) ــ يميل إلى التعتيم وتهميش الآراء التي تستحق دراسة أكثر شمولا.
إلى جانب الافتقار البنيوي إلى التنوع المعرفي الإدراكي فضلا عن ارتفاع احتمالات الانزلاق إلى فخ التفكير الجمعي، يعمل الهوس بالإجماع في نهاية المطاف على تقويض ذات المصداقية التي ظل الاحتياطي الفيدرالي يحاول استعادتها منذ الخطأ السياسي الجسيم الذي ارتكبه في عام 2021.
من خلال رفضه تقديم ذلك النوع من الشفافية في صُـنع القرار الذي تبناه بنك إنجلترا، عكس بنك الاحتياطي الفيدرالي عن غير قصد رضا السوق التي فشلت في النظر في إمكانية تباطؤ اقتصادي أسرع وأوسع نطاقا من المتوقع.
نتيجة لهذا، ردت السوق بعنف عندما بات التباطؤ واضحا، في أعقاب إصدار بيانات مؤشر مديري المشتريات الأضعف من المتوقع وأحدث تقارير القوى العاملة الشهرية، والذي جاء في أعقاب اجتماع سياسات الاحتياطي الفيدرالي مباشرة.
استوعبت السوق التأكيدات المتكررة التي أطلقها رئيس البنك جيروم باول (بما في ذلك في مؤتمر البنك المركزي الأوروبي في سينترا بالبرتغال في الثاني من يوليو) بأن الاقتصاد «الموفور الصحة جوهريا» وسوق العمل القوية منحا بنك الاحتياطي الفيدرالي الوقت الكافي لاتخاذ القرار بشأن خفض أسعار الفائدة.
وعندما أشارت البيانات الجديدة إلى خلاف ذلك، نشأت حالة من الفوضى مع اندفاع الأسواق إلى رفع احتمالات خفض غير عادي بمقدار 50 نقطة أساس في سبتمبر من الصفر تقريبا إلى نحو 80%، اعتبارا من الثاني من أغسطس. (كما وضعت الأسواق في الحسبان دورة خفض أسعار الفائدة الأسرع والأعلى مقدارا).
أدى هذا التفاعل العنيف إلى انهيار دراماتيكي في العائدات على السندات الحكومية وخسائر ضخمة في سوق الأسهم، والتي بعد أن بدأت في الولايات المتحدة انتشرت على مستوى العالَـم وكشفت عن نقاط ضعف في أماكن أخرى، وأبرزها اليابان. حتى أن المخاوف بشأن ارتفاع خطر الانهيار المالي والاقتصادي دفعت بعض المراقبين (ولكن ليس أنا) إلى الدعوة إلى خفض أسعار الفائدة الطارئ بين الاجتماعين.
كلا، أنا لا أدعو بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى تبني ذلك النوع من الشفافية المتطرفة التي اشتهر بها صندوق التحوط بريدجواتر. فهناك مجالات معينة، مثل «الرسم البياني الـمُـنَـقَّـط» ربع السنوي للتوقعات، حيث ذهب بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى أبعد مما ينبغي بالفعل. ومع ذلك، بوسع الاحتياطي الفيدرالي ــ بل ينبغي له ــ أن يكون أكثر انفتاحا بشأن القرارات السياسية التي تؤثر علينا جميعا.
محمد العريان رئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج، وأستاذ بكلية وارتون بجامعة بنسلفانيا ومؤلف كتاب «اللعبة الوحيدة في المدينة: البنوك المركزية، وعدم الاستقرار، وتجنب الانهيار التالي.
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بنک الاحتیاطی الفیدرالی خفض أسعار الفائدة البنک المرکزی بنک إنجلترا
إقرأ أيضاً:
«آي صاغة»: الذهب يقلص خسائره بعد قرار الفيدرالي الأمريكي
ارتفاع طفيف في أسعار الذهب بالأسواق المحلية خلال تعاملات اليوم، الخميس، مع ارتفاع الأوقية بالبورصة العالمية، ليقلص الذهب خسائره التي تكبدها بعد قرار الفيدرالي الأمريكي بخفض أسعار الفائدة بنحو 25 نقطة أساس في اجتماع أمس، وفقًا لتقرير منصة «آي صاغة».
وقال المهندس، سعيد إمبابي، المدير التنفيذي لمنصة «آي صاغة» لتداول الذهب والمجوهرات عبر الإنترنت، إن أسعار الذهب ارتفعت بنحو 5 جنيهات خلال تعاملات اليوم، ومقارنة بختام تعاملات أمس، ليسجل سعر جرام الذهب عيار 21 مستوى 3745 جنيهًا، في حين ارتفعت أسعار الذهب بالبورصة العالمية بنحو 27 دولارًا، لتسجل مستوى 2621 دولارًا.
وأضاف إمبابي أن جرام الذهب عيار 24 سجل 4280 جنيهًا، وجرام الذهب عيار 18 سجل 3210 جنيهات، فيمَا سجل جرام الذهب عيار 14 نحو 2430 جنيهًا، وسجل الجنيه الذهب نحو 29960 جنيهًا.
ووفقًا للتقرير اليومي لمنصة «آي صاغة»، فقد تراجعت أسعار الذهب بالأسواق المحلية بنحو 50 جنيهًا خلال تعاملات أمس الأربعاء، حيث افتتح سعر جرام الذهب عيار 21 التعاملات عند مستوى 3790 جنيهات، واختتم التعاملات عند مستوى 3740 جنيهًا، في حين تراجعت أسعار الذهب بالبورصة العالمية بنحو 52 دولارًا، حيث افتتحت التعاملات عند مستوى 2646 دولارًا، ولامس مستوى 2580 دولارًا واختتمت التعاملات عند مستوى 2594 دولارًا.
وأوضح إمبابي أن أسعار الذهب بالأسواق المحلية، والبورصة العالمية، تشهد حالة من التذبذب، حيث قلص الذهب خسائره التي تكبدها عقب قرار الفيدرالي الأمريكي بخفض أسعار الفائدة 25 نقطة أساس، خلال اجتماع أمس.
وذكر أنه من المرجح أن تحد قوى الدولار، وعائدات سندات الخزنة الأمريكية المرتفعة من تعافي الذهب.
وخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة كما كان متوقعًا لكنه رفع توقعاته بشأن النمو والتضخم وخفض توقعات خفض أسعار الفائدة للعام المقبل، وقد أدى هذا، إلى جانب نبرة متشددة من رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، إلى إثارة رد فعل يتجنب المخاطرة، مما دفع مؤشر الدولار الأمريكي إلى اختبار أعلى مستوياته في عامين وسحق الذهب والأسهم.
وخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس إلى نطاق 4.25% -4.50% يوم الأربعاء.
ومع ذلك، خفض صناع السياسات توقعاتهم للتخفيف إلى خفضين فقط لأسعار الفائدة في عام 2025 من التخفيضات الأربعة المقدرة في سبتمبر.
ورفع البنك توقعاته للتضخم في نفقات الاستهلاك الشخصي في العام المقبل إلى 2.5% من 2.1% في سبتمبر، واقترح جيروم باول أن بعض المسئولين أخذوا في الاعتبار تأثير توقعات سياسة ترامب على توقعاتهم للتضخم.
وعلى نحو مماثل، تم تعديل توقعات النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة إلى 2.5% هذا العام و2.1% في عام 2025، من التقديرات السابقة لنمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.0% في كلا العامين.
ومن المتوقع أيضًا أن يكون سوق العمل أكثر مرونة، وأن يبلغ معدل البطالة 4.2% هذا العام و4.3% العام المقبل، بانخفاض عن 4.4% المتوقعة سابقًا لتلك العامين.
وقال جيروم باول: “رئيس الفيدرالي الأمريكي: ”قررنا اعتماد وتيرة أبطا في خفض الفائدة العام القادم بسبب المخاوف من ارتفاع التضخم".
وعندما سُئل عن نوع البيانات التي قد تؤدي إلى خفض إضافي لأسعار الفائدة في العام الجديد، قال باول خلال المؤتمر الصحفي، إن البنك المركزي سيبحث عن مزيد من التقدم بشأن التضخم بالإضافة إلى استمرار قوة سوق العمل، وقال: "ما دام الاقتصاد وسوق العمل قويين، فيمكننا أن نكون حذرين ونحن نفكر في المزيد من التخفيضات".
وأدت توقعات البنك المركزي والنبرة المتشددة لـ "باول" إلى ارتفاع عائدات سندات الخزانة الأمريكية، وصل العائد القياسي لمدة 10 سنوات إلى مستويات أعلى من 4.5% بعد ارتفاعه بنحو 40 نقطة أساس من أدنى مستوياته في الأسبوع الماضي.
في سياق متصل، تترقب الأسواق تقرير مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي الأمريكية يوم الجمعة لشهر نوفمبر لمقارنتها بتوقعات التضخم لدى البنك، ومن شأن قراءة أضعف من المتوقع أن توفر بعض الدعم للذهب.