وقفتنا هذا الأسبوع حضراتكم سنستمر فيها الحديث عن معركة طوفان الأقصى التي بالفعل لا تحتاج لأسبوع، ولا اثنين، ولا ثلاثة، ولا حتى مدى العمر يكفى للحديث عن نتائجها المبهرة، ولذلك هذا الأسبوع سنتحدث عن لو حدث العكس، وكانت المقاومة الفلسطينية هي من تملك طائرات الإف ١٦، والإف ٣٥، وطائرات الأباتشى، ومنظومة الدفاع الجوى الأمريكية والأوروبية المتقدمة، وقامت المقاومة بضرب المدنيين والمدن التى يقيم بها الصهاينة بتلك الطائرات، وقتلت آلاف المدنيين من الصهاينة، وأصابت الآلاف إصابات قاتلة، ونتخيل أن هناك قرارات صدرت من الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وأن تلك القرارات تقف فى أغلبها فى صف الكيان الصهيونى ضد المقاومة المحتلة، نتخيل كده حضراتكم ماذا كان سيفعل العالم المتقدم؟ وماذا كانت ستفعل دول مجلس الأمن المتقدمة، صاحبة الأخلاق الدولية العالية والقرارات الرشيدة والسياسات الحكيمة؟
أظن حضراتكم دخلتم معى فى هذا التخيل وأظن أيضًا أنكم توقعتم تمامًا ماذا كان سيحدث من أغلب دول العالم، ومن الأمم المتحدة والدول العربية والإسلامية والأفريقية والآسيوية والأروروبية، والأمريكية وغيرها، كان زمان أغلب دول العالم قاطعت دولة فلسطين دولة المقاومة ولَتم سحب أغلب سفراء تلك الدول، وإعلان مقاطعات جماعية سواء بتصدير السلاح، أو حتى الأجهزة التكنولوجية واللحوم والخضراوات، أظن حضراتكم لو حدث هذا لأعلنت المقاومة استسلامها من اليوم الأول، ولتم إيقاف الحرب منذ توقيت صدور تلك القرارات والمقاطعات، نتخيل هذا لنتعرف عن مدى بطولة هذا الشعب الفلسطينى الشقيق، ورجال المقاومة الذين تحملوا ما لم يتحمله بشر على مدار التاريخ البشرى منذ هبوط سيدنا آدم وستنا حواء وحتى الآن، لرأينا اختلافًا تامًّا فى جميع المعايير التى تقاس عليها المواقف أغلبها الآن.
يا سادة الدول التى تريد أن تتسم بالواقعية آن الأوان لها بالانسحاب التام من هذا الكيان المسمى بالأمم المتحدة، فهذا الكيان المعدل لنظام عصبة الأمم المنظومة السابقة لم يتم إنشاؤها إلا لمواجهة الدول الصغيرة مثل دول العالم الثالث والدول الفقيرة، وتنفيذ أطماع الدول الكبيرة مع الكيان المحتل، فأرى أنه آن الأوان لإيقاف تلك المهازل والبحث بعدها من الدول المنسحبة عن إنشاء كيان دولى حقيقى عادل يدافع بحق عن حقوق جميع الدول، والكيانات دون تمييز أو ظلم، نظام يحقق العدالة الدولية بحق قائم على آليات حقيقية لمواجهة أي دولة تخرج عن الاجتماع الدولى من خلال وضع منظومة استراتيجية متكاملة تضع وتضمن الاستقرار السياسى والعسكرى والاقتصادى والأخلاقى والدينى والثقافى والأدبى والرياضى والإعلامى والاستثمارى، وتحفظ الثروات والحدود للدول يتم إنشاء كيانات حقيقية دولية تدافع وتضمن هذه الحقوق بضمانات حقيقية واقعية، وتضمن عدم وقوع الدول الصغيرة وحتى الكبيرة في براثن العملاء والدكتاتوريين فى جميع أنحاء العالم، ويتم وضع معايير ومقاييس مقبولة، ومتفق عليها لتنفيذ ذلك، حتى يتم إنقاذ دول العالم وخاصة دول العالم الثالث، وتضمن عدم تكرار ما يحدث فى أوكرانيا وفلسطين والدول الأفريقية والآسيوية وبورما والهند والصين وأمريكا اللاتينية والشمالية فى المستقبل، وأيضا ما يحدث فى الوقت الحالى، وتضمن عدم تكرار ما حدث فى البوسنة، والهرسك وكوسوفو وتضمن حقوق الأقليات بجميع أنحاء العالم، غير ذلك فلننسى تحقيق أى خير ولننتظر ونركز بقى مع ظهور المسيخ الدجال والمهدى المنتظر وظهور وخروج قوم يأجوج ومأجوج تمهيدًا لقيام الساعة ذلك أسهل، ربنا يرحمنا ويرحمكم..
إلى هنا انتهت وقفتنا لهذا الأسبوع أدعو الله أن أكون بها من المقبولين، وإلى وقفة أخرى الأسبوع القادم إذا أحيانا وأحياكم إن شاء الله.
اقرأ أيضاًيحيى السنوار.. مهندس طوفان الأقصى يقود «حماس» بعد استشهاد إسماعيل هنية
مصطفى بكري: موقفي من حماس لم يتغير إلا منذ عملية طوفان الأقصى
حملة مناهضة الاحتلال: نتنياهو يخشى التحقيق معه بشأن ما حدث في «طوفان الأقصى»
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: الأمم المتحدة المحكمة الجنائية الدولية محكمة العدل الدولية المقاومة الفلسطينية معركة طوفان الأقصى الشعب الفلسطينى طوفان الأقصى دول العالم
إقرأ أيضاً:
صعود الدول الحضارية وأفول الأحادية القطبية
تجسد حرب الإبادة المستمرة التي تشنها المستعمرة الاستيطانية الصهيونية على غزة بدعم أمريكي وغربي حالة من الفزع والقلق من انهيار عصر الأحادية القطبية الليبرالي، بحيث بلغ السقوط الأخلاقي للغرب مستوى غير مسبوق من التدني والانحدار. فحرب الإبادة المشهدية التي أفضت إلى ارتقاء نحو 51 ألف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء، وجرح أكثر من 117 ألف آخرين منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لم تحرك الضمير الليبرالي الغربي، بل شجعت الكيان الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي على استكمال مشروع التطهير العرقي للشعب الفلسطيني، باعتبارها حربا حضارية في مواجهة البربرية، وهو ما يشير إلى انقلاب القيم وموت الإنسانية في الغرب الإمبريالي، وتمجيد القوة والوحشية والهمجية، وبروز الأخلاقيات الرأسمالية القائمة على الجشع والعنف، وتكشف مقارنة التعامل الغربي بين وضع أوكرانيا والحالة الفلسطينية عن حجم المفارقة ومستوى الانحدار في النظام الليبرالي الغربي.
لم تكن حرب الإبادة في غزة سوى مؤشر صادم على تداعي المنظومة الأحادية القطبية، وفقدان الولايات المتحدة للأهلية السياسية والأخلاقية للتفرد بالعالم وقيادته، وتولي دونالد ترامب رئاسة أمريكا هو مؤشر آخر، فمقترحاته باستكمال التطهير العرقي وحرب الإبادة في غزة، لا تخالف قواعد القانون الدولي فحسب، بل تقوض الأساس الأخلاقي للبشرية، وأما حربه التجارية وتعريفاته الجمركية الغرائبية، فهي تنم عن إدراك بقرب نهاية حقبة الأحادية الأمريكية، وهي محاولة يائسة للحد من صعود الدول الحضارية التي تتحدى النظام العالمي الليبرالي أحادي القطب، إذ يشهد العالم تحولا في النظام العالمي من نظام عمودي، حيث يكون الغرب فوق البقية، إلى نظام أفقي، حيث يكون الغرب والبقية على قدم المساواة مع بعضهم البعض من حيث الثروة والقوة والأفكار.
إن أمريكا ترامب لا تختلف عن أمريكا بايدن، لكن ترامب هو صورة فجة بصيغة شعبوية يمينية، ففي عصره تشبه أمريكا جمهورية فايمار، حيث تذكر أوامر ترامب التنفيذية التي يبررها بأنها استجابة لـ"حالة طوارئ وطنية"؛ بنظرية "القرارية" التي وضعها الفقيه الألماني كارل شميت في عهد فايمار، الذي جادل بأن السلطة السيادية المطلقة تستمد شرعيتها من تعليق النظام الدستوري الطبيعي في "حالة استثنائية"، عندما تكون الدولة مُهددة من قِبل أعداء، من الداخل والخارج، وما يفعله ترامب هو تعطيل صعود دول الحضارة، وفي مقدمتها الصين.
وفي كتابه الجديد "أرض خراب: عالم في أزمة دائمة"، يبني روبرت كابلان حجته على صورة فايمار، لكن كابلان الذي يتحدث عن الخراب لا يتطرق إلى حرب الإبادة في غزة، بل يسعى إلى ديمومة الهيمنة الأمريكية وتثبيت الأحادية القطبية، فالنظام الذي يتحدث عنه يتجاوز غزة، حيث انتهجت أمريكا، القوة المهيمنة في العالم، سياسة تدمير متعمد، وفق رؤية جيوسياسية ولاهوتية مسيانية، حيث قوضت أمريكا النظام القانوني الدولي من جذوره، وزرعت بذور الكراهية والحقد في كافة أرجاء المنطقة. فصاحب كتاب "أرض الخراب"، لا يأتي على ذكر عمليات القتل والإبادة والتدمير الإسرائيلي لغزة بالسلاح الأمريكي، بل يُشيد كابلان بإسرائيل لثباتها، ولأنها أكثر صرامة من بايدن. وهو بلا شك من أنصار ترامب ونتنياهو ونهج "السلام بالقوة"، ولذلك فإن الأداة الأكثر فعالية للحفاظ على الوضع القائم يقوم على التوسع باستخدام القوة الوحشية الغاشمة باعتبارها الوسيلة الأكثر فعالية.
إن الوضعية العالمية المختلة واختلال منظومة الأحادية القطبية، تعيد مفهوم الدولة الحضارية إلى الصدارة، فالأطر الثلاثة الأساسية لإقامة النظام العالمي اليوم تقوم على نماذج الأممية الليبرالية، والدول الحضارية، والدول القومية. ويفترض كل إطار فهما محددا للوحدة الأساسية للنظام العالمي في بناء القيم، إذ تتخيل الأممية الليبرالية إطارا قيميا واحدا قائما على عالمية القيم الليبرالية، ويتضمن تطبيقه الأكثر اتساقا نسخة من دولة عالمية أو هيمنة ليبرالية، بينما يتخيل نموذج الدولة الحضارية عددا قليلا من مراكز القوة الإقليمية في العالم، يدعم كل منها رؤية حضارية راسخة للنظام. وعلى عكس النموذجين الأولين، تُعد الدولة القومية الوحدة السياسية الأساسية لنظام دولي تحافظ فيه كل دولة قومية على سيادتها بناء على الإرادة الموحدة لسكانها.
نشهد اليوم بداية حقبة أفول الأحادية القطبية، فبدلا من الدفاع عن القيم العالمية كالديمقراطية وحقوق الإنسان، انتهت الأحادية إلى الدفاع عن أسلوب حياة واحد ضد كل بديل. ويعود صعود عالم الدول الحضارية، إلى سبب جذري وهو انهيار مفهوم الحضارة العالمية، وهو مفهوم يكافئ مفهوم الهيمنة كما قرر عالم السياسة الأمريكي صموئيل هنتنغتون في مقاله عام 1993، ثم كتابه "صراع الحضارات" عام1996، حيث جادل في أحد أبرز مقاطع كتابه بأن مفهوم الحضارة العالمية يُسهم في تبرير الهيمنة الثقافية الغربية على المجتمعات الأخرى، وحاجة هذه المجتمعات إلى تقليد الممارسات والمؤسسات الغربية، فالعالمية هي أيديولوجية الغرب لمواجهة الثقافات الأخرى.
وبطبيعة الحال، يرى هنتنغتون أن على كل من هو خارج الغرب أن ينظر إلى فكرة العالم الواحد على أنها تهديد، حيث لعب مفهوم هنتنغتون دورا في تعزيز فكرة "الغرب ضد بقية العالم"، وبالتالي عزز نوعا من التعبئة الداخلية للغرب في ظل الظروف السياسية الجديدة بعد نهاية الحرب الباردة. وإن لم يكن تأثير هذا المفهوم مباشرا، إلا أنه يمكن تتبعه في تطور الممارسة السياسية للدول الغربية في "إسقاط الديمقراطية" على مناطق أخرى من العالم والحضارة بالمعنى الهنتنغتوني. وهكذا، وُضع مسارٌ لعولمة الحضارة الغربية واستيعابها من قِبل جميع الحضارات الأخرى في المستقبل (مع ترك الاختلافات الثقافية فقط، على نحوٍ ما، في سياقٍ فولكلوري).
إن مفهوم دولة الحضارة الذي بات سياسة ونهجا للتعددية القطبية يختلف عن مفهوم هنتنغتون الذي يرتكز على سياسات الهوية، فدولة الحضارة التي تبشر بها دول كالصين وروسيا والهند وتركيا وإيران، رغم الاختلافات في تعريفها، تبدو متفقة على ثلاثة محاور على الأقل: أولا، أنها جميعا حضارة فريدة، وثانيا، أنها سئمت من فرض الغرب لقيمه عليها باسم "القيم العالمية"، وثالثا، أنها تُقاوم التدخل الغربي في شؤونها الداخلية. فهذه الدول الحضارية الصاعدة تتحدى بالفعل ما يسمى بالنظام العالمي الليبرالي أحادي القطب، وبالتالي يشهد العالم تحولا في النظام العالمي من نظام عمودي، حيث يكون الغرب فوق البقية، إلى نظام أفقي، حيث يكون الغرب والبقية على قدم المساواة مع بعضهم البعض من حيث الثروة والقوة والأفكار.
أصبح صعود "الدولة الحضارية" شبحا يطارد الغرب الليبرالي حسب أريس روسينوس، فمع تراجع النفوذ السياسي الأمريكي وانهيار سلطته الأخلاقية، تبنى المتحدون الصاعدون في أوراسيا نموذج الدولة الحضارية لتمييز أنفسهم عن النظام الليبرالي المشلول، الذي يترنح من أزمة إلى أخرى دون أن يموت تماما أو يُنجب خلَفا صالحا.
ويلخص المنظر السياسي أدريان بابست نموذج الدولة الحضارية قائلا: "في الصين وروسيا، ترفض الطبقات الحاكمة الليبرالية الغربية وتوسع مجتمع السوق العالمي. فهم يُعرّفون بلديهما كحضارتين متميزتين بقيمهما الثقافية ومؤسساتهما السياسية الفريدة". فمن الصين إلى الهند، ومن روسيا إلى تركيا، تستمد القوى العظمى والمتوسطة في أوراسيا العون الأيديولوجي من الإمبراطوريات ما قبل الليبرالية التي تدعي أنها تنحدر منها، وتعمل على إعادة صياغة أنظمتها السياسية غير الديمقراطية والدولتية كمصدر للقوة وليس الضعف، وتقلب النزعة الانتصارية الليبرالية الديمقراطية في أواخر القرن العشرين .
يعود استخدم مصطلح "دولة الحضارة" إلى عالم السياسة الأمريكي لوسيان باي لأول مرة عام 1990 لتصنيف الصين كدولة ذات طابع اجتماعي وسياسي مميز، بدلا من اعتبارها دولة قومية وفق النموذج الأوروبي، ومن المستحيل فصل تراجع أمريكا عن صعود الصين. وقد روّج لمصطلح "الدولة الحضارية" الباحث البريطاني في الشؤون الصينية مارتن جاك في كتابه الأكثر مبيعا "عندما تحكم الصين العالم"، الصادر عام 2009، حيث أكد أن الصين كدولة قومية عمرها لا يتجاوز 120-150 عاما، بينما عمرها كحضارة يمتد لآلاف السنين، فعند صياغة مفهوم "الدول الحضارية"، عادة ما يُركز على الهوية الحضارية، والالتزام بالرموز الثقافية الموروثة من أجيال وأجيال من الأجداد، والمتجذرة في هويتهم الذاتية. ويجادل جاك بأنه كانت هناك حضارات عديدة في التاريخ، بما في ذلك دول حضارية كالهند، لكن لا شيء منها يُضاهي الصين.
إلا أن المنظر السياسي كريستوفر كوكر قدم في كتابه البالغ الأثر "صعود الدولة الحضارية"، تحليلا شاملا لظهور الدول الحضارية في العالم الحديث، مع التركيز بشكل خاص على الصين والهند وروسيا واليابان والخلافة الإسلامية. ويجادل كوكر بأنه في سياق نظام عالمي ما بعد الليبرالية، حيث تزداد هيمنة الليبرالية الغربية تنافسا، تستغل هذه الدول تراثها الثقافي والتاريخي الفريد لتأكيد استثنائيتها وهويتها. ويتميز هذا الانبعاث برفض الليبرالية الغربية العالمية، التي روجت تاريخيا لقيم مثل الديمقراطية وحقوق الفرد ورأسمالية السوق الحرة كمعايير عالمية. وبدلا من ذلك، تسعى الدول الحضارية إلى تأكيد أولوية أطرها الثقافية والحضارية، واضعة إياها كبدائل للرؤية الغربية للحوكمة العالمية والنظام السياسي.
إن البحث عن الجذور الثقافية والتاريخية الفريدة هو جوهر الدول الحضارية الذي يشهد صعودا متواترا في الصين وروسيا وغيرهما من الدول، ففي الصين بدأ "التحول إلى الكونفوشيوسية عام 2005، عندما أشاد الرئيس هو جين تاو بمفهوم الكونفوشيوسية للتناغم الاجتماعي، وأمر كوادر الحزب ببناء "مجتمع متناغم". لكن وصول شي جين بينج إلى منصب الرئيس الصيني في عام 2012 دفع فكرة "الدولة الحضارية" إلى صدارة الخطاب السياسي، حيث يعتقد شي أن "الحضارة تحمل على ظهرها روح بلد أو أمة"، حيث تنبع هذه الروح الحضارية من التحليل الصيني لمسار البلاد المستقبلي. ففي كتابه المؤثر الصادر عام 2012 بعنوان "الموجة الصينية: صعود دولة حضارية "، لاحظ المنظر السياسي الصيني تشانغ ويوي أن "الصين هي الآن الدولة الوحيدة في العالم التي دمجت أطول حضارة مستمرة في العالم مع دولة حديثة ضخمة".. كونها أطول حضارة مستمرة في العالم سمحت لتقاليد الصين بالتطور والنمو والتكيف في جميع فروع المعرفة والممارسات الإنسانية تقريبا.
لا تقتصر جاذبية نموذج الدول الحضارية على الصين. ففي عهد بوتين، تخلت روسيا علنا عن مشاريع التحرير التي ركزت على أوروبا في التسعينيات -وهي فترة من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الدراماتيكي مدفوعا بالالتزام بسياسات المنظرين الليبراليين الغربيين- من أجل مسارها الثقافي الخاص أو مسارها الخاص لحضارة روسية فريدة تتمحور حول دولة قوية. ففي خطاب ألقاه عام 2013 أمام نادي فالداي، أشار فلاديمير بوتين إلى أن روسيا "لطالما تطورت كحضارة دولة، مدعومة بالشعب الروسي واللغة الروسية والثقافة الروسية والكنيسة الأرثوذكسية الروسية والأديان التقليدية الأخرى في البلاد. إن نموذج الدولة-الحضارة بالتحديد هو الذي شكل نظامنا السياسي". وفي خطاب ألقاه عام 2012 أمام الجمعية الفيدرالية الروسية، أكد بوتين أيضا أنه "يجب علينا تقدير التجربة الفريدة التي ورثناها عن أجدادنا. فعلى مر القرون، تطورت روسيا كأمة متعددة الأعراق منذ البداية، وحضارة دولة تجمعها حضارة الشعب الروسي، واللغة الروسية والثقافة الروسية الأصيلة لنا جميعا، مما يوحدنا ويمنعنا من الذوبان في هذا العالم المتنوع".
خلاصة القول أن جاذبية نموذج الدول الحضارية يؤذن بأفول زمن الأحادية القطبية، ونهاية عصر الحضارة العالمية التي تقوم على استراتيجية الهيمنة، فالدول المهيمنة تعتمد في المقام الأول على "القدرات المادية" التي تتجسد في التقدم السياسي والاقتصادي والعسكري، وتستخدم في نهاية المطاف نفوذها الثقافي، فقوتها الأساسية تكمن في قوتها المادية. أما الدول الحضارية فتستند إلى رؤية مختلفة، فهي تتأسس على "المكونات الثقافية والبشرية" أولا، ثم تتحول إلى قوى مادية وموضوعية. وهذا التقدم من العمق الثقافي إلى القوة المادية يشكل فرقا رئيسيا بين الدول الحضارية والقوى المهيمنة، حيث تعطي الأولى الأولوية للتراث الثقافي باعتباره جوهر قوتها وهويتها، بينما تحتفظ الثانية بالقدرات المادية كمصدر أساسي للقوة.
وقد كشفت غزة عن محدودية القوة المادية الذي تجسد في حرب الإبادة التي تشنها المستعمرة الاستيطانية الصهيونية على غزة بدعم أمريكي وغربي، وهي حرب تعكس حالة الفزع والقلق التي أصابت المشروع الغربي من انهيار عصر الأحادية القطبية الليبرالي، حيث السقوط الأخلاقي للغرب الإمبريالي والاستعمار الإسرائيلي بلغ مداه مع الدخول في حقبة أفول الأحادية القطبية، حيث تخلى الغرب عن الدفاع عن القيم العالمية كالديمقراطية وحقوق الإنسان، وانتهت الأحادية إلى الدفاع عن أسلوب حياة واحد ضد كل بديل، ففي النهاية يعود صعود عالم الدول الحضارية، إلى سبب جذري وهو انهيار مفهوم الحضارة العالمية، وهو مفهوم يكافئ مفهوم الهيمنة.
x.com/hasanabuhanya