المصالحة الفلسطينية آن أوانها لكنها لم تأتِ بعد
تاريخ النشر: 10th, August 2024 GMT
أعلنت السلطة الفلسطينية الحداد على إسماعيل هنية، قائد حركة حماس ورئيس الوزراء الفلسطيني السابق، ونكّست الأعلام. ولا يزال المشهد تحت اختبار مبكر لما بعد الحدث، فيما إذا كانت المصالحة التي وُقّعَ آخرُ اتفاقاتها في الصين ستجد طريقها إلى الحياة، أم ستبقى كسابقاتها صورةً تذكارية لمصافحة الخصوم.
مرة أخرى، يُولّدُ السياق الفلسطيني ظروفًا كافية لمنح الجميع فرصة أخلاقية ووطنية جديدة من أجل الوحدة.
مع ذلك، فإن الفرص المتكررة في توفير أرضية مشتركة للوحدة ما تلبث أن تتلاشى بعد العودة إلى بيئات الاستقطاب والشروط السياسية الناجمة عن افتراقاتٍ، بات من الصعب تَقبُّل فكرة أنها أقوى من الظروف الحالية، التي تضع الجميع تحت سكّين الاحتلال.
أفق تحقق المصالحةيرتبط أفق تحقيق المصالحة الفلسطينية بقناعات الأطراف أولًا، ليس فقط بأهمية المصالحة، ولكن أيضًا بحجم التحديات الوجودية التي تواجه كلًّا منهم:
فمن جهة حماس، تمثل الحرب الحالية على قطاع غزة، التي تهدف إلى القضاء عليها كتنظيم مسلح، أحد أخطر التهديدات في مسيرتها. فلم تتعرض حماس لحملة استئصال بهذه الشراسة طوال مسيرتها، بل إن حركة التحرر الفلسطينية بأكملها لم تقف أمام مثل هذه المواجهة الوجودية في تاريخها. وفي ظل تعثر الإجابة عن سؤال "اليوم التالي"، فإن حماس معنيةٌ بشكل كبير بتحقيق وحدة وطنية تقدم نفسها على أنها الإجابة الطبيعية للمرحلة. أما بالنسبة لفتح التي تقود السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، فلا يبدو التحدي أقل خطورة. فالسلطة برمتها باتت هدفًا للتصفية من قبل نتنياهو ويمينه المتطرف. فلا معنى للسلطة الناتجة عن اتفاق سياسي يُصرُّ طرفه الآخر على منع تطوره إلى دولة. هذا ما صوّت عليه الكنيست الإسرائيلي قبل أسابيع، بتعهده بعدم قيام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن. فمؤسسة الاحتلال بأكملها تقف ضد فكرة الكيانية الفلسطينية بأي مستوى، حتى في ظل التعاون الأمني القائم. فهذه النوايا تنبع من فكرة الاستعمار الاستيطاني بالإلغاء، وعدم الاعتراف بوجود الفلسطينيين كجماعة وطنية. وقد ظهر هذا بوضوح في رفض نتنياهو الحاسم فكرةَ تولي السلطة إدارةَ غزة بعد الحرب. أين تقف جهود المصالحة؟من هنا، فإن تعطل مسار المصالحة واتفاقاتها المختلفة يعود إلى حالة شعورية بالأمن الزائف والمؤقت لدى أطرافها، أو أحدهما، وتوقع انفراجات سياسية تعزز موقف طرف وتضعف موقف الآخر. تقف كل جهود المصالحة عند حدود القناعة بإمكانية الاحتكار المنفرد للمشهد، وفي العجز عن تشكيل قناعات الشراكة الوطنية إلا في حدود البلاغة الخطابية.
المشهد الحالي لا يضع طرفَي المصالحة في كِفة واحدة بأي حال من الأحوال، وليس المقام هنا لتقييم انحيازات كل طرف للمصلحة والحقوق الوطنية. لكنّ الفلسطينيين كانوا معنيين دائمًا بمقاربة معتدلة تجمع بين عقلانية السياسة والتزامات التحرر الوطني. فقد كانت جهود الوحدة الوطنية دائمًا تقف عند حدود من يريد أن يصبح دولة قبل أن يتحرر، أو من يريد أن يحرر بالمواجهة الصفرية.
هذه المقاربات لم تكن مطلقة طوال الوقت، خاصةً فيما يتعلق بقناعات المعسكر الثاني. فقد وفرت الانتخابات التشريعية عام 2006 فرصةً نادرة لمقاربةٍ وسطية تسعى للتحرر كطريق للدولة. وانخراط حماس في السلطة مثّل اقترابًا نوعيًا باتجاه خط الوسط، استمر طوال الفترات اللاحقة التي اختبرت فيها الحركة إكراهات الحكم والسياسة في غزة. والمفارقة أن الانقسام الفلسطيني بدأ منذ لحظة الاقتراب تلك، حيث بات عنوان المصالحة الفلسطينية، بما يعنيه من وحدة على أسس وطنية، المسعى الفلسطيني الأكبر، ولا يزال.
هل يشهد اتفاق الصين خطوات عملية؟لقد بدا "إعلان بكين"، الذي ظهر كنصٍ أكثر جودة مقارنةً بغيره من النصوص السابقة، متأثرًا بهذه الأجواء والشعور العام بالخطر. مع ذلك، لا يبدو اتفاق بكين وقد حصل على شروط كافية، ليتحول إلى واقع. وهذا قد يرتبط بالظروف الفلسطينية وما تنتجه من مواقف وقناعات لدى أطراف المصالحة، وبين موقع الصين ذاته من هذا الملف.
رغم أن الصين دولة عظمى وعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، فإنها لا تمتلك أوراق الملف الفلسطيني. وفي الوقت الذي فشلت فيه اتفاقات أُنجزت في دول إقليمية محورية، فإن الرهان على اتفاق الصين قد يبدو تفاؤلًا مفرطًا. ينبغي في هذا الصدد تحليل دوافع الصين للانخراط في الملف الفلسطيني في هذا الظرف الحرج.
تسعى الصين للانخراط في ملف الحرب في غزة دون المساس بمبدأ عدم التدخل، الذي تستند له سياستها الخارجية في الشرق الأوسط. مثل هذا الانخراط يستدعي بالضرورة نسج سياسة اتصال بأطراف الصراع، خاصةً مع حركة حماس. وكي لا يُقرأ هذا الاتصال كدعم لحماس وما قامت به في 7 أكتوبر/تشرين الأول، اختارت بكين ملف المصالحة بوابةً لدبلوماسيتها. والسؤال هنا: لماذا ترغب الصين بالانخراط أصلًا؟
منذ تدخل الحوثيين في الحرب، تأثرت طرق إمداد الطاقة والتجارة الصينية، حيث يمر من باب المندب 60% من صادرات الصين لأوروبا. وبما أن الصين باتت الشريك التجاري الأكبر مع دول الخليج، وتحصل على حوالي 50% من وارداتها النفطية من دول مجلس التعاون الخليجي، فإن اتساع رقعة الصراع واحتمالاته يشكل قلقًا إستراتيجيًا للصين، وخطرًا محتملًا على إمدادات اقتصادية حيوية.
كانت الصين قد علقت حركة ناقلات الحاويات من وإلى إسرائيل منذ بداية هذا العام؛ نتيجة التوتر في مضيق باب المندب. بمعنى آخر، فإن المصالحة مطلوبةٌ كبوابة لانخراط الصين مع حماس تحديدًا، وليست هدفًا بحد ذاتها.
وقد تكفي هذه الخلفية للإجابة عن سؤال الأفق المتوقع والخطوات العملية لتنفيذ اتفاق بكين، دون أن يقلل هذا التفسير من الجهد المبذول والنوايا الصينية الحسنة، التي، في أقل تقدير، أظهرت رغبة في إنهاء الانقسام الفلسطيني، الذي قد يبقى محكومًا بديناميات الشعور الزائف بالاطمئنان لدى السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات
إقرأ أيضاً:
مقترح بلا ضمانات… لماذا ترفض المقاومة الفلسطينية المقترحات “الإسرائيلية”؟
في الوقت الذي تتصاعد فيه الدعوات الدولية لاستئناف الهدنة في قطاع غزة، تبدو الفجوة بين طروحات الاحتلال الإسرائيلي ومطالب المقاومة الفلسطينية أوسع من أي وقت مضى، فالمقترح الإسرائيلي الأخير، الذي رُوّج له إعلاميًا باعتباره خطوة نحو التهدئة، لا يحمل في طياته سوى شروط تعكس أهدافًا استراتيجية تسعى لتفكيك قوة حماس وسحب أوراقها التفاوضية، في مقابل تقديم تنازلات شكلية لا تلبّي الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية.
هدنة مؤقتة لا تلبي الشروط الأساسية
الموقف الفلسطيني الرافض لمقترح الاحتلال لم يكن وليد رغبة في التصعيد، بل جاء كرد طبيعي على بنود تحمل نوايا خفية أكثر من كونها مبادرات سياسية، فحسب مصدر بارز في المقاومة، فإن جوهر الطرح الإسرائيلي لا يستجيب للمطالب الجوهرية المعلنة، وعلى رأسها وقف شامل ودائم لإطلاق النار، وانسحاب كامل لقوات الاحتلال من القطاع، وبدلًا من ذلك، يقترح الاحتلال “هدنة مؤقتة” مدتها 45 يومًا، يُسمح خلالها بمرور المساعدات الإنسانية عبر المعابر، ولكن بشروط يحددها الجانب الإسرائيلي، ما يُبقي قبضة الحصار مفروضة ولو بصيغة جديدة.
الهدف غير المعلن: نزع أوراق القوة من يد حماس
القراءة التحليلية لبنود المقترح تشير إلى أنه لا يُراد له أن يكون اتفاقًا لإنهاء الحرب، بل أداةً لفرض وقائع سياسية جديدة، فتركيز المقترح على استعادة تسعة أسرى إسرائيليين، بينهم جندي يحمل الجنسية الأمريكية، يعكس رغبة الاحتلال في استعادة “ورقة الأسرى” كأولوية تفوق أي اعتبار إنساني يتعلق بأهالي غزة، بل إن المصدر ذاته يؤكد أن الطرح يهدف إلى سحب هذه الورقة تدريجيًا من يد حماس، باعتبارها أحد أهم عناصر الضغط التي تملكها الحركة.
ويُضاف إلى ذلك، تضمّن المقترح بندًا ينص على إعادة تموضع الجيش الإسرائيلي في غزة على نحو ما كان عليه قبل الثاني من مارس، وهي صيغة تعني استمرار الاحتلال الفعلي، سواء عبر التمركز العسكري المباشر أو السيطرة على المجالين الجوي والبحري، بما يفرغ أي حديث عن “التهدئة” من مضمونه الحقيقي.
استراتيجية “التهدئة المشروطة”.. إعادة إنتاج الحصار
من الناحية السياسية، يبدو أن “إسرائيل” تسعى لإعادة صياغة مفهوم الحصار عبر أدوات جديدة، فبدلًا من الحصار العسكري الصريح، يُطرح الآن “فتح مشروط للمعابر” لفترة مؤقتة، بما يُبقي مصير غزة بيد الاحتلال، وهذه الاستراتيجية تُعيد إلى الأذهان سيناريوهات التهدئة السابقة التي فشلت لأنها لم ترتكز على ضمانات دولية ملزمة، ولم تُحقق أي تغيير جوهري في حياة الفلسطينيين، بل إن هذا النوع من التهدئة المشروطة يُستخدم عادة لكسب الوقت، وإعادة التموضع، وتفكيك المقاومة من الداخل عبر خلق حالة إنهاك وإرباك سياسي وأمني.
إعادة التمركز لا تعني الانسحاب
البند المتعلق بـ”التمركز العسكري قبل الثاني من مارس” لا يمثل سوى عودة إلى مرحلة تصعيدية سابقة، فهذا التاريخ يُمثل ذروة العمليات البرية التي شنّها جيش الاحتلال داخل القطاع، وبالتالي فإن العودة إلى تلك الوضعية تُعدّ بمثابة تثبيت لواقع الاحتلال وليس العكس، كما أن المقترح لا يشير إلى أي نية للانسحاب الكامل من غزة، وهو مطلب جوهري لدى المقاومة، ما يُفقد المقترح أي جدية في تحقيق تهدئة حقيقية.
الرهان على الزمن.. تكتيك إسرائيلي مألوف
ما تقوم به “إسرائيل” ليس جديدًا؛ فالرهان على عامل الزمن، عبر مقترحات مؤقتة، هو جزء من تكتيكها المعروف لإدارة الصراع وليس حله، وقد استخدمت هذه الاستراتيجية في جولات سابقة من المواجهة، حيث تسعى لتجميد الوضع الميداني لفترة محددة، تسمح لها بإعادة ترتيب أوراقها العسكرية والسياسية، دون أن تُقدّم أي التزامات حقيقية للفلسطينيين، وفي هذا السياق، فإن ما يُطرح اليوم لا يختلف في جوهره عن مبادرات سابقة فشلت لأنها لم تكن سوى محاولات لفرض الاستسلام بغطاء دبلوماسي.
حماس بين الضغط والتريث
المعطى الجديد في المشهد هو موقف حماس، التي لم تُعلن رفضها الرسمي للمقترح لكنها لم تُقدّم ردًا نهائيًا أيضًا، ما يدل على أن الحركة تدير الموقف بتأنٍ شديد، في ظل توازن معقد بين الضغوط العسكرية والسياسية والإنسانية، فالحركة تدرك أن أي خطوة نحو قبول مقترح هشّ قد يُفقدها دعمًا شعبيًا واسعًا، وخاصة في ظل تصاعد الغضب الفلسطيني والعربي نتيجة استمرار العدوان الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته، فإن التريث يسمح لحماس بقراءة المشهد الإقليمي والدولي، وخاصةً في ظل تنامي الأصوات المطالبة بوقف فوري للحرب، وارتفاع منسوب الإدانة للجرائم الإسرائيلية.
غياب الضمانات الدولية.. مأزق أي اتفاق محتمل
ما يفاقم هشاشة المقترح الإسرائيلي هو غياب أي آلية دولية تضمن تنفيذ بنوده. فحتى في حال قبول حماس بوقف مؤقت لإطلاق النار، فإن التجربة السابقة تُظهر أن الاحتلال لا يلتزم بأي تفاهمات ما لم تُقيدها قوة دولية قادرة على المحاسبة، وفي ظل تواطؤ بعض القوى الكبرى مع الرؤية الإسرائيلية، وتراجع فعالية المؤسسات الدولية، تبدو أي ضمانات مجرد وعود شفوية لا تلبث أن تنهار تحت ضغط التغيرات الميدانية.
الخشية من فخ النزع التدريجي للسلاح
أخطر ما في الطرح الإسرائيلي هو ما بين السطور.. فتح الطريق أمام مرحلة جديدة من الضغط السياسي والعسكري لنزع سلاح المقاومة، دون خوض معركة مباشرة، فالمقترح يُمهّد لحالة من التفكيك التدريجي لقدرات حماس، عبر إدخالها في مسارات تفاوض طويلة، تُستنزف خلالها سياسيًا وعسكريًا، ويُعاد فيها تشكيل البيئة الأمنية في غزة وفقًا للرؤية الإسرائيلية، وهذا ما يُفسر إصرار المقاومة على التمسك بشروطها الأساسية، ورفضها لأي صيغة تُعيد إنتاج الاحتلال أو تُفرّغ انتصاراتها الميدانية من مضمونها.
في النهاية، في ضوء ما تقدّمه “إسرائيل” من مقترحات ظاهرها التهدئة وباطنها الهيمنة، تبرز معادلة جديدة تُختبر فيها صلابة الموقف الفلسطيني وقدرته على الصمود السياسي بعد الصمود الميداني، فالعرض الإسرائيلي الأخير ليس سوى حلقة في سلسلة طويلة من المحاولات التي يسعى من خلالها الاحتلال لتفكيك بنية المقاومة، ليس عبر الحرب المفتوحة فقط، بل من خلال ما يُروّج له كمساعٍ دبلوماسية وإنسانية.
تركيز الاحتلال على استعادة الأسرى، وإصراره على فتح المعابر بشروطه، وتحديده لفترة تهدئة مؤقتة، ثم الإبقاء على وجوده العسكري بطريقة أو بأخرى، كلها مؤشرات على أن المقترح يفتقر لأي نية حقيقية لإنهاء العدوان، بل يُراد له أن يكون وسيلة ضغط مركبة: استنزاف سياسي لحماس، وإنهاك مجتمعي لسكان غزة، وتلميع لصورة “إسرائيل” دوليًا على أنها تسعى لـ”السلام”، لكن ما يغفله الاحتلال أن المقاومة الفلسطينية، وبعد سنوات من المواجهة والخبرة، لم تعد أسيرة الأوهام الدبلوماسية، فقراءة الحركة للمقترح تعكس نضجًا في فهم أبعاد الصراع، وتؤكد أن الميدان ليس وحده من يحسم المعركة، بل الوعي بطبيعة الخصم وأدواته السياسية.