لجريدة عمان:
2025-03-17@23:00:32 GMT

الوجه الآخر لفرنسا

تاريخ النشر: 10th, August 2024 GMT

استضافت فرنسا المسابقة الرياضية العالمية "الأولمبياد" وقد تابع ملايين البشر حفل الافتتاح الذي أقيم مساء ٢٦ يوليو ٢٠٢٤، والذي استمر لأكثر من أربع ساعات. حاولت فرنسا أن تقدم نفسها للعالم في صورة جديدة مبهجة، لعلها أرادت من ورائها أن تخاطب العالم باعتبارها الدولة التي أشاعت الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والمساواة بين جميع من يقيمون على أرضها بصرف النظر عن لونهم أو جنسهم أو أديانهم.

وأعتقد أنه كان احتفالا مبهجا من الناحية الفنية، لكن خالفهم التوفيق من عدة جوانب، حينما صدروا للعالم مشاهد سلبية لم يراعوا فيها ثقافة الشعوب ولا عقائدهم، حينما دفعوا إلى صدارة المشهد بنماذج للمثليين بشكل مقزز، يتعارض مع القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية لغالبية شعوب العالم، إضافة إلى أنهم أساءوا إلى الفن والدين، حينما سخروا من أعظم ما خلَّفه التراث الإنساني، عندما قدموا صورة مشوهة للوحة الفنان الإيطالي الأشهر في العالم (ليوناردو داڤنشي) والإساءة إلى لوحته الشهيرة (العشاء الأخير)، تلك اللوحة التي عبرت وبصدق عن السيد المسيح وعظمة رسالته، لذا اعتبر نقاد الفن في العالم أن هذا العمل العبقري يعد في طليعة الأعمال الملهمة للفنانين التشكيليين، كما يعد فتحاً مهما عندما تحرر الفنانون الإيطاليون من قيود العصور الوسطى بتقاليدها الجامدة، فإذا بالفن يأتي معبراً عن روح الحياة، ومناظرة الطبيعة الخلابة والتحليق نحو عوالم حديثة، تعبيرا عن الجمال في كل مناحي الحياة.

لم يكن الفرنسيون على مستوى الفنون العظيمة التي خلفها المجتمع الأوروبي في كل مجالات الفن والأدب والفلسفة وكل مجالات الحياة الفكرية، وهم يقيمون حفلتهم في قلب باريس، كما أن فرنسا لم تقدم صورتها الأخرى للعالم معتذرة عما أقترفته من أعمال مروعة، عندما اجتاحت معظم دول الساحل الأفريقي في احتلال كان هو الأعنف في العالم، وحصدت في حروبها عشرات الملايين من الأفارقة الفقراء، وهم يدافعون عن أوطانهم، وتسببت في تخلف هذه الشعوب عن ركب الحضارة، فضلاً عن نهب الثروات الطبيعية من دول كانت تعيش تحت خط الفقر، في الوقت الذي ناضل فيه الفرنسيون منذ مطلع القرن السادس عشر في سبيل حريتهم، دفاعاً عن حقوقهم الإنسانية، وكانت الثورة الفرنسية ملهمة لكل شعوب العالم، ورغم نجاح الثورة بفضل مثقفيها وفلاسفتها وفنانيها إلا أن فرنسا واصلت طوال القرن التاسع عشر عدوانها وهمجيتها على شعوب أفريقية ومارست عليها السيادة ونهب الثروات وحصد أرواح الأبرياء من أبناء هذه الشعوب.

لم يستوعب الساسة الفرنسيون الجدد تاريخ بلادهم، حينما اجتاحت الجيوش الإنجليزية والألمانية والأسبانية والإيطالية الأراضي الفرنسية في معارك متواصلة، وفرض على الفرنسيين اتفاقية غير متكافئة (باڤي) ١٥٢٥، وكان الملك الفرنسي الشاب فرانسوا الأول يقود جيش بلاده بنفسه دفاعا عن فرنسا، ولعلها كانت أشهر معركة في تاريخ أوروبا خلال القرن السادس عشر، وقد أبيد الجيش الفرنسي عن آخره (ثلاثون ألف مقاتل)، وكتب ملك فرنسا (فرانسوا الأول) إلى والدته عقب وقوعه في الأسر، رسالة مؤثرة: سيدتي لقد فقدنا كل شيء ماعدا الشرف والكرامة.

شهدت أوروبا حروبا مروعة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكانت فرنسا دائما ضحية الحلفاء الأوروبيين، ثم جاءت الثورة الفرنسية التي نقلت فرنسا إلى دولة رائدة في كل ما من شأنه إعلاء قيم الإنسانية والحرية والعدالة، ورغم ذلك راحت فرنسا تواصل عدوانها واحتلالها لدول بعيدة عن حدودها، مارست عليها كل صنوف القهر والتنكيل والنهب والاستعباد وما تزال بعض هذه الشعوب تناضل في سبيل الخروج من الهيمنة الفرنسية. أعتقد أن هذه الشعوب كانت تود لو استغلت فرنسا في هذا الاحتفال المهيب "الأولمبياد" لكي توجه رسالة سياسية وفنية إلى العالم معتذرة عما سببته لهذه الشعوب من تخلف وقهر ونهب الثروات الطبيعية، لو فعلت فرنسا ذلك لارتفعت إلى عنان السماء، ولفتحت صفحة جديدة في العلاقات مع هذه الدول في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أما وقد أقامت فرنسا احتفالية كبيرة على نهر السين، لم تقدم فيها إلا لوحات فنية تعبيرية غابت عنها صورة فرنسا الحقيقية، بمثقفيها وفنانيها وفلاسفتها التاريخيين، ومعظمهم قد كتبوا معترضين على فرنسا المستعمَّرة، التي نكَّلت بكثير من شعوب العالم.

أعتقد أن الجروح الغائرة التي تركها الاحتلال الفرنسي على أجسام الأفارقة، والتي خلّفت لأبنائهم كل صنوف الفقر والتخلف، رغم ما تمتلكه هذه البلاد من ثروات طبيعية، ظلت فرنسا تحصدها طوال عصر الاحتلال، ورغم محاولات فرنسا دمج أبناء الدول التي استعمرتها لكي يكونوا مواطنين فرنسيين على قدم المساواة مع الفرنسيين، إلا أنهم سيظلون يشعرون بقدر كبير من القهر فيما يتعلق بتخلف بلادهم ونهب ثرواتها وقتل أبنائها، وهي مرارات لا تسقط أبدا بالتقادم، وهو ما يفسر عدم قدرتهم على الاندماج في المجتمع الفرنسي، لأن فرنسا تقدم نفسها للعالم من خلال وجهين متناقضين، أحدهما فرنسا بلد الثقافة والفن والحرية والعدالة، وهي الصورة التي تحاول الدولة الفرنسية تقديمها للعالم، بينما الصورة التاريخية الأخرى التي يصعب التخلص منها فستبقى عالقة في أذهان الشعوب التي أضاعت عليها فرنسا فرصة اللحاق بركب الحضارة الحديثة، وخصوصاً وأن فرنسا ما تزال تتمسك بتلابيب بعض الدول الأفريقية التي تدور في فلكها، معتمدة على ما تصدره لها من أسلحة فتاكة تعد عقبة كبيرة في إقامة مصالحة مع شعوبها، أو مع دول الجوار، ولم تفطن حكومات هذه الدول بعد إلى دور السياسة الفرنسية في إحداث شروخ غائرة بين أبناء هذه الأوطان.

لعل سياسة فرنسا لا تختلف كثيرا عن سياسة العديد من الدول التي أنتجت ثقافة عظيمة من خلال مثقفيها وفنانيها، لكن بقي المثقفون يغردون في عوالم فضائية، بينما أصحاب القرار السياسي يمارسون أفعالا بعيدة تماما عن روح الإنسان وأفكاره الخلاقة، بحكم أنهم لا يملكون صناعة القرار، وإنما كل ما يقدمونه هي أفكار وفلسفات وفنون تشكل روح المجتمعات الحرة، لذا ستظل الثقافة بكل مفرداتها في وادٍ والفعل السياسي في وادٍ آخر.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذه الشعوب أن فرنسا

إقرأ أيضاً:

من هو الجدير بالمنصب؟!

 

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

"الحرس القديم" مصطلح كثُر استخدامه في السنوات الأخيرة في الوطن العربي من جيل الشباب، ويُشير هذا المفهوم إلى كبار المسؤولين في أي دولة والذين يحتفظون بمناصبهم لعقود طويلة، على الرغم من إخفاقاتهم الكثيرة، ولكن هناك إصرار يتمثل في حبهم الشديد وتمسكهم بالكرسي أو المنصب إلى ما لا نهاية.

هؤلاء المسؤولون يعتقدون؛ بل يجزمون بأحقيتهم بأن يُخلَّدوا في أماكنهم، فلا يُوجد شخص في هذا الكون يستطيع أن يقوم بالواجبات اليومية لتلك الشخوص "الطرزانية" من وجهة نظر الجهات العُليا التي سمحت لهم وعينتهم؛ باعتبارهم أفرادًا جاءوا من عالم آخر، وبأنَّ الوظيفة هنا تشريف وليست تكليفًا. والأهم من ذلك كله، أن هناك شعورٌ بأنَّ حياتهم لا يُمكن أن تستمر بتركهم المنصب؛ بل هم مثل السمك الذي يموت بخروجه من محيط الوظيفة الحكومية. من هنا تأتي المعضلة الكبيرة في معارضتهم للإصلاحات الجديدة التي يفرضها واقع المُتغيرات الجديدة وبالدرجة الأولى مصلحة الوطن والمواطن، وذلك انطلاقًا من القاعدة الصحيحة التي تقول "لكل زمن دولة ورجال"، ذلك لكون أن الإنسان له سنوات معينة في الإنتاج والعطاء؛ بل وحتى في الإبداع يمكن أن يمتد لعقد من الزمن كحد أقصى.

صحيحٌ أن مفهوم "الحرس القديم" يعود لقرون مضت وتحديدًا عصر الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت الذي كانت له مقاييس ومواصفات في حرسه القديم من القادة والشخصيات السياسية في بلاطه الإمبراطوري، إلّا أن الوجود الحقيقي لهم في معظم بلداننا العربية ودول العالم الثالث مزروع من دول أجنبية بهدف المحافظة على مصالح الدول الاستعمارية، التي خرجت من الأبواب بسبب الثورات الوطنية، ثم عادت من النوافذ الخلفية من خلال هؤلاء. كلٌّ من في منظومة الحرس القديم يحارب الأفكار الجديدة وينغلق على نفسه؛ فالخطر الأكبر الذي لا يُمكن تحمله وقبوله هو الدماء الجديدة من الجيل الصاعد الذين يفترض بهم أن يحملوا الراية نحو الغد المشرق وهذه سنة الحياة، انطلاقًا من المبدأ المُتعارَف عليه في الدول التي تُحارب الفساد وتُحقق العدالة الاجتماعية بتخصيص سنوات معينة للمسؤول الحكومي لا تتجاوز الخمس سنوات، ثم يخضع للتقييم الذي يحدد مدى استمراريته في المنصب من عدمه.

في كل مرحلة يحتاج الوطن إلى أصحاب الابتكارات والمشاريع الإصلاحية، فهناك تجارب عالمية ناجحة كان لها الدور الأكبر في انتشال تلك المجتمعات الفقيرة من شظف العيش والانطلاق بأوطانها نحو حجز مكان بارز في مصاف الدول المتقدمة، على الرغم من قلة الموارد الطبيعية واستبدال ذلك بما يعرف بـ"الاقتصاد المعرفي"، الذي يعتمد بالدرجة الأولى على عقول الأبناء الذين يحولون إبداعاتهم العلمية والبحثية إلى مشاريع إنتاجية واعدة تصدر إلى مختلف دول العالم.

هنا أتذكر تجارب آسيوية وأفريقية من دول مثل ماليزيا التي نجح فيها مهاتير محمد في عقد الثمانينيات لتُصبح ماليزيا دُرة التاج لدول شرق آسيا من حيث التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بينما يقود مُؤسس سنغافورة (لي كوان يو) تلك الجزيرة التي تفتقر إلى النفط والغاز والمعادن لتصبح واحدة من أفضل اقتصاديات العالم قاطبة، معتمدًا في بداية عمله على تطوير التعليم ومحاربة الفساد من الأعلى، أو ما أصبح يعرف بـ"تكنيس الدرج من الأعلى" أي التخلص من فساد الحرس القديم ومحاسبتهم وطردهم من مفاصل الدولة.

أما التجربة الثالثة، فأتت من قلب القارة السمراء التي ينخر فيها الفساد؛ إذ كانت جمهورية رواندا لا تملك ثروات طبيعية، ولا منفذًا على البحر، لكن تهيأ لها قائدٌ أمين عمل جاهدًا على اجتثاث الفساد والمُفسدين، ويُدعَى (بول كاغامه) الذي تولى الرئاسة في مطلع هذه الألفية، فقد أصدر قانونًا إجباريًّا يتم تطبيقه ميدانيًّا على خمسة آلاف مسؤول رواندي وعائلاتهم؛ بما فيهم رئيس الجمهورية نفسه؛ وذلك بهدف الكشف عن حساباتهم البنكية وأملاكهم في الداخل والخارج، وتطبيق مبدأ "من أين لك هذا؟". وبالفعل ذهب إلى حبل المشنقة بعض المسؤولين الذين نهبوا المال العام.

ومن المُفارقات العجيبة أن رواندا خرجت من أسوأ حرب أهلية في التاريخ؛ قُتِل فيها مليون مواطن رواندي في تسعينيات القرن الماضي، لكنها نهضت من مُستنقع الإبادة الجماعية لتتحول إلى أفضل سوق مفتوح في أفريقيا، وبنموٍّ سنوي تجاوز أفضل الاقتصاديات في العالم.

وفي الختام.. من المؤسف حقًا أنَّ دولنا العربية التي تملك الثروات المعدنية والنفط والغاز والزراعة والثروات السمكية الطائلة لم تنجح في انتشال مواطنيها من الفقر والجهل والأُمِّية، إذ نجد الكثير من الدول العربية دولًا فاشلة بسبب نهب الأموال وتحويلها للخارج في البنوك الغربية، وقد لا ترجع يومًا ما للذين أودعوها، فقد أعلن الرئيس الأمريكي عن نيته مصادرة المليارات التي أودعها رموز الفساد في العراق إبان الاحتلال الأمريكي وسقوط بغداد في العقد الأول من الألفية الثالثة.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • اتجاهات مستقبلية
  • وزير الخارجية الأمريكي: سنتخذ إجراءات ضد الدول التي فرضت علينا رسوما جمركية
  • روبيو: أمريكا سترد على الدول التي فرضت عليها رسوما جمركية
  • تقرير رسمي: المغاربة رابع أكثر شعوب العالم تحدثاً باللغة الفرنسية
  • أوروبا تبحث إعادة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية
  • تركيا الأولى عالميا ضمن الدول التي يصعب فيها امتلاك منزل!
  • بينها اليمن.. قائمة الجنسيات التي ستفرض عليها إدارة ترامب حظر سفر
  • سخرية عالمية من إحتفال وزراء “العالم الآخر” بأول عملية دفع إلكترونية في تاريخ القوة الضاربة
  • من هو الجدير بالمنصب؟!
  • الدول التي تدرس إدارة ترامب فرض حظر سفر عليها