يُعتبر البحر الأحمر عمقًا إستراتيجيًا مهمًا للبلدان المطلة عليه، ويستمدّ أهميته من موقعه الجغرافي الذي يتيح للقوى الإقليمية والدولية الوصول إلى المحيط الهندي، والبحر الأبيض المتوسط. كما يبرز دوره في ثلاث دوائر أمنية: الأمن القومي العربي، الأمن الأفريقي، والأمن العالمي.

من هنا، يمثّل استقرار هذه المنطقة أمرًا حيويًا لرفاهية وتنمية شعوبها، إذ إن أي تهديد لها يؤثر بشكل مباشر على التجارة الدولية؛ حيث يعبر البحر الأحمر حوالي 12% من التجارة العالمية، و20% من إجمالي شحن الحاويات سنويًا.

عدم الاستقرار في هذا الممر الحيوي يشكل تهديدًا للأمن والسلم الدوليين. لذلك، يتطلب تحقيق الاستقرار التزامًا طويل الأمد من جميع الأطراف ذات المصلحة لمعالجة الأسباب الجذرية التي جعلت من المنطقة مسرحًا للتنافس الجيوسياسي.

التركيز على الأمن والاستقرار في منطقة البحر الأحمر، يعد مدخلًا مهمًا لتعزيز الحريات على المستويين: الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي تقوية فرص مواجهة التحديات الناتجة عن التنافس الجيوسياسي. هذا التوجّه يتماشى مع ما طرحه أمارتيا سين في كتابه: "التنمية حرية" (Amartya Sen, "Development as Freedom")، حيث يركّز على أن التنمية لا ينبغي أن تُعتبر مجردَ نمو اقتصادي، بل توسيعًا للحريات الإنسانية، وهو ما يمثل حجر الزاوية الذي يمكن البناء عليه لدعم التقدم والرفاه الاجتماعي لشعوب المنطقة، خاصة في ظل التعقيد السياسي والأمني الناتج عن التنافس الجيوسياسي في منطقة القرن الأفريقي.

خصائص مشتركة

العلاقة بين منطقتي البحر الأحمر والقرن الأفريقي تتسم بنوع من الاعتمادية المتبادلة، مما يعني أن ما يحدث على الضفة الشرقية للبحر الأحمر (الخليج العربي)، يؤثر على ما يحدث في الضفة الغربية منه (القرن الأفريقي). يتجلى هذا الارتباط الإستراتيجي في أربع زوايا رئيسية:

الممرات البحرية الحاكمة: مضيق باب المندب، الذي يقع بين اليمن في شبه الجزيرة العربية وجيبوتي وإريتريا في القرن الأفريقي، يُعتبر نقطة وصل بحرية بالغة الأهمية، حيث يربط البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندي، مما يجعله ممرًا حيويًا للتجارة العالمية، خاصة لشحنات النفط من الخليج العربي. الأهمية الاقتصادية: كما سبق الإشارة، يُعدّ البحر الأحمر طريقًا تجاريًا مهمًا للسلع وموارد الطاقة المتدفقة بين أوروبا وآسيا وأفريقيا. وفي هذا السياق، يُعتبر القرن الأفريقي بوابة لهذه الأسواق، حيث تلعب موانئ جيبوتي وبربرة في الصومال دورًا مهمًا في تسهيل التجارة. إضافة إلى ذلك، تتمتع المنطقتان بموارد طبيعية كبيرة غير مستغلة، مثل: النفط والغاز والمعادن، مما يفتح الباب للتنافس الجيوسياسي وظهور بعض التحديات الأمنية. المخاوف الأمنية: تشترك منطقتا البحر الأحمر والقرن الأفريقي في تحديات أمنية بسبب القرصنة، التي تشكل تهديدًا للملاحة البحرية. يُعتبر خليج عدن من النقاط التي تشهد نشاطًا متزايدًا للقرصنة والجريمة البحرية، مما يهدد الشحن والتجارة. إلى جانب ذلك، فإن الإرهاب والتطرف الذي تمثله حركة الشباب في الصومال وغيرها من المنظمات المتطرفة، بالإضافة إلى التغير المناخي الذي يفاقم الصراعات ويخلق مخاطر أمنية تفوق قدرة دول المنطقة على مواجهتها، كل ذلك يفتح الباب للتدخلات الخارجية، وزيادة حدة التنافس الجيوسياسي. دواعي التنافس

ساهمت الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر في جذب اهتمام القوى الإقليمية والدولية للسعي لبسط النفوذ والسيطرة. ففي حين تسعى بعض الأطراف الإقليمية إلى حماية مصالحها من خلال إقامة التحالفات والسعي للتأثير على الأوضاع الداخلية لبعض دول المنطقة، وخاصة تلك المطلة على الضفة الغربية للبحر الأحمر، فإن قوى دولية من خارج الإقليم، مثل: الولايات المتحدة والصين وروسيا، تسعى بدورها لتعزيز وجودها العسكري لأسباب مختلفة.

تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها العالمية، وضمان حرية الملاحة، بالإضافة إلى مواجهة نفوذ القوى المنافسة. أمّا الصين، من خلال مبادرة الحزام والطريق، فتسعى إلى توسيع نفوذِها الاقتصادي عبر الاستثمار في البنية التحتية للموانئ وإنشاء الطرق التجارية، وقد أسست أول قاعدة عسكرية لها خارج الصين في جيبوتي في أغسطس/آب 2017.

في المقابل، تسعى روسيا إلى تأكيد عودتها كقوة كبرى، ساعية لإيجاد موطئ قدم لها في المياه الدافئة، وخاصة في ميناء بورتسودان في السودان. هذا المشهد الجيوسياسي يدفع إلى طرح أسئلة حول الجدوى الأمنية والإستراتيجية من عسكرة مياه البحر الأحمر، ومدى نجاح المقاربات الأمنية والتحالفات القُطرية في تحقيق مصالح الأطراف المتنافسة، وما هي الانعكاسات الأمنية والإستراتيجية لهذا التنافس على الأمن الإقليمي والدولي.

خطأ المقاربات

أسهمت المقاربات الأمنية الخاطئة التي اعتمدتها القوى المتنافسة في زيادة هشاشة بعض دول الإقليم، مما أدّى إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي، الذي بدوره أسهم في خلق تحديات سياسية واقتصادية وأمنية أثرت سلبًا على أمن البحر الأحمر، ومنطقة القرن الأفريقي. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك:

اليمن: قادت الحرب في اليمن منذ عام 2015 بعض الأطراف الإقليمية إلى عسكرة العديد من الموانئ على الشواطئ الأفريقية، خاصة تلك الموجودة على الضفة الغربية للبحر الأحمر. نتج عن ذلك زيادة العبء الأمني وتوسيع دائرة التصادمات العسكرية، مما هدد الملاحة في باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية في العالم، والذي يمر عبره معظم صادرات النفط والغاز الطبيعي من الخليج العربي. بلغ عدد السفن التي تمر من خلاله أكثر من 21 ألف سفينة سنويًا، بما يعادل 57 سفينة يوميًا. أدت هذه المقاربات الأمنية إلى زيادة حدة التنافس الجيوسياسي وتفكيك الدولة اليمنية، مما شكل تهديدًا للأمن والاستقرار في المنطقة. الصومال: تأثرت الصومال بشكل كبير بالتنافس الجيوسياسيّ، حيث ركزت القوى الإقليمية والدولية على التعامل مع الملف الصومالي كمعضلة أمنية، مما أدى إلى تبنّي مقاربات أمنية خاطئة أهملت جذور المشكلة. ونتيجة لذلك، أصبحت الصومال الدولة الأكثر هشاشة في القرن الأفريقي، مما شكّل تهديدًا لأمن البحر الأحمر والمنطقة بأسرها. السودان: خلق التغيير السياسي الذي شهدته السودان في عام 2019 حالة من الهشاشة الأمنية، مما أدى إلى اندلاع حرب في أبريل/نيسان 2023. ونتج عن قصور المقاربات الأمنية المعتمدة من بعض دول الإقليم، مدعومة بالقوى الخارجية، تفكيك الدولة السودانية على نحو يشبه ما حدث في الصومال واليمن. ويؤثر انهيار الدولة في السودان بشكل خطير على أمن البحر الأحمر، حيث يمتدّ ساحل السودان على البحر الأحمر بطول حوالي 670 كيلومترًا. رؤية استشرافية

الموقع الإستراتيجي للمنطقة، مع ممراتها البحرية الحيوية وقربها من الأسواق العالمية، يجعلها جاذبة للتجارة والاستثمار. ويمكن تطوير آليات تعزز الاستقرار وتخلق بيئة مناسبة للتنمية الاقتصادية. لكن عدم الاستقرار السياسي، والصراعات الداخلية، والنزاعات الحدودية، تشكل عقبات رئيسية في طريق تحويل منطقة البحر الأحمر إلى منطقة جذب إستراتيجي قائمة على التعاون بدلًا من الصراع. لتحقيق ذلك، يمكن النظر إلى المحددين التاليَين:

خلق آليات تعاون إقليمي: من الضروري تطوير حوار مؤسسي بنّاء يضع أسسًا لشراكة إستراتيجية بين دول البحر الأحمر بضفتَيه: الشرقية والغربية. وفي هذا السياق، تمثل المبادرة السعودية حول "منتدى البحر الأحمر" خطوة مهمة يمكن البناء عليها، بشرط أن تنطلق من منظور المساواة بين الدول المشاركة، وتُعبّر عن التنوع الموجود في المنطقة. إعادة التفكير في مفهوم الأمن: يجب أن تدرك دول المنطقة أن الأمن لا يعني عسكرة البحر الأحمر، أو الاعتماد على قوات خارجية لتحقيق أهداف جيوسياسية، بل ينبغي أن يكون البحث عن جذور المشكلات والعمل على معالجتها هو الأساس لضمان حماية المصالح المشتركة لدول الإقليم على المدى الطويل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات القرن الأفریقی للبحر الأحمر البحر الأحمر تهدید ا ا مهم ا ی عتبر

إقرأ أيضاً:

برك الموت .. أحدث اكتشاف العلماء في قاع البحر الأحمر

اكتشف علماء بقعة غامضة في أعماق البحر الأحمر المظلمة تساهم في إلقاء الضوء على أصول الحياة نفسها.

 

وبحسب صحيفة "اندبيندنت" البريطانية، وصل فريق من الباحثين بجامعة ميامي إلى قاع البحر الضيق الذي يقع بين شبه الجزيرة العربية وأفريقيا، ووجدوا بحيرات كثيفة مالحة تعرف باسم "برك الموت"، وتعد هذه البيئات من بين الأكثر تطرفًا على وجه الأرض .

تتكون البرك النادرة في قاع البحر، وهي شديدة الملوحة ولا تحتوي على أي أكسجين، وتعد غير ملائمة للحياة فأي حيوان يدخل إلى مياهها المالحة يصاب بالصدمة أو الموت على الفور.

 

ومع ذلك، وعلى الرغم من كل هذا، فإنها لا تزال تعج بالميكروبات الحية - وهي حقيقة يمكن أن توفر رؤى حول كيفية بدء الحياة على كوكبنا، وكيف يمكن للكائنات أن تتطور في عوالم غنية بالمياه خارج كوكبنا.

 

وقال سام بوركيس، أستاذ علوم الأرض البحرية في جامعة ميامي، الذي قاد الدراسة، لموقع لايف ساينس : "إن فهمنا الحالي هو أن الحياة نشأت على الأرض في أعماق البحار، وبالتأكيد في ظروف خالية من الأكسجين" .

 

وأضاف: "تشكل أحواض المياه المالحة في أعماق البحار نظيرًا رائعًا للأرض في بداياتها، وعلى الرغم من خلوها من الأكسجين والملوحة العالية، فإنها تزخر بمجتمع غني من الميكروبات التي تسمى "الميكروبات المحبة للظروف المتطرفة".

وأردف: "إن دراسة هذا المجتمع تسمح لنا بإلقاء نظرة خاطفة على نوع الظروف التي ظهرت فيها الحياة لأول مرة على كوكبنا، وقد تساعد في البحث عن الحياة على "عوالم المياه" الأخرى في نظامنا الشمسي وخارجه."

وأضاف إن هذه المجمعات قد تسفر أيضاً عن اكتشافات ميكروبية قد تؤدي إلى تطوير أدوية جديدة.

أوضح: "في السابق جرى عزل جزيئات ذات خصائص مضادة للبكتيريا ومضادة للسرطان من ميكروبات أعماق البحار التي تعيش في أحواض المياه المالحة".

واكتشف العلماء القليل فقط من برك المياه المالحة في أعماق البحار في جميع أنحاء العالم، وتتراوح أحجامها من بضعة آلاف من الأقدام المربعة إلى حوالي ميل مربع أي مايعادل 2.6 كيلومتر مربع، وفقًا لموقع Live Science .

 

علاوة على ذلك، من المعروف وجود ثلاثة مسطحات مائية فقط تستضيف هذه البرك النادرة، وهما في: خليج المكسيك، والبحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر.

ويحتوي البحر الأحمر على أكبر عدد من هذه البحيرات، والتي يعتقد أنها نشأت من جيوب مذابة من المعادن التي ترسبت خلال عصر الميوسين أي منذ حوالي 23 مليون إلى 5.3 مليون سنة، عندما كان مستوى سطح البحر في المنطقة أقل مما هو عليه اليوم.

 

حتى عام 2020، كانت جميع أحواض المياه المالحة المعروفة في البحر الأحمر تقع على بعد 25 كيلومترًا على الأقل من الساحل.

 

ومع ذلك، اكتشف بوركيس وزملاؤه في ذلك العام أول برك من هذا النوع في خليج العقبة، وهو جيب شمالي من البحر الأحمر، يقع على بعد كيلومترين فقط من الشاطئ.

مقالات مشابهة

  • فشل أمريكي للبقاء في المشهد بعد نقل اليمن معركته إلى خليج عدن
  • مباحثات عالية المستوى بين ”اليمن وقطر” بشأن خارطة الطريق والتطورات في البحر الأحمر
  • عاجل | مراسل الجزيرة: اشتباكات مسلحة بين مقاومين والأجهزة الأمنية الفلسطينية في مخيم جنين
  • "التعاون الخليجي": التطورات في البحر الأحمر تمس أمن الملاحة الدولية
  • بلومبيرغ: أمريكا خسرت معركة البحر الأحمر
  • هل يشعل الصراع المصري- الإثيوبي القرن الأفريقي؟
  • برك الموت .. أحدث اكتشاف العلماء في قاع البحر الأحمر
  • “بلومبرغ”: أمريكا تخسر معركة البحر الأحمر
  • باعتراف أمريكي بريطاني.. البحر الأحمر خارج الهيمنة الغربية
  • ‏مدير الاستخبارات البريطاني: إيران تدعم الميليشيات في المنطقة وتساعد الحوثيين في هجمات البحر الأحمر