أثير – الروائي الأردني جلال برجس

في العشرين سنة الأخيرة اعتدت حين أسافر أن أصطحب معي كتابًا ألفه واحد من أبناء تلك البلاد التي أنوي السفر إليها؛ إنها محاولة لفهم الأمكنة والناس من خلال الأدب. في عام 2014م دعيت إلى مهرجان أرمينيا الدولي للأدب. قبيل السفر بساعات وقفت في مكتبتي أفتش عن كتاب يصلح لمرافقتي، لكنني لم أجد في رفوفها أي مؤلف لكاتب أرمني، فاخترت (داغستان بلدي) لـ (رسول حمزاتوف).

شرعت بالقراءة منذ أن بدأت وقت انتظار الطائرة. لم تكن تلك القراءة الأولى لذلك الكتاب بل كانت الثالثة، كتاب يحكي فيه (حمزاتوف) كيف طلبت منه جريدة أن يكتب تقريرًا عن (داغستان) في بضع صفحات. سخر من الموضوع، وممن يريد من شاعر أن يختصر حبه لبلاده في صفحات قليلة؛ فقادته سخريته إلى تأليف هذا الكتاب الذي ما يزال حيًّا بين القراء. هناك تقاطعات بين (داغستان) و (أرمينيا)، ليست فقط تقاطعات جغرافية، إنما ثقافية أيضًا؛ لهذا وجدت أن مهمتي القرائية في مكانها؛ إذ كان لي أرى الناس وأمكنتهم ومزاجهم الثقافي من زاوية مختلفة هي زاوية الأدب حين يجسد الأشياء بأدواته الخاصة.

في أحد أيامي في تلك البلاد التي لها علاقة وثقى بالشموس والاخضرار جلست على مقعد في حديقة، أقرأ ما يقوله (حمزاتوف) عن بلاده: (لا أريد أن تكون لي الشمس وحدها، ولا أن يكون لي الظل وحده، يمكن أن يكون لمسكني ساحات واسعة مشمسة، ولكن ينبغي أن يكون لي فيه زوايا صغيرة يغمرها الظل). عرفت (غاستون باشلار)؛ فوجدتُ بُعدًا جديدًا يتعلق بالطريق إلى معنى البيت؛ إذ ليس هناك ما هو أقدر من الفلسفة على استجلاء المعنى. وها هو (حمزاتوف) في كتابه هذا يعي جيدًا ما يرمي إليه (باشلار) وهو يرى الكون من زاوية فلسفية، ونقدية، وشعرية. يبدو، بل من المؤكد أن شاعرًا كبيرًا بحجم (حمزاتوف) قد قرأ بعمق فيلسوفًا كبيرًا بحجم (باشلار). في كتابه (جماليات المكان) يحكي (باشلار) عن البيت كمصدر دفء آمن؛ فالبيت عنده ليس الشكل البصري، بل النفسي الداخلي الذي يقوم على المعمار، لا الهندسة. بيت غير معني بأمكنة الحروب والكراهية، فهو يحكي عن بيوت في الطفولة اختبأنا في زواياها المعتمة، حَلمنا، بكينا، تأملنا فيها أول خيوط الرغبة، ومارسنا أحلام اليقظة. إنه يخبرنا عن بيوتنا عندما كانت آمنة. و(حمزاتوف) هنا يحلم ببيت يشبه ذلك البيت بزواياه المعتمة، أو ربما هو يحلم بالبيت نفسه، في عمر لم يذوِ الطفل في روحه.

في أحد مساءات أرمينيا دُعيت بمعية المشاركين في المهرجان على عشاء في مطعم تؤدي فيه فرقةٌ أغنيات من التراث الأرمني. ويجسد راقصون وراقصات لوحات تشرح ثقافتهم؛ أغنيات شعرت بألحانها تنتزعني نحو فسحة طريفة من الفرح، رغم عائق اللغة، وتحكي قصة حب حدثت في الجبال أخبرنا عنها شاعر أرمني. تساءلت بسري: ما الفرق بين أن يحدث الحب في الجبال، وبين أن يحدث في السهول، أو على شاطئ البحر، أو حتى في زحام المدن، وضجيجها؟ الجبال أماكن متسامية، لكن بلا نرجسية، تمنحنا فرصة أن نرى الأشياء على حقيقة غير معتادة. والحب كالكتابة يحتاج شكلًا طريفًا من العزلة، والتأمل، والعلوّ. في طفولتي سمعت وأنا في فراش النوم، والعتمة تتمدد في القرية بشراهة مفرطة، نساء يتحدثن عن رجل وامرأة قُتلا منذ سنين في مغارة غرب القرية؛ فصار شبحاهما يخرجان كل ليلة خميس. قلن إنهما قتلا وهما عاريان يمارسان الجنس. لم أفهم ما عنته النسوة. كل ما علق بذاكرتي من تلك الحكاية خوفٌ جعلني أتجنب ذلك المكان حتى في عمر عرفت فيه ما معنى الحب، وكيف يمكن أن يقود إلى عزلة ربما تؤدي إلى الموت. إلى أن حدث ومررت في إحدى ليالي الخميس الصيفية المقمرة بقرب تلك المغارة. في البدء تلبستني الرهبة، لكني قاومتها؛ فجلست على صخرة قريبة منها، ورحت بوعي الشاعر وهو يتأمل وحشًا، أراقب بوابتها، أنتظر المرأة والرجل أن يخرجا، ويخبراني بما جرى. مضت ساعتان ولم يحدث شيء. نهضت متجاوزًا ما بي من بقايا الخوف ودخلت المغارة. في البدء كنت أنادي بوتيرة مرتعشة، تبدلت فيما بعد إلى توسلات أقرب ما تكون إلى الشعر. وحين لم أجد إلا صدى صوتي غادرت، وأنا أتلفت ورائي لعلي أراهما. في تلك الليلة كتبت قصة قصيرة، عن عاشق يهرب بمحبوبته، ويلتقي بها في مغارة يهابها سكان القرية، لأن فيها شبحين لعاشقين قُتلا ذات سنة.

ثمة شاب من راقصي الفرقة كان ينط في الهواء كحصان مبتهج، ثم يدور حول فتاة رشيقة المشية، والالتفاتات. رقصا بوعي مزيج من البسالة والرقة، بينما الآخرون يلتفون حولهما، يمجدون ما هم عليه. بين الراقصين خُيّلت لي فجأة امرأة بدوية لا يظهر من وجهها سوى العينين، تلّوح بسيف أمام رجال يصفقون بأكفهم، وتخرج من أفواههم أصوات خشنة، ومن ورائهم تطلق بندقية بيد رجل عدة رصاصات في الهواء. إنهم يمارسون (الدحية)، طقس غنائي بدوي راقص، جاء من دغل العتمة، ومن ضرورة عتيقة بطرد الوحشة، وهزيمة غيلان الليل، ووحوشه. مرة واحدة غابت كل الأصوات، وتبقى حداء مشوب بلوعة حادة يأتي من البعيد، حداء لرجل يقف على مرتفع وينتظر غائبًا أن يعود، يغني بصوت تحسبه بكاء؛ فبكيت. انتبهت وأنا على طاولة جلس إليها روائيون من (أمريكا، وفرنسا، وكرواتيا، والهند)؛ فغادرت، متعذرًا بتدخين سيجارة. جاءت شاعرة أرمنية تدعى (قوهاش)، والتقطت سيجارة من علبتي، أشعلتها، ونفخت دخانها في الهواء بتلذذ، ثم راحت وهي ترافقني في التحديق بالليل، تقرأ قصيدة بالإنجليزية:

الطريق مظلم، الطريق حالك
قاتم هو الليل الطويل
ليل هائل لا نهاية له
نحن صاعدون إلى القمم في الجبال الوعرة
جبال أرمينيا
وتبحث أنظارنا عبثا في الظلمات عن نور
وفجر لا بد أن يبزغ في الجبال الخضراء
جبال أرمينيا

ألقت سيجارتها في سلة للمهملات وهمست مبتسمة: إنها قصيدة للشاعر الأرمني (هوفهانيس تومانيان).
في طريق العودة إلى الفندق راودتني كلمات والدة (رسول حمزاتوف) وهي تهدهده قبل النوم. كانت تتردد في مسمعيَّ كرجع لصوت بعيد:
(نم يا بني كبيرًا كالجبل،
نم يا بني واسعًا كالبحر).

لا أدري لماذا كانت أمي تغني لي قبل النوم: (يا ربي يا جايب الغيّاب، تجيب للدار راعيها). هل كان حنينًا لأبي الذي أنفق عمرًا في الجندية؟ أم أنه حزن يرافق البدوي منذ ولادته؟

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: فی الجبال

إقرأ أيضاً:

كانت أمّاً لطفل.. مقتل عتالة كوردية بنيران القوات الايرانية

كانت أمّاً لطفل.. مقتل عتالة كوردية بنيران القوات الايرانية

مقالات مشابهة

  • بعد شهر من اختفائه .. العثور على جثة شاب مرمية بأحد الجبال في محافظة عمران
  • أرمينيا وبولندا تبحثان علاقات التعاون الثنائي والشراكة مع الاتحاد الأوروبي
  • كريج ديفيد يقدّم حفلTS5 المذهل لأوّل مرة في أرمينيا
  • أولاد جلال.. حجز 3000 كبسولة “بريغابالين”
  • وسائل إعلام العدو الإسرائيلي تتحدث عن وقوع خسائر كبيرة ودمار في 9000 مبنى في الشمال و7000 مركبة بفعل صواريخ المقاومة اللبنانية وأن أكثر الخسائر كانت في مستوطنات “نهاريا” و”كريات شمونة” و”زرعيت” و”المنارة” و&
  • مؤتمر الأدباء يناقش “كتابات من واقع حرب أكتوبر” للروائي أحمد إبراهيم الشريف
  • اكتشاف فوهة ارتطام نيزك على حافة جبلية شمال الصين
  • كانت أمّاً لطفل.. مقتل عتالة كوردية بنيران القوات الايرانية
  • سفير روسيا لدى يريفان: معاهدة السلام بين أرمينيا وأذربيجان يجب أن تقدم حلا عادلا
  • خشب الزيتون الأردني حاضر في الحِرف اليدوية بمعرض “بَنان”