الفنان والجنرال والحاجّة (2 -2)
تاريخ النشر: 11th, August 2024 GMT
الفنان والجنرال والحاجّة (2 -2)
The Artist, the general and the Hajjah (2-2)
Leila Aboulela ليلى أبو العلا
لقد وجدت أنه من الأسهل بالنسبة لي أن أتخيل شخصية تشالز غوردون في روايتي "روح النهر العتيق River spirit"، التي صدرت عام 2023م. وترسم الرواية خريطة تحول محوري للسودان من الحكم العثماني إلى أن وقع تحت سيطرة الإمبراطورية البريطانية.
لقد كان غوردون هو البطل الفيكتوري النموذجي، ولا عجب، فقد أفلح في قمع تمرد تايبينغ في الصين وأطلقت عليه الصحافة البريطانية حينها لقب "غوردون الصيني". ومثلت وفاته على يد قاتل مُهتاج، وقطع رأسه، قبل يومين فقط من وصول بعثة الإغاثة، صدمةً وطنية لبريطانيا أسالت مدامع الملكة فيكتوريا. ونُشِرَتْ لاحقاً يومياته على نطاق واسع، وصدرت عنه كتب لا تعد ولا تحصى. وفي ستينيات القرن العشرين، خلدت هوليود سيرته بفيلم حربي ملحمي اسمه "الخرطوم"، أدى فيه تشارلتون هيستون شخصيته، وقام لورانس أوليفر، بوجه أسود مستعار، بأداء دور عدوه السوداني!
وكنت في غضون سنوات المدرسة في السودان قد قرأت نسخة مختلفة من التاريخ، هي النسخة السودانية. وفي تلك النسخة نجد أن غوردون كان هو أسوأ عدو لنفسه. كان غوردون يرى أنه شخصية استثنائية ومتميزة، وتحدى السلطات وأرسل – وهو في حالة بائسة من الاضطراب الوُهَاميّ والإجهاد النفسي - للحكومة البريطانية كي تبعث له جيشاً لإنقاذه. وأدى موقفه ذاك إلى مقتل العديد من السودانيين. ولو أنه سلم الخرطوم عوضاً عن الصمود بأي ثمن، لكان سكانها قد نجوا من إراقة الكثير من الدماء.
وفي روايتي، لا يتحدث غوردون إلا في بداية ربعها الأخير. وهو يأتي متأخراً في الرواية لأن القصة – من وجهة نظر السودانيين –كانت قد بدأت منذ وقت طويل قبل قدومه للبلاد. فقد كانت الإمبراطورية العثمانية تحكم السودان عبر مصر إبان سنوات القرن التاسع عشر. وعاش السودانيون في تلك السنوات على حافة متوترة لإمبراطورية كانت في طريقها للانحدار والسقوط. وكانت لسنوات ذلك الحكم المستبد والضرائب الباهظة والاستغلال القاسي أثرها الكبير على المحكومين؛ فبدأوا يتوقعون تحقق نبوءة المهدي لتنقذهم من فظاعة أحوال حياتهم. وعندما ادعى رجل اسمه محمد أحمد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أخبره في المنام أنه المهدي، صدقه السودانيون. وأعلن محمد أحمد أن الناس لا يجب أن يدفعوا ضرائب لما وصفها بالحكومة "الكافرة"، وأن عليهم أن يثوروا ضدها.
وفي خلال بحثي أخذتني الدهشة عندما وجدت أن علماء الخرطوم - الذين كانوا يشغلون وظائف حكومية، ويدينون بالولاء للخلافة العثمانية – لم يسارعوا برفض وإدانة زعم محمد أحمد أنه هو المهدي. فقد كان هؤلاء العلماء قد تلقوا تعليمهم في جامعة مرموقة (الأزهر)، ومن المؤكد أنهم كان على دراية تامة بصفات المهدي المنتظر المذكورة في الأحاديث النبوية. غير أنهم رَأَوْا في البدء أن يستمعوا لما يقوله محمد أحمد، وأن يلتمسوا له الأعذار. ولما تبين لهم لاحقاً بأن صفات المهدي لا تنطبق عليه قاموا (ومعهم الأزهر) بإصدار الفتاوى والمنشورات التي تفيد بعدم صدق دعواه. والتزمت القبائل في شمال السودان بتلك الفتاوى وساندت الحكومة. وكذلك فعل شيوخ ورجال الطرق الصوفية التي كان محمد أحمد قد أمر بإبطالها، وبتعطيل العمل بالمذاهب الإسلامية الأربعة!
لقد كان التمرد المهدوي قد بدأ كحركة دينية تشجب عالماً في طريقه للزوال. وكان أنصاره يرتدون الملابس المرقعة ويعيشون حياةً في غاية التقشف. ولم يكن في أيديهم من الأسلحة إلا الحراب وبعض أدوات الزراعة، إلا أنهم تمكنوا – رغم ذلك – من هزيمة الجنود النظاميين الذين بعثت بهم الحكومة لقتالهم. وذاعت أنباء تلك الانتصارات المعجزة في جميع أرجاء السودان، وأتخذها الناس دليلاً على صدق دعوة مهدية محمد أحمد. ومع توالي انتصاراته في كل المعارك العسكرية ضد الحكومة تزايد تأييد القبائل لدعوته، وصارت حركته ثورة شعبية ضد الحكم الأجنبي شملت كل البلاد. وغدت المكاسب الدنيوية والسلطة السياسة جزءاً من دوافع القتال. وبدأ المهدي في قتال القبائل السودانية التي عارضت دعوته وأَبَتْ الانضمام لجيشه. وأُرْغِمَ كل فرد سوداني على إعلان الولاء للدعوة المهدية، وكان كل من يرفض ذلك يُعْتَبَرُ كافراً. وفي مرحلة ما، كان عقد زواج من يأبى القبول بدعوة محمد أحمد، أو يحارب في صفوف جيش الحكومة يُفْسَخُ، ويطلق من زوجته.
وفي تلك الأثناء، غزت بريطانيا مصر التي كانت تحكم السودان بحسبانه إِقليما فرعيا تابعاً لها. وكانت تلك هي السنوات التي ظهر في غضونها غوردون في المشهد. وعلى الرغم من أن خديوي مصر هو من كان قد عين غوردون، إلا أنه كان يتلقى أوامره من لندن مباشرة. وعندما وصل غوردون للخرطوم، كان المهدي قد أفلح في إحكام سيطرته على غرب البلاد. وكانت الأوامر التي تلقاها غوردون تتلخص في إجلاء كل الحاميات المصرية في الخرطوم؛ بينما كانت الصحافة البريطانية المُتَهَيِّجة تحثه على "سحق" المهدي وجنوده. غير أن ما حدث بالفعل هو أن المهدي نجح في محاصرة الخرطوم، وحينها شرع غوردون في إرسال طلبات استغاثة وإنقاذ ممن بعثوا به للسودان. وكان الرأي العام البريطاني يؤيد غوردون في طلبه، وأخيراً، وتحت ضغط قوي، نظمت الحكومة البريطانية حملةً عسكرية بعثت بها للخرطوم، لكنها بلغت مشارف الخرطوم متأخرة، بعد يومين كاملين من سيطرة المهدي على الخرطوم واغتيال غوردون.
وأُلْقِيَ باللوم على غلاديستون رئيس الوزراء البريطاني لتباطئه في إرسال حملة الإنقاذ تلك، وهو الأمر الذي أفضى لإسقاط حكومة الحزب الليبرالي. لا ريب أن غوردون كان قد استحوذ على خيال عامة البريطانيين. وفي غضون الأربعة عشر سنةً التالية، ظل السودان دولة مستقلة تحت حكم المهدية (وكان حكماً مُمَاثِلا لتنظيم داعش أو بوكو حرام)، وظهرت الرغبة في الانتقام لغوردون. واُسْتُغِلَّ مقتله من أجل توسيع النفوذ البريطاني في أفريقيا. وأُشِيدَ به بحسبانه بطلاً، مما ألهم العديد من الشباب للقتال من أجل ما أسموه "استعادة السودان". وقد نسي الجميع بيسر شديد أن غوردون كلن قد عصى الأوامر التي أصدرت له ابتداءً، وعوضاً عن إخلاء الحاميات كما أُمر، آثر الصمود بعناد شديد. وكان من الممكن إنقاذ حياة الكثير من السودانيين وحقن دمائهم إن كان غوردون قد سلم الخرطوم للمهدي.
ترددت كثيرا في الكتابة عن غوردون، دعك من الكتابة عن وجهة نظره. فالرجل في نظري هو رجل إمبريالي شديد العنصرية. فقد ذكر في يومياته مثلاً أن كل النساء السوداوات هن عاهرات. وكان البحث في سيرة حياته يماثل الخوض في نهر من الدعاية والأكاذيب. لقد وجدت في سيرته الكثير من المواد التي تحاشيت التأثر بها وأنا أكتب عنه! لذا بدأت في روايتي بتناول شخصيات سودانية، وسردت وجهة النظر السودانية قبل أن أسمح لغوردون بالحديث في الفصل التاسع عشر. وكما استخدمت في الرواية الاسم الأول لكل شخصية، عنونت فصله في الرواية "تشالز" وليس غوردون. كان هذا بمثابة تغيير بسيط، إلا أنه حرر شيئاً في دواخلي. فاسم "غوردون" اسم مُثْقَلٌ بالكثير، وقيل وكتب عنه الكثير جداً. واسم "تشالز" أشد تواضعا. يمكنني الكتابة عن شخص اسمه تشالز. وكذلك استخدمت، لأول مرة في حياتي الروائية ضمائر الشخص الثاني "مثل أنت، لك، لك، نفسك، أنفسكم" في ذلك الفصل التاسع عشر، وبدأته بـ :
"تعجبك طريقتهم في نطق اسمك: يغيرون حرف الـقاف G إلى حرف الغين Gh الحُلقُومِيّ، ويطيلون المقطع الثاني حتى يبدو وكأنه نطق أسكتلندي. يقولون: غردوون، غردوون باشا. ولقب "باشا" هو لقب تركي. وكذلك النياشين العثمانية والنيشان المجيدي. وأنت لا تمانع في نيل التشريفات، فهي توافق طبيعتك تماما، وتنصف انجازاتك. جنرال حاصل على وسام باث، ووسام التنين، ووسام جوقة الشرف، والسترة الصفراء الإمبراطورية. ما تتجنبه تماماً هو الجوائز المالية. أنت تمقت اقتناء الثروة، والجدل الدائم حول الرواتب والمزايا. هذا من باب الحذلقة، بينما أنت تعجبك الحماسة. وتحترم أعداءك، أولئك المتعصبين الذين يقودهم المهدي، الدراويش الذين يلقون بأنفسهم في أتون المعارك وكأن الموت لن يمسهم. ليتك كنت أنت من يقودهم".
وغزا البريطانيون والمصريون السودان عام 1898م. وكانت المعركة الحاسمة في أم درمان (التي كان ونستون شيرشل قد شهدها) معركة وحشية بصورة خاصة، قُتل فيها آلاف السودانيين. واستخدم البريطانيون في تلك المعركة أقوى مدفعيتهم، وقصفوا بها قبة المهدي. ومن باب الانتقام لغوردون، نبشوا قبر المهدي وأخذوا جمجمته ووضعوها في سائل حافظ، ورموا بعظامه في نهر النيل. وظل غوردون رمزاً لكل ما هو صحيح عن الإمبريالية. وبقيت ذكراه تلهم الجنود وطلاب المدارس والمبشرين والمستوطنين الكلولونيالين. وأقاموا له تماثيل عند جسر لندن، وفي تشاتام وجريفشام، وبنوا له نصباً تذكارياً في ساوثهامتون.
وإن قمت من مكتبي الآن وقدت سيارتي لعشر دقائق، فسأصل إلى تمثال برونزي لغوردون في منتصف ميدان عام في وسط أبردين. تمثال غوردون المحلي الخاص بي! أصبت بصدمة في أول مرة أرى فيها ذلك التمثال، عندما جئت لهذه المدينة في التسعينيات. وكلمة "الخرطوم" منقوشة تحت ذلك التمثال. لم أتمالك من أن أشعر بسعادة غامرة بسبب ارتباطي بتلك المدينة عندما كنت في أول ثلاث وعشرين سنة من حياتي. هنا، بطريقة ما، يوجد تأكيد لهويتي، وإثبات لتاريخ مشترك. كان غوردون هناك، وأنا الآن هنا. الجامعة التي تخرجت فيها، جامعة الخرطوم، كانت في يوم من الأيام كلية غوردون التذكارية. وكان القصر الذي مات فيه لا يبعد سوى أميال قليلة من المكان الذي نشأت فيه. وكان النيل الأزرق الذي كان يحدق فيه كل يوم هو ذات النهر الذي سقي أجدادي لأجيال متعاقبة. عرفت تاريخه، وعرفت قصته، وهذه المعرفة - رغم كل العوائق- هي التي مكنتني من الكتابة عنه.
"كل يوم، تنظر عبر منظارك، وتنتظر مرأى البدلات العسكرية الحمراء، ورفرفة العلم البريطاني. كنت قد قدرت أن نهايات شهر نوفمبر هي موعد وصول حملة الإنقاذ، فالخرطوم لن تطيق الصبر على الحصار أكثر من ذلك. فما لديها من طعام وذخائر سينتهي مع نهاية شهر نوفمبر. وإلا فإن "اللعبة انتهت... ووداعا لحكم بريطانيا". ولكن ها أنت ذا، بعد مضي أسابيع على ذلك التاريخ، ولو بالقليل. نحلت أجساد الجنود فصارت عظاما وجلودا، كسالى يكاد الواحد منهم ينام وهو واقف، وهلك الكثير من الناس بسبب سوء التغذية. وامتلأت شوارع المدينة بالجثث، وصرت تدفع عشرين قرشاً لمن يقبل بدفن أحد الأموات. المدينة تتعرض للقصف ليل نهار. وتقع بعض تلك القذائف في النيل، تخدش المباني، وتقتل الأطفال والخيول. وتحطم القذائف نوافذ القصر الذي تصر أنت على ضرورة بقائه مُضَاءً طوال الليل، بالمصابيح والشموع، الكثير من الشموع، تصد بها قرع طبول الحرب. غردوون. دوون، دوون. تُقرع الطبول من أجلك، ولك وحدك. يقضون مضجعك كل ليلة، يغزون أعصابك، ويشيبون شعر رأسك.
شَابَ شعر رأسك الآن. أبيض كله. تلاحظ ذلك أثناء الحلاقة. تلاحظ أيضاً أن يدك لا ترتجف. لست خائفاً. يخافك الآخرون. أقام المهدي الآن معسكره على الجهة المقابلة من النهر، وهو يتردد في الهجوم عليك، حتى بعد أن علم بالأوضاع المتردية بالمدينة. ترتجف أيدي ضباطك وهم يوقدون لفافات التبغ في حضرتك. رجال كبار في السن والمقام يتلعثمون أمام غردوون. غردوون الذي لا يهاب الموت".
********* ********* ***********
لم يكن غوردون هو الشخصية الوحيدة في رواية "روح النهر العتيق". لقد أدى عدد كبير وغير متناسب من الأسكتلنديين دوراً في الادارة الكلولونيالية بالسودان. لذا لم يكن لدي أدنى تحفظ على أن أتناول رجلاً أسكتلندياً آخر في روايتي هو المهندس روبرت، الذي كانت مهنته الحقيقية هي الفن التشكيلي. وفي بداية تفكيري في الرواية كنت أرغب في أن أضمن الرواية شاباً أسكتلنديا من أدنبرا كان مغرما بطرق المعمار التقليدية في السودان وهو تحت الحكم الكلولونيالي. وكان يرسم لوحات فنية للنيل، وشرع في ارتداء زي الأهالي. وذات مرة رسم روبرت زوجة زعيم قبلي، ولما اُكْتُشِفَتْ تلك الرسومات عرض ذلك الفعل مهنته وسلامته للخطر. غير أنني عدلت في النهاية عن تلك الفكرة الأصلية. وغدت المرأة السودانية في كتاب رسومات ذلك الفنان هي الموضوع الأهم، ولم يعد الرسام هو الشخصية الرئيسة.
ومع مواصلتي في الكتابة، غدا روبرت أكثر طماحاً، وبشكل لا يعرف الرحمة. فقد استرق شابة سودانية وجعلها "موديلاً" له يرسمها كيف ما أراد.
"رآها مرة أخرى. تلك البنت التي كان قد شاهدها قبل نحو ستة أشهر مضت، وكاد أن يشتريها، لكنه عدل عن ذلك في آخر لحظة، لشعوره بأن ذلك فعل لا يتناسب مع مستواه الاجتماعي. كان كثيراً ما يعود لتأمل الرسومات التي رسمها لها في ذلك اليوم. جمالها المميز الخاص لن يبرزه بحق إلا الرسم بالألوان الزيتية، خاصة بشرتها السوداء التي تشوبها زرقة، والتي تتباين مع قطعة القماش الأبيض على كتفها. ليس الأبيض فقط، بل أي لون آخر سوف يصدح إزاء لون بشرتها. عيناها المتأملتان –فيهما شوق عظيم حين أشاحت لتنظر إلى النهر. وبعودته لبيته خطرت بباله فكرة عبقرية: يمكنه أن يعتقها بمجرد فراغه منها. سوف يهدئ ذلك ضميره المتعب".
وفي أثناء محاولتي لبناء شخصية روبرت في الرواية، بدأت في البحث عن الفنانين الأسكتلنديين، واستقر رأيي على اختيار ديفيد روبرتس، ذلك الرسام المستشرق المشهور. لذا، منذ البداية، لم أكن أرغب في إدخال شخصية ديفيد روبرتس في الرواية، بل كنت أستخدم حياته لبناء شخصية كانت بالفعل جزءًا من مخيلتي. كنت على علم بأعمال ديفيد روبرتس منذ سنوات. عندما كان زوجي طالباً بالقاهرة في الثمانينات، اشترى تقويماً من الصخور الحجرية المصرية من تصميم ديفيد روبرتس. واحتفظ بذلك التقويم بعد ذلك لفترة طويلة، وقد أذهلتني حقاً تلك الصور. المعابد الضخمة في الصحراء مع عدد قليل من الأشخاص الصغار بجانبها. أهرامات الجيزة الرملية المشمسة. مناظر رومانسية لمراكب تبحر في النيل عند غروب الشمس. وعندما توفيت حماتي، وجدنا من بين مقتنياتها كتابا (من النوع الذي يوضع على طاولة القهوة) عنوانه: "مصر – الأمس واليوم" من تأليف ديفيد روبرتس. ويحوي ذلك الكتاب صفحات كثيرة لرسوماته في وادي النيل التي أنجزها بأسلوبه المميز الذي لا تخطئه العين، والتي استلهمها من تَسفاره بمصر فِي إِبَّانِ منتصف القرن التاسع عشر. وعلمت أيضاً أن ديفيد روبرتس هو من مواليد مدينة أدنبرا. لقد كان واحداً من أشهر الفنانين الأسكتلنديين في عصره الذين قاموا برسم العديد من اللوحات عن جزئي في هذا العالم. وكنت بالفعل منفعلة ومتأثرة بتلك الصلة.
لم يكتف ديفيد روبرتس برسم المواقع الأثرية فقط، بل كانت أفضل أعماله الفنية هي رسومات للشوارع الفخمة المزدحمة، والجوامع الشديدة الفخامة، والأسواق، والفتيات المسترقات. كان هذا هو بالطبع الشرق الغريب المُذهِل - معبد الكرنك، والمسلة وأبو الهول. وعلى الرغم من أني كنت أعلم أن تلك كانت صوراً مثالية وليست "حقيقية" تماماً، إلا أنني وقعت مستسلمةً تحت تأثير سحر رؤيته الاستشراقية. ولدي الآن في رُوَاق بيتي بأبردين أربع لوحات حجرية لديفيد روبرتس، رسم فيها المآذن وواجهات الجوامع بكل ما فيها من تفاصيل معمارية بديعة ومتميزة. وكانت النساء في تلك اللوحات يرتدين أَخْمِرَةً كالتي كانت جدة جدتي ترتديها. وفي لوحته المعنونة "بازار تجار الحرير" ترى أكواماً من البضائع والمتسوقين والمتسوقات يختلطون جميعاً تحت مبانٍ خشبية معقدة ونوافذ شبكية.
وفي كتاب عن سيرته نشرته كاثرين سيم، وصفت طفولة ديفيد روبرتس بمصطلحات ديكنزية (Dickensian). كان ديفيد روبرتس قد ولد عام 1796م في "ويست كيرك"، وعاشت عائلته في غرف ضيقة في الطابق السفلي من أحد المساكن المؤجرة. وتُوُفِّيَ اثنان من أشقائه في سن مبكرة. كان والده يعمل إِسْكافِيّاً، بينما كانت والدته تمتهن غسل الملابس لزيادة دخل العائلة. ولم تستطع الأسرة الاستمرار في تحمل تكاليف مدرسة ديفيد، ففي سن العاشرة، بُعِثَ به لرجل يعمل في مهنة طلاء المنازل ليتعلم منه ويتدرب على يديه. وفي سن المراهقة عمل في السيرك رساماً للمشاهد، ثم انضم إلى جوقة من لاعبي السيرك المتجولين. ثم واصل تصميم ورسم المناظر المسرحية في مسرح أدنبرا الملكي، ومسرح غلاسكو الملكي، وانتقل في أواخر العشرينيات من عمره للعمل في مسرح دروري لين بلندن. كان لرسم المناظر الطبيعية الكاملة وترتيب المسرح تأثير كبير على ما رسمه ديفيد لاحقاً من لوحات للشرق الأوسط.
ولم يسافر ديفيد روبرتس بعيداً لزيارة جنوب السودان قط. وعوضاً عن ذلك سافر من مصر مباشرةً إلى سوريا وفلسطين. وفيهما أكمل أشهر كتبه: "الأرض المقدسة وسوريا وإدوم (حالياً منطقة بين الأردن وفلسطين) وشبه الجزيرة العربية". وأنتج الرجل في غضون سنوات رحلته الطويلة تلك العديد من الرسومات واللوحات المائية. وعند عودته لأسكتلندا استخدم تلك الرسومات بحسبانها أساساً لأعماله في مجالي الرسم والتلوين والطباعة الحجرية. وأُنْتِجَتْ هذه المطبوعات الحجرية بكميات كبيرة وبيعت للجمهور من خلال نظام الاشتراك. ظهر ديفيد روبرتس قبل شيوع التصوير الفوتوغرافي على نطاق واسع، وفي وقت كان هناك فيه اهتمام كبير بأراضي الكتاب المقدس. وسرعان ما اكتسب ذلك الفنان مشتركين كثر، كانت من بينهم الملكة الشابة فيكتوريا. وتتضمن المجموعة الملكية اليوم مجموعتها الكاملة من أعماله الفنية.
كان أكثر ما شدني كثيراً في أعمال ديفيد روبرتس، أن أحجام الأشخاص كانت صغيرة ولا تتناسب مع أحجام المباني. وكان من الجلي أن الرجل مفتون أكثر بالمناظر الطبيعية والآثار، وهو ما ظهر أيضاً في مذكراته. وكان مبهوراً بغروب الشمس فوق التلال، والمراكب على النيل بأشرعتها البيضاء، بأكثر من انبهاره بالبشر الذين لم تكن لديه المهارات اللغوية للتواصل معهم. وكان الاستثناء من ذلك نساء النوبة، والفتيات الراقصات الرشيقات اللواتي كن يملئن جَرَّات الماء عند النهر. وبعد وفاته، حظرت بنته "المتحفظة شَدِيدة الاحْتِشام" كريستين مثل تلك المقاطع الفنية المتحمسة بحسبانها أعمالاً "فاسقة" للغاية بحيث لا يمكن نشرها للعامة.
وكانت مارجريت والدة كريستين مدمنةً على الكحول. وكان سلوكها مصدر تعاسة دائمة لروبرت، خاصة عندما تتشاجر مع والدي روبرت، وعندما تضغط عليه كي يمنحها المزيد من المال. وكانت محاولاته للابتعاد عن مارجريت والبقاء بالقرب من كريستين بمثابة معاناة استمرت لزمن طويل. وحتى بعد أن ابتعد روبرت عن زوجه لسنوات، ظل يداوم على التهرب منها بالترحال المستمر، ويصفها بأنها "الوحش الأنثوي ذات الوجه الوقح "، حين كان عليه أن يسدد ديونها المتراكمة.
وعلى الرغم من كل تلك الصعاب، إلا أن شهرة ديفيد روبرتس ذاعت في الآفاق بحسبانه من أهم الرسامين المستشرقين في عصره. وكان من كبار معجبيه الفنان تيرنر والروائي ثاكري. لقد كان فناناً مجدا، يتمتع بالموهبة والطموح – واستعرت في روايتي تلك الخصال لبناء شخصية روبرت في الرواية وهو يجهد نفسه لينتج بعض الأعمال الفنية في السودان. ووضعت اسمه (ديفيد روبرتس) في هذه الفقرة في الرواية:
"... وهو راضٍ عما أنجزه، مما جعله متحمساً لما يمكنه القيام به. مجموعة من الأعمال فيها ما يفوق السحر. أعمال بجودة أعمال مجموعة "أولاد جلاسجو the Glasgow Boys" – أبناء كبار رجالات شركات الشحن الذين يسهل عليهم تحمل تكاليف الدراسة في باريس، والتسجيل في مشاغل الرسم، وأبناء رجال الدين ممن يحظون بدعمٍ مالي كبير. كان كل التعليم الرسمي الذي ناله روبرت في اسكوتلندا هو من مدرسة فنية، مخصصة للعمال غير القادرين على الدراسة بدوام كامل. وكان يستيقظ كل صباح قبيل شروق الشمس - عدا يوم الأحد – ليحضر الدروس في تلك المدرسة، قبل أن يذهب للعمل بدوام كامل في شركة توكيل سفن الشحن. وكان يأمل أن تعلق ذات يوم اللوحة الزيتية التي رسمها للبنت - أكواني أو زمزم، وكانوا قد ذكروا له اسميها ـ ولم تستجب لأي واحد منهما – في متحف فني، وتنال ما نالته لوحة جان ليون جيروم المسماة "باشبزوق". لوحته ليست بنفس الفخامة، ولكنها بالتأكيد أقوى وأوضح، ورائعة بطريقتها الخاصة. تصوّره للوحة كان واضحاً لدرجة أنه يكاد يلمسها بيده؛ وكان واثقاً من أن بإمكانه تنفيذ تلك الفكرة العسيرة بمجرد عودته لبيته، وحصوله على الفراغ والمواد اللازمة لرسم لوحة زيتية. وفي الوقت الحالي تضاهي موضوعات لوحاته وأسلوبه الفني موضوعات وتقنيات ديفيد روبرتس، ويمكن مقارنة لوحاته بالألوان المائية بلوحات آرثر ميلفيل. وبإمكانه أن يزعم أن أوين جونز كان سيجيز لوحاته لو كان ما يزال على قيد الحياة. وفي غضون عام سيترك بصمته في عالم الرسم الأسكتلندي. وسيظهر اسمه في فهارس الفنانين. وسيكون اسمه من ضمن الرسامين الذين أنجزوا أعمالا فنية عن الشرق. وسيكون له مرسمه الخاص. وستباع كل لوحة من لوحاته بثلاثين جنيهاً، أو أربعين أو ربما ستين. لن يكون بحاجة ليعمل في السفن مرة أخرى".
لقد حقق ديفيد روبرتس حلم فنان يُعد من "الدخلاء" بانضمامه للدائرة الداخلية. ففي عام 1841م اُنْتُخِبَ لعضوية "الأكاديمية الملكية"، ومُنِحَ جائزة "معرض باريس الدولي"، ونال لاحقاً جائزة احتفالية هي "حرية مدينة أدنبرا". وصار الطفل الذي لم تكن لديه الكثير من الفرص ليغدو أحد شخصيات المؤسسة في إسكتلندا. وسيعده التاريخ واحداً من أوائل الفنانين البريطانيين الذين ساهموا في تفسير الشرق الأوسط وفهمه.
لقد كانت المناطق التي سافر فيها ديفيد روبرتس ورسم بها العديد من اللوحات هي جزء من الإمبراطورية العثمانية الهرمة. وبعد عقود قليلة ستسيطر بريطانيا على كل تلك المناطق. ومن الممكن جداً أن يكون غالب الجنود والرحالة والمبشرين والإداريين الذين أدوا أدواراً في الإمبراطورية البريطانية قد أتوا لتلك المناطق وفي أذهانهم توقعات مبنية على الأعمال الفنية التي أنجزها ذلك الفنان. وكان من بين أولئك الرحالة الجنرال غوردون، وكذلك الليدي ايفيلين كوبوولد. وربما يكونا قد أطلعا على أعمال روبرتس.
********** ********** ************
ديفيد روبرتس (1786 – 1864م) وشارلز غوردون (1833 – 1885م) والليدي ايفيلين كوبوولد (1867 – 1963م).
أولئك هم ثلاث شخصيات إسكتلندية قضوا زمنا طويلا في العالم الإسلامي، وأخذوا وأعطوا وتبادلوا التنازلات مع سكانه بنسب متفاوتة. كان روبرتس والليدي ايفيلين في غاية التصالح مع هويتهما الأسكتلندية، ولكنهما كانا من طبقتين مختلفتين. أما غوردون فهو ينحدر من أسرة عمل أفرادها لأجيال عديدة في الجيش البريطاني. وقد وُلد في إنجلترا ولم يعش إلا قليلاً جدا في اسكتلندا. وكانت صورته العامة بين الناس تذهب إلى أنه ضابط جيش إنجليزي. وكان غوردون وروبرتس – بحسبانهما من الذكرَان - يتمتعان بقدر أكبر من الحرية والقوة مقارنة بالليدي ايفيلين التي - على الرغم من كونها سيدة مغامرة - كانت تعوقها تقاليد المجتمع والأمومة. ومن خلال تحولها للإسلام تغلغلت بشكل أعمق في العالم الإسلامي، رأت ما لم يره روبرتس وغوردون قط – الكعبة الشريفة في مكة، ومسجد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة. وكانت الليدي ايفيلين وغوردون في مستوى اجتماعي متقارب، غير أن الليدي ايفيلين ككاتبة، ربما كانت مرتبطة بشكل فكري أكثر بالفنان ديفيد روبرتس. وتداخلت حَيَوات الشخصيات الثلاث، ولكن على حد علمي، لم يلتق أحد منهم بالآخر قط. وليس من المستبعد أن يكون روبرتس في السنوات الأخيرة من حياته قد قرأ في الصحف عن نجاحات الشاب غوردون المتميزة في الصين. وكان غوردون، كرجل مسيحي متدين، مهتماً برسومات روبرتس الحجرية للأراضي المقدسة. وكانت الليدي ايفيلين في الثامنة عشرة من عمرها عندما اُغْتِيلَ غوردون بالخرطوم. وكانت تعيش في القاهرة مع والدها، وتختلط بالشخصيات الكلولونيالية البريطانية، وكانت مفتونة بسماع الآذان، وتتابع الأخبار الدرامية عن حصار الخرطوم وأيام غوردون الأخيرة. وعندما زارت أهرامات الجيزة وأبو الهول لأول مرة، أتخيلها تقارن الواقع بالطباعة الحجرية لديفيد روبرتس لذات المشهد.
أعتقد أن اسكتلندا، تلك الأمة التي أنجبت أولئك الأفذاذ الثلاثة المتميزين، هي التي وهبتهم صفات الوقار والجدية والوعي بالمنظور الهامشي، والرغبة في الفهم (وإن لم يكن دوماً بشكل كامل)، والعزم والتصميم على الرؤية (وإن لم تكن دوماً واضحة). لم يكن روبرتس وغوردون وكوبوولد مجرد انتهازيين. كانت تجمع بينهم صفات النزاهة والعمق، والرغبة في التفوق في المجال الذي اختاره كل واحد منهم لنفسه، بالإضافة إلى الرغبة الملحة في الانخراط بشكل كامل مع محيطهم.
لقد خبرت الأمة الأسكتلندية من قبل المقاومة والمعارضة. وقامت سياستها الثقافية دوماً على التنوير ومعارضة الإمبريالية. غير أن هذا لم يمنع أفرادها من المشاركة في أداء دور نشط في الإمبراطورية البريطانية. لقد جاء روبرتس وغوردون لشمال أفريقيا بحسبانهما من البيض المنتمين للطبقة الكلولونيالية، والمشبعين بكل قيم العهد الفيكتوري وتحيزاته المسبقة. وكانت الليدي ايفيلين ذات أصل ارستقراطي عريق؛ بينما كانت أعمال ديفيد روبرتس الفنية عن الشرق قد مهدت الطريق للسيطرة والهيمنة الأوروبية. وهاجم غوردون بضراوة في يومياته غلاديستون رئيس الوزراء الليبرالي الذي وقف في البرلمان وأعلن أن للسودانيين الحق في الحرية. ويوضح مدى إرث الرحالة الثلاثة مساهمة اسكتلندا في الإمبراطورية البريطانية، وهي علاقة متواطئة لا يمكن إنكارها.
alibadreldin@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الإمبراطوریة البریطانیة على الرغم من الکتابة عن فی الروایة التاسع عشر الکثیر من محمد أحمد العدید من غوردون فی فی روایتی التی کان لقد کان فی غضون وکان من کان من ما کان فی تلک إلا أن لم یکن غیر أن
إقرأ أيضاً:
رضا عبدالعال: ناصر منسي أفضل من أسامة فيصل وكان يستحق الانضمام للمنتخب
أكد رضا عبدالعال محلل برنامج "البريمو" أن ناصر منسي مهاجم الفريق الأول لكرة القدم بالنادي الزمالك كان يستحق الانضمام لمنتخب مصر قبل مباراتي بوتسوانا وكاب فيردي في تصفيات كأس الأمم الإفريقية.
وقال رضا عبدالعال محلل برنامج "البريمو" على قناة "تن" مع الإعلامي محمد فاروق:" أسامة فيصل لم يكن موفقاً في مباراة منتخب مصر وبوتسوانا وكان يجب عدم مشاركته في المباراة من الأساس لأنه لم يقدم الاداء المنتظر منه حتى الأن مع حسام حسن".
وأضاف:"من وجهة نظري أن ناصر منسي أفضل من أسامة فيصل وكان يستحق الانضمام للمنتخب".