يكاد، في الحيّز المحلي والإقليمي، لا يمر أسبوع إلا ونرى أخبارا تتحدث عن إنجازات بحثية علمية جديدة في مجال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وينمُّ هذا على وجود الوعي المجتمعي بشكل عام ووعي المؤسسات البحثية بشكل خاص، ووجود التمويل الحكومي المتمثل في دعم الأبحاث العلمية الذي يتركّز معظمها -مؤخرا- على أبحاث الذكاء الاصطناعي.

كذلك لمحنا تناميًا جيّدًا لبزوغ شركات ومؤسسات محلية ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي والأنظمة الرقمية، وهذا دليل آخر لوجود الوعي العام بأهمية الاستثمار في مجال التقنيات المتقدمة والتحول الرقمي. تتجاوز هذه الأخبار عتبات إحساسنا بنشوة الإنجاز، وتعبر إلى محيطنا الأعلى من هذه المرحلة؛ فكانت آمالنا معلقة على صناعة الوعي الرقمي في المجتمع، وارتقت بعدها إلى الصناعة البحثية الناجحة للذكاء الاصطناعي الذي ألمس فيه الجهود المبذولة من قبل الجهات الداعمة والفِرق البحثية العاملة الساعية إلى مزيد من الإنجازات البحثية الرائدة في مجالات الأنظمة الرقمية بما فيها الذكاء الاصطناعي، ولكن رؤيتنا هذه ما تلبث إلا وترتفع إلى غاية مهمة أخرى ألا وهي تحقيق الاستدامة الاقتصادية عبر مشروعات الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة. سبق لنا الحديث عن موضوع الاستدامة الاقتصادية والتحول الرقمي، ولكن نحاول في مقالنا هذا أن نكتشف المزيد من ثغراتنا الحالية، ونحدد بُوصلتنا الاقتصادية بمستجداتها الرقمية.

من الملحوظ أن التفوق البحثي له بعده الاقتصادي الذي يأخذ مساره الزمني ليكون بعدا يعطي ثماره ولو بعد حين من الزمن، وهذا ما يزرع في نفوسنا الأمل في أنّ توالي نجاحات مشروعات الذكاء الاصطناعي البحثية بمثابة خطوات رئيسة وضرورية على طريق التمهيد لتحقيق الاقتصاد الرقمي الذي يعبّر عن الاستثمار في الأنظمة الرقمية، ولكن - مع موقعنا الحالي- لا يمكن أن ندّعي أننا دخلنا حيّز الاقتصاد الرقمي وفقَ المستويات العالية، وهذا أيضا ما يمكن أن نلحظه في دول المنطقة التي ما تزال تبحث لها عن موطئ قدم راسخ على أرضية الاقتصاد الرقمي رغم النجاحات الكبيرة التي تحققت على أرضية البحث العلمي في النطاق الرقمي الذكي، ودليلنا على ذلك في الصناعات التي ما تزال تعتمد على أنظمتها التقليدية؛ إذ من التطلعات التي ينبغي أن نسعى لتحقيقها البدء في التحول الرقمي في الصناعة الذي يعتبر لبَّ الاقتصاد ومحركه الرئيس، وهنا نشير إلى أهمية تحقيق الاستدامة الصناعية عبر الاعتماد شبه الكامل على الأنظمة الرقمية في عمليات التشغيل والإنتاج الصناعي، وسبق أن عرضنا أمثلة ناجحة تعكس مخرجات البحث العلمي، وتؤكد وجود التطبيق الناجح للذكاء الاصطناعي في الصناعة، ومع ذلك يعتبر هذا النوع من التطبيق الرقمي نوعًا مساعدًا يعمل على تحسين جودة الصناعة وتقليل تكاليف تشغيلها استنادا إلى دراسات كثيرة عرضناها في مقالات سابقة، ولهذا فنحن بحاجة مع هذا النوع من التشغيل إلى الرقمي إلى مستويات تشغيلية أكثر اتساعا؛ ففي نطاق أوسع وأكثر أهمية، لا يفوتنا أهمية الاستثمار المباشر في الأنظمة الرقمية عبر الصناعة الرقمية المباشرة التي تأتي في صور كثيرة منها تطوير الخوارزميات والتطبيقات الرقمية الذكية، وهذا ما يتأتى تحقيقه عبر إيجاد قوي لشركات ومؤسسات معنية بالأنظمة الرقمية، ورغم وجود الدعم الكبير الذي توليه الحكومة في سلطنة عُمان في دعم تأسيس هذه المؤسسات الرقمية الناشئة خصوصا تلك التي تكون ذا بذور وطنية وبجهود الكوادر العمانية إلا أن المعوقات العالمية أكثر تأثيرا على بقاء مثل هذه المؤسسات الرقمية؛ إذ تؤكد الاستطلاعات -منها ما نشرته جريدة عُمان في الصفحة الاقتصادية بتاريخ 31 يوليو 2024م بعنوان "الشركات الناشئة في الذكاء الاصطناعي تواجه تحديا من المجموعات الرقمية العملاقة- أن إحدى هذه المعوقات يتمثّل في هيمنة المجموعات الرقمية الكبرى على الاقتصاد الرقمي مما يجعل من حركة الاستثمار الرقمي تسير في طريق ضيّق يعتريه مبدأ الاحتكار الذي يجعل من خيارات التحول الرقمي مسوغات صعبة المنال وضيّقة الأفق، ولهذا فإن المنافسة غير العادلة التي تخوضها هذه المجموعات الرقمية الكبيرة تقود المجتمعات الرقمية الطامحة إلى الاقتصاد الرقمي المباشر أمام تحديات عالمية رغم وجود الدعم المحلي الداخلي؛ حيث يفرض مبدأ العولمة الاقتصادية العالمية تأثيراتها على كل العالم الذي نحن جزء لا يتجزأ من منظومته.

علينا أن نعّي جيدا أن تفوقنا البحثي أمر مهم، ولكن لابد لهذا التفوق أن يترجم إلى واقع اقتصادي عبر توطين الاستثمار الرقمي وتحويل التشغيل الصناعي والاقتصادي إلى المنظومة الرقمية، ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا باكتساب مقومات هذه الإرادة عبر تحويل الوعي من نطاق البحث العلمي إلى الاستثمار العلمي عموما والرقمي خصوصا عبر التشغيل الواقعي لأنظمة الذكاء الاصطناعي في كل قطاعات أعمالنا وصناعتنا؛ فإننا بلغنا من الوعي الرقمي المستوى الذي أهّلنا إلى بناء القدرات التفاعلية العالية مع الأنظمة الرقمية التي يمكن أن نرى انعكاساتها في مؤسسات التعليم -المدراس والجامعات- ومؤسسات البحث التي تفيض بمخرجات بحثية رقمية مرموقة، ولكنْ تظل معظم هذه المخرجات أسيرة الرفوف المكتبية والأرشفة الورقية والأوراق العلمية التي سيكون من اليسير أن نجدها في أروقة الصناعة والاقتصاد لو ترجمت هذه الأبحاث إلى تطبيقات حيّة، وهنا يأتي دور هذه المؤسسات التعليمية بالتعاون مع المؤسسات الاقتصادية المعنية بمضاعفة الوعي بالشأن الاقتصادي عن طريق ربط هذه المشروعات الرقمية بالجانب الاقتصادي وتفعيل التخطيط والمتابعة والتنفيذ، ويمكن أن يشترط ربط هذه المشروعات الرقمية بالمؤسسات الرقمية الوطنية الناشئة بوجود الدعم الحكومي للجهتين الذي سيعكس -بدوره- التأسيس القوي للاقتصاد الرقمي والتحول من الوعي الرقمي العام إلى الوعي الرقمي الاستثماري والتشغيلي، وكذلك تمكين دور المؤسسات الرقمية الناشئة وتفعيل مساهمتها الاقتصادية وترسيخ وجودها ودفعها إلى النمو ومواجهة التحديات العالمية الآنف ذكرها.

• د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی المؤسسات الرقمیة الأنظمة الرقمیة الاقتصاد الرقمی الوعی الرقمی

إقرأ أيضاً:

كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في التأمين على السفن الذكية؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قال اتحاد التأمين المصري، إن التأمين البحرى أحد أقدم أنواع التأمين التي عرفها العالم وهو أحد أنواع التأمين الأساسية التي تؤثر على مشهد الاقتصاد العالمي؛ حيث يعد أحد الركائز الأساسية لتطوير وتنظيم التجارة الدولية، وضمان استمرارية النشاط التجاري البحري بأعلى درجات الأمان خاصة وأن التجارة البحرية تمثل جزءً كبيراً من حركة التجارة الدولية.

وأوضح في تقرير حديث اليوم أن الاتحاد المصري للتأمين سعى منذ نشأته على دعم وتعزيز هذا النوع من التأمين ولهذا فقد كان الاتحاد المصري من أوائل اتحادات التأمين التي انضمت إلى الاتحاد الدولي للتأمين البحري IUMI، وذلك لمواكبة التطورات والاطلاع على أحدث المستجدات التي تطرأ على هذا الفرع الحيوي من أفرع التأمين وذلك من خلال القيام بما يلى:
1. ترشيح عدد من مكتتبي التأمين البحرى بالسوق المصري لعضوية عدد من اللجان الفنية بالاتحاد الدولي للتأمين البحري.
2. قيام لجنة التأمين البحري بالاتحاد بإعداد دليل إكتتاب في التأمين البحري بحيث يكون مرجعاً أساسياً للمكتتبين المبتدئين في هذا الفرع التأميني.
3. إعداد أكثر من نشرة من النشرات الأسبوعية للاتحاد حول التأمين البحرى وأحد التطورات التي طرأت عليه.

وتابع:" شهدت السفن الذكية والمستقلة تطوراً تاريخياً كبيراً بدءً من الاعتماد على الميكنة البسيطة في القرن العشرين، مروراً بظهور أنظمة التحكم الآلي في الثمانينيات، ووصولاً إلى التكامل مع الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء في القرن الحادي والعشرين".

هذا التطور أدى إلى تغييرات جذرية في صناعة التأمين البحري، حيث تراجعت الأخطار التقليدية مثل أخطاء الطاقم البشري، ولكنه تسبب في ظهور أخطار جديدة مثل الأعطال الفنية والقرصنة الإلكترونية وأخطاء البرمجيات.

وقد أصبحت البيانات التي تجمعها السفن الذكية عنصراً أساسياً في تقييم الأخطار وإدارة الوثائق التأمينية، مما يتطلب تطوير منتجات تأمينية مبتكرة تلبي احتياجات هذه التكنولوجيا المتقدمة.

وأوضح التقرير أن دخول الذكاء الاصطناعي إلى صناعة التأمين  يُعد تحولاً جذرياً، حيث يقدم فرصاً كبيرة لتحسين الكفاءة وتقليل التكاليف، ولكنه يأتي أيضاً بتحديات جديدة.

وفي مجال التأمين على السفن الذكية والمستقلة، يوفر الذكاء الاصطناعي أدوات متقدمة لتحليل البيانات الضخمة التي تجمعها السفن، مما يساعد في تقييم الأخطار بدقة أكبر وتقديم أسعار تأمين أكثر تنافسية. ومع ذلك، فإن الاعتماد على الأنظمة التكنولوجية المعقدة يزيد من أخطار الأعطال الفنية والاختراقات الإلكترونية، مما يتطلب تطوير وثائق تأمينية جديدة تغطي هذه التهديدات. بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب الطاقم البشري يطرح تساؤلات حول تحديد المسؤولية في حالة الحوادث، مما قد يجعل عملية المطالبات التأمينية تتسم ببعض التعقيد. 

وبالتالي فإن التعاون الوثيق بين شركات التأمين والمطورين التكنولوجيين والجهات التنظيمية يساهم في مواجهة التحديات الخاصة بالتأمين على للسفن الذكية. وبينما تشكل الأخطار التكنولوجية تحدياً كبيراً لبعض الشركات، فإنها تفتح طريق أمام البعض الأخر لتحقيق الريادة في سوق يتزايد حجمه يوماً بعد يوم.

وأضاف أنه مع تزايد الاعتماد على السفن الذكية والمستقلة ظهرت الحاجة إلى حلول تأمينية مبتكرة تتكيف مع التحديات الجديدة التي تفرضها هذه التكنولوجيا.

 تشمل هذه الحلول تطوير وثائق تأمينية تتسم بالمرونة فيما يتعلق بالتغطية التأمينية بحيث تقوم بتغطية أخطار مثل القرصنة الإلكترونية وأعطال البرمجيات وفقدان البيانات، بالإضافة إلى تحسين تقييم الأخطار باستخدام البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي.

كما تم إدخال منتجات تأمينية جديدة مثل "التأمين على المسؤولية الالكترونية" و"التأمين على أخطاء الأنظمة الآلية"، والتي توفر حماية شاملة للشركات العاملة في هذا المجال. 

هذه الابتكارات تسهم في تعزيز الثقة في السفن الذكية وتدعم انتشارها في صناعة النقل البحري.

 

مقالات مشابهة

  • علي بابا تستثمر 52 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي
  • علي بابا تعتزم استثمار 52 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي
  • كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في التأمين على السفن الذكية؟
  • أبو الغيط يفتتح منتدى التعاون الرقمي والتنمية بعمان- الأردن
  • «أبو الغيط» يفتتح منتدى التعاون الرقمي والتنمية 2025 بمدينة عُمان
  • المليشيا الإرهابية تركب التونسية!
  • منظومة الصراع الرقمي وتمكين الوعي والتربية
  • هل يشيخ الذكاء الاصطناعي كالبشر؟ خفايا التقادم الرقمي
  • آيها العلماء: بيومين فقط الذكاء الاصطناعي يحل ما عجزتم عنه لـ 10 سنوات!!
  • التحول الرقمي يعزز مستقبل بنك التعمير والإسكان.. وحسن غانم : ريادة المصرفية الرقمية