خالد فضل 

الواقع السوداني الآن على حقيقته وليس كما يتوهم الواهمون يؤشر بصورة  واضحة إلى تطلعات أغلبية السودانيين/ات إلى اتفاق كيفما يكون لتحقيق هدوء ولو نسبي في المواجهات العسكرية بين المتقاتلين ؛ حتى يتمكنوا من تحقيق بعض أغراضهم , مثل جلب المواد الغذائية الأساسية وعلى رأسها الذرة والدخن في الأرياف , والدقيق في الحواضر , وكذلك الحصول على الماء الصالح للشرب من مواقع قريبة إن لم يك من حنفيات الدار ,  الحصول على الأدوية للأمراض المزمنة (ضغط سكري سرطان .

. إلخ ) أو الأمراض الوبائية أو نلك العابرة مثل لدغات العقارب والثعابين , وقد قرأت مؤخرا خبرا مؤسفا  بوفاة استشاري كبير في الطب الباطني بولاية الجزيرة متأثرا بلدغة ثعبان , وكما حدث بالفعل لزميلة صحفية في الحاج يوسف . ومن لم يقتله السلاح مات بالجوع كما في تعليق منسوب للشيخ الأمين في أم درمان . وهو من الحقائق المرعبة , كيلة العيش سعرها في القرى المتاخمة لمدينة سنار بلغ 8 آلاف والطحن في الطاحونة الوحيدة العاملة في المنطقة 8 آلاف يعني 16 ألف جنيه لكيلة العيش !! هذه وقائع قد لا يفهمها من لم يذق مرارتها  , خاصة بعض الزملاء الإعلاميين ممن يعيشون في الخارج ويتولون  نشر الأوهام والدعايات الحربية وخطاب الكراهية  ليصطلي بها من هم في الداخل حتى لو كانوا من أهل بيوتهم المقربين , فليس من عاش الواقع كمن نقل إليه ولو صورة وصوت .   آخرون يريدون من وقف إطلاق النار فتح الطرق للعودة إلى أهلهم , بعد أن تقطعت السبل وتفرقت الأسر وانعدم التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة , وحالة القلق التي تسيطر على جميع الأفراد فيها , هذه وقائع الحياة في ظل الحرب ورعبها منذ أن  تشرق الشمس وإلى موعد شروقها التالي , لذلك تبدو التطلعات للسلام حقيقية لأنها تتعلق بمسألة وجودية بالنسبة لهولاء .

في استطلاع للرأي أجراه موقع صحيفتنا التغيير بالإشتراك  مع المنصة الرقمية  لموقع  (إس . بي . سي )ونشر بالتزامن , كانت حصيلة 24ساعة  من التفاعل وسط أكثر من 1600 مشارك  84% منهم يؤيدون وقف الحرب مقابل 14% يؤيدون خيار استمرارها . كما عبّر المبعوث الأمريكي للسودان توم بيريلو عن أنّ الأهم من تواصل حكومة الجيش قي بورتسودان مع الإدارة الأمريكية وعقد اجتماعات استباقية لدعوة مفاوضات سويسرا الأهم تواصل آلاف السودانيين/ات معه يطالبون بوقف الحرب ومواجهة المجاعة !!  على المستوى الشخصي أقوم بعمل استطلاعات متفرقة كلما سنحت لي فرصة مقابلة مع أي سوداني/ة في منافي اللجوء  , أو عبر الهاتف والوسائط التواصلية , ألحظ بوضوح زيادة نسبة من يؤيدون وقف الحرب , مقابل تناقص نسبة الذين ما يزالون يتوهمون بإمكانية دحر التمرد باستمرار الحرب , يمكنني الجزم بأن النسبة الأعلى ممن كانوا يتصورون أن هناك جيش يمكنه حسم المليشيا المتمردة في أوساط أهلي في قرى الجزيرة قد عادوا الآن ينشدون نهاية الحرب عبر التفاوض وسكة السلام , وهنا يكمن القلق الكبير أو الهواجس التي تواجه جماعة الإسلام السياسي وحزب المؤتمر الوطني المحلول ؛ وهنا أستعير  تعبير الزميل الصحفي عثمان ميرغني  بتصرف طفيف .

لقد عبّر الأستاذ ميرغني عن شواغل وهواجس الإسلاميين الذين يدعمون استمرار الحرب _ هذا بالطبع ولمصلحة النقاش _إذا غضضنا الطرف عن حقيقة إشعالهم لها أساسا , هذه الهواجس واللواعج تنبعث في الأصل من الحقيقة الراسخة وهي أن تنظيمات الإسلاميين تعتبر على هامش الأوساط المدنية , إنها تنظيمات مسلحة , تعتبر صفة المدنية فيها طلاء خارجي يغطي النتؤات العسكرية الثابتة في تكوينها ونواتها , إنها جماعات جهادية , تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما في تصوراتها للمعروف والمنكر , وتمارس هذه الفضيلة المزعومة باليد وباللسان وبالقلب على أضعف الإيمان , واليد هنا تعني التشكيلات المسلحة , تعني الكتائب المدججة , التي تشكل القوام الرئيس للتنظيم ويعتبر الإنضمام لهذه التشكيلات العسكرية هو الرافعة التنظيمية الأعلى قيمة , لهذا لم يك غريبا البتة أن معيار التوظيف والترقي في الوظائف المدنية في عهد سيطرتهم في السودان كان يتم بصفة ( الأخ مجاهد ) الأخت من أخوات نسيبة , وهذا أمير في فيلق البراء  وكتيبة القينقاع . هم بهذه الصفة تنظيم مسلح , تعظم هواجسهم ومخاوفهم من كل تطور سلمي مدني , وهذا من ملامح ورطتهم , وإذا كانوا يتحدثون عن وأد أي طموح سياسي لقوات الدعم السريع في المستقبل السوداني , فإنهم لا يطرحون أبدا فكرة (وأد) ذات الطموح للقوات المسلحة نفسها بإعتبارها أكبر حزب سياسي مسلح في البلاد بل ممول كليا من الخزينة العامة حتى رواتب عضويته , ببساطة لأنهم ما يزالون يسيطرون على مفاصل القيادة في الجيش , وإذا حدث تغيير جذري في هذه القيادة وأعتلى سدتها من غير تنظيمهم فإنهم سيكونون في حل من مسألة دعمها لبلوغ غايتهم في السيطرة والحكم عن طريقها , بمعنى أوضح أنّ عملية الإصلاح الجذري وهيكلة مؤسسة الجيش وتحويلها لمؤسسة مهنية قومية موحدة وقوية  تأتمر بإمرة السلطة المدنية الديمقراطية , وتؤدي مهام توصيفها الوظيفي فقط ويحاسب من يحاول تجاوزه , في هذه الحالة  سينهار العمود الفقري للتنظيم الإسلامي , إذ لم تعد لدعاياته السياسية الدينية التي سمم بها الفضاء العام من جدوى مع انتشار وسائط الحصول على المعرفة والتنوير وهذا هو بيت القصيد في هواجس الإسلاميين , نهاية الحرب سلميا تهدم كل طموحهم القائم على العسكرة للمجتمع وتحويله إلى أفراد خاضعين للأوامر العسكرية . ورطة الدعم السريع قد تكون أقل فداحة , إذ ليس لديهم تنظيم سياسي آيدولوجي  يتوسل العسكرية كسبيل لبلوغ الحكم , ربما كان غاية طموحهم عسكري صرف , الحفاظ على وجودهم ككيان عسكري معترف به ومن ثم سريان عملية الإصلاح وبناء الجيش المهني القومي الموحد على أن  يكونوا هم ضمن قوامه الاساس  , وهذه كلها من المسائل السياسية  ذات  الطبيعة الفنية  والتي تتوفر فيها تجارب وخبرات عالمية يمكن الإستفادة منها والإستعانة بها . أما جماعات الكفاح المسلح , فأمرهم واضح إذ صاروا جزءا من الجيش يسري عليهم ما يسري عليه صرفا أو عدلا , اللهم إلا إذا أعلنوا عن موقف آخر , هذه الحركات في معظمها ذات طبيعة سياسية عسكرية , أو تنظيمات سياسية مسلحة , ربما الفرق بينها وبين تنظيم الإسلاميين في أنها _عدا حركة العدل والمساواة_ لا تنطلق ويتحكم فيها العنصر الآيدولوجي الصارخ , وهذه نقطة مهمة للغاية , فالإستجابة لمطلوبات الإصلاح والتغيير والتحديث أسهل بالطبع وسط مجموعات غير مؤدلجة .

الوسومخالد فضل

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: خالد فضل

إقرأ أيضاً:

جرائم الحرب والسلام!

 

 

-فحوى ومضامين خطة ترامب للسلام في قطاع غزة وقبلها الاتفاق مع المقاومة الإسلامية في لبنان كما أوعز الرئيس “العاشق للسلام” إلى شركائه في الجريمة بكيان الاحتلال مفادها” امض قدما في قتل أكبر عدد من الناس في غزة ولبنان ولكن بوتيرة أقل ضجيجا وليس ضروريا أن تكون حفلات الدم على مدار الساعة كما كان عليه الحال في زمن الحرب، وإنما يكفي أن تكون أسبوعية أو حتى كل أسبوعين بحيث تتخللها جرائم يومية عابرة تخطف أرواح ما أمكن من الأبرياء ولا تخرج عن اطار ما يسميه أسيادهم في البيت الأبيض حق الدفاع عن النفس والمناوشات والخروقات الطبيعية التي لا تؤثر على الاتفاق “الصامد”
– صار واضحاً أن اتفاق السلام المنبثق عن خطة الرئيس الأمريكي بين كيان الاحتلال وكل من المقاومة الفلسطينية واللبنانية هو من وجهة نظر ترامب ونتنياهو مجرد إجراء شكلي يمنح “إسرائيل” الحق في فعل ما تشاء وقتل من تريد متى تشاء وكيفما تشاء ولا تثريب عليها فيما قامت وستقوم به بينما على المقاومة أن تلتزم بما يفوق طاقتها ويتجاوز حدود العقل والمنطق وكل الصعوبات والمعطيات في الميدان.
-أمريكا أرست في الاتفاقين سلاما هشا وحالة قد نسميها أقل من الحرب -إن صح التعبير- تمكّن المحتل من تحقيق أهداف عجز عن تحقيقها في الحرب الصريحة بحيث تتولى واشنطن والوسطاء ممارسة اقصى الضغوط على المقاومة وإعطاء العدو فرصة ليست واسعة أو بالأصح معلنة لممارسة هواية القتل والاغتيال والتدمير ومن ثم العودة السريعة إلى اتفاق السلام دون ان تتلقى أي ردود رادعة من المقاومة المحكومة بالتزامات ومواثيق مشهودة.
– في إطار هذه الاستراتيجية الأمريكية الجهنمية على الأطفال والنساء في غزة ولبنان وتحديدا في القطاع المدمر أن يموتوا بالعشرات والمئات وينهدم ما تبقى من منازلهم وخيامهم على رؤوسهم ويصيروا أهدافا مشروعة للطيران الحربي والمسيرات الصهيونية وقصف المدفعية لساعات وأيام فقط لأن رصاصات طائشة أطلقت هنا أو هناك في القطاع الملغم بأدوات الموت والدمار وجحافل الاحتلال ومليشيات لا تحصى من الخونة والعملاء. أما العدو المحتل فلا يلام أبدا على جرائمه وانتهاكاته ومنعه دخول المساعدات الإنسانية من الغذاء والدواء والخيام لمئات الآلاف من الأبرياء الذين يقضون جوعا وعطشا وبردا.
– نتنياهو ألقى آلاف الأطنان من القنابل والصواريخ على الناس ودفن أسراه وآسريهم بأطنان من الانقاض والركام ثم على حماس أن تستخرج جثامين الصهاينة وتسليمهم سريعا وبلا تلكؤ أما هو وجيشه المجرم وحكومته الإرهابية فغير معنيين بتنفيذ ما عليهم من بنود في اتفاق السلام. ثم يأتي صاحب الخطة وضامنها ليبرر للقاتل أفعاله الوحشية ويصنفها في خانة الدفاع المشروع عن النفس.
-كيان الاحتلال وبدعم صريح من الرجل الطامح لنيل جائزة نوبل للسلام العام القادم لا يعدم حيلة في نسج المبررات والذرائع لإسقاط قنابله على ضحاياه في كل وقت ومواصلة التجويع ومحاصرة غزة ومضاعفة معاناة أهلها بكل الوسائل والطرق ثم بتصريح صغير يستأنف التزامه بالخطة ليجب ما قبل ذلك من فظائع وهكذا دواليك في سلسلة لا تتوقف من المجازر ضد الأبرياء المجوعين من ساكني الخيام في العراء.

مقالات مشابهة

  • تدمير الممتلكات واستهداف المدنيين.. الاحتلال يواصل خرق اتفاق وقف إطلاق النار في غزة
  • جيش الاحتلال في ورطة.. تسريب "سدي تيمان" يهز إسرائيل والمدعية العسكرية تدفع الثمن
  • جرائم الحرب والسلام!
  • الحرب التي أعادت تعريف الوعي.. من نصر غزّة إلى يقظة الأمة
  • اختفاء المدعية العسكرية الإسرائيلية التي كشفت تعذيب الأسرى في سدي تيمان
  • كم العمر المسموح للابن لتغيير اسمه دون الرجوع لموافقة الأب؟.. الأحوال المدنية تجيب
  • انطلاق أعمال النسخة الـ18 لورشة عمل كبار الضباط حول القواعد الدولية التي تحكم العمليات العسكرية في الرياض
  • درب السلام
  • انطلاق ورشة عمل كبار الضباط حول القواعد الدولية التي تحكم العمليات العسكرية في الرياض
  • المملكة تستضيف ورشة عمل كبار الضباط العسكريين حول القواعد الدولية التي تحكم العمليات العسكرية