الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: التشكيك في السيرة النبوية (2)
تاريخ النشر: 10th, August 2024 GMT
ظنُّ البعضِ أنَّ السيرة العطرة رُويَت فترةً من الزمن روايةً شفويةً حتى كان عصرُ محمدِ بن إسحاق، ظنٌّ خاطئٌ، وإذا كان هذا الظن خاطئاً، فادعاء البعض أنها لم تُروَ حتى شفاهةً طيلةَ مائة عام كذب محض.
وقد أشرنا فى المقال الماضى إلى أن للعرب اهتماماً خاصاً بالتاريخ، حتى إنه صار عندهم علماً منذ جاهليتهم له علماؤه الواعون له، وطَلبتُه الراغبون فيه، وذكرنا أن الإمام الشافعى ظل يطلب علوم العربية وعلم أيامها، أى تواريخ وقائعها وأحداثها، طيلة عشرين سنة، وهذا يدل -بلا شك- على غزارة المادة العلمية ووفرتها، وقد وصلنا هذا التاريخ مروياً بدقة تنبئ عن اعتناء شديد، فالتشكيك إذاً فى السيرة -وهى ضرب من تاريخ العرب وأيامهم، بل هى أهم ما فيه- مجازفة لا تصح ممن له أدنى ثقافة بحياة العرب فى جاهليتهم وإسلامهم.
وحتى مع الجهل باهتمام العرب بالتاريخ لا يصح أيضاً التشكيك فى وثاقة نقل السيرة؛ لأنّها تحكى حدثاً غيَّر مجرى التاريخ والحضارة، فقد صار العرب أمة واحدة يجمعها دين واحد وحضارة واحدة بعد أن ظلوا زمناً قبائل متشرذمة، وصارت لهم وقائع مشهودة مع أكبر الحضارات فى ذلك الوقت، وقطع العرب شوطاً بعيداً فى العلم والمعرفة أفادوا به العالم من حولهم، وهذا أمر لا يُنكره إلا من يُنكر الشمس وظله تحت قدميه!
وهذا قطعاً يجعل أية أمة من الأمم، وإن لم يكن لها سابق عناية بالتأريخ، تهتم بهذه السيرة بقدر ما رأت من أثرها فيها وفيمن حولها، وهل يسع إنساناً لديه مُسكةٌ من عقل أن يغفلَ تاريخاً هذا شأنه؟!
ثم دعك من هذا، وانظر من الناحية الدينية المحضة، هل يسع المسلمين وقد عاصروا سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذى أُمِروا بالإيمانِ به، وباتباعِه، ونزل فيه قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21]، هل يسعهم بعد كل هذا أن يغفلوا سيرته؟! كيف وهى فى مجملها من الدين؟!
كل هذا يثبت أن ادعاء عدم رواية السيرة طيلة مائة عام أمر يدور بين الجهل بكل هذه الحقائق والغفلة عنها، وبين تعمُّد الكذب، ولا يعنينا إن كان ذلك جهلاً أو كذباً، وإنما يعنينا أن ندرأ عن عقول الناشئة نشر تُرّهات وأباطيل تحت ستار التفكير الحر!
ونعود إلى السيرة فنقول: إذا كانت السيرة تحكى أحداث حياة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذاً فهى عبارة عن سرد تاريخى لما تضمَّنه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، نعَم.. فالسنة النبوية فيها ما فى السيرة، والمقارنة العملية تثبت ذلك، والفرق الأساس هو السرد التاريخى المنظم للوقائع والأحداث.
وبناء على هذا يكون تسجيل القرآن الكريم، وتدوين السنة الذى بدأ منذ عهد سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبأمر منه، يكون هذا التسجيل والتدوين تدويناً للسيرة النبوية الكريمة.
ورغم وضوح هذا إلا أننا سنسير فى الأمر منذ بدايته، فنبدأ بذكر ما سبق ذكره عند الحديث عن بدء تدوين السنة المطهرة، فنقول: إن الصحابة الكرام رضى الله عنهم اهتموا بتدوين العلوم اهتماماً بالغاً، حتى قال سيدنا أنس: كُنّا لا نَعدُّ عِلمَ من لم يكتب عِلمَه علماً. فعدم كتابة العلم أمرٌ يستنكره الصحابة، ولذا أَوْصَوا تلامذتهم الذين جاءوهم من شتى الآفاق لأخذ العلم عنهم بهذا الأمر، فقالوا: «قيِّدُوا العلمَ بالكتاب»، وقد رُوى هذا القول عن عدد منهم، ورُوى أيضاً عند سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم،.
ولا شك أن السيرة من العلم الذى ينبغى تدوينه، ولهذا كان بدء تدوينها فى زمن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، يقول سيدنا عبدالله بن عباس رضى الله عنهما: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازى رسول الله، صلى الله عليه وسلم،. وكان يأتى الصحابى الجليل أبا رافعٍ فيقول: ما صنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم كذا؟ ما صنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم كذا؟ ومعه ألواح يكتب فيها.
وهذا صريح جداً فى تدوين السيرة على وجه الخصوص منذ عهد الصحابة، فكيف يُدَّعى إذاً إهمال روايتها فضلاً عن تدوينها؟!
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الدين القرآن الإسلام صلى الله علیه وسلم سیدنا رسول الله
إقرأ أيضاً:
أحمد ياسر يكتب: الذكاء الاصطناعي .. سلاح تدمير غزة
" إننا نعيش لحظة قد يكون فيها لأول مرة أشياء أكثر ذكاءً منا" .. هكذا فاجأ "جيفري هينتون"، عراب الذكاء الاصطناعي العالم بتصريحه الشهير عام 2023.
هذا التصريح جاء في عالم شهد دورة لا تنتهي من الحرب والعنف منذ بداية الزمان... وإذا كان الهدف النهائي هو أن يعيش الجميع في سلام ورخاء، فإن الحلقات التي لا تنتهي من الصراعات في غرفة صدى البشرية تركت دروسًا لا حصر لها يجب تعلمها.
ونتجه بشكل لا رجعة فيه نحو ساحة معركة لا رجعة فيها مع احتمال أكبر لحدوث النسخة الأكثر شراً من الحرب التي شهدتها البشرية على الإطلاق.
إن فكرة النسخة المحوسبة والذكاء الاصطناعي من الإبادة الجماعية التي ارتكبها الأصوليون اليمينيون الجالسين في "تل أبيب" لم تكن مصادفة، وفيما يتعلق بهذا، فإن أحدث نقطة تحول في الحرب عكست المبدأ الأساسي للمجتمع ما بعد "معاهدة وستفاليا" 1648 التي أنهت حرب الثلاثين عاما ً وشكلت النظام الدولي، فلم تعد المؤسسات تحظى بالاحترام، ولم تعد الأرواح البشرية موضع تقدير، مما يشير إلى الانهيار المحتمل للنظام العالمي المأمول في عالم السلام.
وعلاوة على ذلك، فإن الوثائق الأخيرة التي كشفت عنها "صحيفة واشنطن بوست " لم تترك مجالاً للشك حول كيفية تورط إسرائيل في مذبحة واسعة النطاق في "غزة" عن بعد.. بمساعدة نموذج متقدم من الذكاء الاصطناعي قدمته شركة "جوجل".
وحدثت هذه الكارثة عندما وقعت الشركة مشروع نيمبوس بقيمة 1.2 مليار دولار مع حكومة كيان الاحتلال، وقد عارض هذه الخطوة الثنائية بشدة عشرات من موظفي جوجل الذين تم طردهم من وظائفهم.
"لا تكنولوجيا لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي؛ لن نعمل من أجل الإبادة الجماعية".. كانت هذه الكلمات مكتوبة على لافتة رفعها عمال شركة "جاينت تيك" خلال احتجاج في مدينة نيويورك، ومع ذلك، يبدو أن جوجل ساعدت على عجل خدمات الحوسبة السحابية لوزارة الدفاع الإسرائيلية، التي سمحت لاحقًا باستخدامها لاستهداف سكان غزة بالكامل دون تمييز.
لا شك أنه لن يكون من الخطأ أن نقول إن المؤيدين لإسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي قدروا مرارًا وتكرارًا تدمير غزة، ويبدو أن المستوطنين الإسرائيليين سخروا من الفلسطينيين بسبب نقص المياه من خلال إنشاء مقاطع فيديو قصيرة على تيك توك، مما يعكس حقيقة قاسية وغير أخلاقية.
ومن المهم ألا نتجاهل كيف زرعت الكتائب الإسرائيلية متفجرات لتدمير المباني السكنية ونشرت اللقطات على وسائل التواصل الاجتماعي، وعرضت أفعالها اللاإنسانية ضد الفلسطينيين لبقية العالم؟ .. كل هذه الأحداث المؤلمة ترسم صورة واضحة لمجتمع مصاب بهوس الموت، حيث يتم الاحتفال بالموت والدمار علنًا وترسيخ نزع الصفة الإنسانية في نسيجه، وربما في حمضه النووي !!
ولكن.. كيف استخدمت إسرائيل الكثير من البرامج لاستهداف المدارس والمستشفيات والشقق وحتى مخيمات اللاجئين منذ اندلاع الحرب في غزة؟
هناك مجموعة واسعة من البرامج ذات أنماط العمل المختلفة، وإن كان الغرض هو التطهير العرقي للسكان البشريين فقط، يقع الناس في غزة والضفة الغربية تحت رحمة وحش لا يرحم يراقب كل تحركاتهم من خلال شبكة واسعة من المراقبة الجماعية.
قواعد البيانات المدعومة بالذكاء الاصطناعي مثل Gospel و Lavender وWhere’s Dady هي الأسلحة التكنولوجية الأكثر فتكًا التي يستخدمها جيش الدفاع الإسرائيلي لأغراض عسكرية أثناء الحرب.
إن هذه الأنظمة المتطورة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي تلعب دوراً محورياً في معالجة البيانات لتحديد الهدف على أساس الملف العرقي، إن قضية "لافون"، التي ادعت تل أبيب أنها صُممت لتحديد حماس، أدت بدلاً من ذلك إلى قصف غير مسبوق للفلسطينيين في مكان واحد.
إن مخرجات برمجة الذكاء الاصطناعي هذه في شكل قوائم اغتيالات تعتبر قراراً بشرياً دقيقاً أثناء العمليات العسكرية، وهذا يعني ضمناً أن الآلة نفسها حددت وأوصت بقتل هؤلاء الفلسطينيين، ووصفتهم بأنهم أسوأ الأعداء من وجهة نظر عسكرية.
إن الثنائي "Gospel و Lavender" عبارة عن أسلحة حرب همجية وليست بعيدة عن سباق الإجرام الإلكتروني، والفرق الأساسي بين النظامين يكمن في تعريف الهدف…
Gospel يميز المباني والهياكل التي يزعم الجيش أن المسلحين يعملون منها، في حين يميز Lavender الأشخاص ويضعهم على قائمة الاغتيال... وهذه الخوارزمية، المطبقة على عامة السكان، تشمل بشكل غير دقيق المدنيين كمشتبه بهم على أساس أنماط الاتصال وتعبيرات الوجه التي تشبه إلى حد ما أنماط وتعبيرات الوجه لدى العملاء.
وعلى العكس من ذلك، فقد أدرك بقية العالم أن حرق الفلسطينيين ليس عيباً في التكنولوجيا؛ بل هو ميزة !!
وعلاوة على ذلك، قصفت القوات العسكرية الإسرائيلية بشكل منهجي الأفراد الذين تم تحديدهم أثناء وجودهم في منازلهم مع عائلاتهم بأكملها، و تم استخدام النظام الآلي المسمى "أين أبي" أو بالترجمة الحرفية "أين دادي" .. خصيصًا لتحديد المشتبه بهم وتنفيذ التفجيرات عندما دخلوا مساكن عائلاتهم، وهذا يسلط الضوء على المدى الذي يمكن أن تصبح فيه هذه الأنظمة أدوات مروعة لتدمير الأرواح البريئة.
والسؤال الوحيد المتبقي هو كيف ستسود العدالة، نظرًا لأن دماء الفلسطينيين تم محوها بواسطة يد آلية غير مرئية؟؟
وختاما ً .. أثار ظهور آليات متقدمة للحرب مخاوف جدية بشأن المسار المستقبلي للصراع البشري، وخاصة أنها تتجاوز المساءلة القانونية والأخلاقية، والآن أكثر من أي وقت مضى، من الأهمية وضع معايير ولوائح دولية لدعم الكرامة الإنسانية… ومع تقدمنا إلى عصر الابتكار التكنولوجي السريع، يجب علينا رسم مسار يضمن أن تخدم هذه التطورات الصالح العالمي، بدلاً من المساهمة في الدمار الشامل.
وإذا لم تكن الدروس المستفادة من الحربين العالميتين كافية، فيتعين علينا أن نتأمل في كلمات أينشتاين الشهيرة: "لا أعرف ما هي الأسلحة التي ستُخاض بها الحرب العالمية الثالثة، ولكن الحرب العالمية الرابعة ستُخاض بالعصي والحجارة". ولكن إذا فشلنا في التعلم من التاريخ، فربما لانجد حتى العصي والحجارة !!