فى مذكرات عبدالوهاب المسيرى حكاية لافتة تستحق الالتفات، ففى صباه كان يستغرب دعاء إمام مسجد دمنهور كل جمعة وهو يستعيذ بالله من علمٍ لا ينفع. كان رأس المفكر يسأله وهو صغير إن كان هناك بالفعل علم لا ينفع، وظل السؤال حاضرا حتى سافر للدراسة فى الولايات المتحدة. وهناك فى أحد الأيام نظمت إدارة الجامعة للطلاب زيارة للعالم الكبير أوبنهايمر الذى اخترع القنبلة الذرية، وتناقشوا معه فى الفلسفة والحياة والفكر.
وهكذا فإن المعرفة ليست جميعا نفعا وخيرا ونورا، فهناك علوم مدمرة، وبالمثل هناك كُتب أحرقت قلوبا وبدلت عقولا وفتت دولا وسحقت شعوبا.
وفى ظنى فإن هناك قوائم لأسوأ الكتب فى بلادنا، مثلما توجد قوائم لأفضل الكتب. وربما كان كتاب «الأمير» لنيقولا ميكافيللى واحدا منها، اذ يحتوى على أساليب وأفكار تروج للانتهازية والهيمنة السلطوية. ويُذكر أن محمد على، والى مصر سمع به، فطلب من مترجمه قراءته واطلاعه على ما به. وبالفعل استمع منه لفقرات من الكتاب، لكنه شعر أن مستوى الشر فيه أقل مما ينبغى، فطلب من مترجمه أن يكف عن اطلاعه على المزيد لأن ما يعرفه من حيل أعظم مما يطرحه الكتاب.
كذلك، كان كتاب سيد قطب الشهير «معالم فى الطريق» يعد نموذجا صريحا للكتابة المُلغمة التى تقود الناس نحو الانقسام والاقتتال. وليس سرا أن كافة الجماعات التكفيرية التى نشأت فى العالم العربى خلال النصف الثانى من القرن العشرين استمدت أفكارها الأولية من هذا الكتاب، فكتب محمد عبدالسلام فرج كتابه «الفريضة الغائبة» ليؤسس مفهوم الجهاد ضد المسلمين الجاهليين، ثُم كتب غيره كتيبات شارحة ومفصلة للفكرة لتتحول مجتمعاتنا إلى ساحات دم.
كُتب الثورات الكاذبة والبطولات الزائفة والشعارات الرنانة تدخل أيضا ضمن كُتب السوء التى لا تنفع. فمنها مثلا كتاب شعاراتى سطحى عرف باسم «الكتاب الأخضر» قيل إن معمر القذافى هو مؤلفه، وتضمن شعارات ساذجة عن العدالة والمساواة، بينما ناقضت كثير من عباراته التعددية السياسية مثل «من تحزب خان»، و«المجلس النيابى مجلس غيابي» وغيرها من العبارات الساذجة. كتب أيضا جمال عبدالناصر كتابا بعنوان «فلسفة الثورة» تضمن أفكارا مهلهلة حول مستقبل كاذب وتوجهات غير عادلة، وأثبتت التجربة العملية أنها ضد المنطق العملى، وأنه لا معنى لثورة لا تُحرر الإنسان.
أما صدام حسين، طاغية العراق العظيم، فقد كانت له رواية شهيرة بعنوان «زبيبة والشياطين» قيل إن كاتبها مبدع مصرى معروف، تضمنت تكرارا لأفكار النظم الشمولية الدموية والتى تفترض وجود مؤامرة دائمة لا تنتهى ضد الوطن ينفذها الأشرار، وتحكم بالخيانة على كل من يختلف مع رأس النظام.
ولا شك ان كتب النفاق والتطبيل وتزوير التاريخ فى بلادنا تكدست وملأت الرفوف على مدى نصف قرن وأكثر، كلما تبدلت سلطة زعق ألف زاعق تقبيحا وتشويها للسابقين ارضاء للسلطة السائدة. غير أن قراء اليوم أفضل حظا من قراء الأمس، ففى ظل التطور التكنولوجى، وانهيار الحواجز، واتساع شبكات الحوار، وحرية النقد التى تكفلها التكنولوجيا رغم أنف الشموليين صار القارئ أقدر على استقراء ما يكتب، غير عابئ باسم رنان وغير منساق لتوجيهات أو حملات ترويج سلطوية لكتاب ما، وأصبح حرا تماما فى اختيار ما يقرأه.
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مسجد دمنهور كل جمعة للطلاب زيارة أوبنهايمر مصطفى عبيد
إقرأ أيضاً:
كتاب وجوائز|الاحتفاء بـ صابر عرب و ممدوح الدماطي بمعرض الكتاب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
ضمن فعاليات الدورة الـ56 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، استضافت القاعة الدولية ندوة ضمن محور "كتاب وجوائز"، احتفاءً بالفائزين بجوائز الدولة التي تنظمها وزارة الثقافة ممثلةً في المجلس الأعلى للثقافة.
شارك في الندوة الدكتور محمد صابر عرب، وزير الثقافة الأسبق والحاصل على جائزة النيل في العلوم الاجتماعية، والدكتور ممدوح الدماطي، وزير الآثار الأسبق والحاصل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، وأدارها الكاتب الصحفي محمد بغدادي.
استهل الدكتور ممدوح الدماطي حديثه بالتأكيد على أن المنتج الثقافي المصري ثريٌّ للغاية، لكنه بحاجة إلى ترويج أكثر فاعلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرًا إلى أنه يحتوي على مادة علمية متميزة تستحق الانتشار عالميًا.
وشدد على أهمية وجود رؤية موحدة وتنسيق بين مختلف مؤسسات الدولة، لا سيما وزارات التربية والتعليم والثقافة والإعلام، لضمان الترويج الأمثل لهذا المنتج الثقافي وتعزيز الوعي به.
وحول كيفية حماية الآثار وترسيخ الوعي الأثري لدى الطلاب، أوضح الدماطي أن المدرسة تلعب دورًا رئيسيًا في تعزيز الوعي التاريخي، مشيرًا إلى اتفاقية سبق أن عُقدت بين وزارتي التربية والتعليم والآثار، حين كان الدكتور محمود أبو النصر وزيرًا للتعليم، بهدف إدخال كتابين مهمين إلى المناهج الدراسية هما: "أطلس مصر"، الذي يُسلَّم للطلاب من الصف الرابع الابتدائي حتى نهاية المرحلة الابتدائية، وكتاب "آثار الحضارة المصرية"، الذي يُمنح لطلاب المرحلة الإعدادية لتعريفهم بتاريخ الأقاليم التي ينتمون إليها، مثل الدلتا والقناة وغيرها.
وأضاف أن وزارة الآثار تمتلك إدارة التربية المتحفية، التي ينبغي تفعيلها بشكل أكبر لتوعية المواطنين بدءًا من المراحل الدراسية المبكرة.
كما تطرق الدماطي إلى مكانة المرأة في مصر القديمة، موضحًا أنها كانت تشغل أدوارًا بارزة في مختلف المجالات، حيث وُجدت قاضية في الأسرة الثالثة، بالإضافة إلى طبيبات ومعلمات، كما وصلت بعض النساء إلى سدة الحكم، وإن كان ذلك مشروطًا بأن يمثل الملك الإله "حورس"، مما يتطلب أن يكون الحاكم رجلًا.
وأشار إلى أن الملكة حتشبسوت، على سبيل المثال، كانت وصية على العرش ثم أعلنت نفسها ملكة، وبسبب القاعدة التي تشترط أن يكون الحاكم ذكرًا، لجأت إلى ابتكار "أسطورة الولادة المقدسة"، حيث زعمت أنها البذرة المقدسة للإله آمون، كما صنعت لنفسها تماثيل ذات مظهر رجولي لتعزيز شرعيتها في الحكم.
من جانبه، أكد الدكتور محمد صابر عرب أن مصر تمتلك إرثًا ثقافيًا ممتدًا عبر التاريخ الإنساني، لافتًا إلى أنها الدولة الأولى التي نشأت على ضفاف النيل، مما جعلها في الصدارة في مختلف المجالات، سواء على المستويات الإقليمية أو الدولية، وهو ما كان نتيجة طبيعية لجودة التعليم والاهتمام بتنشئة جيل مثقف.
وشدد عرب على أن التعليم هو الأساس في بناء الحضارات، مؤكدًا أن نجاحه لا يقتصر على المناهج الدراسية فقط، بل يتطلب توفير عناصر متكاملة مثل المسرح والموسيقى والرياضة، التي تعزز التفكير الإبداعي وتساهم في تكوين شخصية متوازنة.
وفيما يتعلق بنظرية المؤامرة، أشار عرب إلى أن هناك مبالغة شديدة في استخدامها لتفسير الأوضاع الحالية، رغم أن حرية الصحافة والتعبير عن الرأي متاحة، مؤكدًا أن الثقافة هي الحصن الحقيقي ضد خطاب التكفير والتطرف، مستشهدًا بالفكر الإسلامي الذي يرفض مبدأ تكفير الآخرين.
وأكد عرب أن إجراء حوار مع جميع الفئات الفكرية أمرٌ ضروري لنشر التنوير في المجتمع، موضحًا أن مواجهة الأفكار المتطرفة لا تقتصر على الحلول الأمنية، بل تتطلب جهودًا فكرية وثقافية وإنسانية.
وأوصى بأهمية تجديد الخطاب الديني، بحيث يكون أكثر انفتاحًا على المجتمع، ويشجع على القراءة والاستماع إلى الموسيقى الراقية، فضلًا عن تنمية المهارات الفنية مثل الرسم والخط، حتى يكون الخطاب الديني قادرًا على مخاطبة الناس بلغة قريبة منهم، بعيدًا عن الأساليب الفكرية الصارمة التي قد تكون معقدة.
واختتم عرب حديثه بالتأكيد على ضرورة الحفاظ على التراث المخطوط والمطبوع، مشيرًا إلى أهمية تفعيل القانون الذي ينص على أن دار الكتب والوثائق القومية هي المركز المعتمد لحفظ المخطوطات، حيث يتم ترميمها وتوثيقها. وأكد أن الثروة الثقافية الحقيقية تكمن في المحتوى التراثي، لكنه يحتاج إلى دعم فني واهتمام أكبر بعمليات الترميم والتوثيق لضمان استمراره للأجيال القادمة.