يكثرُ الحديث في هذه الأيام عن سيناريو اليوم التالي بعد الحرب على غزة، وماذا يمكن أن يحدث في حالة ترك غزة بلا سلاح أو مقاومة.. فتذكرتُ اليومَ التالي لاجتياح 1982، الذي أدّى إلى مجزرة صبرا وشاتيلا، رغم الوعود الأمريكية والقوات المتعددة الجنسيات، والذي أكد أن اليوم التالي من دون مقاومة يعني مجزرة.

وأنا كأحد الناجين من مجزرة تل الزعتر، يمكنني أن أتحدث عن الذي جرى في اليوم التالي لاستسلام المخيم، وكنت سابقاً قد كتبتُ مقالاً عن استشهاد مخيم تل الزعتر، وذكرت أن الحصار هو الجدار الأخير للصامدين وأن الاستسلام يعني مجزرة.




                   الكاتب والشاعر الفلسطيني ياسر علي على أطلال حيه في تل الزعتر

في مثل هذه الأيام قبل 48 سنة، وتحديداً في 12 آب (أغسطس) 1976، سقط مخيم تل الزعتر باتفاق سياسي بين القوى المتحاربة (لم يطلع على نَصّه أحد حتى الآن)، بعد حصار 52 يوماً وتلقّي 55 ألف قذيفة، وصدّ 72 هجوماً عنيفاً.

ومن أهم الدروس التي تعلمناها من هذا اليوم، هي أن التسليم كان خطيئة كبيرة ومهزلة سياسية راح ضحيتها نحو 4000 فلسطيني. ومنها تعلّم الفلسطيني أن لا يستسلم في أي حصار، وليكن قتالاً انتحارياً ينتهي بالنصر أو الشهادة. لأن أي حل غيرهما، سيكون ذلاً أو مذبحة.

قصص من اليوم التالي.. ما أشبه اليوم بالبارحة:

سلّمنا، نحن المدنيين، الذين علمنا بالاتفاق، أنفسنا صبيحة 12 آب 1976.. ووزعونا على مركزين، بالاتفاق مع أمين الجميل، مركز النافعة ومدرسة الفندقية في الدكوانة، وإليكم ما كتبه المجرم جوزيف سعادة في كتابه "أنا الضحية والجلاد أنا": "وزعنا الحشد على مبنيين، مبنى النافعة ومبنى المدرسة الفندقية، واستمر الوضع هادئاً حتى الفجر. عند الفجر مسّ المقاتلين مسٌّ فأخذوا يعرّبون الهاربين. اللبنانيون سُمِح لهم بالمغادرة، أما الفلسطينيون فوزّعوا على قسمين: الذكور من السادسة عشرة إلى الخمسين، والنساء والأطفال والعجَزة.

قال أحد المسلحين بأنه تلقّى الأوامر بتصفية الشباب. يومها لم تتوقف قرقعة المسدسات والرشاشات في الدكوانة. عشرات عشرات الجثث ملأت شوارع الدكوانة".

وقال مراسل صحيفة ستامبا الإيطالية: "رأينا سيارة فولكسفاغن وأخرى فورد تقطران جثث بعض الفلسطينيين. لقد قامت الميليشيات المسيحية بعمليات تصفية انتقامية. في الأشرفية قتل أحدُ رجال هذه الميليشيات رضيعاً بين ذراعي والده صارخاً: أريد أن أتذوّق الدم الفلسطيني... رأيت أطفالاً يضربون رؤوسهم بالحيطان صارخين بأنهم فقدوا أهلهم جميعاً".



تأكيداً على ماسبق، تضافرت الروايات، عن وجود 60 طفلاً يتحركون بين الجثث، بين طفل يحكي ويعي ما جرى ورضيع يبحث عن ثدي أمه القتيلة ليرضع.

وما أشبه اليوم بالبارحة: ستون طفلاً اختفوا لدى أحد الأديرة جرى تسليمهم وبيعهم لعائلات أوروبية بهدف تبنّيهم.. أليس هذا ما جرى منذ أشهر في بيت لحم أيضاً؟! بعض هؤلاء الأطفال عاد إلى لبنان ليبحث عن أهله (قصة ماريان الفرنسية معروفة ومنتشرة)..

في اليوم التالي، انقسم الناس ثلاثة أقسام:

الأول: قسمٌ خرج مسلّماً، قتل المجرمون نصفهم.. وكنا نحن معهم، شهدنا يوماً من أيام الحشر في شمس آب، بدون شربة ماء.. وصل نصفنا إلى بيروت الغربية بعد مرورنا على اثني عشر حاجزاً، كل حاجز أسوأ من الذي سبقه، حتى وصل من كل شاحنة نصف الذين ركبوا فيها من الدكوانة.

وصلنا في حالة تيهٍ، منا مَن كان أقاربه بانتظاره، ومعظمنا مصاب أو يتيم أو فاقد.. تولّت أمرنا منظمة التحرير الفلسطينية، وأسست للأيتام مؤسسة بيت أطفال الصمود. وكثير من هذه العائلات تشتت لأشهر أو سنوات، من دون أن يلتقوا ليعرفوا من نجا ومن مات منهم. (كانت عائلتنا في الحصار ستة، وصلنا إلى بيروت الغربية ثلاثة، التحق بنا الرابع عصراً، ثم التقينا أخي الذي لم يكن في الحصار، والتقينا لاحقاً والدي الذي سبقنا مع الصليب الأحمر جريحاً، ثم التقينا بعد شهر كامل أخي الذي خُطف 27 يوماً). أما صديقي (ح.ع) فظن أن أهله ماتوا، وبقي يتيماً عدة أشهر حتى التقى أمه في حلب..



الثاني: خرج في الجبال، بعضهم بسلاحه وبعضهم من دون سلاح.. كثيرون تم اصطيادهم في الوديان والجبال.. في المرة الوحيدة التي التقيت فيها الأستاذ مفيد صادق "أبو العواصف"، أخبرني أن مجموعته التي قادها، بدأت 100 عنصر خرجوا في الجبال ليلاً، وصل منهم إلى المناطق الآمنة 37 عنصراً.

الثالث: وهو بيت القصيد.. بقوا في المخيم. نعم بقوا في المخيم. وهذه المرة الأولى التي أكتب فيها عنهم..

يقول سعادة في كتابه، أنه بعد سقوط المخيم دخل إليه مع مجموعاته ".. كل خطوة يخطوها المرء في أزقّة المخيم وسككه كانت تعرّضه للخطر. فلقد كان الواحد لا يعرف من أين تطلق النار: من المتاريس، من أقنية الصرف الصحي، من دهاليز جوفية وأنفاق مجهّزة محصنة.. كانوا قلّة ولكنّهم كانوا في ميدان يعرفونه من الألف إلى الياء".. بقيت وسائل الإعلام حينها تتحدث عن جيوب مقاومة نحو عشرة أيام.

ألا يُذكّرنا الأمر بأنفاق ترفض الذل تحت الاحتلال في غزة، وتجعل احتلالاً باهظ الثمن غير مستقر في مكانه؟ ولو أن قوات الثورة الفلسطينية تجهّزت لمثل هذا الحصار لما وقعت المجزرة وسقط المخيم.

الباقون كانوا قسمين:

الأول ـ المدنيون الذين بقوا بدون سلاح، وتُمثّل قصتهم الحاجة أم علي معروف (صدّيقة علي ياسين عودة) التي لمح المجرمون ابنها فلاحقوه، حتى وصل البيت فخبّأته في مكان آمن.. دخل المسلحون خلفه، سألوها عنه فلم تعترف، وعدوها بسلامته إذا اعترفت، وإلا سيفجّرون البيت فوقهما.. أخرجته من مخبئه، فقتلوه وأجلسوه في حضنها.. أصابتها حالة نفسية لازمتها حتى وفاتها في مدينة صيدا منذ ستة أشهر. وأصابها البُهاق الجلدي الذي كان واضحاً عليها..

ولم تكن هذه هي الحالة الوحيدة داخل المخيم بعد تسليمه.. فالمحتلون لم يرحموا من بقي في المخيم، وهذا درس بليغ من دروس اليوم التالي!

الثاني ـ المسلحون الذين بقوا في المخيم.. صحيح أنهم لم يبقوا ضمن خطة، ولكنهم كانوا أبطالاً..

والقصة روتها السيدة (م.د) لأحد الأصدقاء، قائلة: أترى هذه الساعة في يدي؟ إنها لأحد المهاجمين الذين دخلوا المخيم!!

والقصة أن الذين أبرموا الاتفاق "المجهول" لتسليم المخيم، لم يخبروا رجال المحور التحتاني (علي سالم ومجموعاته)، فتطوعت هذه السيدة لتخبره.. ذهبت إليه وقالت: الناس تغادر المخيم، قالوا في اتفاق، المسلحون يخرجون في الجبال ليلاً والمدنيون يسلمون أنفسهم عند مداخل المخيم.

واشتد القتال في محوره (الوحيد)، حوصرت (م.د) معهم، وتراجع سالم إلى وسط المخيم، وكَمَن في مدرسة بيسان، ولما شاهدوا المجرمين يدخلون ويقتلون ويسرقون ما يجدونه، من أدوات كهربائية وغيرها (ذكر هذا جوزيف سعادة في كتابه المذكور أعلاه)، وعندما اقتربوا من المدرسة، خرج إليهم مع مجموعته بكثافة نارية، فقتل منهم من قتل، وهرب من هرب..

راوية القصة، تقول إن الساعة التي في يدها، سحبتها من يد أحد المهاجمين القتلى..

لم يكتفِ علي سالم بهذا، وخرج بعد يومين في الجبال بتشكيل عسكري يحمي به من بقي من المدنيين الذين خرجوا بالجبال معه، وخافوا أن يخرجوا كالمدنيين بعدما وصلتهم أخبار المجازر. وأخبرني (ي.ح) أحد الذين خرجوا معه أن القوى المعادية كانت تسيّر دوريات في الجبال للقبض على الخارجين من المخيم، فيصرخون في الوديان طالبين من المجموعات التسليم. فما كان من علي سالم إلا أن أرسل مجموعة اشتبكت معهم، فولّوا مدبرين ولم يعودوا.

ووصلت مجموعة علي سالم بعسكرييها ومدنييها إلى المناطق الآمنة بسلام.

لقد علّمتنا الخبرة كفلسطينيين، أن الاستسلام لن يوفر علينا الدماء ولو كان في ظل الأمم المتحدة والقوات المتعددة الجنسيات.. لهذا لم يستسلم الفلسطينيون في أي حصار بعد صبرا وشاتيلا، من حرب المخيمات حتى غزة اليوم مروراً بمخيم جنين وغيره.

وما أشبه اليوم بالبارحة!

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير تقارير مجزرة الفلسطيني اللبنانيون لبنان فلسطين ذكرى مجزرة لاجئون تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الیوم التالی فی المخیم فی الجبال تل الزعتر علی سالم

إقرأ أيضاً:

قطاع المعاهد الأزهرية يستكمل البرنامج التدريبي التثقيفي والعقدي (حول معالم المنهج الأزهري)

يستكمل قطاع المعاهد الأزهرية  اليوم الاثنين، فعاليات البرنامج التدريبي التثقيفي والعقدي(حول معالم المنهج الأزهري) ، بالتعاون مع مركز الإمام الأشعري لجميع معلمي العلوم الشرعية بمنطقة (الفيوم).

أمين "البحوث الإسلامية" يتفقد المنفذ الدائم لإصدارات الأزهر بأسيوط الشيخ الحلبي عالم من أعلام الأزهر ونبراس الفكر الإسلامي


جاء ذلك تحت إشراف الأستاذ الدكتور أحمد خليفة شرقاوي رئيس الإدارة المركزية لشئون التعليم، وقد أكد فضيلته أن هذا البرنامج التدريبي التثقيفي والعقدي(حول معالم المنهج الأزهري) يهدف إلى ترسيخ المفاهيم الصحيحة لبعض القضايا العقدية حول معالم المنهج الأزهري لدى جميع العاملين بالمعاهد الأزهرية لدى موجهي ومعلمي العلوم الشرعية بالمعاهد الأزهرية، والارتقاء الأمثل بالمستوى الفكري والعلمي والتربوي لهم.

حول معالم المنهج الأزهري

وأفاد الدكتور شريف سميح، مدير إدارة التدريب التربوي بقطاع المعاهد الأزهرية أن هذا البرنامج التدريبي التثقيفي والعقدي (حول معالم المنهج الأزهري) يتم تنفيذه بالتعاون مع مركز الإمام الأشعري بمشيخة الأزهر الشريف؛ بهدف الارتقاء بالمستوى الفكري والعلمي والتربوي لجميع موجهي ومعلمي العلوم الشرعية بالمعاهد الأزهرية بجميع المناطق الأزهرية.

هذا، وقد أشار  رئيس قطاع المعاهد الأزهرية إلى أن تنفيذ هذا البرنامج جاء تلبية للاحتياجات التدريبية الحقيقية لموجهي ومعلمي العلوم الشرعية بالمعاهد الأزهرية.

وقد قام بالتدريب بمنطقة الفيوم الأزهرية  اليوم ا.د عرفات  الأستاذ  بجامعة الأزهر الشريف، حول المنهج الاشعري،  والأستاذ الدكتور احمد يونس الاستاذ بجامعة الأزهر وقد تناولت الجلسة التدريبة شبهات حول عقيدة أهل السنة والجماعة.

مقالات مشابهة

  • الفصائل الفلسطينية تستنكر قانون “الكنيست” الجديد الذي يقضي بترحيل عائلات المقاومين
  • غزة - استشهاد 5 مواطنين في تل الزعتر
  • للمسافرين... إليكم البيان التالي لشركة طيران الشرق الأوسط
  • حرب ضد الهوية الإسلامية .. المساجد هدف الصهاينة من اليوم الأول
  • إسرائيل تستعد لليوم التالي بعد الحرب في لبنان.. إعلام إسرائيلي يتحدث
  • محافظ البحيرة والقنصل الفرنسي تتفقدان معالم رشيد الأثرية والتاريخية
  • #عاجل| المقاومة الإسلامية في العراق: هاجمنا هدفا حيويا في جنوب الأراضي الفلسطينية المحتلة هو السادس هذا اليوم بالطيران المسيّر
  • من هم العرب الذين تتآمر عليهم إسرائيل وإيران؟
  • في عيد الحب.. كوبري ستانلي ملتقى العشاق وأشهر معالم عروس البحر
  • قطاع المعاهد الأزهرية يستكمل البرنامج التدريبي التثقيفي والعقدي (حول معالم المنهج الأزهري)