لجريدة عمان:
2024-09-10@14:17:08 GMT

التطور والزوال.. سنن كونية

تاريخ النشر: 11th, August 2024 GMT

من المرجح أن يأتي زمن تختفي فيه بعض المفردات؛ لأن أصولها غير متداولة، وذلك بحكم حركة الحياة وتقلبات ظروفها، والمسألة بهذا التصور؛ ليست طلسما غير مفهوم أو غير واقعي أو غير متخيل، فوضوحه كالشمس المشرقة في وسط النهار، فهناك ربط غير منكور بين الزمن وأدواته؛ فمقولة: «كل زمن بظروفه وأدواته، واشتغالات أفراده وفق ما هو متاح له» هو كلام واقعي، وحقيقة لا غبار عليها، ولذلك فلا تطالب جيل اليوم؛ على سبيل المثال؛ أن يفسر لك كثيرا من معاني الكلمات المستخدمة قبل نيف من الزمان، وإن أخطأ أو أنكر معرفته بذلك، فذلك لا يدل على غبائه، أو جهله، أو عدم اكتراثه بالماضي؛ إطلاقا؛ بل لأن واقعه لا يمتّ إلى ذلك بصورة مباشرة، إلا ما تناثر من مشاهد، وهي مشوهة بالنسبة له، حتى وإن حملها جيل من سبقوه، فهي واضحة بالنسبة لهم وليست له، فأدواته مختلفة، وتفاعلات أفراده مختلفة، وهواجسهم مختلفة، وتعاطيهم فيما بينهم مختلفة بالنسبة لمن كان قبلهم، وتكاد نسبة كبيرة فيهم لا يتحقق فيها شيء مما تستحضره الذاكرة أو المخيلة الاجتماعية التي لا تزال تحتفظ بشيء مما كان، ربما قد تكون عند الفئة الـ «مجسرة» بين الجيلين هي التي تحتفظ بشيء من الذكرى، وتحاول جاهدة أن تفهم ما هو واقع اليوم أمام ناظريها، يحدث ذلك -وهو يأتي في سياق الحياة الطبيعية- حتى لا تكون هناك قطيعة مطلقة بين الأجيال، وتظل السلسلة الإنسانية متواصلة عبر حبات العقد المتراصة، فلا ينفرط العقد فتتناثر حباته هنا وهناك، فتضيع الهويات، والانتماءات، والأسس التي تحافظ على تماسك المجتمعات، ولذلك يخطئ من يظن أن الشعوب تتماهى فيما بينها، فلا يستطيع المتابع أن يفرّق بينها في لحظات زمنية معينة، هذا لا يمكن حدوثه إطلاقا، نعم؛ قد يحدث هناك شيء من التشويه، أو الخلل البنيوي في بعض الجوانب، وقد يعاد ترميمه، وقد يظل على تشوهه، ولكن لا ينفرط العقد بصورة مطلقة، بحيث لا يمكن تحديد هوية شعب ما، أو ما يؤول إليه مستقبل شعب ما آخر، هذا لن يكون مهما توغّلت التأثيرات، ومهما حاولت الشعوب تقليد شعوب أخرى في مختلف سياقاتها المختلفة المؤثرة.

هل تلام الأجيال فيما لم تدركه؟ لا أتصور ذلك، ومن لا يعي هذه الحقيقة، يكون كمن يكتب على صفحة الماء، أو على مساحة من الرمال تذروها الرياح في لحظة زمنية فارقة في توقيتها، وفي عقد الآمال عليها بأنها تحتفظ بما سوف يكتب عليها. إن الذاكرة الشخصية للأفراد والذاكرة الاجتماعية للمجتمع ككل، فالأولى لا يهما أن تحتفظ بما هي غير معنية به، فالبدائل المتاحة عندها تغنيها عن الاحتفاظ بكثير من الزوائد، لأن هذه الزوائد تظل مرهقة وثقيلة على النفس والذاكرة في آن واحد؛ وإرهاقها يكمن في صعوبة تذكرها، واستحضارها كل وقت وحين، بالإضافة إلى صعوبة توظيفها على الواقع لجيل لا يعدها من أدواته التي يتعامل معها بصورة يومية في حاضره، وبالتالي فاندثارها متوقع؛ وقد يكون سريعا، إذ ليس لها واقع يحميها من الاندثار أو النسيان، وأما الذاكرة الاجتماعية فيهمّا ذلك، بل تحرص على بقاء كل الصور القديمة، وذلك بهدف وطني؛ قبل كل شيء؛ وهو تأصيل الهوية، فالهوية مهمة لبقاء الصورة العامة للأجيال، بل هي قطعية الإيمان بضرورة وجودها واستمرارها، حتى لا تنفصل المجتمعات عن أصولها ومكاناتها، وتجذرها المغروس في تربة أوطانها الأصل، وليست الأوطان البديلة «المؤقتة» ولو احتفظت الذاكرة الاجتماعية بشيء من الرموز المعبّرة عن هذه الأصالة، فالمهم أن تكون هناك أصالة، وأن تكون هناك مرجعية، حتى ولو كانت مفردات هذه المرجعية تتقاطع؛ وبصورة مزعجة؛ مع ما هو واقع، ولا تتناسب مع ديناميكية الحياة اليومية، وتفاعلاتها المختلفة.

ومن هنا تأتي أهمية تدوين التاريخ في بعديه المادي والمعنوي «الشفوي» فمن أهمية التدوين، أنه يؤرخ لكل ما هو ماض، ليكون حاضرا سواء في لحظته الزمنية المعيشة، أو لما بعد ذلك لفترات التاريخ المتلاحقة، ومن هنا وصلت إلينا جوانب كثيرة من حياة الأقدمين، وعرفنا الكثير من تفاعلاتهم، وحيواتهم، واتفاقاتهم، وصداماتهم، صحيح؛ أن كل ما جرى لن يفيد أجيال اليوم في شيء، إلا لتعزيز الهوية والانتماء فقط، وذلك بسبب بسيط، لأن ما جرى لا يمكن مجاراته بما هو متحقق اليوم، فالبون واسع جدا، لا من حيث القوة، ولا من حيث التوظيف، ولنرى المساكن القديمة؛ على سبيل المثال؛ ومحدودية استيعابها للأجساد التي ضمتهم في فترة زمنية معينة، ولنرى الأدوات المستخدمة في مختلف جوانب الحياة اليومية وبساطتها المتناهية في الصغر، وفي محدودية الأداء كوسائل النقل؛ مثلا؛ وأدوات الحرابة والاقتتال، وغيرها الكثير مما كان مشاعا في العصور المتقدمة، كلها لا يمكن مقارنتها بما هو متحقق في العصور المتأخرة من حياة الناس، والحياة ذاهبة في سياق تعاظمها ككرة الثلج المتدحرجة بلا توقف، ولن يوقف تعاظمها إلا وعد رب العزة والجلال؛ حيث قيام الساعة، عندما يصل تطور البشرية الغايات الكبرى فتحل النهاية، قال تعالى: «حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» - صدق الله العظيم - جزء من الآية (24) من سورة يونس.

قد ينظر البعض إلى التبدل أو التغير على أنه نوع من التغريب الـ «مسيس» وهذا ليس صحيحا، فسياقات الحياة المختلفة، تخضع خضوعا كليا لتطور الأدوات المستخدمة، وهي الأدوات المنتمية إلى عصرها وعصرنتها، والحياة مستمرة وفق هذا السياق، ولا يمكن أن تعود إلى الخلف، من حيث تخلف الأدوات، ولو كان الأمر كذلك لأعيد هذا التخلف إلى الإنسان، وهذا غير مقبول عمليا، لأن الإنسان يتطور فكريا، ويقفز من حالة ديناميكية متطورة، إلى حالة ديناميكية متطورة بصورة أكثر وأكبر في البعدين الأفقي والرأسي، وربما أسرع إلى الحد أن الإنسان نفسه قد لا يستوعب هذا التطور الذي يحدث، وقد يتهم نفسه بعدم قدرته على مجاراة ما يحدث، فيستعين بالذي هو أصغر منه سنا في فهم مختلف هذه الـ«خوارزميات» المعقدة التي لا يستطيع مجاراتها في لحظته الآنية، هل هو عجز وعليه أن يسلم الراية؟ أم عدم إدراك ويحتاج إلى تبسيط؟ كل ذلك وارد ومقبول، وليس في ذلك ما يقلق، فهو سياق طبيعي ينازع فيه الإنسان نفسه، ويتصادم مع قدراته الذاتية، وقد يحقق بعض المكاسب التي تطمئن بها نفسه، ولكنه يظل اطمئنانا مؤقتا، لتسارع تطور الأدوات، ووقع الحياة السريع الذي لا يكاد الإنسان يأخذ نفسا طويلا فيه، ولذلك يشتكي الناس اليوم من هذا التسارع، وشكواهم تتمحور في عدم قدرتهم على مجاراة ما يحدث أو استيعابه وهضمه وتوظيفه على الواقع، ولذلك تعاني الشعوب التي لا تملك ناصية المجارات أو التكافؤ مع الآخر، وأسباب ذلك كثيرة؛ ليس مجال مناقشتها هنا.

تشير الآية الكريمة أعلاه إلى القدرة التي تصل إليها البشرية في إدارة كل ما في شؤون الحياة اليومية، وما يتعلق بأنشطة البشر المختلفة -وهي قدرة محدودة؛ بكل تأكيد- وهي قدرة (ظنية/ نسبية) تدور في عقول أصحابها، لأن القدرة المطلقة هي بيد الله سبحانه وتعالى، ولذلك تنشط العقلية البشرية في كل شؤون الحياة، وهو نشاط محمود حتى لا تتوقف الحياة عند مستوى معين من التطور والتقدم، وهذا ما يرفد البشرية في تقدمها، فتنجز الكثير مما يتوقع، ومما لا يتوقع، فالعقلية البشرية ولاَّدَةٌ لا تقف عند إنجاز معين حتى تسعى إلى إنجاز آخر أكثر تطورا، ويأتي ذلك تلبية لظروف الحياة المستجدة التي تستلزم أن تتسامى فيها الأدوات بالقدر الذي يخدم مصالح الناس، ولا يعرقل مسيرتهم في الحياة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لا یمکن

إقرأ أيضاً:

ملامح من الحياة في كندا (1)

علي الرغم من مآسي الحرب الدائرة في مدن السودان وأريافه وتداعياتها المختلفة التي أنعكست علي الكل وشملت حتي الذين في الارحام ، ولم تستثني من تم قبرهم في الصحاري والفيافي ومن مات جوعاً وعطشاً ونزوحاً . هذه التراجيديا التي تجعل الكتابة والكلمات تعجز عن وصفها أدخلت العالم في محنة فصار التحدث عن أي شيئ لن يخاطب ويقف خلف الشعار الجامع لا للحرب نوعاً من اللامبالاة .
علي الرغم من هذه البديهية الأ أني أستشعرت بمسئولية إضافية علاوة علي المناداة والعمل لوقف الحرب أستعرضُ فيها ملامح عن أماكن أقمنا بها ، بعد أن أُجبرنا مكرهين علي مغادرة أرض الجدود . وهذا التوثيق للقارئ السوداني يكتسب أهميته بتوضيح بعض جوانب الحياة الأجتماعية لهذه المجتمعات . والسبب الثاني ما كُتب عن هذه المجتمعات التي هاجرنا اليها شحيحاً مقارنة بما كتب عن الحياة الأجتماعية في بلدان المستعمر مثلاً . سرد هذه الملامح ربما يحث القارئ علي أخذ الأيجابي من هذه التجارب عندما تقف هذه الحرب اللعينة ونبدأ في بناء وطن تعمه الحرية والسلام والعدالة . كذلك واقع الحرب وظروفنا كمهاجرين تركت بصماتها علينا وفرضت عبء إضافي يتمثل في الأسهام لتخفيف معاناة الذين يرزحون تحت نيران الأخوة الأعداء والعالقين و أولئك الذين عبروا الي دول الجوار. من هذا المنطلق رأيت من الواجب أن أعكس بعض الصور رداً للعرفان عن حياة من رحبوا بنا وأستقبلونا في أحلك الظروف حتي أن بعضنا أستوفي شروط المواطنة وأصبح يتمتع بحق الترشيح والأنتخاب .
سأتطرق في هذه الحلقات لأسلوب حياة الكنديين كما عاشرتهم .
الملاحظة التي تسترعي الأنتباه منذ اللحظة الأولي ، أن هؤلاء القوم يسعوا ما أستطاعوا لكي يعيشوا حياتهم علي أكمل وجه وأن يتوفاهم الله وهم أصحاء . في سعيهم الدؤوب للمحافظة علي الصحة ينتابك شعور وكأنهم يحاربون الموت ويقفون بعناد ضد مشيئة المولي (أنك ميت وأنهم ميتون) . إتحدوا حول شعار (نريد أن نموت ونحن أصحاء) مارسوه قولاً وفعلاً.
في الحقبتين الأخيريتين أو ما يزيد قليلاً أصاب الكنديين ظاهرة أشبه بالهوس تتمثل في الإنخراط في برامج الرياضة البدنية في أندية مخصصة لهذا الغرض . هذه الأماكن مجهزة بمعدات رياضية وأحواض سباحة وغرف حمام جاف وبعضها مزود بصالات للأطفال كرياض الأطفال تحت اشراف مدربة من المركز الرياضي تتولي مراقبتهم في الوقت الذي تمارس فيه الأمهات أنواع الرياضة المختلفة . هذه الأندية ترتادها كل الفئات العمرية صغار وكبار السن والشباب والعجزة والمعوقين . الكل يريد أن يمد في عمره أو علي الاقل في حالة الوفاة أن يتوفاه الله وهو بصحة جيدة تسمح له بأداء واجباته من دون تكلفة وعناء للعائلة والدولة (يموت واقف علي حيله) .الظاهرة الملفته للنظر، هذه المراكز الرياضية كما ذكرت يرتادها الجميع الأ أن الغلبة فيها كما أعتقد للعنصر النسائي . النساء جميعهن جميلات الأ أن أجملهن هي ذات القوام الحسن . لذا يرتادون هذه الأندية بكثافة لتقويم ومحافظة علي البنية ومحاربة عوامل التعرية التي تطرأ علي البدن . الفوبيا الرياضية جعلت الوالدين يدفعون بأبنائهم وبناتهم في سن مبكرة للالتحاق بمدربين لانواع مختلفة من الرياضة ككرة القدم والسلة والتزحلق والجمباز والرقص وخلافه من البدع الرياضية . هؤلاء الأبطال والبطلات الذين نراهم في الأولمبياد والمنافسات الرياضية المختلفة مروا بمراحل للتجهيز في سن مبكرة ، رأيت بعضهم يدفع بأطفالهم في سن الثالثة . بعض الآباء والأمهات يرحلون من مدينة الي مدينة ويهاجرون الي أقطار أخري وفي أحيان يستبدلون مهنهم تلبية لرغبة وميول الطفل الرياضية . كذلك من الأسباب في أنغماس الكل في هذا المجال رأي تربوي يري في الحاق الأطفال في سن مبكرة بهذه الأندية تجذبهم للأنخراط فيها وتفاديهم شرور أكتساب عادات ضارة في سنين المراهقة .
المحافظة علي الصحة بخلاف الانتظام في الرياضة شملت جوانب أخري في الابتعاد عن تناول وتعاطي كل ما يضر بالصحة . من الحالات النادرة جداً أن تري شخصاً مخموراً في شوارع الأحياء أو تبدي عليه آثار تعاطي الكحول ، أما التدخين فحدث ولا حرج يندر أن تري شخصاً يحمل سيجارة . هنالك أجراءات أدارية علي سبيل المثال في دواوين الحكومة تحد من الأماكن المسموح بها للتدخين تبعد عشرات الأمتار من المدخل الرئيسي . كما أن بعض الأطباء يرفضون معاينة المدخنين الأ بعد أن يقلعوا عن هذه العادة ، وعلي هذا قس . حتي إستعمال العطور ومشتقاتها (خُمرة وحنه وخلافه) غير مسموح به في أماكن العمل والمستشفيات والعيادات والمركبات العامة نسبة لحساسية الجهاز التنفسي عند البعض في حالة أستنشاق هذه الروائح . هذا السلوك العام المتحضر ومراعاة شعور الآخرين أتي نتاجاً لدولة مدنية من دون تبني دستور مسيحي .
رغم الشتاء القارص الأ أن هذا القطر يتمتع بتربة زراعية خصبة حيث تزرع كميات كبيرة من أنواع الفواكه والخضروات . الملاحظ في فترات موسم الحصاد وأنت تقود سيارتك في الشوارع الفرعية تشاهد أن بعض المزارعين تركوا الخضروات والفواكه عرضه للماره بدون رقيب أو حسيب علي الشارع العام وهم جالسون في منازلهم التي تبعد من الشارع الرئيسي عدة كيلومترات . أمام هذه المعروضات تجد يافطة توضح السعر المطلوب لكل سلعة مع وجود حصالة لكي يضع فيها المشتري القيمة المطلوبة . منظر شبيه بما كان أثناء إعتصام القيادة العامة ( عندك خت ما عندك شيل) . هذا النمط من السلوك والمعاملة والثقة في الجميع ترك بصماته علي أفراد المجتمع الكندي . وعلي المستوي العائلي في كثير من الأحيان ننسي بعض المشتريات من المستلزمات المنزلية أمام الباب الخارجي وفي صباح اليوم التالي نجدها كما هي . وأصبح شيئ في حكم العادة أن نترك السيارة أمام المنزل بدون تأمين الي اليوم التالي . في أحدي الأيام قبل الخروج من المنزل بحثنا طويلاً عن المفتاح لكي نغلق الباب الخارجي فما كان من أبنتنا الأ أن أقنعتنا بأن نكف عن البحث وحجتها في ذلك ، لا يوجد في هذه الدار ما يتوجب الخوف عليه من السرقة . كل الأشياء والأغراض المنزلية هي بالضرورة متوفرة عند كل سكان الحي فلا داعي للقلق علي عدم العثور علي المفتاح فكان لها ما أرادت (ناس عينهم مليانه) . أهم ما نملك في هذه الدار هي هواتفنا المحمولة والكومبيوترات .
الكنديين شعب جبُل علي التطوع وتقديم يد المساعدة للمحتاج . أكثر من مرة كنت أقود السيارة وأذا بأطار السيارة يتعطل ويصبح غير صالحاً للقيادة . وفي أثناء هذه الحيرة البالغة إذا بسيارة تقف خلف سيارتي وينزل سائقها ويستأذنني أن كنت محتاجاً لمساعدة وبعد ردي بالإيجاب ، يشرع هو في تغيير أطار السيارة وقبل أن اطلب منه رقم هاتفه لكي أرسل له رسالة شكر أراه يجلس في المقعد الامامي لسيارته ويقودها بسرعة . لا يطلبون جزاءً ولا شكورا .
لهم حب خاص للكلاب والقطط يصل حد الجنون . هذه الحيوانات تشاركهم السكن والسفر وتوجد أماكن خاصة لاقامتها في حالة ذهاب أصحابها في العطلات السنوية . البعض يستأجر طلبة المدارس والجامعات للقيام برعايتها في حالة غياب المالك وتشمل الرعاية النزهة والفسحة بالأضافة الا أن لها نظام تغذية خاص ومراتب وأسّرة خاصة وأطباء وأطباء أسنان يعتنون بسلامتها وصحتها وتدخل في نظام التأمين الصحي وبعضها يمتلك حق الميراث . في الطلبات الرسمية وبعد السؤال عن الأسم والعمر والسكن والحالة الأجتماعية : عازب ، متزوج ، أرمل تجد أحياناً سؤالاً ، هل تمتلك حيوانات اليفة؟
في هذا الوضع الذي لم أعتاد عليه ، أبتاعت أبنتي قطاً عاش معنا لفترة 13 عاماً ، جميع سكان المنزل صادقهم حتي شخصي الذي لم يخلق علاقة مع الحيوانات المنزلية . شآت الظروف أن تجتاح المدينة زوابع رعدية وعلي أثرها خرج القط من المنزل . في محاولة العثور علي هذ القط تم تعليق بياناته وصوره علي أماكن التجمعات العامة وفي الحدائق وملاعب الاطفال ومناشدة كل من يأتي بمعلومة عنه التبليغ لسكان المنزل وزود الاعلان بارقام هواتف تعمل علي مدار الساعة واليوم مما أستدعي تشكيل غرفة عمليات منزلية . حاله ذكرتني ب 19 يوليو وكيف كان المهوس نميري يبجث عن قيادات الحزب الشيوعي . وعلي الحين أتت مساهمة أهل الحي الذين لم تكن لنا سابقة معرفة بهم . شكلوا نفيراً مجهزاً ببطاريات أضاءة وطعام مخصص ليتناوله هذا القط في حالة أنه خرج وضل سبيلة . هذا النفير يتحرك حوالي الساعة الرابعة صباحاً ويعود قبل بدء يوم العمل وكذلك دورية مسائية لهذا الغرض . حاله شبيه حينما يخرج الناس في بلدنا بحثاً عن غريق أو مواطن أبتلعه تمساح عشاري . في أنتظارنا لعودة القط أو العثور عليه ، أستقبلنا عدة تلفونات في أوقات مختلفة من اليوم ومعها بعض الصور للقطط التي تمت رؤيتها وهي تتجول في أنحاء الحي وفي الغابة التي بالقرب منا . أستمر البحث علي هذا المنوال حوالي الشهر بزيادة وتيرته أيام العطلات وفي كل مرة نخرج من المنزل يتم سؤالنا من الجيران والمارة أذ عثرنا علي هذا الكنز الثمين . بكل أسف لم نعثر عليه . وأتهمت أبنتنا بأن هنالك ضبع قضي عليه .
عادةً ما أذهب للعمل بالمواصلات العامة لانها مريحة خاصة في فصل الشتاء علاوةً علي أن أستعمال المواصلات العامة يتيح فرصة للقرأة وتبادل الحديث مع أشخاص مختلفين وعن طريقها تحصلت علي عملي الذي أسترزق منه ، وهذه قصة أخري . يلاحظ المرء في الفترة الصباحية وفترة أنتهاء يوم العمل ركاب البصات هم الموظفين والطلبة والطالبات وغالباً ما يكون جوارك في المقعد طالبة أو طالب . هنالك ملاحظتين شدوا أنتباهي ، الملاحظة الاولي كيف يتحدثون هؤلاء الطالبات تلفونياً وهم في البص . في المقعد المجاور لي عادة ما تكون هنالك طالبة تتحدث أو تتلقي مكالمة عن طريق الهاتف (الهاتف في العادة يكون في الصامت ) الشيئ المدهش يستحيل أن أسمع كلمة وهي تتحدث . أنهم يهمسون في التلفون ويتحدثون عن طريق تحريك الشفاه فقط وليس بفتح الفم والصوت العالي . الملاحظة الثانية في هذه المواصلات العامة ، تجدهم يتناولون أفطارهم في البص والي هنا المسألة عادية . أما ما يسترعي الأنتباه فأنهم لا يلتهمون الساندوتش أنما يتذوقونه و يفحصون كل جزئية منه وهذا الساندوتش أطال الله عمره رغم صغره يستمر مع صاحبته الي نهاية الرحلة وهي حوالي الساعة . تذكرت قومي وهم يأكلون من القدح وبعد أن يتنهي ما بالقدح تجد البخار لا زال يتصاعد منه في حلقات دائرية . تباً علي الجوع والمجاعة .
أبناءنا وبناتنا الذين تربوا في هذه البلاد نموا كل أحاسيسهم . تجد الواحد/ة منهم مشغول مع التلفون وفي نفس الوقت يسمع ما يدور من حديث حوله ويشاهد التلفزيون ويتناول الطعام . كل هذه الاحداث تجري في وقت واحد . ثقتهم بالعم قوقول فاقت حد العقيدة ، أصبح مرجعهم في كل شيئ بداءً من الخليقة وأنتهاء بيوم البعث . يلجأون اليه في السراء والضراء وإذا سألت الواحد منهم طلباً للمساعدة يأتيك الرد (قوقل إت) . عن طريق الانترنت يتزاوجون ويتطالقون ويقتتلون وعما قريب سينجحون في حفظ السائل المنوي وارساله بفضل ثورة المعلومات عن طريق الآمازون العابرة للقارات . وسيختارون نوع الجنين ومواصفاته . يطبقون قول المولي عز وجل (وما اؤتيتوا من العلم الا قليلا) الإسراء .
حامد بشري
8 سبتمبر 2024

hamedbushra6@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • الطاهري: الشركة المتحدة تهتم بمواكبة التطور التكنولوجي في تقنيات الذكاء الاصطناعي
  • Nothing ترتقي إلى المستوى التالي من التطور التقني مع هاتف Phone (2a) Plus
  • 3 مزايا لأنظمة الدفع الإلكتروني تعزز الاقتصاد الرقمي في العراق
  • ملامح من الحياة في كندا (1)
  • أسعار الأدوات المدرسية في معرض «أهلا مدارس» 2024 بـ القاهرة
  • صريح جدا : أيام تفصلنا عن الدخول المدرسي..هكذا هي أسعار الأدوات المدرسية عند الجزائريين
  • شروق وجدي ترصد فعاليات اليوم الأول للنسخة الأولى من منتدى الإعلام الرياضي
  • أسعار الأدوات المدرسية بـ معارض أهلا مدارس 2024
  • رئيس «شباب النواب»: «المتحدة» حريصة على مواكبة التطور في الإعلام الرياضي
  • الجينات والحظ.. كشف سر الحياة لأكثر من 100 عام