قدمت شركات عالمية مثل غوغل ومايكروسوفت وأمازون خدمات الذكاء الاصطناعي لصالح "رفع القدرات التشغيلية" الخاصة بجيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة؛ وتم تخزين معلومات استخباراتية "لا نهائية" على خدمات أمازون لاستخدامها في الهجمات على غزة.
 
وكشف تحقيق لموقع "سيحا ميكوميت" حمل عنوان: "طلبية من أمازون.. هكذا تساعد شركات خدمات التخزين السحابي الجيش في غزة"، عن العلاقة العميقة بين هذه الشركات وجيش الاحتلال.



وأكد التحقيق أنه منذ بداية الحرب، قدمت الشركات السحابية "غوغل كلاود - Google Cloud"، و"مايكروسوفت أزور - Microsoft Azure"، وأمازون أيه دبلو إس - Amazon AWS"، خدمات التخزين وخدمات الذكاء الاصطناعي لوحدات الجيش.

وذكر أن هذا يظهر مما قالته قائدة وحدة الاستخبارات العسكرية المسؤولة عن البنى التحتية السحابية والحوسبة في الجيش راشيلي ديمبينسكي، في محاضرة لها، وهذه هي المرة الأولى التي يؤكد فيها ممثلو الجيش علنا أن الجيش يستخدم الخدمات السحابية لجوجل وأمازون ومايكروسوفت لتلبية الاحتياجات العسكرية في الحرب في غزة. 


وجاء هذا الاعتراف على خلفية احتجاج موظفي الشركات العملاقة في الولايات المتحدة ضد بيع الخدمات السحابية والذكاء الاصطناعي لـ "إسرائيل"، بدعوى أن النظام الإسرائيلي يستخدمها لشن هجمات مميتة على الفلسطينيين وانتهاك حقوق الإنسان.

وتتوافق تصريحات دمبينسكي مع التحقيق الذي أجرته كل من "تاشا لوكال" و"مجلة 972+"، بناءً على محادثات مع كبار المسؤولين في وزارة الحرب وصناعة الأسلحة الإسرائيلية والشركات السحابية ووكالات الاستخبارات. 



وقالت دمبينسكي وفي محاضرة ألقتها خلال مؤتمر "تكنولوجيا المعلومات للجيش الإسرائيلي - IT FOR IDF" في 10 تموز/ يوليو الماضي: إنه "مع بداية المناورة البرية في غزة في 27 تشرين الأول/ أكتوبر، كان هناك حمولة على ما وصفته بالسحابة العملياتية للجيش بسبب الكم الهائل من المستخدمين المضافين إليها، يتم تشغيل السحابة التشغيلية بواسطة وحدة MMARM، ووفقًا لمصادر أمنية والمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، لا يتم تخزينها على خوادم الشركات المدنية، ولكن على خوادم مستقلة تابعة لشركة الجيش".

وتشمل "السحابة التشغيلية"، بحسب ديمبينسكي، من بين أمور أخرى، تطبيقات تسمح بتحديد الأهداف للقصف، وبوابة لعرض الطائرات بدون طيار الحية في سماء غزة، وأنظمة إطلاق النار والقيادة والسيطرة في السحابة التشغيلية تم تعريفها من قبلها بأنها "منصة وسيلة للحرب".

وكشفت أنه مع بداية الاجتياج البري "نفدت الموارد"، ولم يكن لدى الجيش مساحة تخزين كافية وقوة المعالجة الخاصة به، قائلة: "أدركنا أنه إذا لم نهتم بالأمر بسرعة، فسيظهر الازدحام والبطء، وفي الأسابيع الأولى من الحرب، حاولت شعبة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات حل المشكلة بنفسها: فقد تم إخراج جميع الخوادم المجانية من المستودعات ووضعها قيد الاستخدام، وتم إنشاء مركز بيانات آخر داخل الجيش، لكن ذلك لم يكن كافيا، وفي مواجهة هذا أدركنا أننا بحاجة إلى القيام بشيء آخر".

واعتبرت أن الحل الرئيسي للمشكلة، هو "الخروج إلى العالم المدني"، بحسب قولها، وسمحت الشركات السحابية بذلك وقام الجيش بشراء خوادم تخزين وقوة معالجة أثناء الحرب، بضغطة زر وحسب الحاجة، دون الالتزام بتخزين الخوادم فعليًا في مراكز الحوسبة التابعة للجيش الشركات السحابية.

איך אמזון, גוגל ומייקרוסופט עלו על מדים והתגייסו לשירות המלחמה בעזהhttps://t.co/q6SUaXCWoK — Haggai Matar (@Ha_Matar) August 4, 2024
والميزة الأهم التي قدمتها الشركات السحابية، كما شهدت ديمبينسكي، كانت قدرات الذكاء الاصطناعي المتقدمة التي وفرها مقدمو الخدمات السحابية الثلاثة للجيش، مشيرة إلى أنه "بالثروة الهائلة من الخدمات والبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، قد وصلنا بالفعل إلى نقطة تحتاج فيها أنظمتنا حقًا إلى ذلك". 

واعتبرت أن العمل مع جوجل وأمازون ومايكروسوفت هو "عالم رائع من مقدمي الخدمات السحابية مكّن الجيش من تحقيق فعالية عملياتية كبيرة جدا في قطاع غزة".

ولم تحدد دمبينسكي ما هي الخدمات التي تم شراؤها من الشركات السحابية، وكيف ساعدت الجيش، بينما أكدت مصادر دفاعية لـ "لوكال توك" أن الأنظمة السرية ومنظومات النيران، بما فيها بنك الأهداف، لم تنتقل إلى السحابة العامة، وبقيت في السحابة الداخلية للجيش. 

ومع ذلك، يكشف التحقيق أن الأنظمة التي ساعدت في القتال تم نقلها إلى السحابة العامة، بما في ذلك نظام استخبارات "AMN" واحد على الأقل، وأن خدمات الذكاء الاصطناعي لعمالقة السحابة تم بيعها إلى وحدات عسكرية، بما في ذلك وحدات سرية، بكميات غير مسبوقة منذ تشرين الأول، أكتوبر الماضي.

وصرح متحدث باسم الجيش الإسرائيلي أنه "في مؤتمر "IT FOR IDF، لم يُذكر في أي مرحلة يتم نقل المعلومات من السحابة التشغيلية إلى السحابة العامة، بينما يعمل الجيش الإسرائيلي بالتعاون مع جميع مقدمي الخدمات السحابية، وخاصة في إطار اتفاقية "نيمبوس"، ولا يتم نقل المعلومات السرية للجيش إلى مقدمي الخدمة المدنيين، وتبقى في شبكات الجيش المنفصلة".

#Hyperscale cloud services are directly being used by the #IDF in its ongoing war in Palestine.

It is primarily using #Amazon’s cloud service to store surveillance information on Gaza’s population, and also procuring AI tools from #Google and #Microsoft for military purposes. pic.twitter.com/W6BFj2ITzq — TruthGateOfficial (@TruthGateOff) August 8, 2024
وقال سبعة من مسؤولي المخابرات الذين خدموا في غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر إن التعاون بين الجيش وشركة أمازون وثيق بشكل خاص، وبدأ حتى قبل الحرب، إذ توفر شركة السحابة العملاقة للجيش الإسرائيلي مزرعة خوادم، حيث يتم تخزين المعلومات التي تساعد الجيش في الحرب.

وذكرت مصادر دفاعية إن نطاق المعلومات الاستخباراتية التي تم جمعها من مراقبة جميع سكان قطاع غزة كبير جدا بحيث لا يمكن تخزينها على خوادم الجيش، وشهدوا أن المعلومات المخزنة في السحابة "ساعدت في تأكيد عدد هجمات الاغتيال الجوية التي نُفذت في غزة خلال الحرب".

مشروع "نيمبوس"
يوفر مشروع "نيمبوس - Nimbus"، وهو عقد بقيمة 1.2 مليار دولار، الخدمات السحابية لجيش وحكومة الاحتلال، ما يسمح من خلال هذه التكنولوجيا بمزيد من المراقبة وجمع البيانات غير القانونية عن الفلسطينيين، وتسهيل توسيع المستوطنات غير القانونية على الأراضي الفلسطينية.

ويتكون المشروع من أربع مراحل مخطط لها: الأولى هي شراء وبناء البنية التحتية السحابية، والثانية هي صياغة سياسة حكومية لنقل العمليات إلى السحابة، والثالثة نقل العمليات إلى السحابة، والرابعة هي تنفيذ العمليات السحابية وتحسينها.

Joint statement from Amazon, Google, and Microsoft workers organizing with the No Tech For Apartheid and No Azure For Apartheid campaigns: pic.twitter.com/LWXANCz7yb — No Tech For Apartheid (@NoTechApartheid) August 6, 2024

وبموجب العقد الضخم، تم اختيار شركتي التكنولوجيا غوغل (Google Cloud Platform) وأمازون (Amazon Web Services) لتزويد وكالات الاحتلال الحكومية بخدمات الحوسبة السحابية، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، بحسب ما جاء في صحيفة "جيروساليم بوست" الإسرائيلية.

بهذا، يمكن استخدام خدمات الشركتين السحابية لتوسيع المستوطنات غير القانونية من خلال دعم بيانات ما يُسمى إدارة الأراضي الإسرائيلية "ILA"، إضافة لمراقبة الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة بما يعزز انتهاكاتها لحقوق الإنسان وتهجير الفلسطينيين.


ويعتمد جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية بالفعل على نظام متطور للمراقبة الحاسوبية، وتطويره من قبل غوغل سيؤدي إلى تفاقم الاحتلال العسكري الذي يعتمد على البيانات بشكل متزايد، بحسب موقع "ذا انترسيبت".

وقال أحد مهندسي البرمجيات في غوغل إنهم "قلقون من أن الموظفين لا يعرفون شيئًا عن المشروع مثلهم مثل عامة الناس، ويخشون من استخدام تكنولوجيا الشركة لقمع الفلسطينيين".

وأضاف في حديثه إلى الموقع دون الكشف عن اسمه "لقد أصبح الأمر بمثابة نقطة عار، نحن نعلم أن أحد مشاريع الجيش الإسرائيلي هو المراقبة الجماعية المستمرة لمناطق مختلفة من الأراضي المحتلة، ولا أعتقد أن هناك أي قيود على الخدمات السحابية التي تريد الحكومة الإسرائيلية شراءها مع تحليل البيانات الضخمة والتعلم الآلي ومجموعات أدوات الذكاء الاصطناعي من خلال السحابة؛ ولا أعتقد أن هناك أي سبب لافتراض أنهم لا يستهلكون كل هذه المنتجات لمساعدتهم على العمل على هذا الأمر".

تحليل المشاعر
بحسب وثائق تدريب ومقاطع فيديو مسربة من خلال بوابة تعليمية متاحة للعامة ومخصصة لمستخدمي مشورع نيمبوس، تقدم غوغل لحكومة الاحتلال مجموعة كاملة من أدوات التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي المتاحة من خلال منصة غوغل كلاود. 

وتشير الوثائق إلى أن الخدمات الجديدة ستمنح الاحتلال قدرات للكشف عن الوجه، وتصنيف الصور الآلي، وتتبع الكائنات، وحتى تحليل المشاعر مع تقييم المحتوى العاطفي للصور والكلام، ويعد الأخير شكلا من أشكال التعلم الآلي المثير للجدل بشكل متزايد وفاقد للمصداقية. 

وتدعي غوغل أن أنظمتها يمكنها تمييز المشاعر الداخلية من وجه الشخص وأقواله، وهي تقنية مرفوضة عادة باعتبارها زائفة، ويُنظر إليها على أنها أفضل قليلا من علم فراسة الدماغ. 

وفشلت تقنية غوغل عند اختبارها في تصنيف ابتسامة الرجل الضاحك الشهير على مدخل "لونا بارك" في سيدني الأسترالية على أنها تعكس مشاعر إنسانية، كما قامت بتحليل الموقع كمعبد ديني بنسبة يقين 83 بالمئة مقابل 64 بالمئة فقط لمدينة ملاهي ترفيهية. 




عقب ذلك، كشف موظفون في غوغل، دون الكشف عن أسمائهم، عن "ذعرهم" من تحويل تقنية الذكاء الصناعي الخطيرة، إلى أداة عسكرية بيد جيش الاحتلال، رغم ضعف نتائجها وهامش الخطأ الكبير فيها، الذي سيتسبب بنتائج مرعبة على الأرض.

كما حذر تقرير "ذا انترسيبت" من أن غوغل الواثقة بقدرة الحوسبة على تطوير نظامها الجديد، تسعى لإقناع حكومة الاحتلال باختباره ميدانيا، وهو ما يعني أن الشركة تريد تطوير تقنياتها ومعالجة أخطائها على أرواح الفلسطينيين ودمائهم.

وأظهرت مجموعة واسعة من الأبحاث أن فكرة "جهاز كشف الكذب"، سواء كان جهاز كشف الكذب البسيط أو التحليل القائم على الذكاء الاصطناعي للتغيرات الصوتية أو إشارات الوجه، هي "علم تافه". 

في ظل ذلك، بدأ ممثلو غوغل واثقين من أن الشركة يمكن أن تجعل مثل هذا الشيء ممكنا من خلال القوة الحاسوبية المطلقة، بينما يقول الخبراء في هذا المجال إن أي محاولات لاستخدام أجهزة الكمبيوتر لتقييم أشياء عميقة وغير ملموسة مثل الحقيقة والعاطفة هي محاولات خاطئة إلى حد الخطر.

مشروع "سيريوس"
وكشف العقيد الاحتياطي آفي دادون، الذي كان حتى عام 2023 رئيسا لإدارة المشتريات في وزارة الحرب الإسرائيلية، وكان مسؤولا عن مشتريات الجيش بمبالغ تزيد عن عشرة مليارات شيكل سنويا، أنه جرى الحفاظ على الاتصال مع عمالقة الشركات السحابية.

وقال دادون لـ "Chaseh Local": "بالنسبة لهم (يقصد الشركات السحابية)، يعد هذا أقوى تسويق، ما يستخدمه الجيش الإسرائيلي كان وسيظل من أكثر المنتجات والخدمات مبيعا في العالم، بالنسبة لهم هو مختبر، بالطبع هم يريدون ذلك".

 وكشف أنه عقد العديد من الاجتماعات مع ممثلي الشركات السحابية مثل أمازون ومايكروسوفت وجوجل، في "إسرائيل" وفي رحلات إلى الولايات المتحدة، وأنه كان على اتصال معها بشأن مشروع سري وأكثر حساسية بكثير من نيمبوس، المعروف بمشروع "سيريوس - Sirius"، وهو الذي يتحقق بعد.




وأوضح أن الهدف من المشروع الذي نشرته صحيفة "غلوبز" الإسرائيلية عام 2021 هو إنشاء سحابة أمنية للنظام الأمني على خوادم الشركات المدنية، وهو عبارة عن "سحابة أمنية خاصة ومتميزة ومخصصة فقط للجيش الإسرائيلي ووزارة الدفاع".


 واستمرت المناقشات بشأن المشروع لأكثر من عقد من الزمن حول الشكل الذي ستبدو عليه، ومن المفترض أن تكون هذه السحابة، وفقًا لثلاثة مصادر أمنية، منفصلة عن الإنترنت، حيث سيتم بناؤها على البنية التحتية لمقدمي الخدمات الرئيسيين، مع السماح لجميع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية باستخدامه للأنظمة السرية.

وبحسب تحقيق "سيحا ميكوميت" تظهر الأدلة على تحول الجيش إلى الشركات السحابية أيضا من إعلان وظائف نُشر في شهر أيار/ مايو الماضي، على موقع جيش الاحتلال لوظيفة تعتمد على "العمل والتدريب مع كبار مقدمي الخدمات السحابية".

وجاءت هذه الوظيفة لصالح "التعامل مع ترحيل الأنظمة إلى السحابة العامة "نيمبوس"، ومن ثم "تدريب الأنظمة الأساسية التشغيلية للسحابة الأمنية"، كجزء من مشروع سيريوس، كما تم مؤخرًا نشر إعلانات وظائف مماثلة على موقعي الشاباك والموساد.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات سياسة دولية غوغل الإسرائيلي غزة أمازون مايكروسوفت إسرائيل غزة غوغل مايكروسوفت أمازون المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الخدمات السحابیة الجیش الإسرائیلی الذکاء الاصطناعی الشرکات السحابیة مقدمی الخدمات على خوادم من خلال بما فی فی غزة

إقرأ أيضاً:

كيف أصبحت الصومال حجر الزاوية باستراتيجية تركيا في أفريقيا؟

نشر موقع "إنسايد أوفر" تقريرًا سلط فيه الضوء على الدور التركي المؤثر في الصومال باعتبارها بوابة رئيسية للاستراتيجية التركية في أفريقيا، مشيراً إلى الدور الإنساني لأنقرة بعد زيارة الرئيس رجب أردوغان إلى مقديشو عام 2011، والتي تحولت فيها بعد ذلك لمؤثر اقتصادي وعسكري رئيسي في البلاد.

وقال الموقع، في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن الصومال تحتل موقعًا محوريًا في الإستراتيجية الأفريقية لتركيا، فبفضل موقعها في القرن الأفريقي على طول طرق تجارية حيوية، وامتلاكها موارد بحرية غنية، حظيت الصومال باهتمام أنقرة لسنوات عديدة.

ويعود الارتباط الحديث بين تركيا والصومال إلى لحظة رمزية، ففي عام 2011، قام أردوغان، الذي كان آنذاك رئيس وزراء تركيا، بزيارة مقديشو في ذروة مجاعة مدمرة.

وكان أول زعيم غير أفريقي يطأ أرض الصومال بعد عقود من النزاعات، حيث جلب معه مساعدات إنسانية وسلط الضوء على معاناة البلاد أمام المجتمع الدولي. ورغم تقديم تلك الزيارة آنذاك على أنها بادرة إنسانية بحتة، فقد شكلت الأساس لشراكة تطورت بمرور الوقت لتصبح أكثر إستراتيجية.

منذ إعلان تركيا عام 2005 "عام أفريقيا" وحتى اليوم، سعت أنقرة إلى تعزيز علاقاتها مع العديد من الدول الأفريقية، لكن الصومال تبرز كحالة نموذجية لهذه الإستراتيجية. ففي أقل من عقد ونصف، انتقلت تركيا من كونها مجرد صديق إغاثي إلى أن أصبحت لاعبًا مهيمنًا في الصومال.

واليوم، تعد مقديشو المركز الرئيسي للوجود التركي في شرق أفريقيا، حيث تمثل مختبرًا يجمع بين التعاون والمصالح الوطنية التركية.

كيف استطاعت أنقرة دمج المساعدات والاستثمارات والقوة العسكرية والدبلوماسية لتوسيع نفوذها في الصومال وأفريقيا؟


التغلغل الاقتصادي: من التعاون إلى الاستثمار
أوضح الموقع أنه عقب زيارة 2011 مباشرة، قدمت تركيا نفسها كشريك سخي في عملية إعادة إعمار الصومال. ومن خلال وكالتها للتعاون تيكا (TIKA) ومنظمات إنسانية أخرى، موّلت أنقرة مشاريع حيوية شملت:
 إعادة تأهيل مطار آدم عدي الدولي في مقديشو
  تحديث ميناء العاصمة ليصبح أكثر حداثة وكفاءة
 بناء بنية تحتية صحية متطورة، بما في ذلك مستشفى ضخم يحمل اسم رجب طيب أردوغان

وفي غضون سنوات قليلة، وبفضل مئات الملايين من الدولارات في صورة مساعدات واستثمارات، نجحت تركيا في كسب ثقة الشعب الصومالي والحكومة، مقدّمة نفسها كحليف غير متحيز يسعى إلى تحقيق رفاهية البلاد.

ووراء واجهة التعاون، ضمنت أنقرة تدريجيًا هيمنة مباشرة على قطاعات إستراتيجية من الاقتصاد الصومالي. فقد حصلت شركات تركية مقربة من حكومة أردوغان على امتيازات طويلة الأجل دون مناقصات لإدارة البنية التحتية الرئيسية.

على سبيل المثال، حصلت مجموعة "ألبيرق" على إدارة ميناء مقديشو لسنوات، بينما تولت شركة "فافوري إل إل سي" التركية تشغيل مطار آدم عدي الدولي.

وقد منحت هذه الامتيازات إسطنبول موقعًا متميزًا على أهم المنافذ التجارية الصومالية. وإلى جانب الأرباح الناتجة عن تشغيل الموانئ والمطارات، تمنح هذه السيطرة نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا كبيرًا، حيث إن من يتحكم في هذه البنى التحتية يمتلك تأثيرًا واسعًا على حكومة مقديشو.

بالتوازي مع ذلك، استثمرت تركيا في قطاع التعليم كأداة لاختراق ثقافي واقتصادي طويل الأمد. خلال السنوات الأخيرة، حصل العديد من الشباب الصوماليين على منح دراسية لمتابعة تعليمهم في الجامعات التركية، كما قامت أنقرة بتمويل مدارس وبرامج تعليمية داخل الصومال.

وبعد عام 2016، عقب القطيعة بين أردوغان وحركة غولن، عززت تركيا وجودها في المجال التعليمي عبر الاستحواذ على مؤسسات تعليمية محلية.

وهذا التطور يعني أن نخبة صومالية جديدة تنشأ حاليًا بتعليم ولغة وشبكات علاقات تركية. ومن منظور مستقبلي، فإن الأطباء والمهندسين والمسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال الصوماليين، الذين تلقوا تعليمهم في إسطنبول أو أنقرة، سيكونون حلفاء طبيعيين وشركاء اقتصاديين لتركيا.


الحضور العسكري: بين التدريب والحرب علي "الإرهاب"
وذكر الموقع أنه على الصعيد العسكري، انتقلت تركيا من تقديم الدعم إلى أن أصبحت عنصرًا أساسيًا في أمن الصومال. ويعد كامب تركسوم أبرز رمز لهذا التحول، وهي قاعدة عسكرية ضخمة افتتحت في مقديشو في أيلول/ سبتمبر 2017، بتكلفة بلغت حوالي 50 مليون دولار، تمتد القاعدة على 400 هكتار بالقرب من الميناء والمطار، مما يجعلها أكبر منشأة عسكرية تركية خارج البلاد.

في هذه الأكاديمية العسكرية الحديثة، يقوم مدربون أتراك بتدريب القوات الصومالية بشكل مستمر، حيث تشير التقديرات إلى أن جنديًا صوماليًا من بين كل ثلاثة قد تلقى تدريبه على يد الجيش التركي.

ويتم تدريب مئات المجندين والضباط سنويًا، بما في ذلك وحدات النخبة مثل كوماندوز غورغور التابع للجيش، ووحدات الشرطة الخاصة "حرمد". ولا يقتصر الأمر على التدريب الفني فقط، بل تتضمن مراسم أداء اليمين لبعض الفرق الصومالية عزف النشيد الوطني التركي باللغة التركية، وهو ما يعكس التأثير الثقافي والعسكري المتزايد لأنقرة على القوات المسلحة الصومالية.

وبذلك أصبح الهدف لهذا الوجود العسكري المكثف هو مساعدة الصومال في محاربة الإرهاب الجهادي، وخاصة تهديد حركة الشباب، وهي جماعة مرتبطة بتنظيم القاعدة ونشطة منذ عام 2006. في هذا السياق، لم تقتصر التعاون العسكري التركي-الصومالي على تدريب القوات البرية فقط، بل بدأت تركيا في تزويد حكومة مقديشو بأسلحة متطورة، وعلى رأسها الطائرات المسيّرة الهجومية "بيرقدار تي بي 2".

بالنسبة للصومال، التي تفتقر إلى سلاح جو فعال، فإن امتلاك هذه المسيّرات التركية يعني القدرة على استهداف معاقل المسلحين بسرعة ودقة، وتقليل الاعتماد على الغارات الجوية التي ينفذها الشركاء الغربيون.

هذه الإستراتيجية تحقق مكاسب مزدوجة لتركيا: فمن ناحية، أصبحت الصومال منصة دعائية لصناعتها العسكرية، حيث تُستخدم أسلحتها في معارك حقيقية، مما يزيد من سمعتها عالميًا. ومن ناحية أخرى، يعزز الوجود العسكري التركي في الصومال مكانة أنقرة كقوة إقليمية، مما يوسع نطاق نفوذها الاستراتيجي في منطقة ذات أهمية جيوسياسية كبرى.


الهدف الطاقي: الاستفادة من الموارد الصومالية
وأشار الموقع إلى أن الوجود التركي في الصومال يبدو للوهلة الأولي ذو بعد إنساني وجيوساسي ولكن مع مرور الوقت أصبح واضحا أن هناك شراكات اقتصادية ملموسة، تتعلق بالموارد الطاقية الصومالية؛ ويُعتقد أن المياه الإقليمية الصومالية وأيضًا باطن الأرض تخفي احتياطات ضخمة من النفط والغاز الطبيعي، والتي ظلت غير مستغلة لعقود بسبب الحروب وعدم الاستقرار.

ولم تغفل أنقرة عن هذه الإمكانيات، وعملت بشكل ممنهج لتصبح الشريك المفضل لمقديشو في هذا القطاع، ففي عام 2016، نجح أردوغان في إبرام مذكرة تفاهم مع الحكومة الصومالية للتعاون في مجالي الطاقة والتعدين. وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق ظل مجمدًا بسبب الاضطرابات السياسية، وخاصة بعد محاولة الانقلاب في تركيا في تموز/ يوليو 2016، إلا أنه عاد إلى الواجهة خلال السنوات الأخيرة.

وفي كانون الثاني/ يناير 2020، صادقت تركيا رسميًا على تلك الاتفاقية، في وقت وافقت فيه الصومال على قانون جديد للنفط، وأنشأت هيئة البترول الصومالية (SPA)، المسؤولة عن إدارة عقود الاستكشاف. وأدى هذا التطور إلى فتح الباب أمام تعاون مباشر بين أنقرة ومقديشو، حيث تمت دعوة شركة البترول التركية الحكومية رسميًا لإجراء عمليات استكشاف الهيدروكربونات في المياه الصومالية. وبذلك، ضمنت تركيا لنفسها حق استكشاف، وربما في المستقبل، الاستفادة من الثروات النفطية البحرية الصومالية، بالشراكة مع السلطات المحلية.

ولفت الموقع إلى أن الإمكانيات المطروحة هائلة، فوفقًا لدراسات جيولوجية وأبحاث زلازل حديثة، يُعتقد أن الأحواض البحرية الصومالية قد تحتوي على احتياطات ضخمة، حيث تُقدر بحوالي 30 مليار برميل من النفط المكافئ، وهو كنز طاقي من شأنه أن يثير اهتمام أي قوة عالمية.

تشمل المناطق الأولى المستهدفة للاستكشاف 15 بلوكًا على الأقل تمتد على طول ساحل المحيط الهندي وخليج عدن.

ومع ذلك، فإن هذه المشاريع ليست بمعزل عن التوترات الجيوسياسية، إذ إن بعض المناطق البحرية الواعدة تتداخل مع مناطق متنازع عليها مع دول مجاورة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، المنطقة البحرية عند الحدود الجنوبية للصومال، والتي تعد محل نزاع مع كينيا، وهو خلاف وصل حتى محكمة العدل الدولية.

وقد أثار دخول تركيا في السباق النفطي الصومالي انتباه وقلق العديد من القوى الإقليمية، التي تخشى أن تتمكن أنقرة من تحقيق تفوق استراتيجي جديد في قطاع الطاقة داخل القرن الأفريقي.

وإدراكًا لأهمية تأمين الأنشطة الاستخراجية المستقبلية، تعمل تركيا على دعم الصومال في تعزيز قدراته البحرية، فخلال السنوات الأخيرة، أطلقت أنقرة برامج لمساعدة مقديشو في إعادة بناء سلاح بحري فعال، بعد أن اختفى فعليًا منذ انهيار الدولة في التسعينيات؛ حيث يقوم مستشارون أتراك بتدريب عناصر خفر السواحل الصوماليين، ولا يُستبعد أن تقدم تركيا مستقبلاً زوارق دورية أو معدات بحرية. فحماية السواحل الصومالية ليست مجرد قضية وطنية، بل هي ضرورة استراتيجية لحماية الاستثمارات التركية من تهديدات مثل القرصنة، التي لا تزال نشطة في المنطقة، أو عمليات التخريب المرتبطة بالنزاعات الإقليمية.


الدبلوماسية التركية: من وسيط إلى منسق للسياسة الأفريقية
وأكد الموقع أن التحرك التركي في الصومال لا يقتصر فقط على الاقتصاد والجيش، بل استخدمت أنقرة أيضًا ورقة الدبلوماسية، مستغلة الصومال كنقطة انطلاق لترسيخ نفسها كوسيط سياسي، بل وحتى كمنسق في الديناميكيات السياسية الأفريقية الأوسع، فتعتمد الإستراتيجية التركية في أفريقيا على تقديم نفسها ليس كقوة معادية أو استعمارية جديدة، بل كفاعل يسعى إلى حل النزاعات، وتعزيز الحوار، ودعم اتفاقيات تحقق المكاسب للجميع – وهي سياسة "رابح-رابح" التي تهدف إلى تعظيم النفوذ التركي مع تقليل عدد الخصوم المباشرين.

وفي القرن الأفريقي، لعبت تركيا دور الوسيط الدبلوماسي في بعض الملفات الأكثر تعقيدًا. ومن الأمثلة البارزة تورطها في العلاقات المتوترة بين الحكومة المركزية الصومالية والمناطق ذات النزعة الانفصالية مثل أرض الصومال (صوماليلاند). هذه المنطقة، التي كانت مستعمرة بريطانية سابقة وأعلنت استقلالها من طرف واحد عن الصومال، أصبحت ساحة تنافس بين قوى متعددة، مثل الإمارات العربية المتحدة التي تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية في ميناء بربرة.

واستفادت أنقرة من الثقة التي اكتسبتها في مقديشو وعرضت نفسها كوسيط، حيث عينت مبعوثين خاصين واستضافت محادثات لمحاولة التوصل إلى اتفاق سلمي بين مقديشو وهرجيسا (عاصمة صوماليلاند)، بهدف إعادة توحيد البلاد أو على الأقل إيجاد صيغة تفاهم مشتركة. في هذا المسعى، كان على تركيا أيضًا موازنة مصالح قوى إقليمية أخرى، وعلى رأسها إثيوبيا. فالعلاقات بين أديس أبابا والصومال كانت متقلبة تاريخيًا، ولكن اليوم، تُعد إثيوبيا شريكًا لكل من مقديشو وأنقرة، خاصة بعد أن بنى أردوغان علاقات قوية مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.

لهذا السبب، تحركت أنقرة بحذر شديد، من خلال إجراء حوارات متوازنة مع الطرفين لضمان أن أي استقرار في الصومال لا يهدد المصالح الإثيوبية. وساعد هذا النهج المتوازن في تعزيز صورة تركيا كقوة قادرة على التحدث مع جميع الأطراف في منطقة ممزقة بالصراعات الوطنية والعشائرية.
ولفت الموقع إلى أن الطموحات الدبلوماسية التركية تمتد إلى ما هو أبعد من القرن الأفريقي، ففي السنوات الأخيرة، عرض أردوغان مرارًا الخدمات الدبلوماسية التركية للتوسط في نزاعات بعيدة عن نطاق النفوذ التقليدي لأنقرة.

وأحد الأمثلة البارزة هو الصراع بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، الذي اندلع مجددًا بسبب تمرد مجموعة إم 23 في منطقة كيفو، وسط اتهامات متبادلة بين كيغالي وكنشاسا بالتدخل في شؤون بعضهما البعض. بينما كانت المجتمع الدولي يكافح لإيجاد حل، بادرت تركيا بعرض وساطتها، حيث أعلن أردوغان استعداده لتقديم "أي دعم ضروري" لحل النزاع، مستغلًا مكانته المتزايدة على الساحة الدولية.

ورغم أن العرض التركي لم يُقبل (حيث نظرت إليه الكونغو بريبة، مفضلة وساطات أفريقية)، إلا أن الرسالة السياسية كانت واضحة: أنقرة تسعى لأن يُنظر إليها كوسيط للسلام في وسط أفريقيا، مما يمنحها موطئ قدم دبلوماسيًا في مناطق لم يكن لها فيها أي وجود سابق.

وشدد الموقع أن أنقرة تتبنى خطابًا يقوم على التعاون المتكافئ، مع التركيز على مشاريع التنمية المتبادلة، والاستثمارات في البنية التحتية، والتبادل الثقافي، والتعليم، دون استخدام نبرة وعظية أو تدخلات سياسية مباشرة في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية.

هذا النهج القائم على سياسة "رابح-رابح" مصمم لكسب القلوب والعقول دون إثارة مخاوف أو عداءات؛ تحرص أنقرة على تجنب خلق أعداء مباشرين، حيث تبني علاقات مع الحكومات المستقرة كما تحافظ على قنوات تواصل مع الدول المعزولة دوليًا، استنادًا إلى مبدأ المنفعة المتبادلة.

فعلى سبيل المثال، رغم كونها حليفًا وثيقًا للحكومة الصومالية، أبقت تركيا على علاقات دبلوماسية مع كينيا وغيرها من القوى الإقليمية، وتجنبت تحويل الصومال إلى ساحة صراع مفتوحة مع القوى المنافسة مثل الإمارات أو السعودية.

واختتم الموقع تقريره بالتأكيد على أن صعود تركيا في الصومال يمثل حالة دراسة حول كيفية تمكن قوة متوسطة الحجم من توسيع نفوذها بذكاء ومثابرة. فخلال أكثر من عشر سنوات بقليل، نجحت أنقرة في بناء قاعدة استراتيجية متكاملة داخل الصومال، تشمل وجودًا اقتصاديًا ووجودًا عسكريًا ووجودًا سياسيًا ودبلوماسيًا، وكل ذلك مدعوم بـخطاب تعاوني قائم على الأخوة والمصالح المتبادلة، يخفي لكنه لا يمحو حقيقة أن تركيا تسعى بلا هوادة لتحقيق مصالحها الوطنية.

مقالات مشابهة

  • غوغل تتخلى عن مساعدها غوغل أسيستنت وتستبدله بنموذج جيميناي
  • استغرق العلماء عقدا لحلها.. الذكاء الاصطناعي يحل مشكلة معقدة في يومين فقط!
  • الاتحاد النسائي يشارك تجارب الإمارات في حوكمة البيانات المعنية بالمرأة
  • كيف أصبحت الصومال حجر الزاوية باستراتيجية تركيا في أفريقيا؟
  • غوغل تعلن عن نماذجها الجديدة للذكاء الاصطناعي
  • إطلاق برنامج جديد لتأهيل الكفاءات الوطنية في الحوسبة السحابية
  • توقيع 24 اتفاقية لتنفيذ أعمال البنية الأساسية لـ8 مشاريع ضمن "صروح"
  • اكتشاف متحور جديد من فيروس كورونا في خفافيش البرازيل
  • أمير طعيمة: موكب المومياوات من أهم تجارب حياتي والحفل كان عالميا
  • لليوم الـ48.. الجيش الإسرائيلي يواصل تدمير طولكرم في الضفة الغربية