استضافت فرنسا المسابقة الرياضية العالمية "الأولمبياد" وقد تابع ملايين البشر حفل الافتتاح الذي أقيم مساء ٢٦ يوليو ٢٠٢٤، والذي استمر لأكثر من أربع ساعات. حاولت فرنسا أن تقدم نفسها للعالم في صورة جديدة مبهجة، لعلها أرادت من ورائها أن تخاطب العالم باعتبارها الدولة التي أشاعت الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والمساواة بين جميع من يقيمون على أرضها بصرف النظر عن لونهم أو جنسهم أو أديانهم.
لم يكن الفرنسيون على مستوى الفنون العظيمة التي خلفها المجتمع الأوروبي في كل مجالات الفن والأدب والفلسفة وكل مجالات الحياة الفكرية، وهم يقيمون حفلتهم في قلب باريس، كما أن فرنسا لم تقدم صورتها الأخرى للعالم معتذرة عما أقترفته من أعمال مروعة، عندما اجتاحت معظم دول الساحل الأفريقي في احتلال كان هو الأعنف في العالم، وحصدت في حروبها عشرات الملايين من الأفارقة الفقراء، وهم يدافعون عن أوطانهم، وتسببت في تخلف هذه الشعوب عن ركب الحضارة، فضلاً عن نهب الثروات الطبيعية من دول كانت تعيش تحت خط الفقر، في الوقت الذي ناضل فيه الفرنسيون منذ مطلع القرن السادس عشر في سبيل حريتهم، دفاعاً عن حقوقهم الإنسانية، وكانت الثورة الفرنسية ملهمة لكل شعوب العالم، ورغم نجاح الثورة بفضل مثقفيها وفلاسفتها وفنانيها إلا أن فرنسا واصلت طوال القرن التاسع عشر عدوانها وهمجيتها على شعوب أفريقية ومارست عليها السيادة ونهب الثروات وحصد أرواح الأبرياء من أبناء هذه الشعوب.
لم يستوعب الساسة الفرنسيون الجدد تاريخ بلادهم، حينما اجتاحت الجيوش الإنجليزية والألمانية والأسبانية والإيطالية الأراضي الفرنسية في معارك متواصلة، وفرض على الفرنسيين اتفاقية غير متكافئة (باڤي) ١٥٢٥، وكان الملك الفرنسي الشاب فرانسوا الأول يقود جيش بلاده بنفسه دفاعا عن فرنسا، ولعلها كانت أشهر معركة في تاريخ أوروبا خلال القرن السادس عشر، وقد أبيد الجيش الفرنسي عن آخره (ثلاثون ألف مقاتل)، وكتب ملك فرنسا (فرانسوا الأول) إلى والدته عقب وقوعه في الأسر، رسالة مؤثرة: سيدتي لقد فقدنا كل شيء ماعدا الشرف والكرامة.
شهدت أوروبا حروبا مروعة خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكانت فرنسا دائما ضحية الحلفاء الأوروبيين، ثم جاءت الثورة الفرنسية التي نقلت فرنسا إلى دولة رائدة في كل ما من شأنه إعلاء قيم الإنسانية والحرية والعدالة، ورغم ذلك راحت فرنسا تواصل عدوانها واحتلالها لدول بعيدة عن حدودها، مارست عليها كل صنوف القهر والتنكيل والنهب والاستعباد وما تزال بعض هذه الشعوب تناضل في سبيل الخروج من الهيمنة الفرنسية. أعتقد أن هذه الشعوب كانت تود لو استغلت فرنسا في هذا الاحتفال المهيب "الأولمبياد" لكي توجه رسالة سياسية وفنية إلى العالم معتذرة عما سببته لهذه الشعوب من تخلف وقهر ونهب الثروات الطبيعية، لو فعلت فرنسا ذلك لارتفعت إلى عنان السماء، ولفتحت صفحة جديدة في العلاقات مع هذه الدول في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أما وقد أقامت فرنسا احتفالية كبيرة على نهر السين، لم تقدم فيها إلا لوحات فنية تعبيرية غابت عنها صورة فرنسا الحقيقية، بمثقفيها وفنانيها وفلاسفتها التاريخيين، ومعظمهم قد كتبوا معترضين على فرنسا المستعمَّرة، التي نكَّلت بكثير من شعوب العالم.
أعتقد أن الجروح الغائرة التي تركها الاحتلال الفرنسي على أجسام الأفارقة، والتي خلّفت لأبنائهم كل صنوف الفقر والتخلف، رغم ما تمتلكه هذه البلاد من ثروات طبيعية، ظلت فرنسا تحصدها طوال عصر الاحتلال، ورغم محاولات فرنسا دمج أبناء الدول التي استعمرتها لكي يكونوا مواطنين فرنسيين على قدم المساواة مع الفرنسيين، إلا أنهم سيظلون يشعرون بقدر كبير من القهر فيما يتعلق بتخلف بلادهم ونهب ثرواتها وقتل أبنائها، وهي مرارات لا تسقط أبدا بالتقادم، وهو ما يفسر عدم قدرتهم على الاندماج في المجتمع الفرنسي، لأن فرنسا تقدم نفسها للعالم من خلال وجهين متناقضين، أحدهما فرنسا بلد الثقافة والفن والحرية والعدالة، وهي الصورة التي تحاول الدولة الفرنسية تقديمها للعالم، بينما الصورة التاريخية الأخرى التي يصعب التخلص منها فستبقى عالقة في أذهان الشعوب التي أضاعت عليها فرنسا فرصة اللحاق بركب الحضارة الحديثة، وخصوصاً وأن فرنسا ما تزال تتمسك بتلابيب بعض الدول الأفريقية التي تدور في فلكها، معتمدة على ما تصدره لها من أسلحة فتاكة تعد عقبة كبيرة في إقامة مصالحة مع شعوبها، أو مع دول الجوار، ولم تفطن حكومات هذه الدول بعد إلى دور السياسة الفرنسية في إحداث شروخ غائرة بين أبناء هذه الأوطان.
لعل سياسة فرنسا لا تختلف كثيرا عن سياسة العديد من الدول التي أنتجت ثقافة عظيمة من خلال مثقفيها وفنانيها، لكن بقي المثقفون يغردون في عوالم فضائية، بينما أصحاب القرار السياسي يمارسون أفعالا بعيدة تماما عن روح الإنسان وأفكاره الخلاقة، بحكم أنهم لا يملكون صناعة القرار، وإنما كل ما يقدمونه هي أفكار وفلسفات وفنون تشكل روح المجتمعات الحرة، لذا ستظل الثقافة بكل مفرداتها في وادٍ والفعل السياسي في وادٍ آخر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه الشعوب أن فرنسا
إقرأ أيضاً:
الأمم المتحدة تطلق شبكة جمعيات ضحايا الإرهاب
أطلقت الأمم المتحدة، أمس، "شبكة جمعيات ضحايا الإرهاب"، وهي منصة عالمية تهدف إلى جمع ضحايا الإرهاب وجمعياتهم من مختلف أنحاء العالم تحت مظلة واحدة، بهدف تعزيز تبادل أفضل الممارسات والبحوث والموارد وبناء مجتمع يعنى بحقوق الضحايا.
وأعلن فلاديمير فورونكوف، وكيل الأمين العام لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، في بيانه خلال مراسم إطلاق المنصة، في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، بحضور عدد من الضحايا والناجين من الإرهاب، أن هذه الشبكة ستكون رمزاً للوحدة في دعم حقوق واحتياجات الضحايا حول العالم ، في وقت لا يزال فيه الإرهاب يشكل تهديداً خطيراً للسلم والأمن الدوليين.
وأكد أن احتياجات الضحايا لا تزال ملحة وتعاني من نقص التمويل، داعيا إلى تقديم الدعم اللازم لهؤلاء الضحايا في الدول النامية والمتقدمة، معربا عن امتنانه لمملكة إسبانيا على تمويلها تطوير الشبكة وإطلاقها، ولجمهورية العراق على تعهدها المالي لعام 2025 والتزامها بجعل المؤتمر الدولي القادم لضحايا الإرهاب حقيقة واقعة.
ودعا فورونكوف كافة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى العمل عن دعم شبكة جمعيات ضحايا الإرهاب والبرنامج العالمي لضحايا الإرهاب، لضمان استدامتهما.
وذكر بإلتزام قادة العالم في إطار ميثاق المستقبل بالسعي إلى مستقبل خالٍ من الإرهاب، مؤكدا أن الوقت قد حان لكي تتحرك الدول الأعضاء في هذا الاتجاه بحيث تجعل من هذا الالتزام واقعا حقيقا، معتبرا الاستعراض القادم للإستراتيجية العالمية لمكافحة الإرهاب العام المقبل بمثابة فرصة لتعزيز العمل الجماعي مع الضحايا ومن أجلهم.