سودانايل:
2025-01-30@08:21:54 GMT

ينابيع الدم: (الجنجويد) والعنف المقدس

تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT

GHASSANWORLD@GMAIL.COM

هل الحرب في السودان تقف عند توصيف توماس هوبز بأنها انصراف من قيد المؤسسة والسياسة إلى حالة "الطبيعة"؟ أو ما يسميه "حرب ضد الكل"؟ هل الحرب في السودان تجاوزت كل أدبيات العنف وانتقلت إلى مرحلة كشفت فيها عن نَفَس جديد في كأس النزاعات المحلية في العالم الثالث؟ إن السؤال الذي يطّن في أذني هو حول مشروعية العنف الذي تمارسه قوات "الدعم السريع" في السودان وضد شعوبه المختلفة، نعم، للحرب مشروعية، إن الحرب هي العنف المباشر لا العنف المُهيكل، أما الذي قدمته قوات الدعم السريع فإنه ينتمي إلى العنف المقدس، شيء يتغذى على ينابيع لا تجف من الدم، والدم المضاد، ويبدو أن هذه القوات لست فقط متمردة على الدولة، هي متمردة على العنف ذاته، لقد كسّرت قواعد القتال العسكري، وآمنت بصورة احتفالية بإقامة سرادق إفناء وتشويه كل ما هو إنساني، ومشروعيتها في الحرب سريان أوصالها المكتظة بالدم داخل إطار العنف ذاته، العنف كحالة من حالات الخروج عن القانون، إن العنف الذي تؤمن به قوات الدعم السريع يستمد طاقته من شرايين تمتص العنف الاجتماعي المحمي بالمؤسسة، تمتصه ببطء شديد حتى تمتليء به أوصالها، بل تشتريه عرفاً جديداً لمعنى مقاولة عزرائيل على الفناء المؤتمت، في ظني أن اضطراباً نفسياً تعيشه هذه القوات يتأجج بالإحباط والغضب من كل شيء، ومن كل الناس، حتى من نفسها، إنها تقتل كل شيء حتى استقر فيها القتل عقيدة، بل صنعت له برتوكولات معقدة تستلهمها من تغريبة شريرة عاشتها وتعيشها، تيّهٌ لم يسمح لها بمعرفة كيف يمكن أن يصنع الإنسان شيئاً آخراً غير الموت، ولعل هذه المجموعة ليست بدعاً في التاريخ إنها امتداد طبيعي لما كتبه ابن خلدون قبل ٧٠٠ سنة حول تخريب العمران بواسطة التوحش الاجتماعي يقول: "أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقاً وجبلةً، وكان عندهم ملذوذاً، لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له".

- المقدمة - الفصل ٢٦.
وعند بداية الحرب في السودان، لم تتضح بعد مظاهر أو طبيعة العنف، فالعنف كما يقول فوكو حالة تتطور في سياق مؤسسة الدولة حتى تصل في حدها الأفصح إلى أن تكون عبارة عن حالة تجاوز مستمرة للقيم الأخلاقية والأحكام القانونية والتعليمات الطبيعية، وليس ببعيد ما جرى ويجري في السودان الآن من قِبل (الدعم السريع) بسودانييه ومرتزقته، فبعد انحلال الجسم التنظيمي لهذا الكيان الإجرامي انكشفت طبيعة تكوينه وجوهر فاعليته، كونه جسم مصمم في الأساس ليقوم بالقتل على الهوّية، ممارساً العنف في طبعته الجديدة، عنف يستهدف أكثر فأكثر ليس فقط الأعداء المُجسدون بل ينحت لنفسه أعداء بالتوهم وسوء الظن والاختلاق الحرج، عنف يتدبر وجوده في الإحسان إلى الموت، ومن يتتبع أفعال هذه الجماعة حتماً سيقع على مظاهر لم تكن لتحدث في سياق العنف والعنف والمضاد، عنف خارج إطار الحرب، عنف هوياتي مادي مُجسّد في خلاصات فاسدة يريد صانعها أن يمارس القتل بسوّية هي من مكونات وعيه السّادي، وهذه الحرب كشفت لنا عن أفعال تبدو غير مراقبة بالتوقعات، فما الذي تستفيده جماعة من حجز المرضى ومنع العلاج عنهم؟ ماذا يقدم لها إيذاء المدنيين؟ ما المرجو فعلياً من احتجاز المواطنين على الشُبهة؟ ما الذي يصنع مكاسب في ميدان القتال من احتلال منازل المواطنين وتشريدهم؟ وتتضح الحالة المرضية في خطاب هذه الجماعة، خطاب ينطبق عليه المثل الدارج (يقتل القتيل ويمشي في جنازته)، وفي ذلك تدبيرهم لخطاب سياسي يعتمد "المظلومية" باسم الشعب، بل وصل الأمر بأحدهم أن صرّح لقناة تلفزيونية عربية أن حرب الدعم السريع لأجل الشعب، شيء يذكرك بحمدان بن قرمط زعيم القرامطة في القرن الرابع الهجري وبالأحداث التي عرفت بـ(فتنة القرامطة) حين أغاروا على المسجد الحرام وقتلوا الحُجاج، ثم سرقوا الحجر الأسود ليمنعوا الحج سنوات طويلة، كل هذا باسم العدالة الاجتماعية والدين الصحيح. إن كل هذه الأفعال تكشف عن معنى جديد في الظاهرة الاجتماعية السودانية، فقد قامت الحروب على أساس المواجهة بين طرفين وهذه هي طبيعة النزاعات، أما الآن فالحرب التي يعتمدها هؤلاء هي حرب ضد كل مظاهر الوجود، هو قتل لصالح القتل، مواجهة مسلحة مع العمران والحضارة.
إن أفعال (الجنجويد) في الشعب السوداني مرحلة متقدمة في ممارسة القتل، وتمدنا العلوم الاجتماعية بمفهوم "العنف البنيوي"، كما صكه عالم الاجتماع النرويجي يوهان غالتونغ والذي يقول بأنه عنف تنتجه مؤسسات الدولة (في حالتنا السودانية: المليشيا المسلحة برعاية الدولة) داخل نظام تمييزي (أيديولوجي) يستثمر في بنية اجتماعية موصوفة بأنها (مستبعدة)، "الكلمات في الأقواس من عندنا". وتحمل هذه البنية في جوفها سياق من الكراهية والشعور بالنقص والإبعاد، وفي التعريف الدقيق لهذا المصطلح يقول بأنه: "شكل من أشكال العنف الممنهج الذي يقوم به تنظيم ما أو مؤسسّة اجتماعيّة معيّنة بالتسبب بالضرر للناس من خلال منعهم من تلبية احتياجاتهم الأساسية. والمجسد في فاعلية هذا العنف أنه يقوم على معنى "مؤسساتي" مخدوم بإطار من التفرقة والتمييز".
ولعل دراسة ناطقة بالتحليل الجاد ستصل إلى أن أفعال (الجنجويد) مثال حي على نظرية (العنف البنيوي)، وينبغي استكمال فهم هذه المجموعة عبر تشريح وجودها الاجتماعي ومعرفة مغذياتها الثقافية والعرقية والاقتصادية، وليس فقط إدانتها فهذه الإدانة مما لا يحتاج منا إلى دليل، نفعل ذلك لأجل محاصرة هذا (الجين) داخل المجتمع، محاصرته للقضاء عليه حتى لا يستفحل ويتناسل بصورة يصعب معها مستقبلاً إيقاف سرطان (العنف البنيوي) في السودان، والدعوة أن تكون الحرب فكرية كما هي عسكرية، ولست من دعاة الحرب، لكن استئصال هذا الجماعة بالقتل المادي ليس كافياً، بل قد تتغذى تيارات قبلية وعرقية عليه وتصنع منه تاريخاً للنضال كما هو الحال في التجارب البشرية خاضت فيها مجموعات حروبها وهُزِمت على أرض القتال لكنها صنعت مخيالاً يمكن استدعاءه وإصلاح شأنه الداخلي استعداداً للخروج من التقية والكتمان، إلى طور الانتقام. إن المعركة الحقيقية ثقافية قبل كل شيء، إنه العنف الذي سيتجمع في المستقبل ليصنع مخيالاً اجتماعياً مسلحاً بالثأر من مقاومة الموت.
إننا نحتاج إعادة النظر في هذه الجغرافيا، أي بناء سياسات اقتصادية وثقافية تعترف بالتنوع، وتؤمن بتوطين أساليب الحكم معبرة عن كل السودانيين، وبدون ذلك فإن أي تنظير سياسي سيكون جلاّباً للأزمات، ونابليون قال: "إن سياسة الدولة تكمن في جغرافيتها"، فقد أيقظت هذه الحرب أحداثاً سوداء في الذاكرة تلك التي ذكرها المؤرخ سيرجي سمرنوف في كتابه (المهدية من وجهة نظر سوفييتية) عندما مَكّن الخليفة عبد الله مجموعات بعينها استولت على أراضي المزارعين لتغيير الديموغرافية الاجتماعية في السودان تحت تهديد السلاح، لقد حكم الخليفة عبد الله السودان بالقبيلة المسلحة، أي قبيلة توفر له السلاح ضد الخارجين على حكمه، وليس صحيحاً البتة أن دولة الخليفة كانت عنصرية وإن اعتمدت القبيلة، فالرجل قاتل الجميع، أهله ومن ناوئه، لذا لا لفتنة القبيلة لأن أهم ما نحتاجه لمواجهة خطر الغزاة أن نتوحد، فلا قبيلة، ولا جهة، ولا انتماء غير السودان، ينبغي أن نحاصر العنف فينا، لأن غريزة العنف مثل الجنس، غريزة مخبأة ما إن تستثار حتى تنطلق دون وعي بحثاً عن متعة راهنة، ومتى انفلتت انفجرت ولم تكف عن البحث عن فراغ جديد تمارس فيه احتياجها المسلوب.
أما الدعوات التي تتحدث بغباء وتريد تصوير الصراع بأنه بين (غرب وشمال السودان) ينبغي لها أن تعرف بأن غرب السودان كان ولا يزال الضحية الأولى لهؤلاء القتلة..
إنها حرب ضدنا جميعاً حتى القتلة..

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدعم السریع فی السودان

إقرأ أيضاً:

بعد اعتراف المتحدث بإسم القوات الجوية… سفير أوكرانيا ينفي تدخل بلاده في الحرب السودانية

نفى سفير أوكرانيا لدى جمهورية السودان ميكولا ناهورني تقديم بلاده لاي شكل من اشكال الدعم لقوات الدعم السريع، واصفا الحملة الإعلامية التي راجت في بعض المواقع الإعلامية السودانية حول دور مزعوم لبلاده في حرب السودان بأنها ادّعاءات استفزازية وعارية من الصحة ومفبركة.
واعتبر السفير الأوكراني هذه "الحملة" بأنها تمثل امتدادا للحرب غير المبررة التي تشنها روسيا ضد أوكرانيا بأبعادها المتعددة والممتدة إلى قارات مختلفة، بغض النظر عن بعدها الجغرافي عن مسرح العمليات القتالية مضيفا أن السودان ليس استثناءً في هذا الصدد نافيا وبشكل قاطع لهذه الادعاءات واعتبرها محاولة روسية يائسة لإطلاق حملة تضليلية رامية إلى تشويه سمعة أوكرانيا في الفضاء الإعلامي السوداني والعالمي.
وكانت تصريحات السفير الأوكراني الأخيرة محاولة لتصحيح الخطأ الذي قام به المتحدث الرسمي باسم سلاح الجو الأوكراني إيليا يفلاش، حيث نشر الأخير في 07 يناير 2025 على صفحته الرسمية على فيسبوك أن مدربي ومشغلي الطائرات بدون طيار من القوات المسلحة الأوكرانية يقدمون الدعم لقوات الدعم السريع بدعوة شخصية من حميدتي.
وقال المتحدث الرسمي باسم سلاح الجو الأوكراني: "تحاول روسيا تصوير الجيش الأوكراني على أنه غير محترف، ويعتمد كليا على الإمدادات الغربية. لكن الحقائق تتحدث عن نفسها: إن القوات المسلحة الأوكرانية هي الجيش الأكثر خبرة ومهارة في المعارك في أوروبا".
وأضاف يفلاش، بأن المدربون ومشغلو الطائرات بدون طيار الأوكرانيون مطلوبون في جميع أنحاء العالم، وأكد أن أوكرانيا تمتلك ما يقارب من 30 عقدا في الدول الأفريقية وحدها، وذكر السودان كأحد هذه الدول التي تملك أوكرانيا معها عقود، وتحديدًا مع قوات الدعم السريع المتمردة تحت قيادة محمد حمدان.
يقول المسؤول الأوكراني أن مدربين أوكران ينشطون في السودان لنقل خبراتهم في مجال حرب المدن، بالإضافة إلى مجموعة من مشغلي الطائرات بدون طيار.
وكانت القوات المشتركة التابعة لقيادة الجيش السوداني والفصائل المتحالفة معها قد أعلنت مؤخرًا، أنها تمكنت من السيطرة على شحنات من الأسلحة الثقيلة بما فيها طائرات مسيرة ومركبات قتالية مرتبطة بقوات الدعم السريع. وأشارت بعض المصادر، أن هذه المعدات العسكرية الغربية تم تطويرها بالتعاون مع شركات من أوروبا الشرقية للاستخدام العسكري في أوكرانيا، ما يشير الى التواجد الأوكراني على الأراضي السودانية ودعمهم لقوات الدعم السريع في حربها مع القوات النظامية للبلاد، وقام بعض المسؤولين سواء العسكريين أو الديبلوماسيين بتأكيد هذه المزاعم في العديد من المناسبات.
ونشرت العديد من وسائل الإعلام تقارير نقلاً عن شهود عيان ومصادر عسكرية أن القوات الأوكرانية التي تم توثيق وجودها في السودان، تعمل على تدريب قوات الدعم السريع على استخدام الطائرات المسيرة، وساهمت في عدة هجمات نفذتها القوات المتمردة ضد الجيش السوداني في عاصمة إقليم دارفور ومختلف محافظات البلاد في الفترات الأخيرة الماضية.
تعمل أوكرانيا في أفريقيا بالوكالة عوضًا عن الدول الغربية لضمان مصالحها وتحقيق أهدافها في المنطقة، ويتم استخدام القوات الأوكرانية لعدة أسباب، أهمها لكي لا تتدخل الدول الغربية بشكل مباشر في هذه الصراعات، وكذلك لأن الجنود الأوكران تم تدريبهم وتجهيزهم طيلة السنوات الأخيرة من قبل الغرب لمواجهة روسيا وبالتالي أصبحت أوكرانيا اليوم من أفضل الجيوش الغربية التي تمتلك جنودًا مدربين ولديهم خبرة عسكرية على الأرض، وبعد اقتراب خسارة الحرب مع روسيا يتم استخدامهم لتحقيق مصالح أخرى في القارة السمراء.

الكاتب: عبدالرحيم التاجوري
الباجث في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية  

مقالات مشابهة

  • "المسيحية والصهيونية ضدان لا يلتقيان".. مؤتمر دولي في عمان يرفض استخدام الكتاب المقدس لتبرير العنف والاحتلال
  • القس خضر اليتيم: المسيحية الصهيونية تبرر العنف والاحتلال باستخدام الكتاب المقدس
  • مستقبل القبائل العربية بعد هزيمة الدعم السريع في السودان
  • السودان.. حرب بلا معنى
  • تطهير عرقي وانتهاكات جسيمة.. الجنائية الدولية تتجه لإصدار مذكرات اعتقال بحق متهمين بجرائم في دارفور
  • بعد اعتراف المتحدث بإسم القوات الجوية… سفير أوكرانيا ينفي تدخل بلاده في الحرب السودانية
  • الألم والوجع الذي احسه السودانيون بسقوط مدني فاق اي احساس آخر طيلة فترة الحرب
  • وزير الخارجية: قيام دولة فلسطينية مستقلة الحل الوحيد لإنهاء العنف والعنف المضاد
  • وزير الخارجية: قيام دولة فلسطينية مستقلة هو الحل الوحيد لكسر حلقة العنف والعنف المضاد
  • أكثر من 23 مليون دولار خسائر الإمدادات الطبية بالجزيرة بسبب الحرب