ينابيع الدم: (الجنجويد) والعنف المقدس
تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT
GHASSANWORLD@GMAIL.COM
هل الحرب في السودان تقف عند توصيف توماس هوبز بأنها انصراف من قيد المؤسسة والسياسة إلى حالة "الطبيعة"؟ أو ما يسميه "حرب ضد الكل"؟ هل الحرب في السودان تجاوزت كل أدبيات العنف وانتقلت إلى مرحلة كشفت فيها عن نَفَس جديد في كأس النزاعات المحلية في العالم الثالث؟ إن السؤال الذي يطّن في أذني هو حول مشروعية العنف الذي تمارسه قوات "الدعم السريع" في السودان وضد شعوبه المختلفة، نعم، للحرب مشروعية، إن الحرب هي العنف المباشر لا العنف المُهيكل، أما الذي قدمته قوات الدعم السريع فإنه ينتمي إلى العنف المقدس، شيء يتغذى على ينابيع لا تجف من الدم، والدم المضاد، ويبدو أن هذه القوات لست فقط متمردة على الدولة، هي متمردة على العنف ذاته، لقد كسّرت قواعد القتال العسكري، وآمنت بصورة احتفالية بإقامة سرادق إفناء وتشويه كل ما هو إنساني، ومشروعيتها في الحرب سريان أوصالها المكتظة بالدم داخل إطار العنف ذاته، العنف كحالة من حالات الخروج عن القانون، إن العنف الذي تؤمن به قوات الدعم السريع يستمد طاقته من شرايين تمتص العنف الاجتماعي المحمي بالمؤسسة، تمتصه ببطء شديد حتى تمتليء به أوصالها، بل تشتريه عرفاً جديداً لمعنى مقاولة عزرائيل على الفناء المؤتمت، في ظني أن اضطراباً نفسياً تعيشه هذه القوات يتأجج بالإحباط والغضب من كل شيء، ومن كل الناس، حتى من نفسها، إنها تقتل كل شيء حتى استقر فيها القتل عقيدة، بل صنعت له برتوكولات معقدة تستلهمها من تغريبة شريرة عاشتها وتعيشها، تيّهٌ لم يسمح لها بمعرفة كيف يمكن أن يصنع الإنسان شيئاً آخراً غير الموت، ولعل هذه المجموعة ليست بدعاً في التاريخ إنها امتداد طبيعي لما كتبه ابن خلدون قبل ٧٠٠ سنة حول تخريب العمران بواسطة التوحش الاجتماعي يقول: "أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقاً وجبلةً، وكان عندهم ملذوذاً، لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له".
وعند بداية الحرب في السودان، لم تتضح بعد مظاهر أو طبيعة العنف، فالعنف كما يقول فوكو حالة تتطور في سياق مؤسسة الدولة حتى تصل في حدها الأفصح إلى أن تكون عبارة عن حالة تجاوز مستمرة للقيم الأخلاقية والأحكام القانونية والتعليمات الطبيعية، وليس ببعيد ما جرى ويجري في السودان الآن من قِبل (الدعم السريع) بسودانييه ومرتزقته، فبعد انحلال الجسم التنظيمي لهذا الكيان الإجرامي انكشفت طبيعة تكوينه وجوهر فاعليته، كونه جسم مصمم في الأساس ليقوم بالقتل على الهوّية، ممارساً العنف في طبعته الجديدة، عنف يستهدف أكثر فأكثر ليس فقط الأعداء المُجسدون بل ينحت لنفسه أعداء بالتوهم وسوء الظن والاختلاق الحرج، عنف يتدبر وجوده في الإحسان إلى الموت، ومن يتتبع أفعال هذه الجماعة حتماً سيقع على مظاهر لم تكن لتحدث في سياق العنف والعنف والمضاد، عنف خارج إطار الحرب، عنف هوياتي مادي مُجسّد في خلاصات فاسدة يريد صانعها أن يمارس القتل بسوّية هي من مكونات وعيه السّادي، وهذه الحرب كشفت لنا عن أفعال تبدو غير مراقبة بالتوقعات، فما الذي تستفيده جماعة من حجز المرضى ومنع العلاج عنهم؟ ماذا يقدم لها إيذاء المدنيين؟ ما المرجو فعلياً من احتجاز المواطنين على الشُبهة؟ ما الذي يصنع مكاسب في ميدان القتال من احتلال منازل المواطنين وتشريدهم؟ وتتضح الحالة المرضية في خطاب هذه الجماعة، خطاب ينطبق عليه المثل الدارج (يقتل القتيل ويمشي في جنازته)، وفي ذلك تدبيرهم لخطاب سياسي يعتمد "المظلومية" باسم الشعب، بل وصل الأمر بأحدهم أن صرّح لقناة تلفزيونية عربية أن حرب الدعم السريع لأجل الشعب، شيء يذكرك بحمدان بن قرمط زعيم القرامطة في القرن الرابع الهجري وبالأحداث التي عرفت بـ(فتنة القرامطة) حين أغاروا على المسجد الحرام وقتلوا الحُجاج، ثم سرقوا الحجر الأسود ليمنعوا الحج سنوات طويلة، كل هذا باسم العدالة الاجتماعية والدين الصحيح. إن كل هذه الأفعال تكشف عن معنى جديد في الظاهرة الاجتماعية السودانية، فقد قامت الحروب على أساس المواجهة بين طرفين وهذه هي طبيعة النزاعات، أما الآن فالحرب التي يعتمدها هؤلاء هي حرب ضد كل مظاهر الوجود، هو قتل لصالح القتل، مواجهة مسلحة مع العمران والحضارة.
إن أفعال (الجنجويد) في الشعب السوداني مرحلة متقدمة في ممارسة القتل، وتمدنا العلوم الاجتماعية بمفهوم "العنف البنيوي"، كما صكه عالم الاجتماع النرويجي يوهان غالتونغ والذي يقول بأنه عنف تنتجه مؤسسات الدولة (في حالتنا السودانية: المليشيا المسلحة برعاية الدولة) داخل نظام تمييزي (أيديولوجي) يستثمر في بنية اجتماعية موصوفة بأنها (مستبعدة)، "الكلمات في الأقواس من عندنا". وتحمل هذه البنية في جوفها سياق من الكراهية والشعور بالنقص والإبعاد، وفي التعريف الدقيق لهذا المصطلح يقول بأنه: "شكل من أشكال العنف الممنهج الذي يقوم به تنظيم ما أو مؤسسّة اجتماعيّة معيّنة بالتسبب بالضرر للناس من خلال منعهم من تلبية احتياجاتهم الأساسية. والمجسد في فاعلية هذا العنف أنه يقوم على معنى "مؤسساتي" مخدوم بإطار من التفرقة والتمييز".
ولعل دراسة ناطقة بالتحليل الجاد ستصل إلى أن أفعال (الجنجويد) مثال حي على نظرية (العنف البنيوي)، وينبغي استكمال فهم هذه المجموعة عبر تشريح وجودها الاجتماعي ومعرفة مغذياتها الثقافية والعرقية والاقتصادية، وليس فقط إدانتها فهذه الإدانة مما لا يحتاج منا إلى دليل، نفعل ذلك لأجل محاصرة هذا (الجين) داخل المجتمع، محاصرته للقضاء عليه حتى لا يستفحل ويتناسل بصورة يصعب معها مستقبلاً إيقاف سرطان (العنف البنيوي) في السودان، والدعوة أن تكون الحرب فكرية كما هي عسكرية، ولست من دعاة الحرب، لكن استئصال هذا الجماعة بالقتل المادي ليس كافياً، بل قد تتغذى تيارات قبلية وعرقية عليه وتصنع منه تاريخاً للنضال كما هو الحال في التجارب البشرية خاضت فيها مجموعات حروبها وهُزِمت على أرض القتال لكنها صنعت مخيالاً يمكن استدعاءه وإصلاح شأنه الداخلي استعداداً للخروج من التقية والكتمان، إلى طور الانتقام. إن المعركة الحقيقية ثقافية قبل كل شيء، إنه العنف الذي سيتجمع في المستقبل ليصنع مخيالاً اجتماعياً مسلحاً بالثأر من مقاومة الموت.
إننا نحتاج إعادة النظر في هذه الجغرافيا، أي بناء سياسات اقتصادية وثقافية تعترف بالتنوع، وتؤمن بتوطين أساليب الحكم معبرة عن كل السودانيين، وبدون ذلك فإن أي تنظير سياسي سيكون جلاّباً للأزمات، ونابليون قال: "إن سياسة الدولة تكمن في جغرافيتها"، فقد أيقظت هذه الحرب أحداثاً سوداء في الذاكرة تلك التي ذكرها المؤرخ سيرجي سمرنوف في كتابه (المهدية من وجهة نظر سوفييتية) عندما مَكّن الخليفة عبد الله مجموعات بعينها استولت على أراضي المزارعين لتغيير الديموغرافية الاجتماعية في السودان تحت تهديد السلاح، لقد حكم الخليفة عبد الله السودان بالقبيلة المسلحة، أي قبيلة توفر له السلاح ضد الخارجين على حكمه، وليس صحيحاً البتة أن دولة الخليفة كانت عنصرية وإن اعتمدت القبيلة، فالرجل قاتل الجميع، أهله ومن ناوئه، لذا لا لفتنة القبيلة لأن أهم ما نحتاجه لمواجهة خطر الغزاة أن نتوحد، فلا قبيلة، ولا جهة، ولا انتماء غير السودان، ينبغي أن نحاصر العنف فينا، لأن غريزة العنف مثل الجنس، غريزة مخبأة ما إن تستثار حتى تنطلق دون وعي بحثاً عن متعة راهنة، ومتى انفلتت انفجرت ولم تكف عن البحث عن فراغ جديد تمارس فيه احتياجها المسلوب.
أما الدعوات التي تتحدث بغباء وتريد تصوير الصراع بأنه بين (غرب وشمال السودان) ينبغي لها أن تعرف بأن غرب السودان كان ولا يزال الضحية الأولى لهؤلاء القتلة..
إنها حرب ضدنا جميعاً حتى القتلة..
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع فی السودان
إقرأ أيضاً:
العنف الأسري: الأسباب والآثار والحلول
العنف الأسري هو أحد أخطر الظواهر الاجتماعية التي تهدد استقرار الأسرة والمجتمع.
يتمثل العنف الأسري في أي نوع من السلوك القاسي أو المؤذي الذي يُمارَس داخل نطاق الأسرة، سواء كان جسديًا، نفسيًا، لفظيًا، أو حتى اقتصاديًا.
هذه الظاهرة لها تداعيات كبيرة على الأفراد والمجتمع بأسره، وتحتاج إلى تسليط الضوء عليها للحد من انتشارها.
تعرفكم بوابة الفجر الإلكترونية في السطور التالية كافة التفاصيل حول العنف الأسري والأسبابة والآثار والحلول.
العنف الأسري: الأسباب والآثار والحلولأسباب العنف الأسري1. الأسباب النفسية:
الضغوط النفسية والقلق المستمر.
صدمة الطفولة أو التعرض لعنف سابق.
2. الأسباب الاقتصادية:
الفقر أو البطالة.
التوتر الناتج عن عدم القدرة على تلبية احتياجات الأسرة.
3. الأسباب الثقافية والاجتماعية:
الأعراف التي تبرر استخدام العنف كوسيلة للتأديب.
ضعف القوانين التي تردع المعتدين.
4. الإدمان:
تعاطي الكحول والمخدرات الذي يؤدي إلى سلوكيات عدوانية.
العنف الأسري: مشكلة تهدد المجتمع والأسرة آثار العنف الأسري1. على الفرد:
ضرر نفسي مثل الاكتئاب، القلق، وضعف الثقة بالنفس.
أضرار جسدية قد تصل إلى الإعاقة أو الوفاة.
2. على الأسرة:
تدهور العلاقات الأسرية.
زيادة حالات الطلاق والتفكك الأسري.
3. على المجتمع:
ارتفاع معدلات الجريمة.
ضعف الإنتاجية وزيادة العبء على المؤسسات الصحية والاجتماعية.
الحلول لمواجهة غدف الأسري
1. التوعية والتثقيف:
نشر الوعي حول حقوق الأفراد داخل الأسرى
تقديم دورات تعليمية حول كيفية التعامل مع الضغوط.
2. تشديد القوانين:
فرض عقوبات صارمة على مرتكبي العنف.
تسهيل الوصول إلى مراكز الإبلاغ والمساعدة.
3. الدعم النفسي والاجتماعي:
توفير مراكز علاج نفسي للضحايا والجناة.
تعزيز دور منظمات المجتمع المدني في تقديم الدعم والمساعدة.
4. التمكين الاقتصادي:
توفير فرص عمل للأسر الفقيرة.
تقديم مساعدات مالية للأسر المتضررة.
العنف الأسري: مشكلة تهدد المجتمع والأسرة
العنف الأسري ليس قضية شخصية بل هو أزمة مجتمعية تحتاج إلى جهود جماعية لمواجهتها.
على كل فرد أن يلعب دوره في التصدي لهذه الظاهرة، سواء من خلال الإبلاغ عن الحالات، أو تقديم الدعم للضحايا، أو حتى نشر الوعي بين الأجيال القادمة، أسرة سليمة تعني مجتمعًا مستقرًا ومزدهرًا.