بعض الأغاني العُمانية اشتهرت كثيرا داخل سلطنة عمان وخارجها، وبطبيعة الحال تلك الشهرة لها عدة أسباب في مقدمتها أسلوب الأداء، الذي هو هوية وثقافة.
ولكن من الملاحظ أن هذه الأغاني الشهيرة تبث بشكل متكرر في بعض البرامج الإذاعية الجماهيرية العُمانية بأصوات مطربين غير عُمانيين رغم اختلاف لهجاتهم وأساليب أدائهم مما قد يلغي طباعها الأصلي المحلي، من ذلك مثلا أغنية: «حلوة عُمان» التي لا أتذكر متى آخر مرة سمعتها عبر هذه القنوات الإذاعية بأداء المجموعة العُمانية التي غنتها بالأصل، وكذلك صوت ربوبة: «بعدت يا صولي» الذي شهره الفنان سالم بن علي، وغيرها من الأغاني العُمانية الجميلة.
في الواقع أساليب الأداء والمهارات الفنية تعكس ثراء الموسيقى ولهجتها وهويتها. وكما هو معلوم فإن الفنان هو صانع الحدث الموسيقي، والمتلقي يقيّمه ويستوعبه ويمنحه الحياة أو عكس ذلك. ولكن رغم أن المطرب صاحب الصوت الحسن هو محور العملية الغنائية إلا أن الحدث الفني الموسيقي لا يبلغ مداه إلا بمساعدة العازفين أصحاب المهارات العالية الذين يبلورون أساليب الأداء الفني والهوية الثقافية المحلية أو العالمية.
وفي موسيقانا العربية هناك الخاص المحلي والعام من الغناء المتقن الجامع للهوية والثقافة العربية. فكم هي تلك الأعمال الغنائية الخالدة التي ستبقى قرونا طويلة في ذاكرتنا كعرب، لن نتنازل عنها لأنها حافظة لهويتنا الثقافية ولغتنا الموسيقية وأساليب أدائها الفني الرفيع. إن مثل تلك الأعمال الموسيقية الخالدة وحدّت الذائقة العربية من البحر للبحر. فمَن لا يستمع إلى أغاني أم كلثوم أو عبدالوهاب أو فيروز وعبدالحليم حافظ وصباح فخري وغيرهم من عباقرة الموسيقى العربية ؟
يا فؤادي لا تسل أين الهوى
كان صرحا من خيال فهوى
اسقني واشرَب على أطلاله
واروِ عنّي طالما الدمعُ روى
وأنماط الغناء العربي كثيرة منها ما خرج من الباب الواسع إلى عالم العروبة شرقها غربها، ومنها ما ظل في الأرض القُطرية معبرا عن هويتها وخصوصيتها المحلية.
ومن أقدم أنماط الغناء العربي الأصيل الجامع للذائقة العامة ما يعرف بالموشحة أو الموشح، وهو نمط غنائي مشرقي ومغربي. والموشحات كثيرة ولعل من أشهرها موشح من عصر النهضة بعنوان: «ملا الكاسات» للملحن محمد عثمان، وقد أدى هذا الموشح الشهير الكثير من المطربين العرب في مقدمتهم المطرب صباح فخري، وأبياته الشعرية هي:
ملا الكاسات وسقاني
نحيلُ الخصرِ والقدِ
حياةُ الروح في لفظه
سباني لحظه الهندي
مليمي لا تسل عني
وخلني على عهدي
آمان يا مليمي
وفي الواقع عندما قررت مع أعضاء فرقة البلد الموسيقية (أول فرقة موشحات عُمانية) توطين الموشحات في الغناء العُماني المعاصر ما كنت متأكدا أن الجمهور العُماني سيتلقى موشحاتنا بالاستحسان والقبول بسبب حداثة هذا النمط الغنائي في الثقافة العُمانية. لقد كان هذا القبول مشجعا لنا كثيرا رغم ما واجهنا ونواجهه من تحديات، وأحدث موشحاتنا المنشورة بعنوان: «يا نسيم الريح»، للحسن بن منصور الحلاج:
يا نسيمَ الريح قولي للرشا
لم يَزِدني الوِردُ إلا عَطشا
وبطبيعة الحال معظم نصوص موشحاتنا من الشعر العُماني القديم والمعاصر، ونسعى باستمرار إلى اختيار المناسب منها، ومن أحدثها للشاعر دول اليعاربة محمد بن عبدالله المعولي مع بعض التصرف (المصدر ديوان المعولي):
قد طال يا ليلى علي نواك
حتى غدا قلبي قتيل هواكِ
والجسمُ مني ذائبٌ في حرِ
نارِ الشوق، هل لي مأملٌ بلقاكِ
لا تبخلي بالوصلِ إني عاشقٌ
مالي طبيبٌ في الأنامِ سواكِ
لولاكِ ما أبلى الهوى جسمي ولا
أمسيتُ صبّا في الهوى لولاكِ
فالله يرعى من يواصِلُ حبه
ورعى الذي يرعى الهوى ورعاكِ
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الع مانیة ع مانیة
إقرأ أيضاً:
المُعلِّم العُماني.. صانع الأجيال وركيزة النهضة
د. حامد بن عبدالله البلوشي
shinas2020@yahoo.com
منذ فجر التاريخ، كان المُعلِّم شُعلة مُتقدة تنير دروب الإنسانية، وحاملًا لمشاعل الحكمة والمعرفة في أروقة الحياة. لم يكن المُعلِّم مجرد ناقل للعلوم، أو شارحًا للدروس، بل كان بانيًا للعقول، وصانعًا للأجيال، ومرشدًا للإنسان في رحلة البحث عن الحقيقة.
وعلى مر العصور، تواترت الثقافات والحضارات على تعظيم شأن المُعلِّم؛ إذ أدركت الأمم المتعاقبة أن التقدُّم لا يبنى إلّا على أساس متين من العلم والمعرفة، وركائز راسخة من الثقافة والفكر، وأن المُعلِّم هو الأساس الذي تستند إليه دعائم التقدم والرقي.
في مختلف بقاع الأرض، وعلى مدار التاريخ، كان المُعلِّم موضع إجلال وتقدير، فاليونانيون القدماء رأوا فيه فيلسوفًا يُنير العقول، والصينيون وضعوه في مصاف الحكماء، أما العرب، فقد جعلوه حامل راية العلم، وسفير الفضيلة، ولا تزال الدول المُتقدِّمة تكرم المُعلِّم، وتقيم له أيامًا تُخلِّد فيها إنجازاته، وترفع مكانته بين أفراد المجتمع.
لقد أتى الإسلام مُعليًا شأن العلم، ومُجلًّا لمكانة المُعلِّم؛ إذ كان أول ما نزل من الوحي قول الله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق: 1)، إعلانًا صريحًا بأن المعرفة هي المدخل الأول لنور الهداية. وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11). وقد كان الرسول ﷺ نفسه مُعلِّما للبشرية، هاديا ودليلا، يخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ حيث قال ﷺ: "إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا ولكن بعثني مُعلِّما وميسرًا". وهو القائل: "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على مُعلِّم الناس الخير".
لقد حفلت صفحات التاريخ بأعلام كانوا منارات علم تهدي الحائرين، ومُعلِّمين صنعوا أجيالًا من العلماء، وأصحاب فكر بنوا عقولًا وشيدوا حضارات، ومن أمثال هؤلاء ابن سينا الذي مزج الطب بالحكمة، ولم يكتف بأن يكون طبيبًا حاذقًا، وعالمًا نابغًا، بل أضاف إلى ذلك كونه مُعلِّمًا رائدًا، ينقل علمه لطلابه ومريديه، ويترك بصمات خالدة ظلَّ أثرها على مدار التاريخ، والخليل بن أحمد الفراهيدي المولود في أرض عُمان المباركة، والذي وضع أُسس علم العَروض. كما وضع أسس التفكير المنهجي لطلابه الذين كان على رأسهم سِيبَوِيه إمام النحو، وباني أصوله، وأحد أعظم النُحاة المسلمين. كما لا ننسى العديد من الأئمة العُمانيين الذين حملوا لواء التعليم، وأثروا الحضارة الإسلامية بفكرهم النير، ونقلوا العلم إلى أجيال متتابعة، فكانوا مثالًا للمُعلِّم الذي يُسخِّر علمه لخدمة البشرية؛ كالإمام الفقيه جابر بن زيد، والإمام العلّامة والشاعر والمؤرخ الموسوعي نور الدين السالمي، والأصولي المحقق الإمام سعيد بن خلفان بن أحمد الخليلي، وغيرهم الكثير.
ولقد أدركت سلطنة عُمان، منذ انطلاقة نهضتها الحديثة، أن بناء الإنسان هو اللبنة الأساسية في بناء الوطن، وكان التعليم هو المحور الأول لهذا البناء، والمُعلِّم هو حجر الأساس. ولذا، لم تبخل السلطنة في دعم المُعلِّم، تأهيلا، وتدريبا، وتمكينا، ليكون على قدر المسؤولية في صناعة الأجيال الواعدة.
وكان السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- قائدًا مُستنيرًا، أدرك أن نهضة عُمان لن تتحقق إلا بالعِلم، فوجَّه جهوده لبناء منظومة تعليمية متكاملة، وأولى المُعلِّم اهتمامًا خاصًا. ومن أقواله التي خلدها التاريخ: "إننا نعيش عصر العلم ونشهد تقدمه المتلاحق في جميع المجالات، وإن ذلك ليزيدنا يقينا بأنَّ العلم والعمل الجادَ هما معا وسيلتنا لمواجهة تحديات هذا العصر وبناء نهضة قوية ومزدهرة على أساس من قيمنا الإسلامية والحضارية"، وهذا تأكيد على أن العلم هو أساس النهضة، والمُعلِّم هو الركن المتين لها.
وعلى خطى السلطان قابوس -رحمه الله- جاء حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- ليؤكد أن التعليم سيظل الركيزة الأولى للنهوض بالوطن. وقد أولى جلالته -أبقاه الله- التعليم اهتمامًا كبيرًا، إيمانًا منه بأن الاستثمار في الإنسان هو الاستثمار الحقيقي. ومن أقواله: "وإن الاهتمام بقطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته وتوفير البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي والابتكار سوف يكون في سلم أولوياتنا الوطنية، وسنمده بكافة أسباب التمكين باعتباره الأساس الذي من خلاله سيتمكن أبناؤنا من الإسهام في بناء متطلبات المرحلة المقبلة".
إنَّ المُعلِّم ليس مجرد ناقل للمعرفة؛ بل هو مهندس العقول، ومؤسس القيم، وصانع الحضارات. فبكلماته تتفتح الأذهان، وبحكمته تتغير المسارات، وبصبره يبني جيلا قادرا على النهوض بالمجتمع، وهو الذي يزرع بذور الطموح في نفوس طلابه، ويرويها بحب العلم، ويصقلها بالتجربة، حتى تثمر علماء ومفكرين يرفعون راية أوطانهم عاليا.
وأقل ما يمكن أن نقدمه للمُعلِّم هو الاحترام والتقدير، وأن نُوَفِّر له بيئة تمكنه من أداء رسالته السامية. ومن الواجب علينا أن نكرم المُعلِّم معنويا وماديّا، وأن نمنحه المكانة التي يستحقها في المجتمع، حتى يؤدي رسالته النبيلة بكل حب وإخلاص.
وعلى الرغم من مكانته الرفيعة، إلّا أن المُعلِّم يواجه العديد من التحديات، منها التطور السريع في أساليب التعليم، وضغوط العمل، ومتطلبات العصر الرقمي. والتي تحاول وزارة التربية والتعليم جاهدة وفق إمكانياتها المتاحة، وعبر مؤسساتها التعليمية، إلى دعمه بالتدريب والتطوير المستمر، واللحاق بركب التقدم، وتوفير بيئة تعليمية تحفّزه على الإبداع، وتضمن له حياة كريمة.
إنَّ المُعلِّم هو النبراس الذي يُضيء لنا دروب المعرفة، وهو الباني الذي يُشيّد صروح الأمل، وهو الجسر الذي نعبُر عليه إلى المستقبل.
وفي يوم المُعلِّم العُماني، نقف جميعًا إجلالًا وتقديرًا له، شاكرين جهوده، سائلين الله -عز وجل- له التوفيق والسداد ليواصل رسالته السامية في بناء الأجيال والمساهمة في بناء نهضة عُمان المتجددة نحو غدٍ أكثر إشراقًا.
** مدير عام شبكة الباحثين العرب في مجال المسؤولية المجتمعية