النساء البيضاوات في مواجهة الوحش الأسطوري الخارق للطبيعة
تاريخ النشر: 13th, August 2024 GMT
تبدو الملاكمة الجزائرية إيمان خليف مصممة على تجاوز الجدل العالمي المحيط بجنسها، إذ تمكّنت من هزيمة منافستها التايلاندية جانجام سوانافينج يوم الأربعاء، لتشقّ طريقها نحو نهائي الميدالية الذهبية في أولمبياد باريس.
تفجّرت قضية خليف عندما انسحبت منافستها الإيطالية أنجيلا كاريني بعد 46 ثانية فقط من بداية المباراة.
وبعد تداول أنباء عن استبعاد الاتحاد الدولي للملاكمة – الذي لا تعترف به اللجنة الأولمبية الدولية – إيمان خليف، إضافة إلى الملاكمة التايوانية لين يو تينغ من بطولة العالم العام الماضي لفشلهما في اجتياز اختبار جنس غير محدّد، اشتعلت الاتهامات التي تزعم أنّ كلتيهما ذكرٌ متخفٍ.
لن أخوض في التكهنات حول نوايا كاريني، سواء كانت قد تعمدت أن تُظهر نفسها كضحية وأن تصور خليف كذكر مغتصب أم لا. كاريني تدّعي أنها كانت ببساطة تشعر بالاستياء من هزيمتها، ولم تكن تسعى إلى إثبات أي نقطة سياسية، بل إنها قدمت اعتذارها لاحقًا لخليف. بيدَ أن الضرر كان قد وقع بالفعل، بغض النظر عن نواياها.
في كتابي "الدموع البيضاء، الندوب البنية"، أتناول الموقف التاريخي والمعاصر للنساء الأوروبيات (أي البيضاوات) باعتبارهن رمزًا للأنوثة المثلى ومفهوم الضحية. أتساءل في الكتاب عن مدى قوة ما يُشار إليه عادةً باسم "دموع النساء البيضاوات"، لكنني أفضل تسميته بـ "الأنوثة البيضاء الإستراتيجية".
في هذه الديناميكية التي تتجلى على المستويين: الفردي والوطني، تُستخدم الضائقة العاطفية التي تمر بها النساء البيضاوات كأداة لمعاقبة الأشخاص الملونين الذين تصادف أن يكونوا في صراع معهنّ.
وأنا أرى أن الدموع ذاتها، بل وحتى الشخص الذي يذرفها، ليست هي المحور الأهم؛ بل الأثر الوقائي الذي تثيره تلك الدموع في نفوس المشاهدين.
هذا الشعور العميق دفع إلى موجة من الغضب العام، موجهةً أصابع الاتهام إلى الاتحاد وإدانة لما جرى.
تفاعلت مع ذلك شخصيات عامة، مثل المؤلفة جي كي رولينغ، والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ورئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية جورجيا ميلوني.
كل واحدة من هذه الشخصيات حملت أيديولوجيتها الخاصة لتفرضها على جسد خليف. فرولينغ، التي تُعرف بمعارضتها للنساء المتحولات جنسيًا، اختزلت الموقف في صورة "متعة متهكمة" لرؤية "ذكر" يضرب امرأة ويُحطم أحلامها. ومن المفارقات أن رولينغ، وهي تدّعي حماية النساء، كانت في الواقع تُهاجم امرأة.
لم تصل ميلوني إلى حدّ الادعاء بأن إيمان خليف رجل متنكّر، لكنها استنكرت ما وصفته بـ"المنافسة غير المتكافئة"، مشيرة إلى أن "الرياضيين الذين يمتلكون خصائص وراثية ذكورية لا ينبغي لهم المشاركة في مسابقات النساء. ليس لأننا نرغب في التمييز ضد أحد، ولكن من أجل حماية حقوق الرياضيات في المنافسة على أسس عادلة".
غير أن هذا البيان يتغافل حقيقة أن تاريخ الرياضة النسائية، من التنس إلى رفع الأثقال ورمي الجلة، وحتى الملاكمة، حافل بالرياضيّات اللاتي لم يتوافقن مع المعايير الأوروبية النمطية للأنوثة، ومن المفارقات أن بعضهن كنّ أوروبيات.
كنا في السابق نتقبل أن بعض النساء أكبر حجمًا وأقوى وأسرع من غيرهن، أما الآن فيبدو أن الكثيرين باتوا يتوقعون من الرياضيات أن يكنّ نسخًا نمطية لبعضهن البعض، ويسعون إلى معاقبة كل من لا تتوافق مع هذا القالب العام. ورغم الوعي المتزايد بالجنس "غير الثنائي"، فإن التسامح مع أي اختلاف عن القاعدة النمطية أصبح أقل بكثير.
والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن قضية العدالة في الرياضة النسائية تُستغل الآن لدفع العالم نحو العودة إلى عصر علم الأعراق، حيث كانت "المرأة" مرادفًا لـ "البيضاء".
في عام 2016، حققت عداءة المسافات المتوسطة الجنوب أفريقية كاستر سيمينيا الميدالية الذهبية في أولمبياد ريو، لتتبعها فرانسين نيونسابا من بوروندي ومارغريت وامبوي من كينيا. تعرضت الرياضيات الثلاث لاتهامات بعدم كونهنّ "نساء حقيقيات"، وهو ما دفع بعض منافساتهن الأوروبيات إلى البكاء، بينما أجبرت البولندية جوانا جوزفيك، التي حلت في المركز الخامس، على التصريح بأنها "سعيدة لأنها الأوروبية الأولى، والبيضاء الثانية" (حيث كانت الكندية ميليسا بيشوب قد احتلت المركز الرابع).
لننتقل سريعًا إلى عام 2024، حيث ترددت أصداء هذا الدلالة الواضحة على علم العرق من قبل الملاكمة البلغارية سفيتلانا ستانيفا، فبعد خسارتها أمام لين يو تينغ، قامت بوضع أصابعها في علامة X ونقرت عليها، مشيرة بذلك إلى كروموسومات XX التي تحملها، مما يوحي بأنها، خلافًا لمنافستها التايوانية، امرأة "حقيقية".
لكن هل كان هذا ليصبح موضوعًا مشحونًا عاطفيًا كما هو الآن، لو انسحبت كاريني ببساطة من المباراة دون إظهار تلك المشاعر؟ هل كان سيتم تفسير ذلك على أنه مجرد مباراة أخرى تفوق فيها أحد الخصمين على الآخر؟ من المستحيل القول بذلك، لكن فجأة تحول جسد إيمان خليف إلى محور للنقاش.
كما أشار البعض بالفعل، فإن خليف كانت تمارس الملاكمة في مسابقات السيدات لسنوات عديدة، بما في ذلك أولمبياد طوكيو 2020، دون أن تُثار حولها مثل هذه الاتهامات. بل إنها قدمت صورًا لنفسها كفتاة صغيرة، وتحدثت عن التحديات التي واجهتها كملاكمة أنثى في ثقافتها الجزائرية، وحظيت بدعم اللجنة الأولمبية الدولية والمسؤولين الجزائريين.
كل هذا يأتي ليؤكد أن المسألة لا تتعلق فقط بـ "العدالة".
بعد انسحاب كاريني، جاءت مباراة خليف التالية ضد المجرية آنا لوكا هاموري، التي نشرت قبل المباراة صورة ثم سارعت بحذفها، وهي صورة أعتقد أنها من أبرز المفاتيح لفهم القضية برمتها، نظرًا للطريقة التي تكشف بها السياق الضمني.
في تلك الصورة، التي أنشئت باستخدام الذكاء الاصطناعي واستمدتها هاموري من إنستغرام، لم تُصوّر خليف كرجل يتفوق على امرأة بيضاء رقيقة وضعيفة فحسب، بل جُردت من إنسانيتها بالكامل ورُسمت كوحش أسطوري خارق للطبيعة.
هذا هو الاستشراق بأوضح صوره، يعيد إلى الأذهان قرونًا من تصوير "الشرق"، حيث جرى تمثيل النساء غير البيضاوات إما كضحايا بائسات وخاضعات، بحاجة ماسّة إلى إنقاذ من قبل الرجال البيض، أو ككائنات ذكورية وحشية لا تستحق الحماية، على النقيض من النساء الأوروبيات اللاتي يتم تصويرهن على أنهن متفوقات.
إن هذه التمثيلات تعكس بجلاء كيف يرى الغرب نفسه. فأجساد النساء تشكل التضاريس التي يخوض الغرب عليها معاركه الأيديولوجية، حيث تُصوّر النساء البيضاوات على أنهن نقيات وبريئات، ويجب الدفاع عنهن بأي ثمن؛ لأنهن يمثلن الحضارة الغربية ذاتها.
وعلى الجانب الآخر، لطالما صُوّرت النساء سوداوات البشرة والسمراوات على أنهن مجردات من البراءة، وغير مستحقات للحماية، إذ يجسدن ثقافات "دنيا" وفق التصورات الغربية.
ومن الجدير بالذكْر أن هاموري، التي تشبه إيمان خليف في الطول والبنية، شاركت صورة لا تمت بصلة لخليف. فالمسألة لم تعد مجرد مواجهة بين ملاكم عربي وآخر أوروبي، بل هي تكرار آخر لأسطورة ثقافية بيضاء متهافتة، تفترض أن الرجال السمر والسود يشكلون تهديدًا فريدًا على النساء البيضاوات، وبالتالي على الغرب بأسره.
ورغم هيمنة الغرب المستمرة على مدار قرون، لا يزال يصور نفسه كنوع من المستضعفين، وكجزيرة وحيدة من الأخلاق والنقاء والحضارة، تحت تهديد دائم من جحافل الشرق "البربرية".
كل ما يُعرف بـ "حرب الثقافة" في الغرب مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعرق، إذ يستند الغرب إلى مفاهيم ذاتية التفوق العرقي والثقافي، والتي يعتمد عليها صراحةً لتبرير هيمنته العسكرية والاقتصادية العالمية. في الماضي، كانت الأفكار الأوروبية حول "العرق" هي المحرك الأساسي للاستعمار الاستيطاني.
واليوم، تستعين الإمبريالية الجديدة بقيادة الولايات المتحدة بمفهوم "الدونية الثقافية"؛ لتبرير تدخلاتها العسكرية، كما يتّضح من التكرار المستمر لإسرائيل بأنها تمثل الخط الأمامي للحضارة الغربية في الشرق الأوسط.
ما يحدث في ظل الإبادة الجماعية في غزة، والتي توشك أن تتحول إلى حرب إقليمية شاملة، ليس بالأمر البسيط. فهذه هي الطريقة التي يسعى بها الخيال الغربي لإعادة صياغة نفسه كضحية دائمة تواجه تهديدًا وجوديًا.
وفي الوقت الذي تتكاتف فيه القوى الغربية بعزم صارم لسحق غزة وتحويلها إلى حطام وغبار، وفي الوقت الذي تُزهق فيه أرواح عشرات الآلاف من المدنيين، وفي حين يحاول الرجال الفلسطينيون المنهكون والمصدومون انتشالَ ما تبقى من أسرهم ومجتمعاتهم من تحت الأنقاض بأيديهم العارية، اختارت شريحة كبيرة من الغرب هذه اللحظة بالذات لتصوير نفسها كعذراء جميلة تعرضت لهجوم غير عادل من رجل عربي شيطاني.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات إیمان خلیف التی ت
إقرأ أيضاً:
شرخ في جدار الغرب.. الطلاق بين الولايات المتحدة وأوروبا
في عام 2020، أبلغ الرئيس الأميركي دونالد ترامب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أنها تحتاج إلى أن تفهم أنه في حال تعرَّضت أوروبا للهجوم، فإن الولايات المتحدة لن تأتي أبدا لتقديم المساعدة والدعم، وأن "حلف شمال الأطلسي (الناتو) قد مات"، وأن أميركا ستنسحب منه.
لربما تمنَّى الأوروبيون حينها أن تكون فترة ترامب في البيت الأبيض مجرد زوبعة استثنائية في مسار تاريخ العلاقات بين أوروبا وأميركا، وأن يأتي بعده رؤساء كهؤلاء الذين اعتادت أوروبا على التعامل معهم، ممن يؤمنون في أعماقهم بأن أوروبا هي المُكمِّل الرئيسي لـ "الحضارة الغربية"، وأن الهجوم عليها هو هجوم على الولايات المتحدة نفسها.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2من يربح حرب القاذفات المقاتلة "بي-2" الأميركية أم "إتش-20" الصينية؟list 2 of 2ماذا تعرف عن مانفيستو 2025؟ وهل يستلهم منه ترامب أفكاره؟end of listغير أن آمال أوروبا بشأن أن يكون ترامب لحظة عابرة في التاريخ لم تتحقَّق إلا لأربع سنوات، فسرعان ما عاد الرجل إلى رأس السلطة بفترة رئاسية جديدة، وهذه المرة بدعم شعبي أميركي واسع ظهر في نتائج الانتخابات الرئاسية التي أُجريت نهاية العام الماضي، وصاحبتها سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسَيْ الشيوخ والنواب. ومع بداية فترة ترامب الثانية، يبدو أنه يحمل يوميا خبرا غير سار لحلفاء أميركا التاريخيين في القارة العجوز.
لقد صرَّح بيت هيغْسيث، وزير الدفاع الأميركي الجديد، بأن أوكرانيا عليها ألا تحلم باستعادة حدودها كما كانت في السابق، واتهم ترامب بنفسه نظيره الأوكراني زيلينسكي بأنه "دكتاتور بلا انتخابات"، ومختلس لأموال المساعدات الأميركية، ولا يؤيده إلا 4% من مواطني أوكرانيا.
إعلانكما قطع ترامب العُزلة الغربية المفروضة على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فأجرى اتصالا معه دون إبلاغ قادة أوروبا أو أوكرانيا لفتح باب المفاوضات حول الملف الأوكراني.
وقد اتفق الرجلان على اجتماع مرتقب محتمل في المملكة العربية السعودية، ويبدو أن مباحثات واشنطن وموسكو بشأن أوكرانيا ستُقصي الأوروبيين تماما. في الوقت نفسه، أرسل ترامب نائبه جيمس ديفيد فانس إلى أوروبا كي يحاضر القادة الأوروبيين عن افتقار بلادهم إلى الديمقراطية وحرية التعبير.
يبدو أن هناك نظاما عالميا جديدا قد بدأ يتشكَّل في الأسابيع القليلة الماضية، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية نشهد هذا القدر من التناقض بين بروكسل وواشنطن.
لطالما حدثت خلافات قوية بين الولايات المتحدة وأوروبا على مدار الأعوام المئة المنصرمة، لكن لعل الأزمة الحالية هي المرة الأولى التي يكون الخلاف فيها بتلك الحِدّة، وليس فقط حول مصالح مُحدَّدة، وإنما حول الأسس العميقة للرابطة الأطلسية، والقيم المشتركة بين القارة العجوز والدولة الأقوى في العالم، اللتين تُمثلان معا "الحضارة الغربية" كما عرفناها.
انفجار مفهوم الغرب"يجب أن نكون واضحين اليوم بشأن حقيقة أن أوروبا مُهدَّدة بالموت، ويمكن أن تموت".
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطاب بتاريخ أبريل/نيسان 2024مَثَّل مؤتمر ميونخ للأمن، الذي انعقد في مدينة ميونخ بألمانيا في شهر فبراير/شباط الماضي، نقطة تحول كبرى في تاريخ العلاقات الأميركية الأوروبية، إذ ترك المؤتمر القادة الليبراليين في أوروبا في حالة ارتباك.
ففي أثناء المؤتمر، وجَّه نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس كلمته إلى قادة القارة في صيغة تحمل توبيخا، وقال: "عندما نرى المحاكم الأوروبية تلغي الانتخابات، وكبار المسؤولين يهددون بإلغاء انتخابات أخرى، نحتاج أن نسأل أنفسنا ما إذا كنا نلتزم بمعايير عالية بشكل مناسب".
إعلانوقد شبَّه فانس ما وصفه بحملات أوروبا القمعية على حرية التعبير بتلك التي كانت تجري في الأنظمة الاستبدادية التابعة للاتحاد السوفياتي في القرن العشرين، وذكر أن هذه الأنظمة كانت تطارد المعارضين وتفرض الرقابة عليهم، وتغلق الكنائس، وتلغي الانتخابات، وأنها خسرت الحرب الباردة لأنها لم تحترم قيمة الحرية، على حد قوله.
وختم فانس كلمته قائلا إن قادة أوروبا لا يحق لهم أن يُملوا على الناس ما يشعرون به أو يفكرون فيه أو يعتنقونه.
إن الانتخابات التي يقصدها فانس بالتحديد هي انتخابات رومانيا، التي تصدَّر الجولة الأولى فيها مرشح أقصى اليمين، وألغتها المحكمة الدستورية على خلفية اتهامات بتدخُّل روسيا، وهو ما ألمح فانس إلى أنه جرى تحت تأثير القوى الكبرى في أوروبا.
كما يقصد نائب الرئيس الأميركي حملات قمع حرية التعبير، والإجراءات التي تتخذها بعض الدول الأوروبية ضد أحزاب ورموز أقصى اليمين في بلادها، التي يعتقد فانس أنها محاولة من الدول العميقة في أوروبا للوقوف بوجه رغبات واختيارات الناخبين، فضلا عن تكميمها أفواه المواطنين، ومنعها الآراء اليمينية المعارضة للخطاب الليبرالي السائد في أوروبا من وجهة نظره.
رأى العديد من قادة أوروبا في خطاب فانس تدخلا سافرا في شؤون الاتحاد الأوروبي وبلدانه، ودعما صريحا لخطاب أقصى اليمين، وافتراقا تاما في التصوُّرات والقيم السياسية بين واشنطن وبروكسل حيال الديمقراطية والحريات.
وقد أثار خطاب فانس كثيرا من الجدل في أوروبا، إلى الحد الذي دفع كريستوف هويسْغِن، رئيس مؤتمر ميونخ للأمن، للصعود إلى المنبر، حيث قال إنه بعد كلمات فانس، يبدو أن المبادئ المشتركة بين الدول الغربية لم تعُد مشتركة اليوم، ثم انهار هويسْغِن باكيا ولم يستطع إكمال كلمته.
إعلانإن الشرخ بين شقَّيْ التحالف الغربي، أوروبا وأميركا، كان آخذا في الاتساع منذ سنوات طويلة قبل مجيء ترامب، فقد شاعت مقولات في صفوف النخب الأميركية مفادها أن أوروبا ينبغي أن تتعلم كيف تقف على قدميها بنفسها، وأن الولايات المتحدة عليها أن تتوقف عن الدعم الكبير، والأمني بالتحديد، الذي تمنحه لأوروبا.
في المقابل، ثمَّة استعلاء باسم الثقافة الأوروبية على نظيرتها الأميركية في أروقة الاتحاد الأوروبي، وقد تكثَّف هذا الازدراء للثقافة الأميركية منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي مضت فيه واشنطن منفردة رغم معارضة فرنسا وألمانيا.
وبحسب دراسة نُشِرَت في مطلع الألفية بمؤسسة "هوفر" الأميركية، سادت مشاعر معادية لأميركا في أوروبا، لا تجاه مؤسسات الحكم الأميركي فحسب، بل وتجاه الثقافة الأميركية واختيارات الشعب الأميركي، الذي يجلب أسوأ الحكام عبر الانتخابات في نظر الأوروبيين. ومن ثم يبدو أن الخلاف الحالي ضارب بجذوره في تباين ثقافي وشعبي أوسع من مجرد مشكلة بين صناع القرار في واشنطن وبروكسل.
ورغم كل ذلك، لم يصل الخلاف والافتراق إلى الحد الذي نراه الآن، ويبدو كأنه إعلان طلاق بين ركيزتَيْ الحضارة الغربية، مما دفع إذاعة "مونت كارلو" الدولية الفرنسية للقول إن هذا الطلاق الأوروبي الأميركي يكتب نهاية مصطلح "الغرب"، لأن منظومة القيم التي تحكم أوروبا صارت مختلفة بصورة كبيرة عن نظيرتها على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، ومن ثم لم يعد هناك ما يمكن وصفه بمنظومة القيم الغربية.
تصدُّع القارة الأوروبية أم اتحادها؟لا يقتصر الأمر على نهاية مفهوم الغرب، إذ إن سياسة الولايات المتحدة الماضية في طريق الانفصال عن أوروبا قد تهدد القارة العجوز، مهد الحضارة الغربية، بعواقب تُزعزعها من الداخل. وكانت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية قد أعدَّت تقريرا قبل الانتخابات الأميركية الأخيرة تستشرف فيه واقع أوروبا إذا ما صعد ترامب إلى السلطة وطبَّق سياسته التي أعلن عنها تجاه أوروبا، ووضعت المجلة سيناريوهات كابوسية للاتحاد الأوروبي نتيجة فقدان المظلة الأمنية الأميركية.
إعلانوبحسب التقرير فإن أغلب الناس نسوا ما كانت عليه أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، حيث أنتجت القارة أبرز المعتدين والطغاة حينها، وكانت أرضا لحروب لا تنتهي، وجمعت الجغرافيا الأوروبية مجموعة من المتنافسين الأقوياء في مساحة واحدة ضيقة نسبيا، ومن ثم حلم كلٌّ منهم بأن يتوسع على حساب الآخر.
لطالما شهدت أوروبا تقلبات من النظم الليبرالية إلى الأنظمة الاستبدادية العنيفة. بالإضافة إلى ذلك، فإن تدخُّل الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في إطار الحرب الباردة عبر حلف شمال الأطلسي كان الضامن الوحيد لكبح النزعات المُدمِّرة للدول الأوروبية، إذ باتت المظلة الأميركية السبب الوحيد في ألَّا يخشى أعداء الماضي داخل القارة من بعضهم بعضا كما كان الحال سابقا.
ومن ثم بدأ التعاون بين القوى الأوروبية المتنافسة، كما فرضت الولايات المتحدة النظام الديمقراطي على بعض الدول لمنع عودة الاستبداد، الذي حفَّز الحروب في الماضي.
وقد دعمت الولايات المتحدة، وفقا للمجلة الأميركية، الهياكل التي وفَّرت الرخاء والتقدم في أوروبا على نحو جعلها ما هي عليه الآن، ومن ثم فإن واحدا من السيناريوهات المتوقعة في حالة انعزال أميركا عن أوروبا هو عدم قدرتها على الاتحاد بالشكل نفسه، إذ إن روسيا قد تُشكِّل تهديدا شديد الخطورة بالنسبة للدول الأوروبية القريبة منها، وإن لم تُهدِّد دول الجنوب أو الغرب الأوروبي بالقدر نفسه، وهو ما سيولِّد تضاربا في المصالح بين بلدان القارة يُهدِّد هياكل التعاون القائمة بينها.
ولكن السيناريو الأسوأ الذي توقعته المجلة الأميركية هو أن تعود أوروبا لماضيها، بحيث يؤدي إحساسها بالضعف وعجزها عن حماية نفسها إلى تعزيز إحساس كل دولة فيها بمصالحها الخاصة وبالمخاطر المحدقة بها، فتبدأ العداوات القومية المكبوتة منذ عقود في الانفجار، وتُحفِّز فوضى من التدخل الأجنبي، ويبدأ سباق التسلح بين الدول الأوروبية من جديد، وتتعاظم المشاعر القومية المتطرفة على حساب القيم الليبرالية.
وبشكل حاسم، توقع المقال أن غياب المظلة الأمنية الأميركية عن أوروبا سيغيب معه امتصاص الصدمات الجيوسياسية التي وفرتها الولايات المتحدة لعقود، ومن ثم سيكون شكل القارة العجوز مختلفا كليا عن الشكل الذي نعرفه عنها الآن.
إعلانوالواقع أن صعود ترامب في الولايات المتحدة ونشاطه المكثف من أجل فرض إرادته على العالم لا يهدد أوروبا بإزالة الغطاء الأمني من عليها فحسب، بل ويهددها بشيء آخر، إذ إن خطة الإدارة الأميركية بشأن أوروبا تمتد لمحاولة تصعيد الأفكار اليمينية المشابهة للترامبية داخل الأقطار الأوروبية ذاتها، بحيث يصعد اليمين القومي المتطرف في شتى أنحاء القارة بشكل يجعل "الترامبية" أكبر من مجرد مرحلة زمنية يمكن أن تنتهي سريعا، واتجاها للمستقبل الغربي نفسه لا محض انحراف، بحسب تعبير وكالة "رويترز" للأنباء. وقد بدأت إدارة ترامب تُشجِّع بالفعل أقرانها من الرموز والأحزاب اليمينية القومية في مختلف بلدان أوروبا.
تقول ناتالي توتشي، المحللة بصحيفة "الغارديان" البريطانية، إن فكرة الالتقاء بين الترامبية والحركات اليمينية الأوروبية كانت تشغل ستيف بانون كبير مستشاري ترامب للشؤون الإستراتيجية سابقا، وذلك من أجل إنشاء جبهة مشتركة لمكافحة الليبرالية والتعددية الثقافية والعولمة.
وبحسب توتشي، فإن تلك الإستراتيجية توسعت وتبدو واضحة الآن من هجوم فانس على أوروبا في مؤتمر ميونيخ، الذي تضمن دعم اليمين الأوروبي والترويج لفكرة أنه يتعرض للقمع في القارة، فضلا عن لقاء فانس قبل أيام من الانتخابات الألمانية بالسياسيَّة أليس فايدل، زعيمة حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، والمرشحة لمنصب المستشار في ألمانيا. وجدير بالذكر هنا أن إيلون ماسك، المستشار رفيع المستوى للرئيس ترامب، وأحد أهم داعميه، قد أعلن تأييده الكامل لحزب البديل من أجل ألمانيا.
صفعات ترامب العنيفةقبل خطاب فانس الفارق، كان توجُّه إدارة ترامب الجديد تجاه أوروبا قد ظهر أثناء الأيام الأولى لتوليه منصبه، حيث انسحب من منظمة الصحة العالمية ومن اتفاقية باريس للمناخ للمرة الثانية، وهدَّد أيضا بالاستحواذ على جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك، ولم يستبعد استخدام الأسلحة العسكرية أو الاقتصادية لتحقيق هذا الهدف.
وأعلن ترامب أيضا عن خطته لفرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبي، وهو أمر يرى براين كولتون، كبير الخبراء الاقتصاديين في وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، أن ترامب جاد في تنفيذه، حيث من المتوقَّع أن تزيد الرسوم الجمركية بنسبة 10% أو 20%، وهو ما سيُكلِّف أوروبا 1% زائدة من إنتاجها المحلي الإجمالي.
إعلانثم جاءت تطورات تصريحات ترامب بشأن أوكرانيا وخطاب فانس كي تُقنع قطاعات واسعة من المحللين بأن الطلاق البائن بين أوروبا والولايات المتحدة تمَّ بالفعل، مما دفع صحيفة "لوموند" الفرنسية للقول إن أوروبا الآن في مواجهة تحدٍّ تاريخي، وإن خطاب فانس الفارق في العلاقات عبر الأطلسي أوضح بما لا يدع مجالا للشك بأن الانقسام بين القارة العجوز وواشنطن جذري، وأن القطيعة ستكون تاريخية.
أمام هذا التحدي التاريخي، يرى غونترام وولف، الخبير بمركز "بروغيل" للبحوث، أن الاتحاد الأوروبي لم يكن مستعدا لهذا السيناريو الراديكالي الذي جاء به ترامب، وأن أوروبا لم تخطط للتعامل معه سواء على مستوى الاتحاد أو حتى على مستوى الدول الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا.
وتوقع الباحث في حديثه مع منصة "سويس إنفو"، التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية، أن عدم التخطيط سيؤدي إلى إثارة الذعر بين الدول الأوروبية بسبب خطة الرسوم الجمركية التي يعتزم ترامب فرضها، وربما تذهب كل دولة كي تتفاوض معه بمفردها، فيتعمَّق الانقسام الاوروبي أكثر وأكثر.
لا يمكننا التكهُّن الآن بما ستنتهي إليه الأمور، وتأثير صفعات ترامب على أوروبا، إذ يأمل البعض في القارة بأن يُسهم التهديدان الروسي والأميركي اليوم في تعزيز شعور دول أوروبا بخطورة الموقف، ومن ثم يدفعها إلى إدراك حساسية اللحظة التاريخية الحالية، وضرورة ترجيح كفة التعاون العسكري والحفاظ على وحدة أوروبا وتأسيس دفاع مشترك على كفة مصالح الدول المنفردة.
ولعل هذا السيناريو هو ما يتوقعه أكثر المتفائلين من داعمي القارة العجوز، في حين هناك سيناريو آخر يأمله متفائلون آخرون، وهو أن تنجح رئيسة وزراء إيطاليا جورجا ميلوني في تقريب وجهات النظر بين إدارة ترامب والاتحاد الأوروبي، خاصة أنها محسوبة على مساحة وسط بين اليمين من جهة، وصناع القرار الليبراليين والمحافظين التقليديين في أوروبا من جهة أخرى.
إعلانغير أن هناك سيناريوهات متشائمة تنتشر في صفوف محللين أوروبيين آخرين، وتتوقع أن أوروبا في السنوات القادمة، وهي قارة ضعيفة عاجزة عن حماية نفسها بدون المظلة الأمنية الأميركية، لن تتعاون لمواجهة تحدياتها، وأن العديد من أنظمتها السياسية ستتحوَّل إلى أنظمة قومية يمينية أو استبدادية. وهنا ينظر كثيرون إلى المجر، التي عمل نظامها على تفكيك القواعد الليبرالية للممارسة السياسية في بلاده، ولذا يتوقع المتشائمون في أوروبا أن يتكرر النموذج المجري، وأن يصبح أكثر راديكالية واستبدادا في السنوات القادمة، لا سيَّما في ظل رغبة الإدارة الأميركية نفسها بأن يكون لها أصدقاء من هذا النوع في أوروبا.
وتشير بعض التوقعات الأكثر تشاؤما إلى أن بعض دول أوروبا قد تفقد استقلالها وسيادتها بالكُلية في السنوات القادمة أمام المدِّ الروسي، وبالتحديد دول شرق أوروبا التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي أو حلف وارسو أثناء الحرب الباردة.
أيًّا كان السيناريو الذي يمكن أن يحدث لأوروبا في الفترة القادمة، وما يُمكن أن نسميه حقبة ما بعد الشرخ الأميركي الأوروبي، سواء كان سيناريو القدرة على التعاون والاعتماد على الذات، أو سيناريو عودة أوروبا للحروب الداخلية والصراعات وتحول بعض أنظمتها للاستبداد وفقدان بعضها لاستقلاله؛ فإن اللحظة التي تواجهها القارة الآن هي الأصعب منذ عقود طويلة كانت تتمتَّع فيها بالرعاية الأميركية.