عبد الله علي إبراهيم

كتب بونا ملوال، الصحافي والوزير، مرة في افتتاحية له بصحيفة "الفيجلنت"، التي أصدرها منتصف الستينيات في الخرطوم، من الشماليين أن يستنقذوا أنفسهم بأن يخرج من صلبهم الشمالي الآخر الذي يتخطى حزازات قومه الأقربين، وينفذ إلى مظالم الجنوبيين ويعيها، وينصرهم نصراً شجاعاً طويل النفس.
بدا لي أن دعوة بونا ملوال للشمالي الآخر لم تصب هدفها.

فالشماليون الآخرون الذين شكلوا خطاب الهامش والمركز صاروا هامشيين بأكثر من الهامشيين أنفسهم على غرار التركي ولا المتتورك. وأملت عليهم عقدة الذنب الليبرالية أن يرفعوا وتيرة مظلومية الهامش درجات فوق درجات. وبدا لي أن الداعية للشمالي الآخر بونا ملوال نجح أن يكون الجنوبي الآخر بامتياز. فجاء منه كجنوبي كامل الدسم مواقف ونظرات تثريان خطاب المركز الهامش الذي صارت الكتابة فيه احتساباً عند الشمالي الآخر.
تفاءل بونا بقيام الحركة الشعبية لتحرير السودان خلال عام 1983 ورأى فيها بديلاً، بل عقاباً لجيلهم الذي لم يحسن إدارة علاقة الجنوب بالمركز كما سنرى. فعرض على قرنق خدمة حركته في الوسائط واستثمار علاقاته العالمية. وعرف من وهلة عرضه ذلك واستجابة قرنق أن الأخير لم يكن يرغب في غير بناء حركة عسكرية خالصة. ولا يطيق العمل المستقل عنها. وعاد ليعرض على بونا حين أصدر "غازيتة السودان الديمقراطية" (1989) من لندن أن يجعلها لساناً للحركة. فلم يقبل بونا وقال له إن قوة تأثير الصحيفة في كونها مستقلة فلو تحزبت خسرت ذلك التأثير. وزاد بونا القول إن قرنق يطلب من كل من أراد الالتحاق بحركته أن يخضع للتدريب العسكري ليؤطر الداخل على السمع والطاعة. وخلص إلى أنه ليس للحركة نظم. فكان قرنق يهذر ويقول "القيادة العامة للحركة حيث أكون أنا". وأضاف أن الحركة الشعبية التي تحكم جنوب السودان اليوم لا تزال خلواً من نظم مستتبة للحكم.
ليس مأذوناً في دوائر الشماليين الآخرين إلى يومنا أن ينبس أحد بعبارة ناقدة لقرنق. ولكن بونا الذي لم يأت لقضية الجنوب احتساباً لا يجد حرجاً في مؤاخذته بقوة. فقال إن مشكلاته معه ليست عصية الفهم، فهي ليست شخصية بأي حال من الأحوال. فقرنق وضب الحركة على أن تكون حركة الرجل الواحد ومنع حركة الأفكار وتبادلها فيها. ونال بونا الأذى من جراء ذلك. فكان سعى بين قرنق ولام أكول قبل انقسام الحركة الداوي خلال عام 1990، وبتكليف من الأخير، ليقنع قرنق بعقد اجتماع القيادة العامة للحركة كما تقدم. وتسربت الريبة في نفس قرنق منه.
وما وقع انقسام الحركة حتى اعتقد قرنق أن بونا ممن كانوا وراءه. ولم يزايله ذلك الظن إلا حين سمع بأذنه لام أكول نفسه في اجتماع بعد الانقسام يتهمه بأنه جانح إلى قرنق. وذكر بونا بقلب مثقل كيف اصطرع الجناحان صراعاً مضرجاً مؤذياً. وجاء عنه ما لا يطرأ للشمالي الآخر قوله. فقال إن خلافات جنوب السودان مما لا يقع مثلها في أية ناحية من العالم فهي "خشنة علاوة على أنها إثنية وبدائية". وحمل على الطرفين لأنهما اصطلحا لاحقاً ولم يجدا المروءة في نفسيهما للاعتذار لمواطنيهما الذين راحوا ضحايا صراعهما البدائي.
ودار أكبر خلاف بين بونا وقرنق حول مستقبل جنوب السودان، هل هو السودان الجديد الذي تقتسم فيه الثروة والسلطة على السوية بين السودانيين كما دعا قرنق، أم حق تقرير المصير كما هي عقيدة بونا. وروى الخاتم عدلان في كتابه "ما المنفى وما الوطن؟" مواجهة درامية بينهما. فكانت تسلطت "أبديت" لسان حال الحركة الشعبية على بونا واتهمته بأنه عميل الحكومات الشمالية، عسكرية ومدنية، منذ الستينيات. وأنه تلقى نظير تلك الخدمات بعثة إلى أميركا خلال عهد عبود ومول حزب الأمة جريدته "الغازيتة" التي أصدرها معارضاً للإنقاذ في لندن، بل صار ناطقاً باسم الجبهة الإسلامية القومية ونظامها. ولمحت الجريدة إلى دوره في اغتيال السياسي الجنوبي البارز ويليام دينق خلال عام 1968. فرفع بونا قضية ضد قرنق أمام القضاء الكيني. وتدخل أوباسانجو رئيس نيجريا ليصلح ما فسد بينهما وقبل بونا الصلح، ولكنه اشترط أن يتم أمام مجلس حكماء الدينكا لأن قرنق خرج على أعراف الدماثة القبلية. وبالفعل وقع الاعتذار على الفور وتم سحب المقال.
ولبونا ملوال وقفة جنوبي آخر غراء في ما جاء في كتابه "الشعب والشوكة في السودان" (1981). فقد وجد السماحة في نفسه لقبول نصيبه وسياسيين من جيله في وزر تهافت اتفاقية أديس أبابا التي انعقدت ما بين نظام الرئيس نميري والحركة القومية الجنوبية عام 1972. وأعطت الجنوب أمناً لعقد من الزمان لم يتمتع به منذ الاستقلال حتى ألغاها نميري عام 1983. وندر أن تجد بين السياسيين الجنوبيين والشماليين الآخرين من حمل غير نميري خطيئة إلغائها. فالمركز في قولهم لا يؤتمن على عهد. وكان بونا استقال من منصبه كوزير للإعلام عام 1979 وكان إحساسه بالخيبة في نميري والشك في جدوى جيله الجنوبي كله طازجاً. فقال إن السودان في حاجة لحل سياسي.
وهو حل لم يعد جيله من السياسيين قادراً على افتراعه. وواصل قائلاً "السياسيون الجنوبيون عن بكرة أبيهم بمن فيهم كاتب هذه السطور قد سمحوا لنميري أن يستغفلهم، وأن ينزع عنهم كل صدقية في نظر شعبهم. فقد استقر عند الشعب الجنوبي العادي أن كل سياسي جنوبي فاسد وسباق إلى المناصب. وهذا ما جعله عاجزاً عن حماية الجنوبيين أو حتى أهله الأقربين من بطش جيش نميري". فنقض العهود في تصور بونا له مثل رقصة التانغو تحتاج إلى راقصين في الحلبة. ولكنه عند غيره مكر من المركز لا يشرك معه أحداً.
تجد عند بونا إطاراً أفضل للتفكير السوي في علاقة المركز والهامش داخل دولة 56. فمظلومية الهامش من المركز حق، ولكن لصفوة الهامش دور منكور في تشكيلها وفي مالآتها. فيتسع خرق هذه المظلومية على الراتق إذا صدرت الكتابة عنها بمثابة تأنيب ضمير من مثل الشمالي الآخر. فتزول الحدود هنا بين طلب الحقيقة وطلب الغفران عن خطايا الأسلاف.
من الجهة الأخرى، فمن أقصر الطرق للضلال عن الإحاطة بالمظلومية هو إنكار صفوة الهامش لدورهم في صناعتها. وربما كان أعاننا إطار مثل الذي جاء به بونا في التفكير السديد في مظلومية الهامش التي ارتجلنا نقاشها لعقود حتى كانت الحروب هي نقاشها بطريق آخر.


IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

فئة المنتصرين

 

د. إبراهيم بن سالم السيابي **

من هم المنتصرون؟؟؟ ، المنتصرون هم تلك الفئة من النَّاس التي لا تقبل ألرأي الآخر ولا ترضى بالتنازل عن رأيها مهما كانت النتائج فهذه الفئة تعتقد بأنها دائماً على صواب ، وبسؤالي لإحدى محركات البحث في الذكاء الاصطناعي عن منهم هؤلاء الأشخاص وماهي صفاتهم؟ أجاب : بأن هؤلا الأشخاص يُمكن معرفتهم بعدة صفات هي:

:الجمود الفكري: فهم يميلون إلى التشبث بآرائهم ومعتقداتهم، ويرفضون التفكير أو التفاعل مع وجهات نظر مختلفة. العصبية: فقد يظهرون غضبًا أو استياءً عندما يُعرض عليهم رأي مُخالف. التقليل من الآخر: غالبًا ما يسخرون أو يقللون من شأن الأشخاص الذين لديهم آراء مختلفة.  الانغلاق: يميلون إلى الابتعاد عن النقاشات أو الحوارات المفتوحة، حيث يفضلون بيئة تتفق معهم بالكامل. التحيُّز: يظهرون تحيزًا قويًا ضد أفكار مُعينة، مما يجعلهم يرفضون حتى النظر في أدلة أو حجج قد تخالف معتقداتهم. بالتالي ضياع أي فرص للتفاهم مع هؤلاء الأشخاص .

ومع الأسف تجد مثل هؤلا في كل مكان، في البيت الواحد،العائلة وفي المجتمع.

ولكن لماذا هم منتصرون ؟؟ لأنهم يعتقدون أنهم دائماً على صواب في كل رأي أو كل أمر أو سلوك أو تصرف، وبالتالي يجب أن ينتصروا في كل ماسبق في حواراتهم سلوكهم تصرفاتهم قراراتهم دون اكتراث للرأي الآخر، وحتى في حالة ظهور النائج عكس ذلك فدائما ما يسوقون الأعذار والمبررات لآرائهم أو تصرفاتهم أو سلوكهم وقرارتهم حتى وإن كانت تلك النتائج أظهرت حقائق دامغة واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار.

فهم لا يقبلون الهزيمة بأي شكل من أشكالها، بالتالي يؤدي هذا الأمر إلى نتائج عكسية على الأفراد أو المجتمع على حدٍ سواء، وإذا كانت انعكاسات هذا الأمر فيما يتعلق بالأفراد أو ربما الأسرة أقل تاثيراً ويمكن استيعابها بعض الأحيان ففي الأخير يتلعق الأمر بعلاقات أسرية أو شخصية وفي أسوء النتائج يتعلق الأمر بشخوص وعدد من أفراد المجتمع.

لكن ماذا لو كان هذا الأمر يتعلق بالمجتمع؟ ماذا لو كانت هذه الآراء أو التصرفات أو القرارات تخص مجتمعاً بأكمله؟ ، فإن النتائج بلاشك ستكون وخيمة في حالة أن هؤلاء الأشخاص كانوا مسؤولين عن قرارات تتلعق بالمجتمع لأن تمسكهم بتلك الآراء أو بعض الأحيان المعتقدات قد يؤدي على سبيل المثال إلى أهدار الموارد أو ضياع الفرص على المجتمع أو تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على رفاهية الشعوب أو مستقبلها، وقد يكون المتسبب هو من أصر على بعض الآراء أو أصر على تنفيذ بعض الأعمال أو التصرفات.

وقد تكون الحوكمة هي السبيل الأوفر حظا في كبح جماح مثل هذه التصرفات، وتطبيق سلطة القانون وهيمنة دولة المؤسسات ولكن يظل العنصر البشري بتصرفاته وسلوكه وهو أحد المحاور الرئيسة في الحوكمة هو الحلقة الأضعف في أي تنظيم إداري أو مؤسسي.

 

في الختام ، لا يُمكن، أن تكون منتصرا في كل أمرٍ من الأمور، ويجب عليك قبول الرأي الآخر مهما كان مخالفاً لرأيك طالما أنه فيه مصلحة أكبر أو منفعة، في البيت في الأسرة في علاقاتك الشخصية مع الآخرين، وكذلك الحال في حالة تحملك المسؤولية في أمور تخص المجتمع. وفي حالة تحملك لأمر ما وإصرارك على تحمل قرارك في أي أمر من الأمور، وقد ظهرت النتائج عكس ما كنت تتوقع وليست بالقدر المأمول مما خطط له من أهداف في هذا الأمر، فعليك بالقبول بالأمر وتحمل مسؤولية اتخاذ هذا القرار وتحمل النتائج في هذه الحالة وترضى على الأقل بشرف الاجتهاد في هذا الأمر وكما يقولون لكل مجتهد نصيب وليس كل مجتهد مُصيب.

** خبير في الشؤون المالية

مقالات مشابهة

  • بيان مشترك بين الحركة الشعبية-التيار الثوري الديمقراطي والحزب القومي السوداني: اوقفوا الحرب والمجاعة في السودان وجنوب كردفان/ جبال النوبة
  • السودان يرفض قوة تدخل اقترحتها حقوق الانسان ويتهمها بالتسيس
  • السودان يرفض قوة تدخل اقترحتها بعثة حقوق الإنسان
  • فئة المنتصرين
  • اتهمها بالتسيس.. السودان يرفض قوة تدخل اقترحتها بعثة حقوقية أممية
  • السودان يرفض دعوة الأمم المتحدة لتشكيل «قوة تدخل» لحماية المدنيين
  • الحكومة السودانية ترفض قوة تدخل اقترحتها بعثة حقوق الانسان ويتهمها بالتسيس  
  • بونا عمار يهدي موريتانيا فوزا ثمينا في تصفيات كأس إفريقيا
  • حكومة السودان ترفض قوة تدخل اقترحتها بعثة حقوق الإنسان
  • أربعة عقود على ظهور أفكار جون قرنق و منتهاها في حرب الكل ضد الكل