ظنُّ البعضِ أنَّ السيرة العطرة رُويَت فترةً من الزمن روايةً شفويةً حتى كان عصرُ محمدِ بن إسحاق، ظنٌّ خاطئٌ، وإذا كان هذا الظن خاطئاً، فادعاء البعض أنها لم تُروَ حتى شفاهةً طيلةَ مائة عام كذب محض.

وقد أشرنا فى المقال الماضى إلى أن للعرب اهتماماً خاصاً بالتاريخ، حتى إنه صار عندهم علماً منذ جاهليتهم له علماؤه الواعون له، وطَلبتُه الراغبون فيه، وذكرنا أن الإمام الشافعى ظل يطلب علوم العربية وعلم أيامها، أى تواريخ وقائعها وأحداثها، طيلة عشرين سنة، وهذا يدل -بلا شك- على غزارة المادة العلمية ووفرتها، وقد وصلنا هذا التاريخ مروياً بدقة تنبئ عن اعتناء شديد، فالتشكيك إذاً فى السيرة -وهى ضرب من تاريخ العرب وأيامهم، بل هى أهم ما فيه- مجازفة لا تصح ممن له أدنى ثقافة بحياة العرب فى جاهليتهم وإسلامهم.

وحتى مع الجهل باهتمام العرب بالتاريخ لا يصح أيضاً التشكيك فى وثاقة نقل السيرة؛ لأنّها تحكى حدثاً غيَّر مجرى التاريخ والحضارة، فقد صار العرب أمة واحدة يجمعها دين واحد وحضارة واحدة بعد أن ظلوا زمناً قبائل متشرذمة، وصارت لهم وقائع مشهودة مع أكبر الحضارات فى ذلك الوقت، وقطع العرب شوطاً بعيداً فى العلم والمعرفة أفادوا به العالم من حولهم، وهذا أمر لا يُنكره إلا من يُنكر الشمس وظله تحت قدميه!

وهذا قطعاً يجعل أية أمة من الأمم، وإن لم يكن لها سابق عناية بالتأريخ، تهتم بهذه السيرة بقدر ما رأت من أثرها فيها وفيمن حولها، وهل يسع إنساناً لديه مُسكةٌ من عقل أن يغفلَ تاريخاً هذا شأنه؟!

ثم دعك من هذا، وانظر من الناحية الدينية المحضة، هل يسع المسلمين وقد عاصروا سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذى أُمِروا بالإيمانِ به، وباتباعِه، ونزل فيه قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21]، هل يسعهم بعد كل هذا أن يغفلوا سيرته؟! كيف وهى فى مجملها من الدين؟!

كل هذا يثبت أن ادعاء عدم رواية السيرة طيلة مائة عام أمر يدور بين الجهل بكل هذه الحقائق والغفلة عنها، وبين تعمُّد الكذب، ولا يعنينا إن كان ذلك جهلاً أو كذباً، وإنما يعنينا أن ندرأ عن عقول الناشئة نشر تُرّهات وأباطيل تحت ستار التفكير الحر!

ونعود إلى السيرة فنقول: إذا كانت السيرة تحكى أحداث حياة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذاً فهى عبارة عن سرد تاريخى لما تضمَّنه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، نعَم.. فالسنة النبوية فيها ما فى السيرة، والمقارنة العملية تثبت ذلك، والفرق الأساس هو السرد التاريخى المنظم للوقائع والأحداث.

وبناء على هذا يكون تسجيل القرآن الكريم، وتدوين السنة الذى بدأ منذ عهد سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبأمر منه، يكون هذا التسجيل والتدوين تدويناً للسيرة النبوية الكريمة.

ورغم وضوح هذا إلا أننا سنسير فى الأمر منذ بدايته، فنبدأ بذكر ما سبق ذكره عند الحديث عن بدء تدوين السنة المطهرة، فنقول: إن الصحابة الكرام رضى الله عنهم اهتموا بتدوين العلوم اهتماماً بالغاً، حتى قال سيدنا أنس: كُنّا لا نَعدُّ عِلمَ من لم يكتب عِلمَه علماً. فعدم كتابة العلم أمرٌ يستنكره الصحابة، ولذا أَوْصَوا تلامذتهم الذين جاءوهم من شتى الآفاق لأخذ العلم عنهم بهذا الأمر، فقالوا: «قيِّدُوا العلمَ بالكتاب»، وقد رُوى هذا القول عن عدد منهم، ورُوى أيضاً عند سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم،.

ولا شك أن السيرة من العلم الذى ينبغى تدوينه، ولهذا كان بدء تدوينها فى زمن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، يقول سيدنا عبدالله بن عباس رضى الله عنهما: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازى رسول الله، صلى الله عليه وسلم،. وكان يأتى الصحابى الجليل أبا رافعٍ فيقول: ما صنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم كذا؟ ما صنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم كذا؟ ومعه ألواح يكتب فيها.

وهذا صريح جداً فى تدوين السيرة على وجه الخصوص منذ عهد الصحابة، فكيف يُدَّعى إذاً إهمال روايتها فضلاً عن تدوينها؟!

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: الدين القرآن الإسلام صلى الله علیه وسلم سیدنا رسول الله

إقرأ أيضاً:

السيد القائد يكشف وجهة الصاروخ اليمني داخل الكيان هدف دسم للغاية تعرف عليه

اكد السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي ان العمليات اليمنية داخل الكيان وجهت ضد هدف اسرائيلي عسكري حساس جدا
واوضح في كلمته عن اخر المستجدات اليوم ان الصاروخ الفرط صوتي استهدف وزارة الدفاع الاسرائيلية في منطقة يافا المحتلة

مقالات مشابهة

  • أحمد ياسر يكتب: سوريا.. نداء للوحدة والاستقرار
  • منها الدعاء للمتوفي.. مستحبات يوم الجمعة احرص على أدائها
  • مستحبات الجمعة.. 10 سنن احرص عليها اليوم
  • داعية إسلامي: الصلاة على سيدنا النبي سر فلاح المسلم وطريق النجاه والأمان
  • أحمد الطلحي: سيدنا النبي ترك 3 خصال تجعل الحياة أفضل
  • أحمد الطلحي: سيدنا النبي ترك 3 خِصال تجعل حياتك أفضل.. ابتعد عن الجدال
  • السيد القائد يكشف وجهة الصاروخ اليمني داخل الكيان هدف دسم للغاية تعرف عليه
  • أمين الفتوى: سيدنا النبي محمد حي في قبره
  • الوفاء وحفظ الجميل.. دروس من القرآن والسنة النبوية
  • ملتقى السيرة النبوية بالجامع الأزهر: زواج النبي نموذجًا للمودة والرحمة