#سواليف

حجم الدمار الذي تسبّبت به إسرائيل لغزة، والذخيرة التي ألقيت على القطاع، والحطام الذي أنتجته، يتضاءل أمامه ما تَسبّبَت به روسيا ضد أوكرانيا كمية المتفجرات التي ألقيت على غزة تساوي أضعاف القوة النارية التي أطلقتها القنبلة الذرية الأمريكية على هيروشيما

نشرت صحيفة “واشنطن بوست” مقالاً لإيشان ثارور، علّق فيه على تصريحات المتطرفين في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الداعية لتجويع الفلسطينيين ومواصلة الحرب، وما تتسبّب به هذه التصريحات من إحراج للأمريكيين والغرب، المصرّ دائماً على حماية إسرائيل.

وقال إن إسرائيل تحظى، في معظم الأحيان، بحماية من النقد على المسرح الدولي، والفضل يعود إلى القوى الغربية التي تسارع للدفاع عنها، ولكن حججها في الدفاع عادة ما يقوّضها المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم.

وأشار ثارور، في البداية، إلى قرار عمدة مدينة ناغازاكي شيرو سوزوكي استبعاد إسرائيل من حفلة تذكارية للقنبلة النووية التي أسقطتها الولايات المتحدة على المدينة في عام 1945، وهو ما دعا السفير الأمريكي وعدداً من السفراء الغربيين في طوكيو لمقاطعة الاحتفال الذي نُظم يوم الجمعة. وكان قرار تجاهل إسرائيل مرتبطاً بمخاوف المدينة من اضطرابات، وسط الغضب العام بشأن الحرب الإسرائيلية ضد غزة.

مقالات ذات صلة تحويل المدارس لمراكز إيواء .. لبنان يستكمل خطة طوارئ للحرب 2024/08/12

وفي بيان أصدره سوزوكي، يوم الخميس، قال: “أردنا فقط أن نقيم الحفلة في جو هادئ ومهيب”، و”بالمطلق لا علاقة لهذا بأسباب سياسية”، إلا أن السفارة الأمريكية ونظيراتها الغربية في مجموعة الدول السبع، لم تقتنع بتفسير عمدة المدينة اليابانية.

ولهذا وقّع سفراء هذه الدول على رسالة مشتركة أدانوا فيها قرار ربط إسرائيل بدولة أخرى تم تجاهلها من الدعوة، وهي روسيا التي تشن حرباً في أوكرانيا.

ويعلق الكاتب قائلاً إن هذا الموقف لم يأخذ بعين الاعتبار أن حجم الدمار الذي تسبّبت به إسرائيل لغزة، وحجم الذخيرة التي ألقيت على القطاع، والحطام الذي أنتجته، يتضاءل أمامه ما تَسبّبَ به الكرملين ضد جارته أوكرانيا.

وبحسب أحد التقديرات، فإن كمية المتفجرات التي ألقيت على غزة تساوي أضعاف القوة النارية التي أطلقتها القنبلة الذرية الأمريكية التي أسقطتها على مدينة هيروشيما في 1945.

ومنذ بداية الحرب الإسرائيلية ضد غزة، رداً على هجوم “حماس” الصادم، في 7 تشرين الأول/أكتوبر، دافعت الحكومات الغربية عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، حتى مع تزايد أعداد الشهداء المدنيين الفلسطينيين.

وأدى أكثر من 10 أشهر من القصف الإسرائيلي الذي لا يرحم إلى استشهاد حوالي 40,000 شخص، إلى جانب عشرات الآلاف من المفقودين، وتدمير معظم البنايات في غزة، وانتشار الأمراض، وخلق ظروف للمجاعة في أجزاء من القطاع.

وذَكَرَ الكاتب الهجوم الذي نفذه الطيران الإسرائيلي على مدرسة كانت تؤوي النازحين الفلسطينيين في مدينة غزة، وقتلت 93 شخصاً على الأقل.

ولا تزال الولايات المتحدة وحلفاؤها متمسكين بهذه المواقف المدافعة والحامية، مع أن المسؤولين الإسرائيليين يواصلون إحراجها.

وأشار هنا لما قاله، في الأسبوع الماضي، وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي اشتكى من أن القوى الغربية والرأي العام يمنعون إسرائيل من تجويع الفلسطينيين في المناطق بطريقة فعالة لتحقيق أهدافها الحربية، حيث قال، في تصريحات تعطي صورة عن دعمه لحصار قاتل على القطاع: “لا أحد في العالم يسمح لنا بتجويع مليوني فلسطيني، رغم أنه قد يكون مبرراً أخلاقياً لتحرير الرهائن”.

وأدت تصريحات سموتريتش لشجب دولي، حيث كتب وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، تغريدة قال فيها: “لا يمكن للقانون الدولي أن يكون أكثر وضوحاً؛ التجويع المتعمد للمدنيين هو جريمة حرب”، و”لا يوجد أي مبرر لتعليقات الوزير سموترتيش”.

ولكن خطاب سموتريتش يعكس التصريح الذي أدلى به مباشرة وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، في أعقاب هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، عندما دعا إلى فرض حصار كامل على غزة، والحرمان الكامل من الوقود والكهرباء والغذاء، بينما تشن إسرائيل حرباً ضد “الحيوانات البشرية”.

وخيّمت هذه التعليقات على النزاع. فقد طلبت “محكمة الجنايات الدولية” مذكرات اعتقال ضد غالانت ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والمتهمين من المدعي العام لـ “الجنائية الدولية” بفرض تجويع متعمد على المدنيين. إلا أن إدارة بايدن شجبت تحقيق “الجنائية الدولية”، وهَدّد المشرعون في الكونغرس بتفعيل عقوبات ضد “محكمة الجنايات الدولية”.

ولكن إدارة بايدن أدانت سموتريتش في قضية أخرى تتعلق بما قاله حول المفاوضات التي تدفع بها الولايات المتحدة لوقف الحرب في غزة. وقال فيها إن المفاوضات مع “حماس”، بشأن وقف إطلاق النار في غزة والإفراج عن الأسرى، هي بمثابة “استسلام”.

وعلّق المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي قائلاً إن تصريحات سموتريتش ” تشير في الأساس إلى أن الحرب يجب أن تستمر دون توقف، وأن حياة الرهائن لا تشكّل أيّ أهمية حقيقية على الإطلاق، إن حججه خاطئة تماماً”، وأضاف: “إنهم يضللون الرأي العام الإسرائيلي”.

لكن سموتريتش ليس شاذاً، فقد ظهر إلى جانب زميله الوزير المتطرف إيتمار بن غفير، من اليمين المتطرف الهامشي للإمساك بسلطة فعلية في تحالف نتنياهو مع اليمين. ومواقفهما لا تنازل فيها، وقاسية، ولا يخفيان احتقارهما للفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل.

وبدوره، كوزير للأمن، أشرف بن غفير على تعذيب صادم، وتجريد السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية من إنسانيتهم. وهو ما كشف عنه تقرير المنظمة الحقوقية الإسرائيلية بيتسليم، الأسبوع الماضي. وتكشف الشهادات التي وثّقتها المنظمة عن الكيفية التي تحوّل فيها نظام السجون في إسرائيل، منذ هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، إلى “شبكة من المعسكرات المخصصة لإساءة معاملة السجناء كمسألة سياسة”، وتحولت إلى مرافق “يتعرض فيها كل سجين عمداً لألم ومعاناة قاسية لا هوادة فيها”. مع أن إسرائيل تنفي هذه الادعاءات.

وعندما نشرت الصحافة الإسرائيلية لقطات فيديو لجنود إسرائيليين وهم ينتهكون المعتقلين الفلسطينيين، شَجَبَ سموتريتش التسريبات، لا الجرائم المرتكبة.

وصفق بن غفير لاقتحام المتطرفين سجناً اعتقل فيه الجنود المتهمين بالانتهاكات، وشارك فيه نائب في الكنيست.

وقال نائب من حزب الليكود، الذي يتزعمه نتنياهو، إن كل الانتهاكات التي مورست على المعتقلين هي “شرعية”، وهي جزء من نضال إسرائيل ضد “حماس”.

ويرفض بن غفير وسموتريتش الدولة الفلسطينية، أو تقرير المصير للفلسطينيين، وهو موقف يوافق عليه نتنياهو ورموز في التيار السياسي العام بإسرائيل.

وبقدر ما تعلن إدارة بايدن والدول العربية القريبة منها والحلفاء الأوروبيون عن دعمهم لحل الدولتين، فإن رؤيتهم للسلام الدائم تقوَّض دائماً من المؤسسة السياسية الإسرائيلية. ففي وقت سابق من هذا الصيف، أقرّ الكنيست قراراً يرفض قيام الدولة الفلسطينية بشكل قاطع. وحظي التصويت بدعم، من بين آخرين، بيني غانتس، منافس نتنياهو، والذي ينظر إليه كسياسي وسطي يأمل الكثيرون في واشنطن أن يحلّ قريباً محل نتنياهو.

ويقول ثارور إن نتنياهو وحلفاءه أمضوا سنوات لمنع قيام دولة فلسطينية قابلة للعيش، وقاموا بتقسيم المناطق المحتلة إلى مستوطنات وطرق منفصلة وصلاحيات قانونية.

وأشار المعلق الإسرائيلي غيرشوم غيرنبرغ إلى أن هذا هو السبب جزئياً وراء حكم “محكمة العدل الدولية”، وهي أعلى محكمة في الأمم المتحدة، في الشهر الماضي، بأن احتلال إسرائيل للضفة الغربية، ومنذ 57 عاماً، كان غير شرعي ويجب أن ينتهي.

وكتب غيرنبرغ في مجلة “ذي أتلانتك”: “عندما صدر الرأي القانوني لمحكمة العدل الدولية وجاء فيه “لكل الأغراض والمقاصد”، فإن ضم إسرائيل أجزاء من الضفة الغربية في وقت “اختبأت فيه وراء وهم” الاحتلال المؤقت، فقد كانت [محكمة العدل] تصف حقيقة غير مريحة”، مشيراً للدور الذي لعبه بن غفير وسموتريتش في تأكيد هذا الواقع. لكن إدارة بايدن انتقدت، في الشهر الماضي، قرار “محكمة العدل الدولية” قائلة إنه “عقّد” الجهود السلمية، حتى في الوقت الذي يتجاهل فيه المسؤولون الإسرائيليون الأهداف المعلنة لبايدن.

ويعتقد الكاتب هنا أن التأثير التراكمي عميق، ففي الوقت الذي يقوض فيه الساسة الإسرائيليون الحجج التي يقدمها الغرب في دفاعه عن إسرائيل وحمايتها على الساحة الدولية من اللوم، فهناك شعور أعمق بأن العديد من أفراد المؤسسة السياسية في الغرب لا يمانعون، على ما يبدو، العقوبات الشديدة التي فرضتها إسرائيل ليس فقط على “حماس”، بل وأيضاً على الفلسطينيين عموماً.

فبعد شهر على الحرب ضد غزة، قال وزير التراث أميحاي إلياهو، في مقابلة إذاعية، بأن ضرب قنبلة نووية من الترسانة الإسرائيلية السرية هو خيار. ورغم رفض نتنياهو وغالانت لتعليقاته، إلا أن ما قاله عن أهل غزة كلّهم، وأنهم مذنبون، ودعوته لإفراغ القطاع من أهله، لقي صدى من ساسة كثر في إسرائيل.

وفي الولايات المتحدة استحضر الساسةُ الجمهوريون الخيار النووي، حتى لو كان مجازياً. وفي جلسة استماع عقدت في أيار/مايو، هاجم السناتور الجمهوري عن ساوث كارولينا ليندزي غراهام قرارَ إدارة بايدن وقف نقل بعض الذخائر الأمريكية إلى إسرائيل، مع أن عمليات النقل تدفّقت دون انقطاع في الغالب، اختار غراهام الإشارة إلى هذا الفصل المروّع في التاريخ الياباني. لكنه استحضر الماضي للتحريض، وليس كقصة تحذيرية، قائلاً: “أعطوا إسرائيل ما تحتاجه لخوض الحرب”، “هذه هي هيروشيما وناغازاكي على المنشطات”.

(القدس العربي)

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: سواليف الولایات المتحدة التی ألقیت على إدارة بایدن محکمة العدل بن غفیر على غزة

إقرأ أيضاً:

الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية

يأخذك الحديث وأنت تتأمل فيلم غيوم لمُزنة المسافر إلى التطور الفني والموضوعي في تجربتها، موضوعا التعددية الثقافية والعرقية في المجتمع العماني كمصدر ثراء غني، تتجه إليه مزنة في استقصائها الطويل، مزيلة وهم ما يفصل بيننا، عبر البحث عن ما يجمع بيننا ويأتلف في نسيج اجتماعي واحد. عبر هذا الثراء العرقي واللغوي نخلق تجانسنا الحقيقي، التجانس المميز لمجتمعنا منذ جذوره التاريخية البعيدة. فنيا يشكل فيلم غيوم تحولا نوعيا تخرج به مزنة عن الطرح الأفقي للتجربة، عن أحكام البداية فتتسلسل الأحداث وصولا إلى نهايتها. فيلم غيوم يخرج عن القوالب التقليدية في السينما منحازا إلى شاعريتها، الغائب والماضي والمفقود هم من يشكل وهج الأحداث، ويدفع بشخوصه إلى المحبة والأسى والفراق والندم، محكومة بالماضي الذي تسدل ظلال أحداثه على الحاضر والمستقبل معا. فنيا ينحاز السيناريو إلى الصورة السينمائية عنه إلى الحوار، الصورة خاصة في تجسيدها المباشر لملامح شخوص الفيلم، قادرة حقا على نقل عواطفهم واختلاجات قلوبهم، سينمائيا تضفي هذه اللغة الجمال السينمائي، الذي تريد مزنة إيصاله إلينا، ما لا يستطيع الحوار نقله عبر السينما.

اختيار مُزنة لطرح تجربتها جبال ظفار، عائدة بنا إلى عام ١٩٧٨م، أي بعد ثلاثة أعوام من نهاية حرب الجبل بعد حرب طويلة استمرّت عشرة أعوام. هذه الحرب هي الماضي الذي يثقل أرواح رعاة الجبل، الماضي الذي يسدل على الحياة مشاعر الفقدان والخوف من عودة الحرب ثانية. الحرب التي تركت في كل منزل قتيلًا، أو قريبًا لقتيل، أحرقت المراعي وفتكت بالإبل مصدر حياة سكانه، والأثقل أنها تركت روح الفرقة بين أبناء الجبل، نظرا لتغير مواقفهم من موقع إلى آخر، ذلك ما نقرأ ثقله في حياة بطل الفيلم دبلان الذي يتحول بعد الحرب إلى رجل منطو على نفسه، يرفض مشاركة الناس أفراحهم وأحزانهم ويقضي معظم وقته في العناية ببندقيته، وملئها بالرصاص حتى تكون جاهزة للقضاء على النمر في أي وقت تتكرر عودة الحرب ثانية إلى جبال ظفار.

مزنة في هذا الفيلم العميق والشاعري في آن تبتعد عن تقديم الرصاص والقصف والقتلى، كما أن المرأة القتيلة لم تظهر في الفيلم أبدا، رغم ظهور ذكراها المتواصل، كهاجس يومي يلازم حياة الأب وابنه عمر وابنته سلمى، المرأة ومقتلها الغامض هي السر المكتوم في الفيلم، ابنها عمر كل ليلة ينام في حضن أخته الكبرى، متخيلا والدته تنام على سحابة بعيدة في السماء، يراقب أباه يوميا أثناء تنظيف وتعمير بندقيته، محاولا أكثر من مرة خطفها منه، دون أن يتبين لنا السبب المباشر لذلك، حتى نجاح اختطافه البندقية في مشهد سينمائي أخاذ، يوجّه فيه عمر البندقية إلى صدر أبيه طالبا منه فك لغز اختفاء أمه، تكون الفرصة مؤاتية آنذاك للأب للاعتراف لابنه وابنته أن الأم قد توفيت برصاصة طائشة أثناء معارك الجبل، دون أن يحدد من أي طرف جاءت الرصاصة، ذكاء مزنة يوقف التجربة برمتها أمام تقييم جديد يكشفه التاريخ في مستقبل الأيام، والوقت ما زال باكرا لإدانة طرف ضد آخر، فقط الخوف من عودة الحرب ثانية، هي النمر الذي يستعد دبلان يوميا لمواجهته. وأخيرا لتعليم ابنه طريقة استخدام البندقية لقتل النمر وحش الحرب قبل وصوله إلى الجبال.

مصدر إيحاء غيوم هي مجموعة من الصور الوثائقية التقطها والدها الفنان موسى المسافر، الذي دون شك عاصر مرارة تلك الأحداث، تكشف لنا جانبا مهما من حياة أبناء الجبل في ظفار أثناء الحرب وبعد انتهائها. من تلك الصور الوثائقية استمدت مزنة هذا الإلهام المتدفق، وصاغت سيناريو فيلم غيوم، الذي يأتي ليس لإدانة طرف دون آخر، بل لإدانة الحروب البشرية برمتها، ذلك لأنها نظرت لنتائجها الوخيمة في عيني دبلان رب العائلة الذي مع خروجه حيا منها إلا أنه خرج مهزوما فاقد القدرة على الحياة، معذبا بالماضي الذي قدمته مزنة كنمر يفترس كل ما أمامه دون تمييز ورحمة.

مزنة تعي جيدا آثار الحروب على تغيير العلاقات الاجتماعية بين البشر، العلاقة بين دبلان وشيخ القبيلة بعد الحرب، ليست هي العلاقة إياها قبل الحرب، يتقدم شيخ القبيلة المتقدم في العمر لخطبة سلمى صبية دبلان، المرتبطة بعلاقة عاطفية مع سالم الصبي الجبلي من جيلها. يقف دبلان وهو راعي الإبل الجبلي موقفا متقدما عندما يرفض تزويج ابنته شيخ القبيلة الثري، مزوجا إياها الصبي الفقير مع مباركة الأب له بحبات من شجرة اللبان الأسطورية والتي تصل محبة أبناء الجبل لها إلى درجة التقديس، نظرا لارتباط استخدامها بطقوس دينية في معابد الأديان الهندية بل وفي معابد الأديان السماوية قديما.

الفيلم ناطق بالشحرية لغة رعاة الجبال بظفار، كان ذلك ضروريا، هذا ما أدركته مزنة، منذ بداية اشتغالها على المشهد السينمائي العماني، بما يحمله من تنوع عرقي وثقافي أخاذ منذ قديم الزمان. قبلها قدمت فيلم شولو الناطق بالسواحيلية وفيلم بشك الوثائقي الناطق بالبلوشية. هي السينمائية التي لا تعترف بفوارق وهمية بين أبناء الوطن الواحد، القادرة على اكتشاف النسيج الاجتماعي المخفي، الرابط أبناءه روحيا على أرض واحدة، وتحت سماء واحدة.

فيلم تشولو، تناقش مُزنة فيه تجربة الانتماء الوطني والحنين إلى الجذور البعيدة خلف البحار، تدور أحداثه في زنجبار، موطن أساسي لهجرة العمانيين عبر التاريخ لقرون مضت، يستقبل تشولو الصبي أخاه عبدالله القادم من عُمان، يعيشان معا توافق البحث عن جذورهم المشتركة، يتعرضان للاعتداء من رجال أفارقة بسبب انتماء عبدالله العربي الواضح في لونه، تتراءى عمان وطنا بعيدا مجهولا لتشولو، أرضا سحرية لن يعود إليها أبدا، يعود عبدالله مع أبيه ويظل تشولو ينظر إلى البحر، إلى السفن وهي تبحر عائدة إلى عمان التي لن يراها أبدا، هكذا تتكرر تجربة الماضي الساكن كقيد يرتبط به المرؤ. ولكن بشكل إيجابي في تشولو عنه في غيوم، مزنة تتجاوز تجربة الحنين النوستالجي إلى الماضي، في الفيلمين تنظر إلى الماضي كقيد يجب علينا كسره والانطلاق إلى المستقبل دون الالتفات إليه. خاصة في مرارة أحداثه كما هو في فيلم غيوم، حيث يبقى الدم الأفريقي العماني المشترك، تجربة حضارة مشتركة أيضا، تغذي النسيج الاجتماعي العماني بخصوبة العطاء في فيلم تشولو، أي أنها تنطلق من الإيجابي في ثراء الوجود العماني بشرق إفريقيا، الثراء الذي دفع بالأفارقة إلى ما هو مثمر، حيث حمل العمانيون معهم الأساليب الحديثة في الزراعة، وارتياد آفاق العمل التجاري، ونشر الدين الإسلامي وغيرها من الدلائل الحضارية المهمة، التي تؤكد إيجابية وجودهم المبكر في شرق إفريقيا. وحش الماضي الذي يصوب له دبلان وابنه عمر البندقية لمواجهته، يحتفظ له تشولو وأخيه عبدالله بمئة قطعة من المندازي الذي خبزته لهما جدتهم الإفريقية، يحشوان فم النمر المفترس بها حتى لا يكون قادرا على افتراسهما معا. ذلك دون شك مشهد طفولي ساحر يؤكد وحدة الأخوين ضد وحش الحرب المأساوية بين العمانيين والأفارقة، أي من المحبة المشتركة بينهما نخلق إمكانية التعايش المشترك والوحش الذي يطعمه الطفلان العماني والأفريقي المندازي، هي الحرب التي خلقت روح الكراهية بينهما، وآن لنا جميعا طي صفحاتها الدموية، نحو خلق عالم أجمل لأجيالنا القادمة.

مُزنة التي جاءت بعد ستين عاما على مأساة خروج العمانيين من شرق إفريقيا بطريقة مأساوية فقد فيها العمانيون الآلاف من أبنائهم ثم أنها جاءت بعد خمسين عاما أيضا بعد نهاية حرب الجبل بظفار، تنصت إلى أوراق التاريخ التي تحفظ لنا ما فقد وتم نسيانه، مؤهلة حقا للذهاب أبعد مستقبلا، نحو تقديم تجارب العطاء العماني المتدفق عبر التاريخ، ورفد السينما العمانية الناشئة بلغة شاعرية متميزة، ذلك حقا جوهر الفن الطليعي الجاد، يضيء كالنجوم ترشد المسافرين في ليل البحار إلى المجهول.

فيلم غيوم /روائي قصير /ناطق بالشحرية/ جائزة أفضل فيلم روائي قصير /المهرجان السينمائي الخليجي ٢٠٢٤م. إخراج مزنة المسافر.

فيلم تشولو/ روائي قصير/ ناطق بالسواحيلية /جائزة أفضل سيناريو /مهرجان أبوظبي السينمائي ٢٠١٤ م. إخراج مزنة المسافر.

سماء عيسى شاعر عُماني

مقالات مشابهة

  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • واشنطن بوست: على أميركا التحرك لوقف الإبادة الجماعية في السودان
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • مندوب مصر أمام محكمة العدل: إسرائيل انتهكت كافة القوانين الدولية التي وقعت عليها
  • الوزير الشيباني يلتقي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية
  • نهاية أم مخرج سياسي.. ماذا حول صفقة "إقرار بالذنب" التي اقترحها الرئيس الإسرائيلي بشان نتنياهو؟ "تفاصيل"
  • فريق من الوكالة الذرية بطهران وشمخاني يرد على تهديدات نتنياهو
  • إيران تستقبل فريقا فنيا من الوكالة الدولية للطاقة الذرية في طهران
  • هل يكون سموتريتش صاعق تفجير لانهيار حكومة نتنياهو؟
  • صحيفة عبرية: القنبلة التي هزت ميناء رجائي الإيراني جاءت من الصين