في المقال التاسع من زيارة اخرى للتاريخ اشرت الى قضايا السودان العاجلة التي سوف تعالجها دولة "اعادة تأسيس الدولة وبناء سلطة الشعب" بعد الحرب: قضايا التشريع وتكوين منظومة سلطة الشعب؛ قضايا الامن واعادة بناء الجيش والاصلاح والتحديث؛ سيادة سلطة القانون؛اعادة بناء جهاز الخدمة المدنية واخيرا اعادة بناء السلطة القضائية القائم على العدل والعلم والاستقامة والنزاهة.



كما طبقت الثورة اول ايامها "ازالة التمكين"بدأت المانيا بما اسمي "اجتثاث النازية" للتخلص وتحرير المجتمع من الأيديولوجية النازية الاشتراكية الوطنية في السياسة والاقتصاد والقضاء والثقافة والاعلام. وتم تنفيذها عن طريق إزالة أولئك الذين كانوا أعضاء في الحزب النازي ومؤسساته من مناصب السلطة والنفوذ ومن خلال تفكيكها. المنظمات المرتبطة بالنازية عاجزة.

ستواجه الدولة بعد الحرب بلداً ممزق البنية التحتية واشكالات الفقر والتشتت وفقدان الرؤية كما وجدت المانيا نفسها بعد الحرب العالمية الثانية، بل أسوأ. لقد اثبتت التجربة الالمانية نجاحاً باهراً في اعادة البناء وبل في تطورها اللاحق حتى الان. تعود نشأة هذا النظام إلى ألمانيا، بعد أن أصدر عالم الاقتصاد ألفريد مولر أرماك كتابه بعنوان "إدارة الاقتصاد واقتصاد السوق" العام 1946، الذي دعا فيه إلى الربط ما بين نظام الاقتصاد الحر والعدالة الاجتماعية، وكان وزير الاقتصاد الألماني لودفیك إيرهارد، وهو أستاذ في علم الاقتصاد، المطبق الأول لنظرية اقتصاد السوق الاجتماعي.

يقدم مفهوم السوق الاجتماعي حلاً تطبيقياً ملائماً، اذ هناك تجربة لها اكثر من ٧٠ عاماً وحققت وتحقق نجاحات مستمرة يمكن الاستفادة منها. وتعني في التطبيق العملي في السودان ان تتبنى الحكومة نظام السوق الحر وفي نفس الوقت تتولى الحكومة توفير الصحة والتعليم الجيد والكهرباء والمياه للسكان وباي اشكال شراكات مناسبة سواء محلية او خارجية وان تتولى، وبطريقة مرنة وعلى احدث نظم الادارة والحوكمة، ادارة المشاريع الزراعية والصناعية القومية الكبرى والسدود والمواصلات الحديدية والنهرية ومواصلات المدن الكبرى.

في تجارب منطقتنا من مصر الناصرية، عراق صدام، سوريا الاسدين وليبيا القذافي وجميعها كانت نماذج ديكتاتورية غاشمة. قايضت العيش الكريم بالحرية. وعلى مستوى العالم فقد تفكك الاتحاد السوفيتي وباقي دول شرق اوربا واورثت الشعوب اجيالاً من القمع في الحريات ثم افرزت بقايا الطبقة البيرقراطية الحزبية والامنية منظمات المافيا والعصابات والمجرمين والاوليجارك الذين يحكمون روسيا الان. وفي السودان جعلت احزاب اليسار، العدالة الاجتماعية ملكيتها الفكرية ولكن بدون ربطها بالديمقراطية. بعد تجارب محلية فاشلة وتجارب عالمية مفزعة، بدات التراجع وربطها بالديمقراطية ومحاولة ايجاد خطوط عمل لاتناقض بينهما.

العدالة الاجتماعية هي جزء من بناء الدولة الوطنية واحد اسس تقويتها وترتبط بكافة مواطني الوطن. انها ليست ملكية فكرية لاي تيار بعينه، ويتواجد مؤيدوها في كل التيارات. العدالة الاجتماعية الحقيقية تتبلور من خلال انتزاعها عبر الديمقراطية الانتخابية التعددية. لذلك لابد من اعادة الجمع بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية عبر نظام انتخابي ليبرالي تعددي، ومساندة احزابنا الجديدة والقديمة ان تتحول من الشعارات الى البرنامجية والرؤى الاستراتيجية.

اذا تم التزام الدولة بمفهوم السوق الاجتماعي وضمنت في الدستور الحقوق المكتسبة تنتهي ثنائية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والتي تصبح صراعاً سياسياً ديمقراطياً اذا اردنا توسيعها وشموليتها. وسوف تصبح النقابات شريكة في المؤسسات وممثلة في مركز اتخاذ القرار وتمثيل مصالح العاملين من جهة ومن جهةٍ اداة ضغط لتنفيذها وبالتالي تنتفي اهمية السيطرة عليها وتوجيهها حزبياً.

كان السوق الاجتماعي جزء من المعجزة الالمانية والتي سميت مشروع مارشال ودفعت امريكا ١٠ مليار دولار =١٠٠ مليار حاليا. لكن التجربة السودانية سوف تكون خطة محلية لان المعونات الخارجية لها اثمان غالية ولخصها الفكر الاقتصادي الجماعي السوداني في مفهوم: حشد الموارد واستعادة الاموال المنهوبة من الكيزان والفاسدين والجنجويد وغيرها.

وتكونت خطة تطور المانيا من خمس نقاط احداها تتعلق ببراءات الاختراع لاتعنينا حالياً: ١) تغيير العملة وهو مطلب طرح منذ بداية الثورة لتجفيف منابع الدولة القديمة القائمة على الفساد والاستبداد؛ ٢) مفهوم السوق الاجتماعي مع تأكيد دور الدولة في القطاعات الاساسية من صحة وتعليم وكهرباء ومياه ومواصلات وسكن. ٣) بناء النقابات المهنية والعمالية والزراعية واشراكهم كاصحاب اسهم في المؤسسات الكبري وفي الادارة؛ ٤) الزام المؤسسات العامة والخاصة في قبول الطلاب في العمل الصيفي في برامج تدريبية باجور زهيدة لبناء بنية الكفاءات المدربة.

اذا حشدت الدولة مواردها واستعادت المال المسروق من الانقاذ ومنظومة الجنجويد وتعويضات من الدول التي شاركت في تخريب الوطن واقنعت السودانيين في الخارج بتحويل مدخراتهم وتوجيهها للاستثمار الاقتصادي الحقيقي سوف نتمكن من توفير المائة مليار دولار لتحقيق رؤية سودانية وطنية نتفق عليها جميعاً.

Dr. Amr M A Mahgoub
omem99@gmail.com
whatsapp: +249911777842  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: بعد الحرب

إقرأ أيضاً:

فيلم الرامي الأخير .. رحلة طريق لمحارب النورماندي في أيامه الأخيرة

ما تزال أصداء الحروب وخاصة الحرب العالمية الثانية تظهر جلية في العديد من الأفلام السينمائية ولا يمر عام إلا ويتم إنتاج العديد من الأفلام التي تحاكي تلك الحرب أو تنقل قصصا واقعية حدثت في أثنائها.

هذا الصراع الوجودي بقي حاضرا في ضمير الإنسانية ولهذا انعكس على الشاشات بشكل مؤثر، ولهذا يستمر الولع بمثل هذه الأفلام ومنها هذا الفيلم للمخرج تيري لوان، الذي يعرض في صالات السينما الآن وهو يقدم مقاربة إنسانية مؤثرة غير مباشرة لقصة الحرب مستندا إلى إنزال النورماندي الشهير.

هذه المقاربة المختلفة تتعلق بواحد من المحاربين من أيرلندا حيث يعيش آرتي كروفورد – يقوم بالدور الممثل بيرس بروسنان وها نحن نشاهده وهو نزيل في إحدى دور رعاية المسنين، فالرجل يقف وهو في شيخوخته بحاجة إلى أن يتذكر الأحداث التي لا يمكن نسيانها والتي أثرت فيه وتغلغلت في بناء شخصيته وهما في الواقع حدثان متزامنان وجدانيان، وهما انخراطه جنديا ضمن الجيش البريطاني إبان الحرب العالمية الثانية وعلاقته بماجي - الممثلة ستيلا ماكوسكر- التي صارت زوجته فيما بعد.

الحب والحرب يتزامنان ويحفران عميقا في شخصية ارتي ولكن ها هو يودع زوجته في دار رعاية المسنين وقد لفظت أنفاسها وبهذا لم تبق له سوى ذكريات الحرب ووجوه أصدقائه التي تحوم من حوله من خلال سلسلة من مشاهد الفلاش باك فتارة يلتقط أحدهم صورة له ولصديقته وهما في ريعان الشباب وتارة تتوالى صرخات الجنود المحاربين.

هذا البناء السردي هو الذي تم التأسيس عليه في تقديم قصة إنسانية – عاطفية مؤثرة فيها العديد من المحطات التي تعيد إلى الذاكرة مأساة ضحايا الحروب واكتشاف ارتي أنه ليس إلا المحارب الأخير بين أولئك المحاربين الذين قرر أن يتفقدهم لمناسبة مرور 80 عاما على إنزال النورماندي.

إنه الهجوم الذي نفذته القوات الأمريكية والبريطانية والكندية من خلال ما عرف بعلمية "أوفرلورد" بشمال غرب أوروبا، والتي شارك فيها مئات الآلاف من الجنود المتدفقين على سواحل النورماندي قادمين من 15 دولة وها نحن من خلال شخصية ارتي نسترجع قصة أكبر عملية إنزال في التاريخ العسكري؛ شنها الحلفاء في 6 يونيو 1944 - انطلاقا من بريطانيا - على سواحل منطقة النورماندي شمال غربي فرنسا، لفتح جبهة جديدة ضد ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. وشارك فيها أكثر من مليوني جندي و300 ألف مركبة عسكرية.

هذه الحقيقة التاريخية تدفع ارتي لمغادرة دار المسنين في أيرلندا خلسة في سيارة اللوندري ويتمكن من الوصول إلى الحدود مع فرنسا لتساعده أم وأطفالها في الدخول إلى الأراضي الفرنسية بسبب نفاد جواز سفره وهكذا تمضي رحلته فيما يشبه سينما الطريق متنقلا بين الكثيرين الذين يروي لهم سبب رحلته وهو يضع نياشين الحرب على صدره.

تتلاشى بالتدريج تلك الصورة المسترجعة للحرب العالمية الثانية ونبقى في إطار قصة إنسانية تتعلق بهذا المسن الفخور بنياشينه وقد تجاوز التسعين من عمره وهو يفر من نفسه وذكرياته وكأنه يتوق إلى صباه وشبابه في سلسلة من الانتقالات الدرامية والتغيرات المكانية.

هذه الانتقالات التدريجية في المكان فيما ارتي يسابق الزمن ليصل إلى حيث تقام احتفالية النورماندي، في مشاهد تم بناؤها إخراجيا في نطاق سردي ليس فيه كثير من الحركة أو الانتقالات السريعة وإنما بكثير من الشجن الواقعي والسرد المبني على الحدث الآني ومن هنا يمكننا فهم العلاقة السائدة بين ارتي والمكان الذي شهد الحرب بل إن من المفارقات أن يلتقي ارتي القادم من أيرلندا والذي قاتل في جيش الحلفاء، مع أحد النازيين القدامى وهو مولر – يؤدي الدور الممثل يورغن بروشناو- الذي يتفاخر بماضيه غير مدرك أن الشخص الذي يجلس أمامه ربما قاتله يوما عندما تصدت جيوش الحلفاء للألمان النازيين.

ولنمض في هذه الدراما الفيلمية التي يمكن أن نسمي علامتها الفارقة هي التنقل بين أجيال مختلفة إذ إن ارتي الكهل يرتكز على شباب يصادفونه عبر الطريق فيتطوعون لمساعدته وتقديم الإرشاد له عن الطريق التي عليه أن يسلكها لغرض الوصول إلى النورماندي وهو في الواقع ينقل فيلميا ماذا يعني الفوز في الحرب بالنسبة لجيل جديد لم يعشها وإنما سمع عنها سماعا ولهذا يكون تعاطف الفرنسية جوليت – الممثلة كليمينس بويسي، هو من أجل إعلاء قيمة الكهولة ومكانة الذين ضحوا في الحرب ثم لتتطور الأحداث إلى نوع من المشاركة الإنسانية والوجدانية بين ارتي وتلك السيدة الفرنسية وأولادها، ويلاحظ هنا التأني الكامل في الانتقالات في أجواء شديدة التجانس والتعاطف الإنساني.

وأما إذا انتقلنا إلى الكيفية التي من خلالها تمت معالجة ذلك التواتر الزمني مع نوع من التشويق وتكريس الاهتمام الذي تشتغل عليه الصحافة في اقتفاء أثر ارتي فإن ما يحسب للفيلم أنه ينتمي إلى نوع الأفلام ذات الإيقاع الإنساني الذي يجذر الصلة بين الشخصيات حتى تشعر بأن رحلة ذلك الكهل والجندي السابق هي إلى الناس والأماكن الذين لم يعرفهم ولم يلتقهم قط ولكنهم كانوا بانتظاره ويمكن أن يساعدوه ويقفوا معه.

من جهة أخرى عالج الفيلم تلك الصلة التي قوامها الحنين والوفاء التي تربط ارتي وزوجته وهي في أرذل العمر فهو لا يتوقف عن رعايتها والاهتمام بها لاسيما وأنهما منفيان في دار للرعاية الاجتماعية على الرغم من أن لديهما أبناء وأحفادا إلا أن الأبناء والأحفاد لن يتذكروا الوالدين إلا صدفة عندما تظهر صورة ارتي على الشاشة وهي مفارقة أخرى في تلك السيرة المؤثرة.

وفي هذا الصدد يقول الناقد الان ميبان في موقع الان بيلفاست السينمائي، "عندما شاهدت العرض الاحتفالي لهذا الفيلم، شرد ذهني بسرعة إلى التفكير في الحرب والصراع في غزة تذكرت كل أولئك الذين ماتوا في الحروب. أنا لست أيديولوجيًا بما يكفي لكنني لن أنجذب أبدًا إلى تصنيف ما يسمى بالأطراف على أنها كلها جيدة أو كلها سيئة، أو مستقيمة أخلاقيًا أو خاطئة تمامًا. هناك على الأقل بعض الأفعال المؤسفة على جميع الجوانب. هناك أشخاص طيبون محاصرون في ظروف لا يمكنهم أو لن يهربوا منها. يعاني الأبرياء في كل مكان وهذا ما يجلبه لنا هذا الفيلم من شجن يتعلق بالحروب والصراعات المشتعلة في عالمنا ".

من هنا يمكن النظر إلى المقاربة الدرامية التي أراد المخرج وكاتب السيناريو إدخالها، التي ربما لا تروق لمن ينتظر إيقاعا سريعا وأحداثا حربية كارثية ومشاهد من إنزال النورماندي تستخدم فيها حشود ضخمة، بل إن المخرج اختصر كل ذلك في تلك الاستذكارات والمشاهد السريعة التي أراد بها ربط الماضي بالحاضر وخلال ذلك قدم الممثل بروسنان أداءا هادئا مقتصدا في كلماته ولكنه عميق الدلالة في إيصال الفكرة فهو في تلك المرحلة المتقدمة من العمر وقد سبقه زملاؤه المحاربون الراحلون لم يبق أمامه إلا الاحتفال الصامت بتاريخ النورماندي ولكنه احتفال مر ولم يحضره لأنه كان شبه فاقد للوعي وراقد في المستشفى ولتبقى الحرب مجرد صدى في عالم يتعثر بخطاياه وأخطائه الجسام.

...........

إخراج / تيري لوان

سيناريو/ كيفن فيتزباتريك

تمثيل/ بيرس بروسنان، كليمينس بويسي، يورغن بروشناو

مدير التصوير/ مارك مكاولي

مونتاج/ جون والترز

التقييمات/ آي ام دي بي 7 من 10، روتين توماتو 93%، ميتاكريتيك 93%

مقالات مشابهة

  • قائد لجيل جديد من السياسيين
  • وزيرة التضامن الاجتماعي تشارك في اجتماعات الدورة الـ80 للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب
  • هذه هي خارطة طريق الحلّ
  • طلال الذيابي: بناء مستقبل مشرق للوطن
  • حزب المؤتمر: تحويل الدعم العيني إلى نقدي يحقق العدالة الاجتماعية
  • هويدي: إغلاق السوق الموازية سيؤدي إلى بيع العملة بشكل سري وهو أشد خطورة على الاقتصاد
  • مستشار حكومي:(9600) مدرسة حاجة العراق الفعلية منها
  • مستشار رئيس الوزراء: خطة من محورين لبناء 14 ألف مدرسة عن طريق الاستثمار
  • فيلم الرامي الأخير .. رحلة طريق لمحارب النورماندي في أيامه الأخيرة
  • كيف يساهم الضمان الاجتماعي في تعزيز العدالة الاجتماعية؟