كيف أثر الصراع على الصحة النفسية للسوريين؟
تاريخ النشر: 12th, August 2024 GMT
تشير تقديرات أممية إلى أن واحدا من كل 5 أفراد يقيمون في منطقة تشهد نزاعاً مسلحاً يعاني من اضطرابات ما بعد الصدمة، ومن ضعف في مؤشرات الصحة، وهو ما ينطبق على ملايين السوريين الذين عنوا من ويلات الحرب على مدار أكثر من عقد من الزمان.
وفي سوريا، يعاني القطاع الصحي من فجوة في المعلومات المتعلقة بالجانب النفسي.
وتقدر منظمة الصحة العالمية -في مسح أجرته عام 2020- إصابة 44% من المشاركين المقيمين داخل سوريا باضطراب نفسي حاد، و27% بالأعراض الكاملة للاضطراب النفسي الحاد المصاحب لاضطراب إجهاد ما بعد الصدمة.
وترى مصادر أممية أخرى أن نحو 50% من إجمالي السكان، لا سيما فئة النساء والأطفال، في حاجة إلى خدمات صحية نفسية ودعم نفسي اجتماعي.
يُعرف المعهد الوطني الأميركي للصحة العقلية اضطرابات ما بعد الصدمة بأنها "اضطرابات نفسية، تتطور لدى بعض الأشخاص ممن تعرضوا لحدث صادم أو مخيف أو خطير".
ويعاني المصابون، بحسب الرابطة الأميركية لعلم النفس، من مشاعر مزعجة، تتعلق بتجارب سابقة، قد تستمر فترة طويلة، وقد يعيشون الحدث مرة أخرى من خلال ذكريات الماضي أو الكوابيس.
كما تتملكهم مشاعر الحزن أو الخوف أو الغضب، وقد يشعرون بالانفصال أو الاغتراب عن الآخرين، وقد تكون لديهم ردود فعل سلبية قوية تجاه أمور اعتيادية، كالضوضاء العالية مثلاً.
وتتعلق مظاهر اضطراب ما بعد الصدمة في سوريا بعوامل ضغط شديدة، ناتجة عن الحرب ومآسيها. وتتقدم الخسائر البشرية والمادية، على غيرها من العوامل المؤثرة على صحة نفسية أغلب السكان.
ويرى عبد الله موصللي الباحث السوري المختص بعلم النفس والمقيم في باريس أن الصراع العسكري، والحالات الطارئة، وتحديات سبل العيش السائدة منذ أكثر من عقد، أدت إلى تفاقم الحالة الصحية لملايين السوريين، سواء في المناطق التي تسيطر عليها حكومة بشار الأسد، أو في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة المسلحة شمال البلاد.
وتوقع الباحث -في حديثه للجزيرة نت- وجود أعداد كبيرة ومن فئات عمرية مختلفة مصابين بهذه الأعراض، يفوق عددهم ما هو معلن، يعيش بعضهم في الظل، بسبب نظرة سلبية سائدة في المجتمع عن الأمراض العصبية والنفسية، تمنعهم من التصريح عن حالتهم، أو مراجعة طبيب مختص.
وأضاف أن بيئة الحرب، ومشاهد القصف والدمار، وأشلاء القتلى، وأصوات الانفجارات، أحدثت صدمات نفسية لدى السكان الذين تعرضت مناطقهم لهجمات الجيش النظامي، وعاشوا أهوال الحرب من دون حماية، مشيراً إلى أن أعراض ما بعد الصدمة أصبحت شائعة، حتى لدى الذين غادروا البلاد إلى دول الجوار "حيث حملوا معهم أوجاعهم، ومشاعر الرعب، والخوف، وعدم الاستقرار، والقلق من المستقبل".
من جهة ثانية، أجرت مجموعة عمل معنية بشؤون الحماية شمال غرب سوريا، تضم وكالات أممية ومنظمات دولية مستقلة، تقييما مطلع مارس/ آذار العام الماضي، شمل لقاءات مع نحو 1600 فرد من نحو 260 تجمعاً سكنياً شمال غرب سوريا، أعرب فيه 65% ممن شملهم التقييم عن حاجتهم إلى خدمات الصحة الذهنية والدعم النفسي والاجتماعي.
ألمانياوعلى الصعيد ذاته، بينت دراسة أجرتها الغرفة الألمانية الاتحادية للمعالجين النفسيين، في وقت سابق، أن نصف اللاجئين السوريين لديها يعانون من مشاكل عقلية.
تركيافي حين أفادت السلطات التركية بأن 55% من اللاجئين السوريين على أراضيها في حاجة إلى دعم نفسي.
الأردنلاجئو المملكة لا تختلف أوضاعهم الصحية النفسية كثيراً. إذ نقلت دراسة نشرتها الصحة العالمية عن تقييم أجرته مؤسسة أسترالية وطنية أن 13% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عاماً، ظهرت عليهم أعراض سريرية مماثلة، وسعوا للحصول على مساعدة مقارنة بثلث الشابات. بينما عزف الباقون عن طلب المساعدة بسبب حواجز وعوامل أعاقت وصولهم.
لبنانأجرت الباحثة العراقية لنا عزام علي دراسة مسحية -بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة ويلفريد لورييه في أونتاريو بكندا- لتقييم الصحة العقلية والنفسية للاجئين السوريين بمخيمات اللجوء بلبنان.
وخلصت (لنا) المتخصصة بعلوم النفس والأعصاب إلى أن أول صور "اضطراب ما بعد الصدمة" التي واجهتها لدى زيارتها أحد المخيمات هي مشاعر "الغضب والحذر والخوف" التي قوبلت بها.
وأضافت "ومن جملة العلامات، تبدّت لي أعراض أخرى تتعلق بالاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة. فأثناء زيارة لإحدى العائلات، التقيت أماً عاجزة عن تحريك قدميها بسبب شلل أصابها، بينما شُخّصت الحالة على أنها أحد الأعراض السيكوسوماتية لاضطراب ما بعد الصدمة".
وتعتبر الأمراض "السيكوسوماتية" اضطرابات جسدية، ويلعب العامل النفسي فيها دوراً أساسيا.
ونقلت الباحثة عن سيدة أخرى كيف ترتعش بهلع كلما سمعت صوتًا مزعجاً، وتتداعى إلى ذاكرتها جميع الأحداث المرتبطة بفرارها من الحرب، فتجتاح أنفها رائحة البارود والدخان، وتأتي بردود فعل جسدية مقترنة بالحدث.
وعلى الصعيد ذاته، كشفت دراسة استقصائية أجرتها شركة إبسوس (Ipsos) المتخصصة بأبحاث السوق -في يناير/كانون الثاني 2021، مع عينة ممثلة، من حيث النوع والمنطقة، للسوريين من الفئة العمرية 18 إلى 25 عاماً، في عدة دول من بينها سوريا- أن 54% من العينة عانوا من اضطرابات في النوم، و73% من القلق، و58% من الاكتئاب، و46% من الشعور بالعزلة، و62% من الإحباط، و69% من الحزن بسبب الحرب.
الاستجابة بمناطق سيطرة الحكومةيعاني النظام الصحي في سوريا من ضغوط شديدة، ومستمرة، نتيجة دمار أصوله المادية، وتصاعد احتياجات المتضررين من تداعيات الصراع، إضافة إلى انخفاض تمويل الخدمات التي يقدمها انخفاضاً كبيراً، بحسب بيانات منظمة الصحة.
وخلال السنوات الأولى لحكم الأسد (2005-2001) ارتفع عجز الميزانية السنوية المخصصة لهذا القطاع من 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي، إلى 5%، وفق منظمة نيو هيومانيتريان (the new humanitarian).
ومطلع الحرب، قدرت الصحة العالمية نسبة الإنفاق على القطاع الصحي بنحو 3.3% من الناتج القومي الإجمالي، وهي نسبة منخفضة مقارنة بإنفاق دول الجوار خلال الفترة ذاتها، حيث بلغ في الأردن نحو 8.0% ولبنان 7.5% والعراق 4.8%.
وأثر هذا الانخفاض على أداء القطاع، ومجمل الخدمات التي يقدمها في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، كما دل لاحقاً على ضعف استجابته للمخاطر الصحية التي تعرضت لها البلاد.
ويقر رئيس الرابطة السورية للأطباء النفسيين الدكتور مازن حيدر بوجود فجوة ضخمة في خدمة الطب النفسي، إذ لا يغطي التأمين الصحي المرض النفسي أو الأدوية أو أي نوع آخر من العلاج النفسي، وهذا يعني أن المرضى يتعين عليهم تحمل التكلفة الإجمالية للعلاج حتى إذا كان لديهم تأمين صحي.
وكشف حيدر -في دراسة نشرها الموقع الإلكتروني لمنظمة الصليب الأحمر الدولية- عدم وجود بحوث شاملة حول الاضطرابات النفسية التي خلفتها الحرب على الصعيد الوطني، في وقت طالت الإصابات فيه نحو مليون فرد يعانون من اضطرابات نفسية شديدة.
وأوضح أن الرابطة السورية للأطباء النفسيين تضم 80 طبيبًا. وعلى فرض أنهم يعملون 5 أيام أسبوعيا على مدى 52 أسبوعاً في السنة، وأن كل واحد منهم يمكنه متابعة 15 حالة يومياً، وأنهم لا يتابعون حالة كل مريض أكثر من 3 مرات سنويا، فإن مجموع عدد الحالات التي يمكن لهم متابعتها سنوياً يكون 104 آلاف حالة فقط، أي 10% من الحالات الشديدة، بمعنى أن أكثر من 90% من الحالات الشديدة لا تخضع للمتابعة.
ولفتت الدراسة إلى تضرر خدمات الصحة النفسية بشدة إبان فترة الصراع، وشهد عدد الأطباء النفسيين انهياراً بسرعة غير معتادة، حيث انخفض إلى النصف تقريباً. كما انخفض عدد الأطباء المقيمين المتخصصين في مجال الطب النفسي انخفاضًا حادًا من 40 طبيباً إلى أقل من 10 أطباء فقط على المستوى العام منتصف سنوات الحرب.
وانتقد رئيس رابطة الأطباء النفسيين القانون السوري الذي لا يزال بعيدًا كل البعد عن التفاصيل العلمية المعاصرة للصحة النفسية. وقال "حتى يومنا هذا، لا يوجد قانون ينظم القطاع. ورغم المحاولات المختلفة على مدى سنوات طويلة لسن مثل هذا القانون، ما تزال تستخدم مصطلحات من قبيل: مجنون وأحمق وغبي في جميع القوانين النافذة، لوصف المصابين باضطرابات الصحة النفسية".
وكانت الصحة العالمية قد قدمت عام 2023 مبادرات حول الصحة العقلية وصلت إلى أكثر من 922 ألف فرد، واستفاد من خدمات الدعم النفسي والاجتماعي أكثر من 161 ألفا. واستثمرت المنظمة إلى جانب ذلك في تدريب ما يزيد على 3 آلاف عامل صحي ومجتمعي لضمان استدامة هذه الخدمات، بما في ذلك الاستشارة المتكاملة والمتخصصة لمراكز الرعاية الصحية الأولية.
وفي كلمة لها، خلال ورشة عمل بعنوان "الصحة النفسية حق إنساني عالمي" افتتحتها في دمشق في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أكدت ممثلة الصحة العالمية في سوريا الدكتورة إيمان شنقيطي أنه من الضروري التأكيد على أن الصحة العقلية ليست رفاهية، بل حق أساسي من حقوق الإنسان. وبغض النظر عن هويتنا، أو من أين أتينا، فإن الجميع (في سوريا) يستحقون أعلى مستوى ممكن من الصحة العقلية".
وطالبت ورشة العمل في ختام جلساتها النظام السوري بدمج اعتبارات الصحة النفسية، والدعم النفسي والاجتماعي، في جميع سياسات وخطط المؤسسات الوطنية، وتوفير التمويل الكافي لها.
انعدام اليقين بشأن المستقبلوتهيمن مظاهر القتل خارج القانون والقمع والتعذيب والتشريد على الحياة السورية منذ احتجاجات عام 2011 التي بدأت مع موجة الربيع العربي. ويربط الخبير السوري المختص بعلم الاجتماع سعيد البني بينها وبين زيادة انتشار اضطرابات ما بعد الصدمة "حيث أحدثت أهوال الحرب، مع ما رافقها من عمليات تدمير وإبادة ممنهجة، على الحالة النفسية لملايين الأفراد، كما كان لها انعكاسات سلبية مؤثرة على احتياجات السكان الأساسية".
وأوضح -في حديثه للجزيرة نت- أن الضيق النفسي الذي ينتاب اليوم معظم السوريين المقيمين تحت سلطة النظام إنما هو رد فعل لمشاعر ترتبط بالتبرم والخوف وانخفاض الحالة المزاجية وانعدام اليقين بشأن المستقبل.
وقال البني: إن تردي الوضع النفسي، والاضطرابات العصبية، التي يعاني السكان منها على نحو واضح في مختلف المدن، إنما تعكس خطورة استمرار الصراع وتردي البيئة الاجتماعية والاقتصادية والمادية التي يعيش فيها الناس بشكل عام.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الصحة العالمیة الصحة العقلیة ما بعد الصدمة فی سوریا أکثر من
إقرأ أيضاً:
الكشف عن الدولة العربية التي قدمت دعما لحملة القصف على اليمن
مقاتلات إسرائيلية (سي إن إن)
في تطور جديد يثير العديد من التساؤلات، كشف مسؤول أمريكي نهاية الأسبوع الماضي عن دعم لوجستي واستشاري قدمته الإمارات العربية المتحدة للجيش الأمريكي في حملة القصف التي شنتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب ضد اليمن في منتصف شهر مارس 2025.
التقرير، الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" يوم الخميس، أوضح أن الإمارات كانت تقدم دعماً حيوياً عبر الاستشارات العسكرية والمساعدات اللوجستية ضمن العمليات العسكرية الأمريكية في المنطقة.
اقرأ أيضاً ترامب يعترف بفشل عسكري مدوٍ في اليمن.. والشامي يكشف تفاصيل الفضيحة 5 أبريل، 2025 صنعاء ترفض عرضا سعوديا جديدا بوساطة إيرانية.. تفاصيل العرض 5 أبريل، 2025وأضاف التقرير أن البنتاغون قد قام بنقل منظومتي الدفاع الجوي "باتريوت" و"ثاد" إلى بعض الدول العربية التي تشعر بالقلق إزاء التصعيد العسكري للحوثيين في المنطقة.
وبحسب المسؤول الأمريكي، هذا التعاون الإماراتي مع الولايات المتحدة يأتي في سياق تعزيز القدرات الدفاعية للدول العربية ضد التهديدات الإيرانية، وفي إطار الاستجابة للمخاوف الإقليمية من الحوثيين المدعومين من إيران.
من جهته، وجه قائد حركة "أنصار الله"، عبد الملك الحوثي، تحذيرات قوية للدول العربية والدول المجاورة في إفريقيا من التورط في دعم العمليات الأمريكية في اليمن، مؤكداً أن الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في هذه الحملة قد يؤدي إلى دعم إسرائيل.
وقال الحوثي في تصريحات له، إن أي دعم لوجستي أو مالي يُقدّم للجيش الأمريكي أو السماح له باستخدام القواعد العسكرية في تلك الدول سيُعتبر تورطًا غير مبرر في الحرب ضد اليمن، ويهدد الأمن القومي لهذه الدول.
وأوضح الحوثي أن التورط مع أمريكا في هذا السياق قد يؤدي إلى فتح جبهة جديدة في الصراع، ويزيد من تعقيد الأوضاع الإقليمية، داعياً الدول العربية إلى اتخاذ موقف موحد يعزز من استقرار المنطقة ويمنع تدخلات القوى الأجنبية التي لا تصب في صالح الشعوب العربية.
هل يتسارع التورط العربي في حرب اليمن؟:
في ظل هذا السياق، يُثير التعاون الإماراتي مع الولايات المتحدة في الحرب ضد اليمن مخاوف كبيرة من تصعيدات إقليمية ودولية. فالتعاون العسكري اللوجستي مع أمريكا في هذه الحرب قد يُعتبر خطوة نحو تورط أعمق في صراعات منطقة الشرق الأوسط، ويُخشى أن يفتح الباب أمام تداعيات سلبية على العلاقات العربية وعلى الاستقرار الأمني في المنطقة.
تستمر التطورات في اليمن في إثارة الجدل بين القوى الإقليمية والدولية، ويبدو أن الحملة العسكرية الأمريكية المدعومة من بعض الدول العربية قد لا تكون بدايةً النهاية لهذه الحرب، بل قد تكون نقطة انطلاق لتحديات جديدة قد تزيد من تعقيد الوضع الإقليمي بشكل أكبر.