يتساءل بعض القراء في العالم العربي: هل كان لورنس العرب جاسوسا؟! يحسبون أن في إلصاق تهمة التجسس به ما يضع حدا للكلام؛ والواقع أن تجسُس لورنس على العرب هو أهون الأمور، أهون بكثير من صورته التي استقرت في المخيال الغربي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، تلك الصورة التي نصبته ممثلا للقومية العربية، واختزلت طموحات شعوب المنطقة بأكملها في ما ينطق به.

ليس من معايب كتاب "أعمدة الحكمة السبعة" عيب أقبح من أنه كتاب يسكت عن معطيات تاريخية ويبرر أخرى، وذلك من حيث كونه ينظر إلى هذه المعطيات من زاوية نظر البطولة الأدبية

يقول لورنس في إحدى رسائله إنه قد "وجد نفسه في وضعية يستعصي الخروج منها بشرف". لقد ساهمت "أعمدة الحكمة السبعة" في تضخيم الدور الذي قام به حقيقة وجعلت منه ذلك البطل الذي جاء من فراغ ليحدد مسار الثورة العربية بفضل عبقريته العسكرية والسياسية والإستراتيجية، والذي حمل لواء الحرية العربية مشروعا فرديا شخصيا، بعيدا عن تأثير السياسة البريطانية في المنطقة. يقول الكولونيل ماينرتسهاغن (ضابط أركان الجنرال أَلِنْبي) في مذكراته أن لورنس قد باح له بأن نصيب الأحداث المروية في "أعمدة الحكمة السبعة" من الحقيقة قليل جدا، وأنه قد سقط في أسر كذبه حيث كان المعجبون به وأصدقاؤه يريدونه أن يقيم.

يقول إدوارد سعيد -في معرض حديثه عن تجربة لورنس- "في هذه الحالة، الأسلوب ليس هو القدرة على الإحالة الرمزية على أشياء عامة ذات حجم كبير من قبيل آسيا والشرق أو العرب فقط، بل هو كذلك شكل من أشكال الاستبدال والدمج الذي يتحول بموجبهما الصوت الواحد إلى تاريخ بأكمله ويصبح، بالنسبة للإنسان الغربي الأبيض، سواء أكان قارئا أو كاتبا، النوع الوحيد من الشرق الذي يمكن معرفته".

ليس من معايب كتاب "أعمدة الحكمة السبعة" عيب أقبح من أنه كتاب يسكت عن معطيات تاريخية ويبرر أخرى، وذلك من حيث كونه ينظر إلى هذه المعطيات من زاوية نظر البطولة الأدبية. بمحاولة لورنس تقمص الدور البطولي، يتصدر المشهد فيصبح أشبه بتلك الشجرة التي تخفي غابة من الحقائق التاريخية.

يحاول لورنس أن يوهم القارئ بأن "تحرير العرب" هو وليد شغف شخصي بحضارتهم وثقافتهم، وأن الشيء الذي أذكى روح ثورتهم ضد الأتراك هو تمرد العصابة التي كان يرأسها ضد قوانين الخارجية البريطانية الراسخة، خصوصا بعد اكتشافه فيصل وإعجابه الشخصي به. وحتى يكون أكثر إقناعا، يسعى جاهدا لصياغة تبرير أخلاقي لهذه الثورة، ويقول إن العرب لا يرون مانعا في محاربة الأتراك، حيث يقولون: "إذا كان المسيحيون يتقاتلون فيما بينهم، فلماذا لا يفعل المسلمون الشيء نفسه؟".

بهذا الكلام يُخفي لورنس حقيقة ناصعة مفادها أن "تقسيم الإسلام" أصبح مطلبا أساسيا من مطالب السياسة الخارجية البريطانية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. معلوم أن بريطانيا ظلت على امتداد القرن التاسع عشر حريصة على تماسك الإمبراطورية العثمانية، ذلك أنها كانت ترى في هذا التماسك ما يقف سدا منيعا في وجه الأطماع الروسية والفرنسية. غير أن تحالف الأتراك مع الألمان خلال الحرب أصبح يهدد بنسف مقومات الوجود البريطاني في الشرق ويقطع أوصاله، بفصل الهند عن مصر. ولم يكن هذا الأمر يخفى على لورنس نفسه، إذ يقول في إحدى رسائله: "حين اندلعت الحرب، صرنا أمام ضرورة ملحة لتقسيم الإسلام، فتصالحنا مع فكرة البحث عن حلفاء عوض رعايا".

لم يكن يخفى على لورنس طبيعة الجدل القائم بين ماكماهون وألنبي وغيرهم من أقطاب السياسة البريطانية العسكرية وانقسامهم بين مناصر لفكرة التحالف مع الملك عبد العزير آل سعود، ومناصر لفكرة التحالف مع الشريف حسين الهاشمي؛ منهم من يرى في تحالف الملك عبد العزيز مع "إخوان من أطاع الله" لتوحيد العربية السعودية مصدر قلق، ومؤشرا على حس المبادرة الذي يجعل منه قائدا ربما لا يؤمن جانبه، ومنهم من يرى في الشريف حسين الشخصية الأجدر بالثقة. سواء أكان لورنس على علم بهذا الجدل أم لم يكن يعلم به، فهو بسعيه لتقمص البطولة يخفي حقيقة اهتمام السياسة البريطانية الكبير بتقسيم الإسلام وإيجاد حليف إستراتيجي بين العرب الذين صاروا يُمنَحون صفة "الأخيار الطيبين" في مقابل الأتراك الذين تحولوا إلى "أشرار متغطرسين".

تحولت "أعمدة الحكمة السبعة" إلى سردية تطمس بجمال أسلوبها الأدبي الأخاذ حقائق التاريخ الكبرى. ويأتي على رأس هذه الحقائق كلها أن الصراع الذي يحاول لورنس وصفه ليس صراعا بين عصابة من المتمردين وسلطة مركزية عثمانية، بقدر ما هو صراع حول المنطقة العربية كان من بين الأسباب الرئيسة لاندلاع الحرب العالمية الأولى.

لقد ظلت بريطانيا تنظر بقلق وتوجس شديدين إلى ما آلت إليه الأمور من تقارب بين الدولة العثمانية وألمانيا، خصوصا بعد أن منح السلطان عبد الحميد الألمان امتيازات كبيرة في إطار مشروع السكة الحديد، "خطة سكة حديد برلين بغداد"، هذا المشروع الذي كان من المفترض أن يعطي ألمانيا امتدادا قاريا ويفك العزلة عنها ويصلها بالمنطقة العربية.

كان من المفترض أن تربط سكة حديد (برلين- بغداد) ألمانيا ببغداد، مرورا بالإمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية ودول البلقان وتركيا. فمعلوم أن ألمانيا لم تكن قوة بحرية، وأن هذا المشروع كان سيكسبها قوة تجعلها تنافس بريطانيا في الشرق الأوسط وتهدد مصالحها. ويذهب بعض المؤرخين إلى حد القول بأن حرب البلقان لم تقم إلا لقطع الطريق أمام إنجاز السكة الحديد. وبهذا يمكن أن نقول كذلك إن الحرب العالمية الأولى لم تبدأ سنة 1914، بل كانت مسبوقة بمناوشات داخل القارة الأوروبية.

نستطيع أن نسترسل في الحديث عن أهداف الإدارة الاستعمارية البريطانية في المشرق العربي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، لكن لورنس يأبى في "أعمدة الحكمة السبعة" أن يربط بين هذه الأهداف وبين أهدافه الإستراتيجية والعسكرية خلال الحرب. وبهذا يسهم في تثبيت دعائم سردية تخفي واقع السياسة الإمبريالية في المنطقة، وترسخ، بفضل أسلوبه الأدبي الشيق، صورة الإنسان الأوروبي الخير الذي، كما يقول تيري هينش في كتابه "الشرق المتخيل" إنه "يأخذ على عاتقه مهمة عجن أو خلط مادة الشرق بعبقرية الغرب بغرض إنجاب أبناء جديرين بالانتساب إلى هذه الجهة من العالم".

إن دراسة أرشيف الحرب العالمية الأولى وما شهدته من مفاوضات علنية وسرية تجلي لنا أن الثورة العربية أعقد بكثير من أن يقوى على نسج خيوطها شخص واحد، مهما كان بطلا. هذا على خلاف ما نستشف من قراءة "أعمدة الحكمة السبعة"، حيث يخفق لورنس في أن يجعل لبطولته غاية يقف عندها، ومن ثم يربط مصير شعوب المنطقة العربية بأكملها بمزاجه الشخصي، حتى إن قصة كفاحهم تنتهي مع خيبة أمله وتراجع حماسته وخفوت همته.

توحي قراءة "أعمدة الحكمة السبعة" بأنه مع تخلي لورنس عن القضية العربية يسقط كل شيء، ذلك لأن الثورة العربية ما كانت لتكون لولا عبقريته هو، وأما البدو فمصيرهم، دون دعمه البطولي، هو النكوص إلى وضع التمزق الذي كانوا عليه من قبل. يكتب في إحدى رسائله متحدثا عن الحركات التحررية العربية ما يلي: "من وجهة نظر الحرب، فإن أكبر عائق يواجه كل حركة عربية هو أفضل فضائل زمن السلم، ألا وهو غياب التضامن والتكافل بين مختلف الحركات العربية".

بتركيزه على العوامل الداخلية المؤثرة في تمزق الوشائج بين العرب، يقوم لورنس بطمس العوامل الخارجية المساهمة في هذا التمزق، مثل تنافس الإمبرياليات من أجل الاستحواذ على المنطقة العربية، نظرا لأهميتها الاقتصادية والإستراتيجية. يدل هذا على أن تجربة الصحراء عند لورنس، هذه التجربة التي تمت صياغتها أحسن صياغة أدبية وفنية، تأتي لتصب بشكل واضح في خلق بيئة سياسية مواتية للدعوة لإخضاع الشرق العربي لسلطة الغرب.

هل كان لورنس جاسوسا؟ هل كان جنديا عاديا؟ لقد كان هذا وذاك، فضلا عن أنه كان أديبا كبيرا، أفضت به طلاقة لسانه إلى تجاوز الغاية في تقمص بطولة شعرية أدخلته في حكم من لا يبالي بسؤال المطابقة بين القول والفعل. لقد استطاع بفضل عبقريته الأدبية أن يركب الواقع ليُوسِّع ساحة الخيال، وأن يركب الخيال ليُوسّع ساحة الواقع. إن قارئ "أعمدة الحكمة السبعة" يجد نفسه أمام عمل أشبه بالوثيقة التاريخية، وإن كان ليس منها، وأشبه بالخيال، وإن كان ليس منه.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: المنطقة العربیة لیس من

إقرأ أيضاً:

خوف المُحَرِّر الأدبي من ضربة «الذكاء» !

في أحد أيام عام 1957، قدّمت كاتبة شابة مغمورة اسمها «هاربر لي» إلى إحدى دور النشر الأمريكية مسودة أولية لروايتها الأولى التي اختارت لها عنوان Go Set a Watchman («اذهب ونصّب رقيبا»)، ولحسن حظ الكاتبة وقعت الرواية في يد المحررة الأدبية المتمكّنة تاي هوهوف التي رأت من القراءة الأولى أن الرواية تَعِدُ بنصّ أدبي مميز، لكنها في شكلها الأولي ذاك كانت أقرب إلى سلسلة من الحكايات منها إلى رواية ناضجة ومتكاملة. عملت هوهوف مع المؤلفة على مدار عامين، مقترِحةً إعادة صياغة القصة من منظور طفلة، فسارت الرواية في طريق أخرى، إذْ تعمقت الحبكة وتطورت الشخصيات. وبعد ذينك العامين، وعقب إجراء سلسلة من التعديلات الجوهرية، نُشِرتْ النسخة النهائية من الرواية عام 1960 بعنوان آخر هو «أن تقتل طائرًا بريئًا»To) Kill a Mockingbird)، وحازت على جائزة بوليتزر، وأصبحت اليوم من الكلاسيكيات الأدبية الأمريكية.

وأنا أتأمل هذه الحكاية التي تسرد العلاقة المميزة بين المحرر والمؤلف، والتي يمكن أن نضيف إليها عشرات الحكايات الأخرى الموثقة في كتبٍ وأفلام سينمائية، هذه العلاقة التي حَولت نصوصًا هي في أحسن الأحوال متوسطة الجودة الأدبية (إن لم نقل سيئة) إلى نصوص أدبية مميزة وممتعة، يقفز إلى ذهني سؤال مهمّ: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي حقًّا بأدواته المتنوعة أن يحلّ محل المحرِّر الأدبي؟ هل بمقدوره مرافقة المبدع سنة أو اثنتين ومساعدته في بلوغ أقصى ما يمكن لنصه أن يصل إليه؟ هل يقدر على تحسين صياغة النص دون المساس بأسلوب الكاتب، كما يحرص المحرِّر الإنسان؟ والأهم من هذا كله هل يستطيع من خلال تعديلاته واقتراحاته أن يحافظ على روح النصّ ولمسته الإنسانية؟ في تصوري أن الإجابة عن كل هذه التساؤلات هي بالنفي، رغم اعترافنا جميعًا بما يمكن أن تفعله هذه الأدوات.

ولكن ماذا يمكن أن تفعل أدوات الذكاء الاصطناعي؟ في الحقيقة يستطيع المدعو «تشات جي بي تي» وإخوتُه فعل الكثير؛ أن يصححوا الأخطاء النحوية، والإملائية، وعلامات الترقيم، أن يُبدوا الرأي في تسلسل أحداث رواية وبناء شخصياتها، والحوار، والثيمات، ومدى وضوح رسالة النص (إن كان ثمة رسالة)، أن يقترحوا إعادة ترتيب الفصول أو حذف مشاهد ودمج أخرى لتقوية الحبكة أو لتحسين تدفق السرد. بل يستطيعون حتى أن يوجهوا الكاتب نحو اختيارات تناسب جمهورًا معينًا أو دار نشر بعينها، مثل تعديل الأسلوب ليلائم فئة عمرية معينة، أو تقليل الحشو لتقليل عدد الصفحات. لكنهم لن يستطيعوا أبدًا أن يُضفوا روحًا إنسانية على العمل. لن يشعر القارئ، أو هكذا أتصور، بالألم الذي يسببه وخز الشوكةِ إصبعَ بطلة الرواية، ولن يشهق وهو يقرأ وصفًا لمشاعر البطل بعد تعرّضه لموقف حزين: «إنه يعبّر عني. هذا ما حدث لي بالضبط!»، ولا أظنه سيقرر التوقف فجأة عن القراءة شاخصًا بعينيه إلى السماء ليتلذذ بعبارة جميلة.

أعرف أن هناك من سيعُدُّ ما قلتُه مجرد «رَمْنَسة» لحالة القراءة ومهنة التحرير لا تمت إلى الواقع بصلة، وسيعتبر هذا رفضًا مني للتجديد والتطور، وربما يذكرني بتحريم أجدادنا للقهوة ردحًا من الزمن قبل أن يحللوها وتصبح زينة المجالس، ورفضهم كذلك للراديو في بدايات ظهوره، عادّين إياه من مكائد الشيطان. غير أنني سأعود للتوضيح أنني لا أرفض هذا المحرِّر الاصطناعي في المطلق، وأعرف جيدًا كل ميزاته التي جربتها بعض دور النشر؛ سرعته الفائقة في المراجعة مثلًا، بحيث يمكن أن يُحرِّر كتابًا كاملًا في دقائق، في حين يحتاج المحرِّر الإنسان لساعات أو أيام، وأعرف أيضًا أنه سيُبلي بلاء حسنًا إذا ما طُلِب منه اكتشاف ما في النص من أخطاء أو عيوب، كل هذا أعرفه. لكنني أعرف أيضًا أن هذه الآلة الصماء ليس لها حسّ جمالي ولا حدس لغوي من ذلك الذي يتمتع به محرِّرٌ إنسان، خاصة في النصوص الأدبية أو الإبداعية التي تحتاج إلى لمسة إنسانية كما سبق أن أشرتُ، وأنها –أي الآلة الصماء- لا يمكن أن تعي الخلفيات الثقافية أو التاريخية التي تحيط بالنص، وقد تقترح تعديلات مضحكة تؤدي إلى تحريف المعنى المراد أو إضعافه. ولأن الكاتب هو الأسلوب فإن ما يردده البعض عن قدرة الذكاء الاصطناعي على المحافظة على «أسلوب» الكاتب ليس سوى وهم طوباوي، فقد يُنتِجُ بالفعل نصًّا «منمقًا» و«صحيحًا» وربما «مُحْكَم الصنع»، لكنه قد يكون مملًا في الآن نفسه، أو خاليًا من النَفَس الإبداعي، بسبب ميله إلى التوحيد الآلي للنصوص.

من الجيد هنا سرد حكاية المحرِّر الأمريكي نيل كلارك الذي هو أيضًا ناشر مجلة متخصصة في الخيال العلمي تسمى Clarkesworld كان قد جعلها نافذة مفتوحة لاستقطاب الكتّاب الموهوبين في هذا الجنس من الأدب، بمنح مبلغ مغرٍ عن كل نص تنشره المجلة يتجاوز الألفي دولار. وما إن ظهرت أدوات الذكاء الاصطناعي في نوفمبر من عام 2022، وبعد أقل من شهرين من ذلك التاريخ، اضطّر كلارك إلى رفض مائة طلب لنشر قصص الخيال العلمي في المجلة، بل ومنع «مؤلفيها» (إن جاز أن نسميهم كذلك) من التقديم في المجلة مرة أخرى، لكون الأعمال كلها مكتوبة عن طريق «تشات جي بي تي» بغرض الفوز بمبلغ الاستكتاب، ثم ما لبث أن ارتفع رقم المحظورين من النشر في المجلة إلى خمسمائة، إلى أن أغلق بوابة التقديم الإلكترونية وهو يتحسّر قائلًا إن تلك الآلات سهّلت إنتاج مئات الآلاف من الأعمال، في الوقت الذي قد يُنتِج فيه مؤلفٌ إنسان عملًا واحدًا أو اثنين، وشبّه الأمر بـ«غرفة ممتلئة بصراخ الأطفال الصغار، بشكل لا يمكّننا من سماع الأشخاص الذين نحاول الاستماع إليهم».

رفض كلارك مئات النصوص التي وصلتْه لأنها باردة ومفرطة الصنعة، ولا توفّر للقارئ الفائدة المرجوّة من القراءة التي لخّصها في حوارٍ له الكاتب الأمريكي جورج ساندرز (وهو بالمناسبة أحد الكتّاب الذين رفعوا في عام 2023 دعوى قضائية على شركة OpenAI لاستخدامها أعمالهم الأدبية لتدريب نماذجها اللغوية الكبيرة كـ(تشات جي بي تي). يقول ساندرز: «عندما أفتح كتابًا أدبيًّا، أريد أن أشعر بعقل إنسان معين يتأمل معنى الحياة. أريد أن أرى العالم، مثلًا، من خلال عيني «أليس مونرو» [الكاتبة الكندية الفائزة بنوبل عام 2013]. إنسانة بعينها، لها تجارب خاصة. وظيفتها أن تعمل بتلك التجارب، عبر الحرفة، حتى تتحدث حقائقها الخاصة إليّ، أنا، شخص مختلف في العقل والخبرة». ثم يصل ساندرز إلى زبدة القول: «الذكاء الاصطناعي لا يستطيع فعل ذلك، بحكم تعريفه - يمكنه أن يقدّم محاكاة جيدة لما فعله الآخرون، لكن إلى أن يتمكن الذكاء الاصطناعي من أن يمشي في شارع مغبرّ، شاعرًا بشيء ما بسبب الأشجار المتدلية، ثم يُدرك أنه متأخر على مقابلة عمل، ويصل إلى هناك وسرواله مغطّى بالغبار وهو يلهث قليلًا - لست متأكدًا من أي شيء يمكن أن يعلّمني إياه».

وإذن؛ لا شيء يمكن أن يعلمنا إياه الذكاء الاصطناعي مؤلِّفًا، ولا مُحرِّرًا أدبيًّا، سوى ما يحفظه بداخله من قواعد صارمة لنصوص تقليدية. هذا ونحن لم نطرح بعد سؤال النصوص المجنونة، النَزَّاعة للتجريب؛ أي تلك التي تكسر القواعد التقليدية للكتابة أو تُجرب أساليب جديدة في السرد، هل يستطيع المحرِّر الروبوت أن يفهمها ويُحيط بها؟ الجواب باختصار: لا، فهذه النوعية من النصوص تعتمد أحيانًا على كسر قواعد اللغة، أو التلاعب بالجُمَل والصيغ والإيقاع، وأحيانًا يعمد الروائي أو القاص إلى تقنيات التداخل الزمني، وتعدد الأصوات، أو السرد غير الخطي. ولأن حضرة المحرِّر «الاصطناعي» قد تدرّب على أنماط شائعة بعينها، فسيرى ما فعله المبدع هنا أخطاء ينبغي تصحيحها، وهو ما سيُفرغ النص من مضمونه.

قد يفترض أحد الأصدقاء جدلًا أنه مع مرور السنوات وامتلاء الذكاء الاصطناعي بملايين النصوص، وتعلّمه من أخطائه، سيصل في القدرة على التحرير الأدبي إلى حدٍّ مقنع. وفي الواقع، لا يمكن استبعاد هذه الفرضية، لكنّ سؤالًا أخلاقيًّا مُلِحًّا سيطل برأسه: لمن يُنسَب التحرير في هذه الحالة؟ إلى الآلة التي فعلت كل شيء؟ أم إلى الإنسان الذي حركها؟ ماذا لو تحذلق أحدهم وقال: «أنا الذي أصدرتُ الأوامر للآلة، ولذا فمن حقي أن أنسب هذا العمل لنفسي»؟! ألن نكون هنا أمام تضليل معرفي يمسّ جوهر مهنة المحرر الأدبي؟ ألن تُضعِف ممارسات كهذه من ثقة الجمهور في المحتوى الأدبيّ المقدَّم؟ ألن تُخلَق فجوة غير عادلة بين محررين حقيقيين يبذلون أرواحهم في النصوص، وآخرين كل ما فعلوه أنهم كبسوا زرًّا بأصابعهم؟ ألن يُمنح التقدير والإشادة، كما في نظام «إجادة»، لمن لم يبذل الجهد الحقيقي؟!

خلاصة القول إنه لا يُمكن إنكار ما للذكاء الاصطناعي من قدرات في التحرير الأدبي، وليست هذه نقطة الخلاف هنا، وإنما التساؤل حول ما إذا كان مؤهلًا ليحل محل إنسان ذي عقل وقلب وعينين قارئتين، وذي حدس وذكاء فطري قادر على الولوج إلى عمق النص وروحه. وإذا كانت الروائية الكندية مارجريت أتوود قد صرحت في أحد حواراتها أننا «لن نحصل أبدًا على مبدع أصيل من الذكاء الاصطناعي، لأنه مجرد جامع بيانات»، فإنه يمكننا أن نضيف إلى عبارتها باطمئنان أننا لن نحصل منه أيضًا على محرر أدبيٍّ أصيل. وإنه حتى وإن عَلا صراخ الأطفال الذين تحدث عنهم كلارك في غرفة العالم، فإنه ما من حلٍّ آخر أمامنا إلا أن نصيخ السمع جيدًا لأولئك الذين يستحقون منا الإصغاء.

سليمان المعمري إعلامي وكاتب وروائي عُماني

مقالات مشابهة

  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • خوف المُحَرِّر الأدبي من ضربة «الذكاء» !
  • الحكمة من اختلاف صلاة الجنازة عن أداء باقي الصلوات.. دار الإفتاء توضح
  • سلطان يوجه بالبدء في الطبعة الثانية من المنجز التاريخي «البرتغاليون في بحر عُمان»
  • "الواقع الافتراضي" ينقل زوار معرض تونس للكتاب إلى الحرمين الشريفين
  • بدل العربية.. عريس يُفاجئ عروسته بزفة على ظهر جمل في الشرقية
  • مدرب ليفربول يعلق على الإنجاز التاريخي
  • سلوت يعلق على الإنجاز التاريخي ويكشف ما دار في الحافلة
  • من أشعل الحرب في السودان؟ ما الذي حدث قبل 15 أبريل؟
  • بيت الحكمة يسلط الضوء على حكايات «كليلة ودمنة»