مفاوضات جنيف بين التفاؤل والحذر
تاريخ النشر: 12th, August 2024 GMT
فيصل محمد صالح
أصبح التفاوض في منبر جنيف أمراً واقعاً، وستذهب الوفود السودانية إلى هناك في غضون أيام قليلة، وهذا أمر يبعث على التفاؤل الحذر، وليس ثمة تناقض في هذا التعبير. التفاؤل سببه أنه وبعد عشرات اللاءات والمواقف المتناقضة والصيحات والتصريحات العنترية، تحقق ما ظلت قلوب السودانيين وآمالهم تطمح إليه، أن يتجه طرفا الحرب للجلوس للتفاوض لوقف الحرب، أما الحذر فمبعثه رفع سقف التوقعات وتصور أن أياماً قليلة من التفاوض ستنهي الحرب، وهو توقع متعجل وغير واقعي إن لم يحدث فقد تعم روح الإحباط والخيبة.
الأمر الواقعي الذي يجب أن يصحب التفاؤل هو أن التفاوض سيكون ماراثوناً طويلاً ومعقداً، وسيحاول طرفا الحرب أن يضعا شروطاً وإملاءات كثيرة، ويعلنا مواقف تحاول أن تجير التفاوض لمصلحة أي منهما، وقد يحتاج الأمر إلى جولات متعددة، وضغوطات داخلية وخارجية حتى يمكن التوصل لاتفاق معقول لوقف إطلاق النار وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، في المرحلة الأولى، ثم تتوالى الحوارات حول التفاصيل الأخرى.
المؤشرات على أن الطرفين سيذهبان للتفاوض كانت كثيرة ومتنوعة، وقد أشرنا إليها في عدد من المقالات السابقة، ولم تكن تعبيراً عن أماني شخصية ولا قراءة فنجان، بل تجميع معلومات وحوارات، ثم قراءة حقيقية للواقع الميداني ومآلاته.
الجديد الآن هو أن كثيرين ممن كانوا يقودون حملة الرفض للتفاوض، ويوزعون صكوك الوطنية على أنفسهم، واتهامات الخيانة والعمالة على غيرهم من رافضي الحرب، قد أعادوا حساباتهم، أياً كان السبب قناعات أو تعليمات، وبدأوا يتحدثون عن أن التفاوض مرحب به وهو أمر حتمي، وغيرها من العبارات التبريرية، وليس مطلوباً منهم غير الاستمرار في دعم العملية التفاوضية اتساقاً مع موقفهم الجديد، وبنفس الحماسة التي دعموا بها حالة الحرب.
واحدة من أهم النقاط التي يمكن أن تكون عائقاً في التفاوض بسبب حملة تضليل لازمتها هي التوصيفات المتعددة لـ«اتفاق جدة» الذي تم توقيعه في مايو (أيار) من العام الماضي. فبعد ما تم الإعلان عن أن هذا الاتفاق سيكون منطلق التفاوض، خرجت مرة أخرى بعض الأصوات لتصور أن تطبيق هذا الاتفاق سيكون انتصاراً لطرف على الآخر، وهو توصيف مضلل.
هذا الاتفاق كان جزءاً من اتفاق الهدنة التي لم تطبق، وهو فعلاً رتب التزامات على طرفي الحرب لم يلتزم بها كلاهما، والسبب في ذلك أنه كان أقرب لإعلان المبادئ، يحتاج لجولات أخرى حتى يصبح اتفاقاً قابلاً للتنفيذ. لم يفصل الاتفاق في كيفية تنفيذ هذه الالتزامات والآلية التي ستتولى متابعة ومراقبة عملية التنفيذ.
تم التوقيع على الإعلان بعد أربعة أسابيع من بدء الحرب، وقد جاء في مقدمة تمهيدية وثلاثة شروط و21 نقطة التزام للطرفين. أهم نقطة في المقدمة تقول: «وندرك أن الالتزام بالإعلان لن يؤثر على أي وضع قانوني أو أمني أو سياسي للأطراف الموقعة عليه، ولن يرتبط بالانخراط في أي عملية سياسية». هذا النص يوضح بجلاء أنه مجرد إعلان نوايا، كان يفترض أن تتبعه خطوات لتحويله لبرنامج عمل يحقق الأهداف المرجوة منه.
النقطة المهمة هنا، وأنا أنقلها بكاملها من مقال سابق لي في مايو الماضي، هي المادة «2-ج» التي تقرأ «اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب وتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين، مما يهدف إلى إخلاء المراكز الحضرية بما فيها مساكن المدنيين، فعلى سبيل المثال لا ينبغي استخدام المدنيين دروعاً بشرية». هذه المادة تخاطب آمال وأحلام مئات الآلاف من السودانيين الذين هجروا منازلهم وأقام فيها أفراد من «قوات الدعم السريع»، أو صارت جزءاً من تحصينات عسكرية لطرفي الحرب. نص المادة الحالي مقروناً بالنقاط التي وردت في المقدمة قد تعني، حتى لو تم تنفيذها بشكلها الحالي، أن يخرج محتلو المنازل منها، لكن من دون تحديد نقاط تجميع متفق عليها، بما يعني أنهم قد يخرجون من المنازل والمواقع المدنية والخدمية ليعسكروا أمامها..!
اتفاق جدة يصلح أن يكون أساساً لإخلاء المناطق المدنية، من منازل وأسواق ومواقع خدمية من المظاهر العسكرية، لكن ذلك يحتاج لاتفاق متكامل لنقاط تجميع القوات العسكرية كما يحتاج لآلية للمتابعة والمراقبة بسلطات تنفيذية وحماية، وهذا ما يجب أن تتجه نحوه المفاوضات بشكل مباشر.
التفاؤل مطلوب والحذر كذلك، ومواصلة حملات الضغط والتوعية بأهمية وقف الحرب وتحقيق السلام واجب وفرض عين
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
محلل إسرائيلي: هذه التغيرات التي عجّلت بإنجاز صفقة تبادل الأسرى
بات واضحا أن مخطط صفقة تبادل الأسرى الحالية بين الاحتلال وحماس يعتمد على النسخة التي تم تقديمها بالفعل في شهر أيار/ مايو، لكن أشياء كثيرة تغيرت منذ ذلك الحين، أهمها انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وانهيار المحور الإيراني، بجانب الاعتبار الحزبي داخل الاحتلال، حيث سيتم تمرير الصفقة عبر الائتلاف الحكومي بسهولة، فيما لا يمنح ترامب "إسرائيل" وحماس أي فرصة للتراجع.
نداف آيال مراسل الشؤون الدولية بصحيفة "يديعوت أحرونوت"، أكد أن "الاتفاق الذي يجري التفاوض عليه بين إسرائيل وحماس لا يختلف بشكل أساسي عن اقتراح نتنياهو وبايدن في أيار/ مايو 2024، بل إن الخطوط العريضة متشابهة، حتى في الأرقام المذكورة: 33 مختطفًا سيتم إطلاق سراحهم معظمهم على قيد الحياة، لكن الفرق أنه منذ ذلك الحين مات العديد من المختطفين، وسقط أكثر من 120 جنديًا في المعارك، واتسع نطاق الدمار في غزة، وأسفر عن مقتل آلاف الفلسطينيين، وضعفت مكانة إسرائيل الدولية".
وأضاف في مقال ترجمته "عربي21" إن "الإنجازات العسكرية التي حققها الاحتلال كان يمكن أن تتحقق في وقت أبكر لو تم توجيه الاهتمام للاعتبارات الاستراتيجية، وليس لسباق القط والفأر في غزة، مع ما يعنيه ذلك من مصالح سطحية للحكومة، مما أظهر إخلاء محور نتساريم وعودة الفلسطينيين لشمال القطاع، على أنها إنجازات لحماس، لكن الحركة حينها لم توافق على الصفقة برمتها خشية ألا تؤدي لوقف الحرب".
وأشار إلى أنه "كانت هناك فرصة للتوصل لاتفاق مع حماس من قبل، وبالتالي فإن الاحتلال لم يحقق أي إنجازات كبيرة خلال الأشهر الماضية، مقارنة بالظروف التي تحدثنا عنها قبل أشهر قليلة، لكن الظروف تغيرت تماما، وبثمن باهظ للغاية، فيما تمثلت أمامنا ثلاثة مكونات رئيسية: أولاها أن ترامب الفائز في الانتخابات قرر وقف حرب غزة، وكان موقفه منها ثابتا طوال الوقت، وينبغي النظر بجدية لتهديده بـ"الجحيم" إذا ظل المختطفون، صحيح أنها في ظاهرها رسالة لحماس، لكنها أيضًا رسالة لإسرائيل".
وأشار إلى أن "مبعوث ترامب للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف علم تفاصيل الصفقة بسرعة، وهو يتمتع بقدرة على عدم الاستماع لـ"الهراء، ولذلك لم يوافق على منح الوسطاء وإسرائيل وحماس لحظة من الراحة، وبسبب فعاليته، نشأ أساس للتقدم السريع، وإزالة أي شك".
وأوضح أن "التغير الثاني الذي عجّل بالصفقة هو الأضرار الكبيرة التي لحقت بالمحور الإيراني، حيث لم يتبق الكثير منه، وتلاشت آمال حماس بأن يحرك الطوفان المنطقة بأسرها، وتحطّمت الحرب الشاملة ضد إسرائيل، التي رأت هي الأخرى خسائرها الفادحة، كما تعيش حماس في غزة وضعاً صعباً، تخسر مقاتلين بمعدل مرتفع للغاية، ومع ذلك فلم يكن ممكنا دفعها للتوصل إلى اتفاق عبر الضغوط العسكرية".
وأشار إلى أن "حماس لديها مصلحة علنية كبيرة بوقف القتال الآن، خاصة مع تسريب جيش الاحتلال بتحضيره لتنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق إذا فشلت المفاوضات، وشعورها بأن ترامب قد يضرّ بالمساعدات الإنسانية المقدمة لغزة، وتضاؤل الاهتمام العالمي بما يحدث في غزة".
وأكد أن "العنصر الثالث لإبرام الصفقة يتعلق بالسياسة الإسرائيلية الداخلية، حيث يستمتع نتنياهو بالنجاحات في الشمال وضد إيران، وتم تعزيز مكانته بشكل كبير، وتوسّع ائتلافه بشكل كبير، مع إضافة كتلة غدعون ساعر، وبذلك فلا يمكن لاستقالة بن غفير الإطاحة به، وأصبحت تقديرات عدم اجتياز بتسلئيل سموتريتش لنسبة الحسم الانتخابي ثابتة في استطلاعات الرأي، ولذلك اعتقد نتنياهو أن معارضي الصفقة من اليمين المتطرف لن يقدموا على الانسحاب من الحكومة".
وكشف أن "تصريحات نتنياهو العدوانية كانت منسقة مع فريق التفاوض؛ بما فيها تلك المهدّدة بتجديد الحرب، ويكفي أن نلقي نظرة واحدة على استطلاعات الرأي التي كشفت أن الغالبية العظمى من الجمهور الإسرائيلي تريد وقف الحرب بالكامل لصالح عودة المختطفين".
وختم بالقول أن "نتنياهو يدرك جيداً أن صور قادة حماس وهم يرفعون أيديهم ويخرجون من الأنفاق ليست هنا، ولن تكون في المستقبل القريب، ويعلم أن إعادة المختطفين تحقيق لأهداف الحرب، وبالتالي فإن نافذة واسعة انفتحت للتوصل للصفقة، وإن تجاهل هذه الحقيقة الآن، في نظر الإسرائيليين، أمر مستحيل، ولا يغتفر".