الجنوبي الآخر: حين تدخل أوباسانجو ليصلح ما بين قرنق وبونا ملوال (2-2)
تاريخ النشر: 12th, August 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
كتب بونا ملوال، الصحافي والوزير، مرة في افتتاحية له بصحيفة "الفيجلنت"، التي أصدرها منتصف الستينيات في الخرطوم، من الشماليين أن يستنقذوا أنفسهم بأن يخرج من صلبهم الشمالي الآخر الذي يتخطى حزازات قومه الأقربين، وينفذ إلى مظالم الجنوبيين ويعيها، وينصرهم نصراً شجاعاً طويل النفس.
بدا لي أن دعوة بونا ملوال للشمالي الآخر لم تصب هدفها.
تفاءل بونا بقيام الحركة الشعبية لتحرير السودان خلال عام 1983 ورأى فيها بديلاً، بل عقاباً لجيلهم الذي لم يحسن إدارة علاقة الجنوب بالمركز كما سنرى. فعرض على قرنق خدمة حركته في الوسائط واستثمار علاقاته العالمية. وعرف من وهلة عرضه ذلك واستجابة قرنق أن الأخير لم يكن يرغب في غير بناء حركة عسكرية خالصة. ولا يطيق العمل المستقل عنها. وعاد ليعرض على بونا حين أصدر "غازيتة السودان الديمقراطية" (1989) من لندن أن يجعلها لساناً للحركة. فلم يقبل بونا وقال له إن قوة تأثير الصحيفة في كونها مستقلة فلو تحزبت خسرت ذلك التأثير. وزاد بونا القول إن قرنق يطلب من كل من أراد الالتحاق بحركته أن يخضع للتدريب العسكري ليؤطر الداخل على السمع والطاعة. وخلص إلى أنه ليس للحركة نظم. فكان قرنق يهذر ويقول "القيادة العامة للحركة حيث أكون أنا". وأضاف أن الحركة الشعبية التي تحكم جنوب السودان اليوم لا تزال خلواً من نظم مستتبة للحكم.
ليس مأذوناً في دوائر الشماليين الآخرين إلى يومنا أن ينبس أحد بعبارة ناقدة لقرنق. ولكن بونا الذي لم يأت لقضية الجنوب احتساباً لا يجد حرجاً في مؤاخذته بقوة. فقال إن مشكلاته معه ليست عصية الفهم، فهي ليست شخصية بأي حال من الأحوال. فقرنق وضب الحركة على أن تكون حركة الرجل الواحد ومنع حركة الأفكار وتبادلها فيها. ونال بونا الأذى من جراء ذلك. فكان سعى بين قرنق ولام أكول قبل انقسام الحركة الداوي خلال عام 1990، وبتكليف من الأخير، ليقنع قرنق بعقد اجتماع القيادة العامة للحركة كما تقدم. وتسربت الريبة في نفس قرنق منه.
وما وقع انقسام الحركة حتى اعتقد قرنق أن بونا ممن كانوا وراءه. ولم يزايله ذلك الظن إلا حين سمع بأذنه لام أكول نفسه في اجتماع بعد الانقسام يتهمه بأنه جانح إلى قرنق. وذكر بونا بقلب مثقل كيف اصطرع الجناحان صراعاً مضرجاً مؤذياً. وجاء عنه ما لا يطرأ للشمالي الآخر قوله. فقال إن خلافات جنوب السودان مما لا يقع مثلها في أية ناحية من العالم فهي "خشنة علاوة على أنها إثنية وبدائية". وحمل على الطرفين لأنهما اصطلحا لاحقاً ولم يجدا المروءة في نفسيهما للاعتذار لمواطنيهما الذين راحوا ضحايا صراعهما البدائي.
ودار أكبر خلاف بين بونا وقرنق حول مستقبل جنوب السودان، هل هو السودان الجديد الذي تقتسم فيه الثروة والسلطة على السوية بين السودانيين كما دعا قرنق، أم حق تقرير المصير كما هي عقيدة بونا. وروى الخاتم عدلان في كتابه "ما المنفى وما الوطن؟" مواجهة درامية بينهما. فكانت تسلطت "أبديت" لسان حال الحركة الشعبية على بونا واتهمته بأنه عميل الحكومات الشمالية، عسكرية ومدنية، منذ الستينيات. وأنه تلقى نظير تلك الخدمات بعثة إلى أميركا خلال عهد عبود ومول حزب الأمة جريدته "الغازيتة" التي أصدرها معارضاً للإنقاذ في لندن، بل صار ناطقاً باسم الجبهة الإسلامية القومية ونظامها. ولمحت الجريدة إلى دوره في اغتيال السياسي الجنوبي البارز ويليام دينق خلال عام 1968. فرفع بونا قضية ضد قرنق أمام القضاء الكيني. وتدخل أوباسانجو رئيس نيجريا ليصلح ما فسد بينهما وقبل بونا الصلح، ولكنه اشترط أن يتم أمام مجلس حكماء الدينكا لأن قرنق خرج على أعراف الدماثة القبلية. وبالفعل وقع الاعتذار على الفور وتم سحب المقال.
ولبونا ملوال وقفة جنوبي آخر غراء في ما جاء في كتابه "الشعب والشوكة في السودان" (1981). فقد وجد السماحة في نفسه لقبول نصيبه وسياسيين من جيله في وزر تهافت اتفاقية أديس أبابا التي انعقدت ما بين نظام الرئيس نميري والحركة القومية الجنوبية عام 1972. وأعطت الجنوب أمناً لعقد من الزمان لم يتمتع به منذ الاستقلال حتى ألغاها نميري عام 1983. وندر أن تجد بين السياسيين الجنوبيين والشماليين الآخرين من حمل غير نميري خطيئة إلغائها. فالمركز في قولهم لا يؤتمن على عهد. وكان بونا استقال من منصبه كوزير للإعلام عام 1979 وكان إحساسه بالخيبة في نميري والشك في جدوى جيله الجنوبي كله طازجاً. فقال إن السودان في حاجة لحل سياسي.
وهو حل لم يعد جيله من السياسيين قادراً على افتراعه. وواصل قائلاً "السياسيون الجنوبيون عن بكرة أبيهم بمن فيهم كاتب هذه السطور قد سمحوا لنميري أن يستغفلهم، وأن ينزع عنهم كل صدقية في نظر شعبهم. فقد استقر عند الشعب الجنوبي العادي أن كل سياسي جنوبي فاسد وسباق إلى المناصب. وهذا ما جعله عاجزاً عن حماية الجنوبيين أو حتى أهله الأقربين من بطش جيش نميري". فنقض العهود في تصور بونا له مثل رقصة التانغو تحتاج إلى راقصين في الحلبة. ولكنه عند غيره مكر من المركز لا يشرك معه أحداً.
تجد عند بونا إطاراً أفضل للتفكير السوي في علاقة المركز والهامش داخل دولة 56. فمظلومية الهامش من المركز حق، ولكن لصفوة الهامش دور منكور في تشكيلها وفي مالآتها. فيتسع خرق هذه المظلومية على الراتق إذا صدرت الكتابة عنها بمثابة تأنيب ضمير من مثل الشمالي الآخر. فتزول الحدود هنا بين طلب الحقيقة وطلب الغفران عن خطايا الأسلاف.
من الجهة الأخرى، فمن أقصر الطرق للضلال عن الإحاطة بالمظلومية هو إنكار صفوة الهامش لدورهم في صناعتها. وربما كان أعاننا إطار مثل الذي جاء به بونا في التفكير السديد في مظلومية الهامش التي ارتجلنا نقاشها لعقود حتى كانت الحروب هي نقاشها بطريق آخر.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الحركة الوطنية: قرارات العفو عن المحكوم عليهم تعكس النهج الإنساني للرئيس السيسي
أشاد المهندس أسامة الشاهد، رئيس حزب الحركة الوطنية المصرية، بالقرار الجمهوري الذي أصدره الرئيس عبد الفتاح السيسي بالعفو عن 4466 من المحكوم عليهم بمناسبة احتفالات عيد الشرطة وذكرى 25 يناير مؤكدا أن هذا القرار يعكس النهج الإنساني للرئيس السيسي وحرصه على تعزيز روح التسامح والعفو، في إطار بناء مجتمع قوي ومتماسك.
واوضح الشاهد أن هذه الخطوة الإنسانية تمثل بادرة أمل جديدة للعفو عن المحكومين ودمجهم في المجتمع، مما يعزز استقرار الأسر المصرية ويبعث برسالة قوية عن قيم الرحمة التي يحملها الوطن لأبنائه، معربا عن تقديره البالغ لهذا القرار الذي يأتي في وقت نحتفي فيه بتضحيات الشرطة المصرية وجهودها في الحفاظ على أمن الوطن، مما يعكس مبدأ التوازن بين تحقيق العدالة وتقدير الأبعاد الإنسانية والاجتماعية.
وأكد رئيس حزب الحركة الوطنية دعمه الكامل لكافة القرارات التي تصب في صالح المواطن المصري، مشدداً على أهمية المضي قدماً في مسيرة الإصلاح والتنمية، والتي تتكامل مع مثل هذه المبادرات التي ترسخ قيم العدالة الاجتماعية.