رفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة يوم الخميس الماضي بمقدار 100 نقطة أساس بعد تثبيتها خلال الشهرين السابقين، ليصل سعر الفائدة على الإيداع والإقراض لليلة واحدة إلى 19.25 في المئة و20.25 في المئة على الترتيب، وسعر الائتمان والخصم والعملية الرئيسية للبنك المركزي عند 19.75 في المئة، وبذلك تكون أسعار الفائدة قد ارتفعت بنحو 1100 نقطة أساس منذ آذار/ مارس 2022.
وقد رأى البعض أن هذا القرار جاء مخالفا للتوقعات، حيث كان الرأي أن الاتجاه سيكون نحو تثبيت سعر الفائدة، وفي رأينا أن هذه التوقعات لم تكن صائبة، وأن ما فعله البنك المركزي من رفع سعر الفائدة كان متوقعا وهو تحصيل حاصل في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها الاقتصاد المصري وأوشك على الغرق، فقد بدت ظواهر هذا الارتفاع من خلال ما سبقه من طرح البنك الأهلي المصري وبنك مصر (وهما بنكان حكوميان يعكسان سياسة الحكومة) شهادتين دولاريتين بفئة 1000 دولار أمريكي ومضاعفاتها للشهادة، وذلك للمصريين والأجانب؛ الشهادة الأولى بعائد 9 في المئة سنوياً، ويصرف العائد مقدماً للسنوات الثلاث 27 في المئة تراكمي بالجنيه المصري؛ كما أن الشهادة الثانية ذات عائد 7 في المئة سنوياً، ويصرف العائد ربع سنويا بالدولار الأمريكي، ويبدأ تاريخ إصدار الشهادة اعتباراً من يوم العمل التالي للإيداع ويعتبر أساس العائد والاسترداد، طبقاً للشروط والأحكام المنظمة لذلك، كما يمكن لحاملي الشهادة الأولى الاقتراض بالجنيه المصري وحتى 50 في المئة من القيمة الاستردادية للشهادة وبحد أقصى 10 ملايين جنيه، ويتم استرداد الشهادات بالدولار الأمريكي.
لا يختلف إصدار هذه الشهادات عن النظام الهرمي الذي يأخذ الأموال من هذا ويعطيها لآخر دون توزيع عائد حقيقي، أو ما يمكن تسميته سياسة الترقيع
فهذه الشهادات صدرت بعائد مغالى فيه رغبة في المساهمة في سد الفجوة الدولارية التي تجاوزت 30 مليار دولار، وإنقاذا للبضائع المكدسة في الموانئ المصرية والتي تحتاج لأكثر من 5.5 مليار دولار، ومعالجة لعدم ثقة المواطن المصري في الوضع الاقتصادي؛ حيث انخفضت تحويلات المصريين العاملين في الخارج بما يزيد عن نسبة 26 في المئة. ولا يختلف إصدار هذه الشهادات عن النظام الهرمي الذي يأخذ الأموال من هذا ويعطيها لآخر دون توزيع عائد حقيقي، أو ما يمكن تسميته سياسة الترقيع. بل إن البنك الأهلي وبنك مصر بعد قرار رفع البنك المركزي سعر الفائدة قاما برفع أسعار الفائدة على شهادات الادخار الثلاثية ذات العائد المتغير بنسبة 1 في المئة لتصل إلى 19.5 في المئة بدلا من 18.5 في المئة في السابق.
إن السياسة النقدية المصرية والتي باتت أكثر تشددا من خلال المزيد من رفع سعر الفائدة، لها خطورتها وتبعاتها لا سيما على تكلفة الائتمان، وزيادة الأسعار، والمزيد من انكماش القطاع الخاص، والدخول في ركود تضخمي، ولن يزيد هذا الرفع الأمور إلا ترقيعا وتعقيدا.
السياسة النقدية المصرية والتي باتت أكثر تشددا من خلال المزيد من رفع سعر الفائدة، لها خطورتها وتبعاتها لا سيما على تكلفة الائتمان، وزيادة الأسعار، والمزيد من انكماش القطاع الخاص، والدخول في ركود تضخمي، ولن يزيد هذا الرفع الأمور إلا ترقيعا وتعقيدا
وهذه الزيادة في سعر الفائدة -في رأينا- هي رسالة لصندوق النقد الدولي بأن الحكومة المصرية تسير وفق توصياته وتخضع لإرشاداته، لا سيما الخضوع لشروط القرض الأخير بقيمة ثلاثة مليارات دولار، والذي لم تحصل مصر سوى على دفعة واحدة منه في نهاية العام الماضي، وتوقفت الدفعة الثانية بسبب عدم إجراء المراجعة الأولى لبرنامج الصندوق والتي كان مقررا لها في منتصف آذار/ مارس الماضي لتأخر الحكومة في تنفيذ الإجراءات المتفق عليها مع الصندوق؛ التي تشمل الاستمرار في تحرير سعر صرف العملة المحلية، والمضي قدما في برنامج الطروحات الحكومية للشركات المملوكة لها لصالح القطاع الخاص.
إن سلوك الحكومة المصرية يكشف أنها في طريقها للمزيد من الخضوع والتضحية بالمواطن من أجل تحقيق الرضا للصندوق، فقد منحت مؤسسة التمويل الدولية وصاية على خصخصة الشركات الحكومية، ورفعت سعر الفائدة، ومن المتوقع في أيلول/ سبتمبر أو تشرين الأول/ أكتوبر القادمين أن تقوم بتعويم جديد للعملة المصرية، وما هو ما يعني فتح باب الدمار للاقتصاد وغلاء الأسعار وقتل الحماية الاجتماعية، وبذلك يكون حدث ما قلته وكتبته -قبل سنوات- بعد الانقلاب العسكري؛ بأن السياسة الاقتصادية للانقلاب تتلخص في كلمات ثلاث: "التجريف والتوريط والتخدير".. تجريف لموارد مصر بالبيع، وتوريط للبلاد والعباد في ديون، وتخدير للشعب بتجميل زائف لمشروعات باهظة التكاليف قليلة العائد من خلال ديون بلا تنمية.. لك الله يا مصر.
twitter.com/drdawaba
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المصري الاقتصاد السياسة النقدية النقد الدولي مصر اقتصاد النقد الدولي السياسة النقدية مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات اقتصاد سياسة مقالات سياسة سياسة رياضة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة البنک المرکزی سعر الفائدة فی المئة من خلال
إقرأ أيضاً:
تناقضاتنا بين النقدية والعقدية
ماجد المرهون
majidomarmajid@outlook.com
الإنسان كائنٌ مُتَّزن في مُعظم شؤون حياته وتترقَّى عاطفته ومشاعره بناءً على الأحداث التي يختبرها وباستمرار، وهذا على وجه العموم باستثناء الخصوص، لما تَفرضه عليهم ظروف مُعينة تقدَّر أهميتها حسب حاجتهم ومنفعتهم منها؛ وهي استثناءات محدودة ومشروطة لا يمكن تفريغ آراءها وقناعاتها بإسقاطها على الجميع من الذين ينتهجون وبشكل طبيعي تلقائي المعنى الإنساني القويم.
وقد يتناقض أحدهم أحيانًا في بعض الأمور نتيجة ترقي وعيه وفهمه، بحيث يرفض فكرةً كان يستوثق معتقدًا صدقها واعتمادها في مرحلة ما عندما يكتشف أنها لم تكن كذلك، ليعتنق فكرة جديدةً أخرى أكثر صلابة بعد مدة من الزمن تطول أو تقصر جراء ازدهار مقومات معرفته وعلمه فضلًا عن تجاربه الشخصية ومقارنات تجارب الآخرين كأمثلة استدلالية.
وقد تحدّثه نفسه في هذه الحالة بأنه وقع في التناقض كما قد يلقي الآخرون عليه تقريعهم بملامة تناقضاته، من خلال تَذكيره بفكرته السابقة أو القديمة التي كان يدافع عنها ويحاجج في تأييدها ويناضل لبرهنتها بالمقارنة مع مسار فكرته الجديدة التي قد تتعارض جزئيًا أو كليًا مع السابقة مع بقاء المبدأ الذي لايتنبه له الكثير ثابتًا، وهو مواكبة الأحداث ومسايرة التطورات وضرورات تغيير المواقف والآراء أحيانًا عندما تحين أهمية الاعتراف بخطأ سابق كانت كل الظروف والظَواهر إبَّانها تؤكد على صحته، بل وتَجزم بما لايترك مجالًا للشَّك أنه واقع حقيقي لا ولن يتغير.
لا يوجد ما يؤكد فرضية الذكاء الجماعي، وإنما لكل منَّا ذكاؤه الخاص، وهو متباين بين شخص وآخر، وبالتالي فإنَّ كل إنسان مفكّر بقدر ويرتقي فكره باستمرار، ولا بد أن يتمتع بمرونة التناقض بمقدار ترقيه المَعرفي وتطوره العقلي، ولا ضَير في ذلك ولا مانع من الاعتراف به. ولولا هذه التناقضات لما تشكَّل وعيه اللازم للتحليل المنطقي والقياس المعتمد على التجارب والمقارنات وتقديم الأولويات وتفضيل المعقولات، ونبذ معتقدات سابقة تشوبها الشبهات وربما الأخطاء بعد ما تبيَّنت له الحقائق ولنقس على ذلك "علاقات الثقة" في مفهومها المعنوي والبنيوي.
ربما كانت التناقضات قديمًا لا تظهر لنا بشكل مباشر إلّا بعد مرور فترة زمنية طويلة، عندما تتكشف الحقائق وتتجلى على أحداث كنَّا لا نشكك في مصداقيتها في حينها، ولكن فيما يجري اليوم ومع تسارع الأحداث وتنوع الأخبار وتعدد مَصادرها ونشاط نقلها، فإن التناقض- الذي قد يصل إلى درجة الإرباك- بات هو الحال السائد، بغيّة إيقاع الناس في دوامة الخلاف، وفصلهم في عدم الاتفاق إلى تيارين متضادين، ينافح كل منهما عن اعتقاداته وقناعاته، وينافس الآخر في إثبات حجته، فلا يلين هذا حتى لا يقال عنه متناقض، ولا يذعن ذاك لعدم تفريقه بين معنى التناقض والنفاق "ومن ظن أنه عَلم فقد جهل"، مع أن كلاهما يستند إلى نفس المبدأ الأصيل وهو الإصلاح والسلام وحب الخير للجميع.
وإذا انطلقنا من مفاهيم قديمة حول تأويل أحداث الآن، التي نعتقد جزمًا بوثاقتها وقياسًا على أحداث قبل 20 عامًا؛ فربما يكون فهمنا لبعضها قاصرًا أو خاطئًا؛ حيث إن بعدنا عن مركز الحدث يدفعنا لإطلاق أحكام مَبنية على مقارنات سابقة، ثم ننحى إلى تأكيد نتائجنا الكارثية مسبقًا قبل حدوثها. وقد شَيدنا كل ذلك البنيان على قاعدة توقعات رخوة لا تسْتند على أدلة متينة، وإنما استشهادات فردية وتحليلات شخصية أو استقراءات استشرافية، من خلال صورة عامة مجردة لبعض المَشاهد. ولعل ما يحدث في سوريا حاليًا، خير شاهد على ذلك؛ إذ تنهال علينا يوميًا توقعات في مُنتهى السلبية ومن أناس يبعُدون عن موقع الأحداث ومعايشتها بُعدًا تامًا ولا يستوعبون مشاعر عاشها جيل ونصف وربما لا يعرفون سوريا إلّا من الخارطة أو التلفزيون.
ينبغي على كل شخص أن يتمتع بعقلية نقديّة وأن يُدرك أن كل مانعتقده ونقوله إنما هو نتيجة بسيطة لما تَحصلنا عليه من معلومات عامة، وقد تكون سطحية ومتواضعة، لكنها صاغت ما نستنْتجه في مراد الوصول إلى نهاية قصة ما اعتقدناه وقلناه وقد لا تكون صحيحة؛ بل توقعات مجردة بنيَّت على تجارب وأحداث سابقة، وما تحصلنا عليه من معلومات فهي متغيّرة ودائمة التطور والتراكم، وسوف تكون نتيجة البناء عليها حتميًا متناقضة بسبب تحليلات هذا الخبير وذلك المختَّص وهذه القناة وتلك الإذاعة والجريدة.
إنَّ الاعتقاد بفكرة مضت عليها عشرات السنين دون مرونة كافية لتعديلها أو تغييرها، إنما هو موقفٌ جاف قابل للانكسار ويؤكد على البُعد الشديد عن الواقع وإمكانية تطويع العقلية النقدية في تغيير موقفها بحسب المعطيات، وأن من يفعل ذلك هو واقع في الخوف من الظهور بمظهر المتناقض الذي يبدّل أقواله ويُغير مواقفه، مع أن التناقض هنا ليس بالأمر الشائن؛ بل هو دليل قوة شخصية ونضوج وعي، تشي بأن صاحبها متكيف مع الواقع ومتأقلمْ مع المتغيرات نتيجة ما تحصل عليه من فهم ومَعرفة أدت إلى إعترافه بأن ما يعتقده سابقًا كان مشوبًا بقلة فهم وكلية في الإحاطة المعرفية التامَّة بما يحدث.
وأخيرًا.. إنَّ إدراكنا المُعمَّق لكل أو معظم ما يحدث حولنا اليوم، سيقودنا إلى فهمه، أو على الأقل تقديره، من وجهة نظر ورأي من يُعايش ويُحلل الحدث، وذلك بوضع أنفسنا في موضعهم والتساؤل: لمَ يفرح شعب دولةٍ ما بسقوط نظام استمر لأكثر من 50 عامًا؟ ولماذا تظهر في نفس الوقت تناقضات تحاول اجتراح خواتيم مغبشة أو في منتهى السوداوية؟!
إذن.. لنقبل التناقضات دون مُكابرة أو التمسّك بقناعاتنا القديمة، ولنبتعد عن تأثير الترديد والتقليد الذي قد يُوقِعُنا في جدليات اعتقاد الحقيقة.
رابط مختصر