صوّرت وسائل الإعلام الغربية فضيحة التعذيب الجنسي الإسرائيلية الأخيرة، والتي تم بموجبها اعتقال عشرة جنود بتهمة تعذيب رجال فلسطينيين جسديا وجنسيا، على أنها نوع من الانحراف عن قواعد أساليب التعذيب الإسرائيلية المعتادة. والمقصود هنا أن تعذيب الإسرائيليين للسجناء الفلسطينيين لا يتضمن عادة عمليات اغتصاب. وقد أُطلق سراح أربعة من الجنود الإسرائيليين المعتقلين في وقت لاحق.



وصفت وزارة الخارجية الأمريكية، التي يُفترض بأنها شعرت بالفزع إزاء الواقعة، مقطع فيديو التعذيب بأنه "مروع"، وأصرت على أنه "يجب أن يكون هناك عدم تسامح على الإطلاق مع الاعتداء الجنسي واغتصاب أي معتقل، نقطة على السطر.. إذا كان هنالك معتقلون تعرضوا للاعتداء الجنسي أو الاغتصاب، فإن حكومة إسرائيل، وجيش الدفاع الإسرائيلي، بحاجة إلى التحقيق بشكل كامل في هذه الأفعال ومحاسبة أي شخص مسؤول إلى أقصى حد يسمح به القانون". أما البيت الأبيض، والذي من المفترض أنه ينأى بنفسه أيضا عن ممارسات إساءة معاملة السجناء السياسيين المحتجزين في الزنازين الأمريكية، فقد حافظ على رباطة جأشه، ولكنه وجد أن التقارير عن التعذيب الجنسي الإسرائيلي "مقلقة للغاية". وقد حذا الاتحاد الأوروبي حذوه وزعم أنه أيضا "قلق للغاية".

أثار اعتقال الجيش الإسرائيلي للجنود المارقين الذين اغتصبوا السجين الفلسطيني اغتصابا جماعيا موجة من الغضب بين أوساط الإسرائيليين اليمينيين (الذين يشكلون أغلبية الناخبين الإسرائيليين) الذين حاولوا، ومعهم أعضاء في الكنيست الإسرائيلي، اقتحام منشأتين عسكريتين كان الجنود محتجزين فيهما لتحريرهم. وفي الوقت نفسه، دافع العديد من وزراء الحكومة الإسرائيلية عن اغتصاب السجناء الفلسطينيين باعتباره "عملا مشروعا". هذا الشعور بالصدمة مُستغرَب، حيث إن منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "بتسيلم" كانت قد ذكرت أن إسرائيل اتبعت سياسة منهجية لإساءة معاملة السجناء وتعذيبهم منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حيث أخضعت المعتقلين الفلسطينيين لأعمال عنف، بما في ذلك الاعتداء الجنسيوقد ناقشت قناة إسرائيلية صباحية أفضل السبل لتنظيم اغتصاب السجناء الفلسطينيين، لكنها انتقدت الطريقة "غير المنظمة" التي يتم بها اغتصابهم، وهي مناقشة تبدو عادية في إسرائيل، ولكن المراقبين الغربيين تظاهروا بالصدمة إزاءها.

لكن هذا الشعور بالصدمة مُستغرَب، حيث إن منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "بتسيلم" كانت قد ذكرت أن إسرائيل اتبعت سياسة منهجية لإساءة معاملة السجناء وتعذيبهم منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حيث أخضعت المعتقلين الفلسطينيين لأعمال عنف، بما في ذلك الاعتداء الجنسي. وتضمن التقرير تفاصيل عن كيفية تعرض السجناء الفلسطينيين للضرب التعسفي والمعاملة المهينة والمذلة والحرمان من النوم، فضلا عن "الاستخدام المتكرر للعنف الجنسي بدرجات متفاوتة من الشدة".

وقد تمت دعوة أحد المغتصِبين الإسرائيليين المزعومين للظهور مقنّعا على القناة 14 التلفزيونية الإسرائيلية للدفاع عن عمليات الاغتصاب. وقد أصدر لاحقا مقطع فيديو يخلع فيه قناعه على تويتر ويُظهر فخره بوحدته ومعاملتها للفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، كانت التغطية التلفزيونية الإسرائيلية تدعو إلى وصف من سرّب مقطع الفيديو الخاص بالاغتصاب للجماعات الحقوقية بـ"الخائن" لإسرائيل.

لكن هذا ليس تطورا جديدا في مستوى وحشية النظام الاستعماري-الاستيطاني الإسرائيلي، فقد استخدم الجيش الإسرائيلي التعذيب الجسدي والجنسي بشكل منهجي ضد الفلسطينيين منذ عام 1967 على الأقل، كما كشفت جماعات حقوقية قبل سنوات. وقد كانت السادية سمة مميزة لمعاملة المستعمرين الصهاينة للفلسطينيين منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، كما اشتكى حتى القادة الصهاينة في تلك الفترة. لكن هذه السادية والتعذيب الجنسي الذي يصاحبها لا يستندان غالبا إلى الغطرسة الاستعمارية الأوروبية فقط، بل وأيضا إلى وجهات نظر استشراقية مفادها أن العرب "لا يفهمون إلا مبدأ القوة" فقط، وأنهم يعانون جراء التعذيب الجنسي أكثر من نظرائهم الأوروبيين البيض على المستوى النفسي والثقافي.

لكن إسرائيل ليست الوحيدة التي تستخدم هذه الممارسات. ففي أعقاب الكشف في عام 2004 عن التعذيب الجسدي والجنسي الممنهج الذي مارسته الولايات المتحدة بحق السجناء العراقيين في سجن أبو غريب في عام 2003، كشف الصحافي الأمريكي المخضرم سيمور هيرش أن الرأي القائل بأن "العرب معرضون بشكل خاص للإذلال الجنسي أصبح موضوعا للحديث بين المحافظين المؤيدين للحرب في واشنطن في الأشهر التي سبقت غزو العراق في آذار/ مارس 2003". ووفقا لهيرش، فقد علم المحافظون الجدد الأمريكيون بمثل هذا "الضعف" من كتاب المستشرق الإسرائيلي رافائيل باتاي سيئ السمعة، الذي صدر عام 1973 تحت عنوان "العقلية العربية". ونقل هيرش عن مصدره أن الكتاب كان "إنجيل المحافظين الجدد فيما يتعلق بالسلوك العربي". ويؤكد مصدر هيرش أن مناقشات المحافظين الجدد برزت فيها فكرتان: "أولا، أن العرب لا يفهمون إلا القوة، وثانيا، أن أكبر نقاط ضعف العرب هي الشعور بالعار والإذلال". ويواصل هيرش تقريره:

إسرائيل ليست الوحيدة التي تستخدم هذه الممارسات. ففي أعقاب الكشف في عام 2004 عن التعذيب الجسدي والجنسي الممنهج الذي مارسته الولايات المتحدة بحق السجناء العراقيين في سجن أبو غريب في عام 2003، كشف الصحافي الأمريكي المخضرم سيمور هيرش أن الرأي القائل بأن "العرب معرضون بشكل خاص للإذلال الجنسي أصبح موضوعا للحديث بين المحافظين المؤيدين للحرب في واشنطن
"أضاف المستشار الحكومي أن هناك هدفا جديا ربما كان وراء الإذلال الجنسي والصور الملتقطة. وكان من المعتقد أن بعض السجناء سيقومون بأي شيء -بما في ذلك التجسس على زملائهم- لتجنب نشر صور تعذيبهم المخزية بين أفراد الأسرة والأصدقاء. وقال المستشار الحكومي: لقد قيل لي إن الغرض من الصور هو إنشاء جيش من المخبرين، أشخاص يمكن تسريبهم مرة أخرى بين السكان. وأضاف أن الفكرة كانت أن هؤلاء المخبرين سوف يكونون مدفوعين بالخوف من الفضيحة، وسيقومون بجمع المعلومات حول أعمال التمرد الوشيكة. لكن إذا كان الأمر بالفعل كذلك، فإن هذا لم يكن فعالا؛ فقد استمر التمرد في النمو".

لا يمثل هذا التعذيب العنصري الثقافات الإمبريالية فقط في الوقت الحاضر، بل وأيضا تاريخيا. وفيما يلي أحد هذه التقارير:

"إن أنواع التعذيب المستخدمة متنوعة، فهي تشمل الضرب بالقبضات و[الدوس] بالأحذية.. فضلا عن استخدام العصي للضرب والجلد حتى الموت... ومن أساليب التعذيب التي استخدمها الجنود في التعذيب إدخال العصي في شرج الضحايا، ثم تحريك العصا يمينا ويسارا، وأماما وخلفا. كما تضمنت أساليب التعذيب الضغط على الخصيتين باليدين وعصرهما حتى يفقد الضحية وعيه من شدة الألم، وحتى تتورم الخصيتين إلى الحد الذي لا يستطيع معه الضحية المشي أو الحركة إلا بحمل رجليه الواحدة تلو الأخرى.. كما تضمنت أساليب التعذيب تجويع الكلاب ثم استفزازها ودفعها لالتهام لحم السجين وأكل فخذيه. كما تضمنت أساليب التعذيب التبول على وجوه الضحايا.. [ومن أشكال التعذيب الأخرى] اعتداء الجنود عليهم، حيث يبدو أن عددا من الأشخاص قد تعرض لذلك".

كُتِب هذا التقرير الذي يصف بعبارات متطابقة تقريبا ما عاشه الأسرى العراقيون في عام 2003 على أيدي الأمريكيين أو ما عاشه الأسرى الفلسطينيون منذ عام 1967 على أيدي الإسرائيليين؛ في آب/ أغسطس 1938 لوصف معاملة الجنود البريطانيين واليهود الصهاينة للثوار الفلسطينيين أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاستعمار في ثلاثينيات القرن العشرين. وكان كاتب التقرير "صبحي الخضرا" سجينا سياسيا فلسطينيا معتقلا في سجن عكا، وقد علم بالتعذيب الذي تعرض له هؤلاء الأسرى والذي جرى في القدس، عندما نقل الأسرى لاحقا إلى سجنه في عكا، ورووا له تجاربهم وأظهروا له علامات التعذيب على أجسادهم. وقد وصف الخضرا دوافع الجلادين البريطانيين على النحو التالي:

"لم يكن هذا تحقيقا تستخدم فيه أساليب القوة، لا، لقد كان انتقاما وإطلاقا لأشد الغرائز وحشية وهمجية وروح الكراهية المركزة التي يشعر بها هؤلاء الرعناء تجاه المسلمين والعرب. قاموا بالتعذيب من أجل التعذيب فقط، وإشباع شهيتهم للانتقام، وليس من أجل التحقيق أو الكشف عن الجرائم".

بما أن قتل واغتصاب الفلسطينيين وسرقة أراضيهم وبلادهم كانت استراتيجية إسرائيلية مستمرة منذ عام 1948، فإن تحقيق الجيش الإسرائيلي في جريمة الاغتصاب الجماعي التي كُشف عنها مؤخرا لسجين فلسطيني لا يمكن أن يقوم سوى بإعادة تأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها مع التمسك بالمبادئ الأخلاقية والقانونية الأكثر نبلا، وهي المبادئ الأخلاقية والقانونية نفسها التي سمحت لإسرائيل منذ عام 1948 باقتلاع شعب بأكمله من وطنه واضطهاده من دون عقاب
وقد تم نشر تقرير الخضرا في الصحافة العربية وتم إرساله إلى أعضاء البرلمان البريطاني.

يتميز مزيج الجنس والعنف في بيئة إمبريالية أمريكية (أو أوروبية أو إسرائيلية) بالعنصرية والسلطة المطلقة، وهو ممارسة معتادة وليست استثنائية. فأثناء حرب الخليج "الأولى" في عامي 1990 و1991، أمضى طيارو المقاتلات والقاذفات الأمريكيون ساعات في مشاهدة الأفلام الإباحية ليضعوا أنفسهم في المزاج المناسب للقيام بالقصف الهائل الذي نفذوه في العراق. وفي فيتنام، لم يتم تطبيع اغتصاب الجنود الأمريكيين للنساء الفيتناميات المقاتلات أثناء الغزو والاحتلال الأمريكي للبلاد فحسب، بل كان جزءا من تعليمات التدريب للجيش الأمريكي. وقد ساد النموذج الاستشراقي والجنساني نفسه الذي يشكّل المواقف الإسرائيلية تجاه السجناء الفلسطينيين بين الأمريكيين في فيتنام. والواقع أن اغتصاب الإسرائيليين للنساء الفلسطينيات تمت َ"سلْحَنَتُه" (أو جعله سلاحا) أثناء حرب عام 1948 وبعدها على أساس عنصرية سادية مماثلة. كما استمرت عمليات التعذيب والانتهاك الجنسي التي تمارسها إسرائيل بحق الرجال والنساء الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة على مدى الأشهر العشرة الماضية، كما أفادت الأمم المتحدة والجماعات الحقوقية.

إن التظاهر بأن الجيش الإسرائيلي "جيش أخلاقي"، ناهيك عن كونه "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، كما تزعم العنصرية الإسرائيلية في كثير من الأحيان، ليس أكثر من محاولة جديدة من حملات العلاقات العامة للتغطية على جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. وبما أن قتل واغتصاب الفلسطينيين وسرقة أراضيهم وبلادهم كانت استراتيجية إسرائيلية مستمرة منذ عام 1948، فإن تحقيق الجيش الإسرائيلي في جريمة الاغتصاب الجماعي التي كُشف عنها مؤخرا لسجين فلسطيني لا يمكن أن يقوم سوى بإعادة تأكيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها مع التمسك بالمبادئ الأخلاقية والقانونية الأكثر نبلا، وهي المبادئ الأخلاقية والقانونية نفسها التي سمحت لإسرائيل منذ عام 1948 باقتلاع شعب بأكمله من وطنه واضطهاده من دون عقاب.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التعذيب الإسرائيلية فلسطينيين اغتصاب إسرائيل فلسطين تعذيب اغتصاب سجون مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة رياضة سياسة رياضة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السجناء الفلسطینیین الجیش الإسرائیلی التعذیب الجنسی منذ عام 1948 فی عام

إقرأ أيضاً:

لماذا تشن إسرائيل الحرب على الأطفال الفلسطينيين

يمشون حفاة عبر الحطام– أطفال يحملون الأطفال، أذرع صغيرة ملتفة حول الأشقاء الأصغر سناً، تتمسك بما تبقى لهم من عائلات.

في غزة لا توجد سلامة، لا يوجد صمت، لا يوجد توقف. هناك فقط حركة: الهرب، الحفر، الهرب تارة أخرى. تطاردهم القنابل عبر القطاع. تتربص بهم الدبابات في الممرات، وتزن المسيرات فوق رؤوسهم، تراقبهم، وتتأهب لضربهم.

لقد رأينا وجوههم، بعضها يغطيها الرماد، تمنعهم الصدمة من البكاء، والبعض ترتفع أصواتهم بالصراخ عبر الغبار ينادون أسماء بعينها – أسماء لم يعد أصحابها يستجيبون. أطفال لوحدهم تماماً يتنقلون بين القبور.

كثيرون لم يعد لهم أسماء، فقط علامات –رقم أو إشارة بخط القلم– رسمت على أذرعهم حتى إذا ما ماتوا تعرف عليهم أحد من الناس.

ورغم ذلك يتم اصطيادهم.

في وقت مبكر من هذا الشهر، وقبل أن تشرق الشمس، قتل ما يقرب من مائتي طفل في وابل منسق من الضربات الإسرائيلية. لم يحصل ذلك في قتال ولا بالخطأ. بل ماتوا في البيوت، في خيام، وبينما هم نيام، يتلحفون البطانيات، وتحت أسقف ما لبثت أن انهارت فوق رؤوسهم.

عندما سئلت عن المذبحة، لم تجفل سفيرة إسرائيل لدى بريطانيا تزيبي هوتوفلي، لم تقدم اعتذاراً، ولم تعبر عن أسفها، ولم تنطق حتى بكلمة "أطفال". لم يكن هناك سوى ذلك النص المعهود عن حماس، وعن الدروع البشرية، وعن الدفاع عن النفس.

استراتيجية التستر
وداخل إسرائيل، كان الوضع أردأ من ذلك. القتلى وُصفوا بأنهم "إرهابيون تعرضوا للتصفية". لم تذكر لا الأسماء ولا الأعمار. وحسبما قال الصحفي الإسرائيلي أورلي نوي "تبنت وسائل الإعلام الادعاء بأنه لا يوجد أبرياء في غزة".

باتت تلك اللغة نوعاً من الروتين، "يتم استنفارها حتى يتسنى لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والجيش الاستمرار في تنفيذ الإبادة الجماعية". ليس هذا خطأ في الصياغة ، بل استراتيجية للطمس والتستر.

ولكن العالم رأى الجثث الصغيرة تحصى الواحدة تلو الأخرى. منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023 قتل في غزة أكثر من 18 ألف طفل، ومن لازالوا تحت الركام أعدادهم قد تفوق ذلك.

هذه ليست حوادث، بل استراتيجية ممنهجة.

التجويع حصار ثان. قبل عام أعلنت منظمة اليونيسيف أنه في شمالي غزة واحد من كل ثلاثة أطفال دون سن الثانية يعاني من سوء تغذية حاد واصفة ذلك "بالتصعيد المذهل" على ما كان عليه الحال في الشهور السابقة. في خان يونس، 28 بالمائة من الأطفال يعانون من المجاعة، وأكثر من 10 بالمائة منهم على حافة الموت بسبب الهزال. تنتفخ بطونهم، وتنكمش أطرافهم، وينشب فيهم الجوع مخالبه بينما يناقش زعماء العالم "ممرات عبور المساعدات".

عندما يحل المرض، لا توجد مستشفيات، ولا أدوية، ولا مياه نظيفة. أطفال غزة لا يُقصفون فقط، بل يُجوّعون، وتُنهش أجسادهم، ثم يتركون بلا علاج.

وفق مقال نشرته لمجلة "ذي لانسيت" الطبية المرموقة في العام الماضي، كان يوجد مرحاض واحد لكل 220 شخص، ومكان استحمام واحد لكل 4500 شخص. لقد غدا المرض سلاحاً جديداً، إذ يعاني مئات الآلاف من التهابات حادة في الجهاز التنفسي، وتكثر حالات الإسهال بين الأطفال دون سن الخامسة.

كثيراً ما يفقد الناجون من القنابل ومن الجوع بعضاً من أطرافهم. أكثر من عشرة أطفال تجرى لهم عمليات بتر كل يوم. في غرف مظلمة، من دون تخدير، يبتر الجراحون الأعضاء المهشمة تحت نور المصابيح اليدوية.

في غزة اليوم أعلى عدد من الأطفال الذين بترت أطرافهم بالنسبة لعدد السكان في العالم. أي نوع من الحرب هذه التي تفرز جيلا من الأطفال بلا سيقان؟ أي نوع من الدول هذه التي تشن حربا كهذه، ثم تسميها دفاعاً عن النفس؟

ثمة مصطلح بات متداولا الآن في مستشفيات غزة: "طفل جريح بدون عائلة" WCNSF. يُدوّن المصطلح بعجالة في سجلات بيانات الأيتام الذين يسحبون من تحت الأنقاض – محروقين، مضرجين بالدماء، وحيدين. لم يبق على قيد الحياة من يعرفهم وينطق بأسمائهم.

عندما يحل المرض، لا توجد مستشفيات، ولا أدوية، ولا مياه نظيفة. أطفال غزة لا يُقصفون فقط، بل يُجوّعون، وتُنهش أجسادهم، ثم يتركون بلا علاج.
اعتبارهم أخطاراً
بينما يُدفن أطفال ويمزّقون، يحاصرون في الضفة الغربية المحتلة وتُخمد أصواتهم.

في كل عام، ما بين 500 إلى 700 طفل فلسطيني –بعضهم لا تتجاوز أعمارهم الثانية عشر– يتعرضون للتوقيف والحجز، ويعرضون على المحاكم العسكرية الإسرائيلية. أكثر التهم شيوعاً هي إلقاء الحجارة.

كثيرون يجرون من بيوتهم في جوف الليل، تعصب عيونهم وتوضع اللواصق على أفواههم. يُساقون بلا إنذار ويحقق معهم في غياب آبائهم ومحاميهم. يُضربون ويُهددون، ويجبرون على التوقيع على اعترافات – تكون مكتوبة في الأغلب بالعبرية، لغة لا يفهمونها.

في الشهر الماضي، أصبح معين غسان فهد صلاحات، الذي يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً، أصغر فلسطيني يحتجز تحت عنوان الاعتقال الإداري، بدون تهم ولا محاكمة، تجدد مدة اعتقاله بناء على أدلة سرية لا يسمح له ولا لمحاميه الاطلاع عليها.

وهذه ليست حالة استثنائية، بل هي القاعدة. فمنذ بداية الانتفاضة الثانية وحتى عام 2015 فقط اعتُقل للاعتقال على أيدي القوات الإسرائيلية أكثر من 13 ألف طفل فلسطيني.

يمضي قتل الأطفال بلا توقف. وفق منظمة الدفاع عن الأطفال في فلسطين، قتل على الأقل 2427 طفلاً فلسطينياً على أيدي القوات الإسرائيلية ما بين الانتفاضة الثانية ومنتصف عام 2024، هذا عدا من قتلوا في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023. القتل يستمر منذ عقود في نقاط التفتيش والمخيمات والمدن. ولا يمكن ببساطة اعتبار هذا المستوى من العنف أضراراً غير مقصودة. هي سياسة متكررة، سياسة مؤسسة، سياسة محكمة.

يتجاوز التوحش العنف الجسدي. لقد تفشى في اللغة.

أواخر عام 2023، وأثناء تبادل الرهائن، جرى استبدال الأسرى الإسرائيليين بسجناء فلسطينيين، كثيرون منهم من القصر. إلا أن الـ"بي بي سي"، وحتى صحيفة "الغارديان"، لم تصفا هؤلاء بأنهم أطفال، وأشارتا إليهم بدلاً من ذلك بلفظة "مراهقين" أو "أناس في عمر 18 أو دون ذلك". يعكس هذا التلطيف المتعمد في التوصيف طمساً هادئاً: انزع الطفولة عنهم وبذلك تحرمهم من التعاطف. انزع عنهم البراءة، فلا تحتاج أقفاصهم إلى مفاتيح.

هذا ليس مجرد إهمال لغوي، بل جزء من استراتيجية أيديولوجية تعتبر الأطفال الفلسطينيين أخطاراً محدقة لا مجرد ضحايا. إذا لم يكونوا أطفالاً، فقتلهم ليس جريمة نكراء، ولا حاجة لأن يُرثوا ولا يُبكَوا.

عقود من الطمس
لم يبدأ هذا الإجراء بالأمس القريب، بل لم يزل مستمراً منذ عقود.

أثناء الانتفاضة الأولى (1987-1993)، ثار الأطفال وخرجوا للشوارع والحجارة بأيديهم. فكان الرد الإسرائيلي اللجوء إلى القوة الفظة. ما كان من إسحاق رابين، الذي كان حينذاك يشغل منصب وزير الدفاع، إلا أن أمر الجنود بتكسير عظامهم، وهذا ما فعلوه. تظهر المقاطع المصورة الأطفال مطروحين أرضاً، بينما يهشم الجنود الإسرائيليون أذرعهم بالصخور في أيديهم. لم يكن الأمر فوضى بل تطبيقا للأوامر.

نفس المنطق يُطبق اليوم. لم تعد العصي هي الأدوات، بل الصواريخ والفوسفور الأبيض، وبات تكسير العظام بترا جماعيا للأطراف. والغاية هي نفسها: شل المستقبل.

تركة بشعة وجدت واحدة من أبرز تجلياتها في مقتل الطفل محمد الدرة. في عام 2000، مطلع الانتفاضة الثانية، جثا الطفل البالغ من العمر 12 سنة بجانب والده خلف برميل جنوبي مدينة غزة. حاول الأب جاهدا حماية ابنه بجسده النحيل، إلا أن القناص واصل استهدافه، وسط صرخات الأب المفجوع: "مات الولد، الولد مات!"

وُثقت الحادثة بالصوت والصورة، وشاهدها العالم بأسره. انبرت إسرائيل تنفي، وتتلاعب، وتتهم، إلا أن الحقيقة صمدت: إعدام طفل على مرأى ومسمع من العالم.

ثم جاء فارس عودة فتى الـ14 سنة. وقف فارس وحيدا أمام دبابة إسرائيلية، والحجر في يده، يعترض الدبابة بجسده متحديا بطشها. بعد أيام أطلقوا النيران عليه فأصيب في رقبته وقضى نحبه قرب معبر كارني في غزة. بيد أن صورة الغلام يقف وحيداً في مواجهة جيش جرار والحجر في يده غدت محفورة في الذاكرة الفلسطينية. نعم قتلوه، ولكن صورته بقيت حية.

الحقيقة هي أن استهداف الأطفال لم يزل منذ زمن طويل عقيدة إسرائيلية، منذ مذبحة دير ياسين في عام 1948 إلى قصف مدرسة مصرية في بحر البقر في عام 1970، إلى مذبحة قانا في لبنان في عام 2006، التي راح ضحيتها العشرات.

الحرب على الاستمرارية
وحتى في اللحظات التي من المفترض أن يسود فيها الهدوء، يستمر القتل. في عام 2015 هاجم المستوطنون الإسرائيليون بالقنابل الحارقة منزل عائلة الدوابشة في الضفة الغربية المحتلة، فأحرقوا الرضيع  علي البالغ من العمر ثمانية عشر شهراً. فيما بعد رقص الإسرائيليون في حفل زفاف وهم يطعنون صورة الصغير القتيل احتفالاً بما حاق به.

واليوم يتحدث السياسيون والحاخامات الإسرائيليون عن الأطفال الفلسطينيين باعتبارهم أعداء. بل دعا أحد الحاخامات إلى قتلهم بدون تردد. وأعلن أحد أعضاء الكنيست أن كل طفل يولد في غزة إرهابي. واستدعى نتنياهو حكاية العماليق التوراتية ليصور الموت الجماعي – بما في ذلك قتل الأطفال – باعتباره واجباً إلهياً.

تعليقاً على الوضع في غزة، صرح مسؤول في اللجنة الدولية لحقوق الطفل قائلاً: "يكاد القتل الفظيع للأطفال يكون حدثاً فريداً في التاريخ. هذه انتهاكات جسيمة لم نعتد على رؤيتها".

إلا أن العالم رأى، وما يزال يرى، تكدس الجثث الصغيرة بعضها فوق بعض.

هذه ليست إبادة جماعية من حيث العدد فقط، بل ومن حيث النوايا كذلك. ولا ينتهي الأمر بالقتل والجرح، بل يصل إلى ما هو أعمق من ذلك، إذ ينال الذاكرة والتصور.

من ينجون تُنتزع منهم الطفولة، تحولت مدارسهم إلى ركام، ودفن معلموهم تحت ألواح الطباشير. أكثر من ثمانين بالمائة من مدارس غزة إما تضررت أو دمرت بالكامل. وحتى ساحات اللعب طمست، والمراجيح تحولت إلى خراب، وأحالت الصواريخ ملاعب كرة القدم حُفرا.

يُسلب الأطفال مستقبلهم وأبدانهم وعائلاتهم والقدرة على أن يحلموا.

الحقيقة هي أن استهداف الأطفال لم يزل منذ زمن طويل عقيدة إسرائيلية
ومع ذلك هم صامدون. نراهم بين الحطام: أولاد يركلون كرات صنعت من لفائف القماش فوق التراب، وبنات يجدلن شعورهن داخل الخيام، وأطفال يرسمون  بيوتاً ما عادت قائمة. يبنون بيوتاً للعب من المعادن الملوية. يبتسمون بينما تذرف عيونهم الدموع. يلعبون بين الأشباح.

مصابون بدنياً ويعانون نفسياً. مسكونون بذكريات زملائهم في الفصول التي دمرت ودفن روادها.

ومع ذلك يستمرون، لأن الفلسطينيين يحبون الحياة – بقوة، بشغف، بتحد. يتعلقون بها عبر الدخان، وعبر الركام، وعبر كل محاولة لإطفاء جذوة الحياة فيهم.

إننا نشهد حرباً على الأطفال، على الاستمرارية. الغاية منها ليس فقط الإخضاع للهيمنة وإنما الطمس بالتام.

كانت غولدا مائير، التي ولدت في أوكرانيا، وكانت ذات يوم تحمل جواز سفر فلسطيني ثم بعد ذلك أصبحت رئيسة وزراء إسرائيل، قد طمأنت ذات مرة المستعمرين من أوليائها قائلة: "سوف يموت الكبار وينسى الصغار."

ولكنهم لم ينسوا. نعم، لقد مات الكبار، ولكن ليس قبل أن يمرروا للصغار أسماء القرى وحكايات الشجر ومفاتيح أقفال الأبواب والخرائط المحفورة في الذاكرة. ورث الصغار كل ذلك: حب الأرض وحق العودة.

ومن أجل ذلك يجب تصفيتهم، فهم في أعين إسرائيل أعظم خطر يتهددها.

لأنه طالما أن هناك أطفالا، تستمر الحكاية.

طالما أن هناك أطفالا، ففلسطين حية.

مقالات مشابهة

  • الجيش الإسرائيلي: تحول جذري في سياسة إسرائيل تجاه حماس وغزة
  • الجيش الإسرائيلي يعلن عدد الأهداف التي قصفها في غزة وسوريا ولبنان
  • لماذا تشن إسرائيل الحرب على الأطفال الفلسطينيين
  • بالفيديو .. السفير الإسرائيلي لدى النمسا يدعو لإعدام الأطفال الفلسطينيين في غزة
  • السفير الإسرائيلي لدى النمسا يدعو لإعدام الأطفال الفلسطينيين في غزة
  • الجيش الإسرائيلي يكشف عدد الأهداف التي ضربها في غزة
  • بسبب المظاهرات.. وزير الدفاع الإسرائيلي يصل الكنيست على متن مروحية عسكرية
  • وسط مخاوف الفلسطينيين من الضم.. ازدياد المواقع الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية منذ 7 أكتوبر
  • كاتب صحفي: تهجير الفلسطينيين هدف استراتيجي لإسرائيل وليس مجرد مواجهة عسكرية
  • الجيش الإسرائيلي يعلن قصف أهداف عسكرية في وسط سوريا