دفاتر العزلة وكتابة المتخيّل
تاريخ النشر: 13th, August 2024 GMT
يشكل «نسرٌ على الطاولة المجاورة» (منشورات «نوفل» بيروت)، الكتاب الأخير الذي صدر للروائي والسيناريست السوري خالد خليفة، وهو بعد على قيد الحياة (وافته المنيّة قبل عام تقريبا، في سبتمبر الماضي)؛ ولكن ليس آخر، إذ ثمة معلومات تفيد أن الدار تحضر للطبع روايته الأخيرة، التي كان انتهى من كتابتها، قبل الرحيل، لتصدرها في ذكرى غيابه الأولى.
يحمل كتاب «نسرٌ على الطاولة المجاورة»، عنوانا فرعيا وهو «دفاتر العزلة والكتابة (الدفتر الأول)»، وهو إن دلّ على المضمون الداخلي، فإنه يشير أيضا، إلى «مشروع» ما كان يعمل (أو ربما عمل) عليه خالد خليفة. وهو يتمثل، وفق ما يمكن لنا تأويله من هذا العنوان الفرعي (الدفتر الأول)، في أن ثمة دفاتر أخرى (قد تكون تطرقت إلى موضوعات أخرى غير العزلة والكتابة)، ربما تنتظر الكشف عنها مثلما يمكن القول إنها ربما غير موجودة لتكمل هذه الرحلة، التي لا تقع على هامش الكتابة، بل تأتي لتكون في صميمها، وتشير إلى جوهر تفكير الروائي في معنى أن يكتب، وفي معنى فنّه كله. ما يجعلني أميل أكثر إلى فرضية وجود دفاتر أخرى، أن هذه «الشذرات» (فيما لو جازت التسمية) أو هذه الأفكار، عائدة إلى فترة «شتاء 2001 (يونيو) 2015»، وقد كُتبت في «أمكنة مختلفة من العالم»، وهي تشير بشكل عابر (في موقعين) إلى الأحداث التي عرفتها سوريا؛ بمعنى آخر، من الصعب أن لا يكون خالد خليفة، وبعيدا عن رواياته، قد سجل انطباعاته حول ما جرى في بلاده، وهو الذي كان منخرطا في أحداثها، عبر مواقفه الصريحة والواضحة.
في أي حال، ثمة سؤال يطرح نفسه، منذ البداية، وقبل الدخول إلى آراء خالد خليفة حول الكتابة: لماذا يشعر بعض الكتّاب، في لحظة ما، في محطة ما من حياتهم، بهذه الحاجة لأن «يبتعدوا» قليلا عن عملهم الإبداعي، ليخصصوا وقتا لكتابة نوع من نص حول الرواية؟ هل هي سمة العصر التي تدفع الروائي للحديث عن روايته؟ هل أصبحت الرواية تتطلب التزاما «نضاليا» للدفاع عنها، أي بمعنى آخر، هل شعروا بقصور النقد الموجود فاختاروا أن يدلوا بدلوهم؟ أيشعر الروائيون، اليوم، أنه من المهم تكذيب تلك المقولة والنغمة التي تلف العالم حول «موت الرواية»، مثلا؟
من دون شك، تبدو أسئلتي هذه، بدورها، أنها بحاجة إلى تأمل نقدي آخر. في أي حال، يبدو الروائيون (وربما غيرهم من الكتّاب) كما لو أنهم يشعرون بضرورة تبيان (والأدلة بين أيديهم) أن الحقبة الحالية، «لا تشعر بأي حسد تجاه الروائيين السابقين»، أي لا تزال هنا، نقيّة وتبدع. فلو انطلقنا من وجهة النظر هذه، لبدا كتاب خالد خليفة قمة في هذا الدفاع والبرهان عن الرواية الحديثة. إذ أن «نسرٌ على الطاولة المجاورة» كتاب تأملات مكثفة، نافذة، حول المادة ذاتها للفن الروائي اليوم، انطلاقا من تجربة الكاتب الشخصية.
من دون شك، يبدو عالمنا اليوم، بكلّ ما يحمل من انزياحات شتى، وكأنه خاضع لحركة مزدوجة، فمن جهة لا بدّ أن نجد «انفجار المعلومات»، ومن جهة أخرى، هناك «انبجاس المعنى»، وأقصد، أي أنه لم يكن هناك يوما، هذا القدر من «الرسائل المتبادلة» التي لم يبدِ الكون يوما أي صعوبة في فك رموزها، مثلما يحدث في لحظتنا الراهنة. من هنا، يمكن القول، إن إحدى أهم سمات الرواية لا تكمن فقط في أن مهمتها الأساسية هي إيصالنا إلى منفذ، «إلى ما لا يمكن قوله بشكل مختلف» بل لأنها الوحيدة، التي تستطيع الاستفادة من الحقيقة المتعددة، المبهمة، الإشكالية، التي لا تظهر أي أفكار أحادية الأبعاد ولا أي من «الأرثوذكسيات» الجامدة. بمعنى آخر، أطرح ما يشير إليه خالد خليفة: ماذا نريد من الرواية؟ ربما كان علينا مواجهة كل الفروع الثنائية غير النافعة أي تلك الحواجز الدوغمائية المتمثلة في الواقعية ضد المتخيل والقومية ضد الكوسموبوليتية والالتزام ضد الشكلية.
كل معنى الفن الروائي، ربما منذ رابليه وثرفانتس - (فيما لو اخترنا اثنين من مؤسسي الرواية في العالم، فالرواية العربية، وعلى الرغم من أننا نستطيع إحالة فكرة السرد إلى «ألف ليلة وليلة»، إلا أنها وليدة العصر الحديث من دون شك) - وحتى أيامنا هذه، يعود إلى قدرتنا على اجتياز هذا التناوب. فإن كانت الرواية تُصوب نظرتها إلى الواقع، يجب عليها، عندها، ألا تشعر بالسرور في استدعاء «ما سبق أن عرفناه» بل أن تحاول استكشاف «غير المرئي»، الذي لم يُقل بعد، «المنسي»، وبإمكانها في ذلك أن تعتمد على المتخيل والحلم.
المتخيل والحلم. كلمتان أساسيتان في أفكار خالد خليفة في كتابه هذا، فمن دونهما - ومثلما يجد - ما من كتابة حقة. فالاعتماد على الواقع فقط، لن يؤدي إلى كتابة حقيقية، إذ يطرح فعلا فكرة جوهرية: لا كتابة من دون خيال ومتخيل. بهذا المعنى الذي يقوله خالد خليفة، يمكننا اعتبار أن الرواية الكبيرة هي تلك الرواية التي لا تنغلق أبدا داخل حدود مسقط رأسها. فحين يشير ويتحدث مثلا عن ثرفانتس ودوستويفسكي وهمنجواي وماركيز وباموك (ويشير إليهم، ضمن غيرهم، بالمعلمين الكبار) فنحن لا نتحدث عن جنسيتهما بل عن «خيالهما» الذي يثير العديد من النغمات عند القارئ. أي إنهما يأخذان القارئ في رحلة جديدة. هنا يكمن سؤال الأدب برمته، فهو حين ينتقل بنا، يكون عندها قد انتقل من الجيو- سياسة إلى الجيو-أدب. وهذا الأخير هو من يفتح المناطق المحررة المتعذر تخفيضها عندها.
هل بهذا المعنى، يمكن القول إن الرواية -بشكل عام- هي الجغرافيا، لا التاريخ؟ ما أقصده، أن الرواية، في إشارات خالد خليفة هي «متخيّل» العالم، والمتخيل ليس في الواقع سوى «تحويل التجربة إلى معرفة». من هنا تكمن جغرافيا الرواية في أرض متحركة باستمرار، تتوسع عند كل اكتشاف، لأنها «لا تُظهر العالم أو تبرهنه بل تضيف عليه شيئا ما». فمغامرة الكاتب «تقع في قول ما يجهله».
«نسرٌ على الطاولة المجاورة»، أكثر من «دفاتر» وأكثر من مجرد أفكار ويوميات حول الكتابة؛ إنها فعلا نظرة كاتب إلى العالم الروائي، انطلاقا من عالمه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: خالد خلیفة من دون
إقرأ أيضاً:
الخارجية: سورية تطالب جميع دول العالم بالقيام بواجبها الإنساني واتخاذها موقفاً حازماً لإيقاف المجازر المتسلسلة التي يرتكبها كيان الاحتلال في المنطقة ومحاسبة قادته على جرائمهم وعدوانهم وضمان عدم إفلاتهم من العقاب
2024-11-20naghamسابق الخارجية : ارتهان مجلس الأمن لقرار دولة واحدة يفقد هذا المجلس مصداقيته في حفظ السلم والأمن الدوليين انظر ايضاًالخارجية : ارتهان مجلس الأمن لقرار دولة واحدة يفقد هذا المجلس مصداقيته في حفظ السلم والأمن الدوليين
آخر الأخبار 2024-11-20جلسات حوار لمناقشة تعديل القوانين الناظمة لعمل وزارة التجارة الداخلية بطرطوس ودرعا 2024-11-20استشهاد شاب فلسطيني برصاص قوات الاحتلال غرب جنين 2024-11-20ترميز السلع والمنتجات لتنظيم عمل الأسواق خلال اجتماع في وزارة التجارة الداخلية 2024-11-20فيتو أميركي يعرقل مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يطالب بوقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة 2024-11-20انطلاق الجلسات الحوارية في غرفة تجارة حماة لتعديل قانون حماية المستهلك 2024-11-20الشيخ قاسم: العدو لن يخرج إلا بالمقاومة وسنبقى في الميدان نقاتله مهما ارتفعت الكلفة 2024-11-20قانون اتحاد الصحفيين… ندوة حوارية في دار البعث 2024-11-20ارتقاء 36 شهيداً وجرح العشرات جراء عدوان إسرائيلي استهدف أبنية سكنية في تدمر 2024-11-20بمناسبة اليوم العالمي لمرضى السكري… فعالية توعوية طبية في طرطوس 2024-11-20محور الأورام في رابع أيام مؤتمر أيام صحة دمشق 2024 العلمية
مراسيم وقوانين مرسومان بتحديد الـ 21 من كانون الأول القادم موعداً لإجراء انتخابات تشريعية لمقعدين شاغرين في دائرة دمشق وآخر في دائرة مناطق حلب 2024-11-20 الرئيس الأسد يصدر ثلاثة قوانين تسهم في تطوير آليات العمل بالقطاع السياحي 2024-11-14 الرئيس الأسد يصدر مرسوماً بتنفيذ عقوبة العزل بحق قاضية في النياية العامة التمييزية 2024-11-02الأحداث على حقيقتها القوات الروسية تقيم 9 نقاط مراقبة بريفي القنيطرة ودرعا قرب “منطقة فصل القوات” 2024-11-18 الجيش يدمر 15 طائرة مسيرة للإرهابيين في أرياف حلب واللاذقية وإدلب 2024-11-18صور من سورية منوعات مركبة الشحن الفضائية الصينية “تيانتشو-8″تلتحم مع محطة الفضاء الصينية تيانقونغ 2024-11-16 انبعاثات الكربون العالمية تصل إلى مستوى قياسي خلال العام الجاري 2024-11-13فرص عمل الخارجية تعلن عن برنامج تدريب المقبولين للتقدم إلى المرحلة الثالثة من مسابقتها 2024-11-06 التعليم العالي تسمح للجامعات الخاصة فتح التسجيل المباشر لملء الشواغر في كلياتها 2024-11-04الصحافة استكمال المــهــمــة!!! بقلم: أ. د.بثينة شعبان 2024-11-18 المسافة صفر.. مخرز في خاصرة الاحتلال – بقلم : جمال ظريفة 2024-11-16حدث في مثل هذا اليوم 2024-11-2020 تشرين الثاني- اليوم العالمي للطفل 2024-11-1919 تشرين الثاني 1954 – بدء بث «تلفزيون مونتي كارلو» وهي أقدم قناة تلفزيونية خاصة في أوروبا 2024-11-1717 تشرين الثاني 1969 -مفاوضات بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة للحد من عدد الأسلحة الإستراتيجية على كلا الجانبين 2024-11-1616 تشرين الثاني 1970- قيام الحركة التصحيحية بقيادة القائد المؤسس حافظ الأسد 2024-11-1515 تشرين الثاني 1920-عقد أول اجتماع لعصبة الأمم في جنيف 2024-11-1414 تشرين الأول 1908- عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين يعلن عن نظرية كمية الضوء
مواقع صديقة | أسعار العملات | رسائل سانا | هيئة التحرير | اتصل بنا | للإعلان على موقعنا |