في سبيل تدبير «الحوار الاجتماعي»
تاريخ النشر: 11th, August 2024 GMT
تواجه المجتمعات العربية الكثير من أزمات العيش المشترك، وتتعاورها من حين لآخر مشكلات ينظر إليها كطارئ عابر، والحقيقة أن مجتمعاتنا العربية مرغمة على العيش تحت ظِلال لحظة عالمية وجدت نفسها مطالبة بالانخراط فيها حتى وإن لم تكن مستعدة بعد، مجتمعات مُهَيمن عليها من قِبل ليبرلة (=ليبرالية) عالمية تعاظم حضورها للدرجة التي استقرت فيها داخل نظرية المعرفة الراهنة، وهي نظرية غربية بامتياز، لكن يتم تسويقها كأفكار مجردة مما يعلن في أي خصوصية ثقافية عن وجود أزمة؛أزمة هوية.
والواقع أن المجتمعات تعتمد في وجودها على تقوية مظاهر العيش المشترك القائم على حالة من الحوار السعيد؛ الحوار المُلخِص لقيم الجماعة الإنسانية، والحائز على معاني الرضا والتواصل بين مختلف المكونات، ولكن ليس لقيم اجتماعية أن تظل فاعلة ومؤثرة في السياق الثقافي لأي مجتمع دون أن تستند على جملة معارف يتلقاها الفرد منذ عتبات تكوينه الأولى، ولعل من أكبر الأسباب المُعجِلة بفتور ظاهرة الحوار الاجتماعي في الثقافة العربية هي عدم إعداد الناطقين باسم الظاهرة، إعدادهم الفكري المؤمن بأن الاختلاف ليس سنة كونية فقط، بل هو حقيقة اجتماعية، ومن يجيل النظر في المجتمعات العربية ويطرح السؤال عن غياب «التسامح» كآلية للتعايش بين المكونات المتعددة، فعليه مباشرة أن يذهب إلى الكتلة الحرجة في الوعي، وهي أننا لم نول اهتماما جادا في مناهجنا التعليمية لما يسمى بالإنسانيات حتى الكلاسيكية منها ( الفلسفة – علم الاجتماع – الآداب...إلخ) فللأسف تفتقر مناهجنا وهي العتبة التي يصعد عليها الناطقون باسم المجتمع، تخلو من الدرس الفلسفي والذي هو أساس كل عملية حوار، وهنا تجدر الإشارة إلى أن غيبة المثقف عن تعزيز أطر الحوار الاجتماعي تعود في الأساس إلى تناقض معرفي تأسس عليه وعيه، فهو من ناحية يملك القدرة على تعيين المشكلات في إطارها النظري، لكنه مع ذلك يفتقر القدرة على تصعيد هذا التعيين بشكل مادي ملموس، فيتحول إلى عبء ثقافي يضاف إلى خرائب الوعي العربي الرافض للآخر؛ الآخر الداخلي والخارجي.
إن الكلفة العالية تدفعها المجتمعات التي يغيب فيها الحوار، وهي كلفة تمس الجوهري في طبيعة المجتمع (=التعايش)، والنداءات المكثفة والعبارات عالية التكوين البلاغي حول: «الحوار..السلام الاجتماعي..التعايش...إلخ» تعكس شيئا واحدًا وإن اختلفت، هي الرغبة الأصيلة في المجتمع لصناعة تعايش مثمر، تعايش يجد فيه الجميع أنفسهم مساهمين وقادرين على التعبير عن أنفسهم، وهذا أمر غريزي، فالجميع يريدون أن يعيشوا في سلام، وأن يكونوا قادرين على تحقيق طموحاتهم والتعبير عن رغباتهم، وأزمة الحوار ليست فقط في رغبتنا تعميمه دون أدوات للشغل تهيئ له المكانة والفاعلية المطلوبة، إنها تعود إلى فهمنا العاطل لماهية الحوار، فما زالت المجتمعات العربية تعتقد بأن للحوار وجودا مستقلا، كأنه مسألة نظرية محصنة بالبداهة، وأنه لا ينتمي إلى التفاعل الإنساني، يولد منه، ويتحرك فيه، والحقيقة أن الحوار عملية إبداعية CRÉATION - فالحوار يتشكل نتيجة عمليات التركيب والتأليف من عناصر موجودة في الظاهرة، ولذا فإن المجتمعات العربية مطالبة في المقام الأول أن تعرف الطريق الصحيح إلى صناعة الحوار قبل الحديث عن فاعليته وضروراته للتعايش والسلام المدني بين الأفراد، فالماهية الحقيقية للحوار تعود إلى التكوين والإحداث في الظاهرة الثقافية، تكوين يقوم على تغذية الفرد بثقافة التسامح والقبول الإيجابي للآخر القريب والبعيد، والإحداث، أن يفهم كيف يستمد الحوار قوته وجدارته من التركيب المستمر لعناصر ثقافية شاردة، وأنه دون هذه العملية المفاهيمية لن يكون هناك أي جدوى من الدعوة إلى الحوار الاجتماعي، كونه لن يتحقق من تلقاء نفسه، وأن تعاظمت الرغبات.
إن الطريق يبدأ من إعادة دمج مفهوم «الحوار» في كافة مظاهر النشاط الإنساني داخل المجتمع، والبداية من تعقيم المناهج بأساليب تنقلها من تعليم (بنكي) وظيفته استيداع المعرفة في ذهن المتلقي دون أن يكون مشاركا فيها، مشاركة بالوعي، وهنا فإنه لن يكون قادرا على القيام بدوره في الدفع بمعاني التعايش والانسجام بين البنى الاجتماعية المختلفة، وهنا فالحاجة إلى تعليم (حواري) يصنع وعي الناشئة على أن المجتمع سمي مجتمعا لأنه لا يتكون من عنصر واحد، وأن المجتمع هو جِماع الخصوصيات الثقافية القادرة على النزول إلى التشارك والإسهام مع غرائمها لصالح حضور كلي بيانه السلام الاجتماعي وبرهانه التعايش.
والحل لتدبير حوار اجتماعي فعّال أن ينظر إليه كمغزل ثقافي يُنتج من داخل حيز الفاعلية للمكونات الاجتماعية المختلفة، وهو ما سيجعل منه حقيقة اجتماعية قارّة، وليس رصيدا يسحب منه عند الأزمات.
غسان علي عثمان كاتب سوداني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المجتمعات العربیة الحوار الاجتماعی
إقرأ أيضاً:
الجامعة العربية وفلسطين تؤكدان ضرورة تحرك المجتمع الدولي للتصدي للانتهاكات الإسرائيلية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أكد السفير خالد المنزلاوي، الأمين العام المساعد للجامعة العربية، رئيس قطاع الشئون السياسية الدولية والسفير مهند العكلوك، المندوب الدائم لدولة فلسطين لدى جامعة الدول العربية، ضرورة تحرك المجتمع الدولي للتصدي للانتهاكات الإسرائيلية والعمل على إبراز قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه غير القابلة للتصرف في المحافل الدولية.
جاء ذلك خلال لقاء السفير مهند العكلوك مع الأمين العام المساعد للجامعة، رئيس قطاع الشئون السياسية الدولية، حيث جرى بحث سبل تعزيز التعاون العربي الدولي لدعم القضية الفلسطينية، ومنع الضم والتهجير.
وفي سياق متصل، التقى المندوب الدائم لدولة فلسطين لدى جامعة الدول العربية، السفير مهند العكلوك، نظيره السفير محمد سفيان براح، سفير الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية ومندوبها الدائم لدى الجامعة العربية.
وجاء هذا اللقاء في إطار التنسيق الثنائي بين دولة فلسطين والجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية الشقيقة في إطار التحضير للقمة العربية غير العادية التي طلبت عقدها دولة فلسطين ودعت لها جمهورية مصر العربية الشقيقة، بالتنسيق مع مملكة البحرين الشقيقة الرئيس الحالي لمجلس الجامعة على مستوى القمة.
من ناحية أخرى، شارك السفير مهند العكلوك في جلسة البرلمان العربي الخاصة بفلسطين تحت عنوان (إعمار غزة واجب، وتهجير أهلها جريمة).
وألقى السفير العكلوك كلمة تحدث خلالها عن جريمة الإبادة الجماعية في غزة التي ترتكب على مدى 16 شهرا، وجريمة التطهير العرقي في الضفة الغربية والتدمير الممنهج لمخيمات اللاجئين الفلسطينين في الضفة الغربية وتهجير أهلها.
وطالب السفير العكلوك، البرلمان العربي ببذل كل الجهود من أجل ضمان اتخاذ إجراءات عربية من شأنها وقف العدوان على الشعب الفلسطيني وإغاثته ومنع تهجيره وضم أراضيه، وملاحقة إسرائيل في آليات العدالة الدولية الوطنية ذات الاختصاص العالمي.