من المرجح أن يأتي زمن تختفي فيه بعض المفردات؛ لأن أصولها غير متداولة، وذلك بحكم حركة الحياة وتقلبات ظروفها، والمسألة بهذا التصور؛ ليست طلسما غير مفهوم أو غير واقعي أو غير متخيل، فوضوحه كالشمس المشرقة في وسط النهار، فهناك ربط غير منكور بين الزمن وأدواته؛ فمقولة: «كل زمن بظروفه وأدواته، واشتغالات أفراده وفق ما هو متاح له» هو كلام واقعي، وحقيقة لا غبار عليها، ولذلك فلا تطالب جيل اليوم؛ على سبيل المثال؛ أن يفسر لك كثيرا من معاني الكلمات المستخدمة قبل نيف من الزمان، وإن أخطأ أو أنكر معرفته بذلك، فذلك لا يدل على غبائه، أو جهله، أو عدم اكتراثه بالماضي؛ إطلاقا؛ بل لأن واقعه لا يمتّ إلى ذلك بصورة مباشرة، إلا ما تناثر من مشاهد، وهي مشوهة بالنسبة له، حتى وإن حملها جيل من سبقوه، فهي واضحة بالنسبة لهم وليست له، فأدواته مختلفة، وتفاعلات أفراده مختلفة، وهواجسهم مختلفة، وتعاطيهم فيما بينهم مختلفة بالنسبة لمن كان قبلهم، وتكاد نسبة كبيرة فيهم لا يتحقق فيها شيء مما تستحضره الذاكرة أو المخيلة الاجتماعية التي لا تزال تحتفظ بشيء مما كان، ربما قد تكون عند الفئة الـ «مجسرة» بين الجيلين هي التي تحتفظ بشيء من الذكرى، وتحاول جاهدة أن تفهم ما هو واقع اليوم أمام ناظريها، يحدث ذلك -وهو يأتي في سياق الحياة الطبيعية- حتى لا تكون هناك قطيعة مطلقة بين الأجيال، وتظل السلسلة الإنسانية متواصلة عبر حبات العقد المتراصة، فلا ينفرط العقد فتتناثر حباته هنا وهناك، فتضيع الهويات، والانتماءات، والأسس التي تحافظ على تماسك المجتمعات، ولذلك يخطئ من يظن أن الشعوب تتماهى فيما بينها، فلا يستطيع المتابع أن يفرّق بينها في لحظات زمنية معينة، هذا لا يمكن حدوثه إطلاقا، نعم؛ قد يحدث هناك شيء من التشويه، أو الخلل البنيوي في بعض الجوانب، وقد يعاد ترميمه، وقد يظل على تشوهه، ولكن لا ينفرط العقد بصورة مطلقة، بحيث لا يمكن تحديد هوية شعب ما، أو ما يؤول إليه مستقبل شعب ما آخر، هذا لن يكون مهما توغّلت التأثيرات، ومهما حاولت الشعوب تقليد شعوب أخرى في مختلف سياقاتها المختلفة المؤثرة.
هل تلام الأجيال فيما لم تدركه؟ لا أتصور ذلك، ومن لا يعي هذه الحقيقة، يكون كمن يكتب على صفحة الماء، أو على مساحة من الرمال تذروها الرياح في لحظة زمنية فارقة في توقيتها، وفي عقد الآمال عليها بأنها تحتفظ بما سوف يكتب عليها. إن الذاكرة الشخصية للأفراد والذاكرة الاجتماعية للمجتمع ككل، فالأولى لا يهما أن تحتفظ بما هي غير معنية به، فالبدائل المتاحة عندها تغنيها عن الاحتفاظ بكثير من الزوائد، لأن هذه الزوائد تظل مرهقة وثقيلة على النفس والذاكرة في آن واحد؛ وإرهاقها يكمن في صعوبة تذكرها، واستحضارها كل وقت وحين، بالإضافة إلى صعوبة توظيفها على الواقع لجيل لا يعدها من أدواته التي يتعامل معها بصورة يومية في حاضره، وبالتالي فاندثارها متوقع؛ وقد يكون سريعا، إذ ليس لها واقع يحميها من الاندثار أو النسيان، وأما الذاكرة الاجتماعية فيهمّا ذلك، بل تحرص على بقاء كل الصور القديمة، وذلك بهدف وطني؛ قبل كل شيء؛ وهو تأصيل الهوية، فالهوية مهمة لبقاء الصورة العامة للأجيال، بل هي قطعية الإيمان بضرورة وجودها واستمرارها، حتى لا تنفصل المجتمعات عن أصولها ومكاناتها، وتجذرها المغروس في تربة أوطانها الأصل، وليست الأوطان البديلة «المؤقتة» ولو احتفظت الذاكرة الاجتماعية بشيء من الرموز المعبّرة عن هذه الأصالة، فالمهم أن تكون هناك أصالة، وأن تكون هناك مرجعية، حتى ولو كانت مفردات هذه المرجعية تتقاطع؛ وبصورة مزعجة؛ مع ما هو واقع، ولا تتناسب مع ديناميكية الحياة اليومية، وتفاعلاتها المختلفة.
ومن هنا تأتي أهمية تدوين التاريخ في بعديه المادي والمعنوي «الشفوي» فمن أهمية التدوين، أنه يؤرخ لكل ما هو ماض، ليكون حاضرا سواء في لحظته الزمنية المعيشة، أو لما بعد ذلك لفترات التاريخ المتلاحقة، ومن هنا وصلت إلينا جوانب كثيرة من حياة الأقدمين، وعرفنا الكثير من تفاعلاتهم، وحيواتهم، واتفاقاتهم، وصداماتهم، صحيح؛ أن كل ما جرى لن يفيد أجيال اليوم في شيء، إلا لتعزيز الهوية والانتماء فقط، وذلك بسبب بسيط، لأن ما جرى لا يمكن مجاراته بما هو متحقق اليوم، فالبون واسع جدا، لا من حيث القوة، ولا من حيث التوظيف، ولنرى المساكن القديمة؛ على سبيل المثال؛ ومحدودية استيعابها للأجساد التي ضمتهم في فترة زمنية معينة، ولنرى الأدوات المستخدمة في مختلف جوانب الحياة اليومية وبساطتها المتناهية في الصغر، وفي محدودية الأداء كوسائل النقل؛ مثلا؛ وأدوات الحرابة والاقتتال، وغيرها الكثير مما كان مشاعا في العصور المتقدمة، كلها لا يمكن مقارنتها بما هو متحقق في العصور المتأخرة من حياة الناس، والحياة ذاهبة في سياق تعاظمها ككرة الثلج المتدحرجة بلا توقف، ولن يوقف تعاظمها إلا وعد رب العزة والجلال؛ حيث قيام الساعة، عندما يصل تطور البشرية الغايات الكبرى فتحل النهاية، قال تعالى: «حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» - صدق الله العظيم - جزء من الآية (24) من سورة يونس.
قد ينظر البعض إلى التبدل أو التغير على أنه نوع من التغريب الـ «مسيس» وهذا ليس صحيحا، فسياقات الحياة المختلفة، تخضع خضوعا كليا لتطور الأدوات المستخدمة، وهي الأدوات المنتمية إلى عصرها وعصرنتها، والحياة مستمرة وفق هذا السياق، ولا يمكن أن تعود إلى الخلف، من حيث تخلف الأدوات، ولو كان الأمر كذلك لأعيد هذا التخلف إلى الإنسان، وهذا غير مقبول عمليا، لأن الإنسان يتطور فكريا، ويقفز من حالة ديناميكية متطورة، إلى حالة ديناميكية متطورة بصورة أكثر وأكبر في البعدين الأفقي والرأسي، وربما أسرع إلى الحد أن الإنسان نفسه قد لا يستوعب هذا التطور الذي يحدث، وقد يتهم نفسه بعدم قدرته على مجاراة ما يحدث، فيستعين بالذي هو أصغر منه سنا في فهم مختلف هذه الـ«خوارزميات» المعقدة التي لا يستطيع مجاراتها في لحظته الآنية، هل هو عجز وعليه أن يسلم الراية؟ أم عدم إدراك ويحتاج إلى تبسيط؟ كل ذلك وارد ومقبول، وليس في ذلك ما يقلق، فهو سياق طبيعي ينازع فيه الإنسان نفسه، ويتصادم مع قدراته الذاتية، وقد يحقق بعض المكاسب التي تطمئن بها نفسه، ولكنه يظل اطمئنانا مؤقتا، لتسارع تطور الأدوات، ووقع الحياة السريع الذي لا يكاد الإنسان يأخذ نفسا طويلا فيه، ولذلك يشتكي الناس اليوم من هذا التسارع، وشكواهم تتمحور في عدم قدرتهم على مجاراة ما يحدث أو استيعابه وهضمه وتوظيفه على الواقع، ولذلك تعاني الشعوب التي لا تملك ناصية المجارات أو التكافؤ مع الآخر، وأسباب ذلك كثيرة؛ ليس مجال مناقشتها هنا.
تشير الآية الكريمة أعلاه إلى القدرة التي تصل إليها البشرية في إدارة كل ما في شؤون الحياة اليومية، وما يتعلق بأنشطة البشر المختلفة -وهي قدرة محدودة؛ بكل تأكيد- وهي قدرة (ظنية/ نسبية) تدور في عقول أصحابها، لأن القدرة المطلقة هي بيد الله سبحانه وتعالى، ولذلك تنشط العقلية البشرية في كل شؤون الحياة، وهو نشاط محمود حتى لا تتوقف الحياة عند مستوى معين من التطور والتقدم، وهذا ما يرفد البشرية في تقدمها، فتنجز الكثير مما يتوقع، ومما لا يتوقع، فالعقلية البشرية ولاَّدَةٌ لا تقف عند إنجاز معين حتى تسعى إلى إنجاز آخر أكثر تطورا، ويأتي ذلك تلبية لظروف الحياة المستجدة التي تستلزم أن تتسامى فيها الأدوات بالقدر الذي يخدم مصالح الناس، ولا يعرقل مسيرتهم في الحياة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لا یمکن
إقرأ أيضاً:
الإشارة «صفارة».. حراس الشواطئ في مهمة للحفاظ على «الحياة»
بينما أنت تلعب وتسبح فى البحر وتستمتع بالمياه يقف هناك على الشاطئ وعينه تراقبك في صمت، يراجع حركاتك ببطء، وعقله مشغول بك، ويستمر كذلك منذ الصباح وحتى غروب الشمس يراقبك في المياه أثناء السباحة لتأمينك خوفاً من تعرضك للغرق، ويهرع إليك لإنقاذك لتسبح في طمأنينة وتستمتع بإجازتك لقضاء وقتك في أمان تام.
حراس الشواطئ«مهنة لايف جارد أو حراس الشواطئ، من أهم المهن العاملة فى القطاع السياحى»، يحكى أحمد عبدالعظيم، أحد حراس الشواطئ بالغردقة، أن مهنتهم يعتبرونها «مهنة الحفاظ على الأرواح»، شارحاً أنها ليست سهلة وتحتاج إلى تدريب مسبق وخبرة فى التعامل مع الحالات.
يعدد «أحمد» شروط الالتحاق بالمهنة: «تتطلب مواصفات خاصة؛ منها لياقة بدنية ومهارة وسرعة بديهة ونظرات ثاقبة، والحصول على دورات تدريبية وتصريح لمزاولة المهنة ودورات الإسعاف الأولية». كل ذلك ضروري لأن الأمر لا يتوقف عند الإنقاذ: «لازم نعمل الإسعافات الأولية، وعمل تنفس صناعى أو إنعاش قلبي إذا تطلب الأمر لحين وصول سيارة الإسعاف».
حراس الشواطئ في الغردقةيبدأ علي طايع، أحد حراس الشواطئ فى الغردقة، مهمته منذ شروق الشمس، حيث التدريب نحو ساعة، ثم تسلُّم المهمة فى الساعة الثامنة صباحاً مع وصول زائرى الشواطئ، وتوزيع المهام بين الحراس والإشارة في التعامل بينهم هي «لغة الصفارة».
ويوضح محمد اللبودي، الخبير السياحي بالغردقة، أن مهنة حراس الشواطئ من أهم المهن في القطاع السياحي، حيث تتعلق بالحفاظ على الأرواح البشرية، وتتطلب مهارات خاصة وخبرات خاصة، وشروط التعيين بها: الحصول على تصريح مزاولة المهنة من الاتحاد المصري للسباحة.
ولفت إلى أن التعرض للغرق ليس لمَن لا يجيد السباحة فقط، لكن قد يكون الشخص محترف سباحة ويتعرض لشد عضلي أو غيبوبة سكر لأصحاب الأمراض المزمنة أو إجهاد أو ضربة شمس.