د. محمد بن عوض المشيخي **

 

الإنسان العربي يكاد يكون هو الوحيد في هذا الكوكب الذي يراوده الحنين إلى الماضي التليد الذي يعتقد أنَّه لن يعود يومًا؛ فالذكريات الجميلة أجمل عزاء لمن ضاقت به الدنيا بمصائبها الكثيرة وحاصرته الدروب بدهاليزها المظلمة، ويعود ذلك إلى الحاضر العربي المؤلم والصعب والمُثقل بالهزائم، والتحديات التي غطّت السماء من المحيط إلى الخليج بغيومها السوداء وأحزانها القاتمة، ذلك لكون اليوم أرخص دم في العالم هي دماؤنا العربية، وما يحصل في بلاد العرب من قتل وانشقاق وخلافات لا تنتهي بين أبناء الأمة الواحدة، خير دليل على مصائبنا من نكسات وهزائم بعضها نفسية والأخرى عسكرية.

صحيح قد بزغ نجم العرب مرة واحدة في التاريخ فقط؛ بظهور الإسلام في الجزيرة العربية وتحديدًا في مكة المكرمة، ثم تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة بعد أن شرفها الرسول الكريم محمد بن عبدالله بهجرته إليها، فقد كانت القبائل العربية تعيش في ضعف وخلافات وتشرذم بين نفوذ الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية مثل حالها اليوم! لكن الله أعزَّ العرب بالإسلام، خاصة بعد انطلاق رسالة التوحيد لدعوة مختلف الشعوب والدول في العالم للدخول في دين الله الحنيف شعوبًا وقبائلًا وحكامًا، بدايةً من خاتم الأنبياء والمرسلين الذي دعا الملوك والحكام والناس كافة، ثم قيام الخلفاء الراشدين والدول التي ظهرت تباعًا باتباع نفس النهج. لقد امتد نفوذ الدولة الإسلامية في عصرها الذهبي من الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا؛ حيث أصبحت اللغة العربية هي لغة العِلْم في العالم كله. لكن كما ذكر الفيلسوف العربي ومؤسس علم الاجتماع ابن خلدون، فإن المجتمعات والشعوب وأنظمة الحكم تشيخ وتزول عندما توصل إلى أعلى درجات الرفاهية والبذخ، فيصيبها الضعف والانحدار. وبالفعل تزامن انهيار الدولة العباسية التي كانت تحكم مُعظم شعوب العالم من قلب بغداد، بعد أن قضى عليها التتار بقيادة هولاكو، مع تساقط الدويلات العربية واحدة بعد الأخرى في الأندلس بسبب الخيانات التي أصبحت سِمة للأمراء والحكام في الممالك العربية قديمًا. ومنذ ذلك الحين، لم تقم للعرب قائمة، وأصابهم الضعف وأصبحوا اتباعًا للأمم الأخرى، بعد ما كانوا أسيادًا للعالم بفضل الإسلام الذي أعزهم ورفعهم إلى أعلى درجات المجد، ولكن عند ابتعادهم عن تعاليم الدين الحنيف أذلهم الله.

ولعلنا الآن نشاهد يوميًا كيف أصبح بعض من أبناء جلدتنا من العرب يصطفون مع الصهاينة ويساندون بني صهيون من المتطرفين اليهود أمثال الثلاثي: نتنياهو وبن جفير وسموتريش الذين يرددون سرًا وجهرًا وكل يوم بأن أمنيتهم الأبدية هي ليس القضاء فقط على الفلسطنيين؛ بل أيضا على الجنس العربي ومحوه من الوجود! بينما يقوم بعض ضعفاء النفوس من المرتزقة في الأراضي المُحتلة بخيانة الأمانة الوطنية وتزويد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية- خاصة الشاباك والموساد- بالمعلومات التي تودي في كثير الأحيان إلى استشهاد مئات الأطفال والنساء من أهلهم وإخوانهم في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، وذلك مقابل حفنة من الأموال المُلطخة بدم الأبرياء.

والسؤال المطروح الآن: متى تستشعر الشعوب العربية وحكامها خطورة ما يحيط بالأمة العربية من مؤامرات؟

الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر السهل أو الهيِّن، ولكن ما يمكن الاسترشاد به وهو علم اليقين، قول الله عز وجل في كتابه العزيز "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11).

لقد حان الوقت لهذه الأمة العظيمة أن تنفض الغبار عن نفسها وتتناسى الخلافات وتصلح ذات البين، وأن تُدرك الدسائس والمؤامرات التي تُحاك لها من الأعداء الذين يُعّدُون العدة لكي نبقى في مربع الضعف والذل والمحافظة على ذيل القائمة في هذا العالم الذي يتقدم كل يوم إلى اعلى المراتب، بينما نحن نتراجع على الدوام إلى الخلف. الحقيقة المُرَّة التي يعرفها الجميع هي أن الانانية والسيطرة والرغبة العمياء في منطقتنا للاستحواذ على السُلطة وإن كانت منقوصة في الأساس بسبب التدخل الأجنبي في الشؤون العربية عبر عقود، وقبل ذلك كله حب المال والحنين للعيش في القصور والتفاخر لدى البعض بالمناصب، كل ذلك من أشد التحديات التي تواجه الأمة في هذا العصر.

لا شك أن القرارات غير المدروسة والخيانات التي صاحبت تلك القرارات هي أسوأ المصائب التي أصابت الامة في مقتل؛ بدايةً من "وعد بلفور" ومن تعاون من العرب مع بريطانيا في ذلك الوقت؛ مرورًا بنكسة يونيو 1967، ووصولًا إلى حروب الخليج الثالثة، التي لا زلنا ندفع فواتيرها حتى اليوم، ليس فقط في الخسائر البشرية وفقدان الأوطان والأموال؛ بل أيضًا في الأمراض الفتّاكة التي تسببت فيها تلك الحروب، وكذلك تفرق شمل الأمة وازدياد الخلافات والانقسامات بين شعوب العرب.

يبدو لي أن أكبر المصائب التي حلّت بالأمة هي تقسيم الوطن العربي إلى دويلات صغيرة، ووضع حدود مُصطنعة بين هذه الأقطار، بقصد إشعال الفتن بين أبناء الأمة الواحدة، فتلك الحدود وضعتها الدول الاستعمارية قبيل انسحابها، وهي أقرب إلى القنبلة الموقوتة التي يمكن لها أن تنفجر في لحظةٍ ما، وذلك بسبب خلافات الأنظمة التي لا تنتهي والتي تعتمد استمراريتها في الحكم على التمدد والاعتداء على الجيران، كلما سنحت الفرصة لذلك؛ فالدول الكبيرة تحاول أن تسيطر على الدول الصغيرة الجديدة، وتكيد لها انطلاقًا من الرغبة في السيطرة على الآخر، بعيدًا عن القوانين والأنظمة التي يُفترض أن تُحترم وتكون مرجعًا بين الأشقاء.

وفي الختام.. الأنظار تتجه أكثر من أي وقت مضى نحو النخب العربية المُثقَّفة وأصحاب الحل والعقد من علماء الأمة، لأن يدركوا بما لا يدع مجالًا للشك، أن ساعة التغيير قد حانت الآن، ولا مجال لنا جميعًا إلّا نبذ الخلافات وإصلاح ذات البين، وترك الأنانية وحب الذات، فلا يوجد طريق آخر أمامنا غير الاتحاد والالتزام بثوابت الأمة التي فيها النجاة والخلاص من الماضي المُرّ والحاضر الذي لا يُرضي عدوًا ولا صديقًا؛ فتراودنا طموحات مشروعة نحو غدٍ مشرق ينتشلنا من القاع إلى القمة، وغايتنا اعتلاء المكان الذي يليق بنا بين الأمم الحية والقوية؛ فالعالم اليوم يفتح أبوابه لكل من يعرف إلى أين ذاهب!

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

شاهد.. الشيخ الراحل محمد سيد حاج يرد على “عسكري” بإحدى المطارات العربية خاطبه بكلمة “يا زول” دون أن يفهم معناها: (هذا هو معناها ويفهمه العرب الأصليين)

حكى الشيخ السوداني الراحل محمد سيد حاج, في إحدى محاضراته موقف قابله بمطار بإحدى الدول العربية, دون أن يكشف عنها.

وبحسب رصد ومتابعة محرر موقع النيلين, فقد كشف الشيخ تفاصيل حديث دار بينه وبين “عسكري” داخل المطار.

وقال فضيلة الشيخ الراحل أن “العسكري”, خاطبه بكلمة يا “زول”, الشهيرة في السودان, دون أن يعرف معناها.

https://www.facebook.com/reel/600185802415011

ووفقاً لمتابعات محرر موقع النيلين, فقد قام الشيخ, بشرح معنى كلمة “يا زول” للعسكري الذي أكد أنه يجهل معناها.

حيث ذكر له أن كلمة “يا زول”, عند العرب الأصليين (البصح بصح) تعني الشخص الظريف, وهي كلمة موجودة في المعاجم العربية القديمة.

محمد عثمان _ الخرطوم

النيلين

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • الإمارات تواكب الحاضر وتستشرف المستقبل بمنظومة تشريعية استباقية في 2024
  • محمد بن راشد: العمارة العربية أثرت الحضارة الإنسانية بتصاميم فريدة
  • حصاد 2024.. الإمارات تواكب الحاضر وتستشرف المستقبل بمنظومة تشريعية استباقية
  • باسل العكور يكتب .. لا خلاص ذاتيا للأقطار العربية كل على حدة.. مستقبل الأمة على المحك
  • شاهد.. الشيخ الراحل محمد سيد حاج يرد على “عسكري” بإحدى المطارات العربية خاطبه بكلمة “يا زول” دون أن يفهم معناها: (هذا هو معناها ويفهمه العرب الأصليين)
  • وزير الزراعة الأردني يتفقد مزارع تربية الخيول العربية الأصيلةمولانا
  • وزير الزراعة الأردني يتفقد أحد مزارع الخيول العربية الأصيلة
  • أبرز أحداث عام 2024 التي شغلت العالم
  • خبير: الدول العربية لعبت دوراً في فضح جرائم دولة الاحتلال أمام العالم
  • تحديات تواجه اللغة العربية في عصر الذكاء الاصطناعي.. قراءة