عبر الواقع أقدّم تاريخ الشخصيّات التي حدثت في جغرافيّات عديدة

حلب نصف هويّتي وقدّمت الرقة بحكاياتها وعمقها الحضاري وتركت الأسئلة عند المتلقّي عن حاضرها

لم أعد شديدة الوثوق بالأمكنة بعد أن عاصرت تحوّلات البشر وحركتهم وانفصام علاقتهم بأماكنهم الأولى وربّما نكرانها كما رأيت الأماكن التي عشت فيها وكنت أعرف تفاصيلها كما أعرف كفّي وقد اندثرت

عمليّة تحويل الهامش إلى مركز في الفنّ ليست عمليّة بسيطة.

أشعر في كلّ مرّة أنّني استنفدت المكان لكنّ الفنّ يعرف كيف يجدّد موارده

لن اخوض المعترك السياسي فالكتابة الأدبيّة مفعمة بالوعي السياسيّ الناضج والمسؤول والكاتب في النهاية هو ضمير الأمّة ولا يستطيع الخضوع لبراغماتيّة السياسيّ

الحصول على الجائزة في بعض الدورات ومع بعض اللجان ليس محكوماً بالنصّ الأفضل فالصراع بين الاتجاهات الإديولوجيّة والاصطفافات غير الأدبيّة والمماحكات الشخصيّة يقصي النصّ الأفضل فتضطرّ اللجنة إلى التوافق على النصّ الأقل جودة

الغرب يقرأ بشكل ممتاز حين يكون واثقاً من دار النشر والمترجم وبإمكان الترجمة الموثوقة إيصال صوت الكاتب العربيّ إلى فضاءات لم يكن يفكّر بها

لا تحتاج الأديبة د. شهلا العجيلي إلى مقدمة طويلة للتعريف بها ضمن العرف السائد في الصحافة، فقد استطاعت أن تسجل حضوراً لافتاً في المشهد الروائي الأدبي والأكاديمي من خلال منجزها المتميز الذي قدمته حتى الآن.

هي سليلة عائلة تمتد جذورها بعيداً في الأدب والفن والسياسة، لديها الكثير مما تقوله عبر هذا الحوار، وقد قالت الكثير عبر رواياتها.

*وجدت د. شهلا العجيلي نفسها وسط بيئة مفعمة بالأدب والعلم، إلى أي حد ساهم هذا الجو في توجهك إلى طريق الكتابة، وهل هذا ماكنت تهدفين إليه..؟

كانت العلاقة مع الأدب علاقة يوميّة وعفويّة، سواء أكان الأدب مكتوباً أم شفويًّا، وسواء أكان كلّ من القراءة أو الاستماع علنيّاً أم مختلساً، أي لم تشكّل هذه العلاقة بالنسبة لي ظاهرة، ولم يتح لي أن أفصل نفسي عن وجود الكتاب، لأتأمّل في هذه العلاقة، و فالقراءة كانت حالة يوميّة مستمرّة، والاستماع إلى الحكايات فعل صباحيّ مع وجود الديوان الصباحيّ في البيت الذي يداوم على حضوره عمّي المغفور له الدكتور عبد السلام العجيلي، والأخوال والأعمام الكبار الذين ولدوا في مطلع القرن العشرين وعاشوا أحداث الحربين العالميّتين، وحرب فلسطين التي شارك بعضهم فيها، والنكسة، وحرب تشرين، وكل ما صاغ حياتنا إلى اليوم، فضلاً عن بقيّة الضيوف الذين يتردّدون لشرب قهوتهم، والبحث عن الألفة من أرمن أو شركس، أو تركمان في الرقّة، ويحملون معهم حكاياتهم أيضاً، وربّما يحضر أحد الأقارب أو الذين يرتبطون بصلة نسب قريبة أو بعيدة من البادية مع زوجته أو بناته وأبنائه، لأسمع أحاديث أيّام العشائر. ثمّ تأتي واجبات ترتيب المكتبة، وإحضار المجلاّت والصحف من المكتبة القريبة. كانت أمّي رحمها الله تقرأ لي القصص بشكل يوميّ وذلك قبل ظهور خبراء التربية والتنمية الذين يحثّون الأمهات الجدد على ذلك، وكانت تذهب بي في كلّ فرصىة من الفرص القليلة إلى معرض كتاب في المركز الثقافيّ لتقتني لي مجموعة مميّزة، وتشاركني في القراءة، ولا تكتفي بأن تضع الكتاب بين يديّ بل تشرح لي سياق النصّ وحياة الشاعر أو الكاتب، والمعاني، كان أبي يأخذني إلى معارض الفنّ التشكيلي، ويعلّمني كيف أتأمّل اللوحات، ويعرّفني بمبادئ قراءتها، فهو بحكم كونه معماريّاً يداوم على رسم اسكيتشات مميّزة، كما أنّه درس تاريخ الفنّ والرسم في استوديوهات باريس وروما، و كانت علاقاته وثيقة مع فناني سورية التشكيليين، لاسيّما فاتح المدرّس، وسعد يكن. أذكر مرّة سافرنا إلى حلب حيث بيت جدّي، وهذا كان ديدننا في العطلة الصيفيّة، وبمجرّد وصولنا طلبت أمّي إلى خالي أن يشتري لي مجموعة قصص الأنبياء متفرّقة، وكنت كلّ يوم أقرأ قصّة وكان عمري ثماني سنوات، وقد تعلّمت منها الكثير واستمتعت بها جداً، وإلى اليوم أحاول تذكّر اسم المؤلّف لأنها كانت مميزة، فلا أذكر سوى لون غلاف القصّة الورديّ، كما كنت أستأجر الألغاز من مكتبة العربي في حلب في محطّة بغداد، وهي مكتبة مشهورة، وكانت لدى جدّي الذي كان يكتب أيضاً في مجلّة (الضاد) مجلّدات من مجلاّت قديمة كالرسالة، والدنيا المصوّرة، والحديث الحلبيّة، والضاد، وهكذا، كنت مهيّأة لدراسة الأدب، رغم أنّني فكّرت في سنوات ما قبل الجامعة أن أدرس الاقتصاد لأنّني كنت أسمع من والدي رؤيته حول مستقبل الرقّة الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وعن أهميّة التنمية، وتوظيف الثروة وإدارتها، وبعدأن درست الأدب وخاصّة في السنة الثالثة حينما تعمّقت في دراسة نظريّة الأدب وعلاقته بالفنون الأخرى تمنّيت لو أنّي درست العمارة، أدركت أهميّة رؤيته الجماليّة وتصوّراته، وأدركت علاقة العمارة بالسياق الثقافيّ، وبصناعة الإنسان، لكن أفكّر دائماً في أنّه لو عاد بي الزمن ودرست العمارة ما كنت سأفهمها إلاّ بعد التعمّق في دراسة الأدب والدراسات الثقافيّة، عموماً أنا أقرأ كثيراً في العمارة، وهذا كله ظهر في كتابتي وفي تفاصيل شخصيّاتي. لعلّني أطلت في تذكّر تلك المرحلة لأنّني اكتشفت مع تقدّم العمر، وتعدد التجارب أنّها أهمّ مرحلة في حياتي، وكلّما كانت مرحلة الطفولة غنيّة ستكون نصوص الكاتب او نتاج الفنّان أغنى وأعمق.

*الدكتورة شهلا أستاذة علم الجمال في الجامعة، كم نحتاج من الجمال لكي نعيد لهذا الزمن الموشوم اليوم بالقباحة والحروب، ومن يمكن أن يزرع الجمال كي يثمر في النفوس، وما هو دور الأدب..؟

أدرّس علم الجمال من منظار الدراسات الثقافيّة، التي هي تخصّصي في الدكتوراه، وأودّ أن أشير إلى أنّ القبيح أيضاً عنصر جماليّ، بل هو مفهوم من المفاهيم الجماليّة الرئيسة مثل الجميل والتراجيدي والكوميدي والجليل، لذلك لا يمكن استثناؤه لا من الحياة ولا من النظريّة، ومفهوم القبيح يتعلّق بحدوث اختلال في المنظومة القيميّة للمجتمعات، ولاشكّ في أنّ الحرب اختلال، مثلها مثل أيّ تشويه يحدث على مستوى الفرد أو الجماعة عموماً، لكن لنتذكّر أنّ الحروب تقوم أيضاً للدفاع عن اتساق العالم وجماله، أي للدفاع عن المنظومة القيميّة الراسخة عبر التاريخ، وحرب طروادة حدثت لهذا الهدف، كما أنّ القبيح يبرز من أجل تعزيز الجميل في كثير من الأحيان، أو أنّه ينتج عن انحراف في المسار من أجل الجميل، المسألة معقّدة، ودور الأدب هو تقديم النماذج الجماليّة، وإبراز علاقتها مع السياقات الثقافيّة التي أنتجتها، وتكوين وعي لدى المتلقّي بالمخاتلات أو الحيل التي تقوم بها الأنساق الثقافيّة أي المنظومات القيميّة المسيطرة أو التي تحاول السيطرة، فتستعمل المفاهيم الجماليّة والنماذج التي تمثّلها لتمرير أهدافها ومصالحها.

*روايتك "صيف مع العدو" التي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر 2019، فيها ملامسة لمرحلة قاسية عاشتها وتعيشها مدينة الرقة عبر "لميس" وما فيها من سرد للأحداث والفجائع والتاريخ، كم من الروايات تكفي لتجسيد ما حدث خلال سنوات الجنون في هذه البلاد..؟

لا يتعلّق الموضوع بكمّ الروايات، بل بالرؤية للحدث الكبير وإبرازه دراميّاً. لقد كتب الطيّب صالح رواية صغيرة (موسم الهجرة إلى الشمال) رواية واحدة استطاعت تمثيل تأثير الاستعمار على صناعة شخصيّة المستعمَر او صاحب الأرض، وعلى رؤيته لذاته ورؤيته للعالم من حوله، وآثار تجربة الاستعمار الثقافيّة والنفسيّة، وصارت مادّة لتدريس أدب ما بعد الاستعمار عالميّاً. تجنّبت في (صيف مع العدو) تصوير تفاصيل الجحيم وممارساته اليومية مع الإرهاب والتطرّف، وتبادل المصالح على حساب أهل المكان، لكن كتبت مشاهد قليلة لفصل واحد اختصرت ذلك كلّه، فالمهمّ فنيّاً لنصل إلى لحظة الانهيار هو ما حدث قبل وبعد، أي سيرة المدينة، ومعاناتها التاريخيّة، وجماليّات الحياة فيها، وتفاصيلها، ومعمارها، ثمّ دمارها، ليكون هناك انهيار درامي مختلف عمّا يقدّمه الإعلام أو الصورة الممنتجة. هناك أعمال تركّز على الحدث التاريخي، وأنا أقول لا يمكن أن يكون الأدب أقوى من التاريخ، لكنّ الأدب والرواية تحديداً تشتغل في منطقة لا يعرفها التاريخ ولا يهتمّ بها، وهذا سبب نجاح (صيف مع العدوّ)، وأنّها تدرّس في مساق الأدب العالميّ، وأدب الشتات، في جامعات عالميّة، فهي تصوّر تحوّلات حياة الأفراد، والأسباب التاريخيّة التي أدّت إلى لحظة الانهيار أو الفاجعة كما سميتها، وتهتم باليوميّ، والبسيط، وطريقة الحياة، ووعي الناس العام، وعلاقتهم بالتابو: الدين والسياسة والعادات...

*روايتك "سماء قريبة من بيتنا" التي وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر 2016، كانت أيضا قريبة من قلوبنا والقراء، لأنها كانت تلامس ذكريات وأوجاع كل من يقرأها، فيها الكثير من الأحداث التاريخية القريب منها والبعيد، ويمكن أن تكون رواية ملحمية مترعة بالتفاصيل، هي مزيج من التاريخ والسيرة الذاتية والأحداث المهمة..كيف أعددت هذه الخلطة الجميلة بصياغتها السلسلة، هل تعتبرينها تأريخ أم سيرة..؟

نعم، فيها ملامح ملحميّة واضحة، وأهمّها طبعاً المأساة الجماعيّة التي يتعرّض لها شعب له حضور قويّ و ممتدّ في التاريخ، وهذا يفترض أن أتتبّع تاريخ الأفراد وعائلاتهم لما يزيد على قرن من الزمان، وفيها أيضاً سبك قويّ للحالة الدراميّة، مصدره ليس صراعات القوى البشريّة، بل صراع البشر مع أقدارهم المحتومة، أعدّها رواية واقعيّة، لكن عبر الواقع أقدّم تاريخ الشخصيّات التي حدثت في جغرافيّات عديدة، وشهدت أحداثاً تاريخيّة كبرى مثل حرب فييتنام، وحرب البوسنة، ومذابح الأرمن، والحرب العالميّة الثانية، ونكبة فلسطين إلى الحرب الأخيرة في سورية. لعلّ سلاستها قادمة من الرؤية الذاتيّة واللغة السرديّة التي تتوخّى البعد عن الشعريّة، في حين تأتي الشعرية من المصائر التراجيدية لللأفراد، ومن معاناتهم مع المرض والحرب والفقد، ومن علاقاتهم المعقّدة مع تاريخهم، وأنظمتهم السياسيّة، ومرجعيّاتهم الثقافيّة.

*حضور المكان "حلب والرقة" مثلاً في عدد من أعمالك كان ثيمة واضحة في "عين الهر" و"سجاد عجمي"، ولكن في "سماء قريبة من بيتنا" كان المكان أكثر اتساعاً وجغرافية، لماذا..ومالذي يعنيه المكان كماضي وتاريخ، وحاضر ومستقبل بالنسبة لك..؟

بما أنّنا تكلّمنا على المظهر الملحميّ في (سماء قريبة من بيتنا)، وعلى قوّة الدراما، فلابدّ من أن نقدّم عبر السرد غنى المكان، وعمقه، وأثره في الأفراد، ودوره في تكوين هويّاتهم، حتى يكون الفقد مدوّياً وصادماً للمتلقّي من أيّ ثقافة كان، سيكون التعاطف والأسف أكبر بكثير من لو قدمنا المكان بطريقة وظيفيّة مباشرة، والمكان حلب هو في علاقة تفاعليّة مستمرّة مع الشخصيّات، ومع التاريخ، وحلب أصلاً تمتلك هذا البعد الجماليّ والثقافيّ عبر التاريخ، وكان عليّ أن أفصّله بما يناسب حركة الشخصيّات. حلب بالنسبة لي كما أقول دائماً ليست مسقط رأسي فحسب، إذ ولدت فيها وليس في الرقة، وإنما هي نصف هويّتي. أعتقد أنّني أفردت للرقة (المدينة) ( صيف مع العدوّ)، وللرقّة (التاريخ) أفردت (سجّاد عجميّ)، وقد ظهرت الرقّة في (سماء قريبة من بيتنا) عبر البيت تحديداً، ليس بوصفه مكاناً مجرّداً بل بوصفه ظاهرة محرّكة للحدث وللشخصيّة، أماّ الرقّة في (عين الهرّ) فظهرت بلا اسم، بل بوسم علاقات الفساد التي حوّلتها إلى بيئة طاردة، وفي (سجّاد عجمي) كانت هي البطل، قدّمت حكاياتها وحياة الناس فيها والنساء تحديداً، وهويّاتهنّ، والعمق الحضاري لها منذ القرن الثالث حتى أترك أسئلة عند المتلقّي عن حاضرها، وعن المؤامرات المحليّة والدوليّة التي حوّلتها إلى حاضة للإرهاب، مع انها من ذلك براء. لم أعد شديدة الوثوق بالأمكنة، كانت لديّ قناعات سابقة قبل الحرب بأنّ المكان أبقى وأثبت، حتّى عاصرت تحوّلات البشر، وحركتهم، وانفصام علاقتهم بأماكنهم الأولى وربّما نكرانها، كما رأيت الأماكن التي عشت فيها وكنت أعرف تفاصيلها كما أعرف كفّي وقد اندثرت، أو تغيّر وجهها تماماً.

*الكاتب ابن بيئته، وإبداعه المحلي طريقه للانتشار، والرقة حاضرة الفرات وفيها من الحضارة الكثير، وتعج بالتشكيل المجتمعي، وفيها الكثير مما يمكن أن يُكتب، وقد كتب عنها الدكتور العجيلي أحدى روائعه "المغمورون" هل يمكن أن نرى عملاً يلامس هذه البيئة بكل مفرداتها الجميلة والمؤلمة أيضاً..؟

يمكن استلهام المكان وتحديث العلاقة معه مراراً، وكذلك استحضار حكاياته عبر أعمال متعدّدة للكاتب، معظم أعمال نجيب محفوظ اتخذت القاهرة جغرافيّة لها، ومعظم أعمال إبراهيم عبد المجيد عن الإسكندريّة، وأنا أظهرت الرقّة بوجوه مختلفة في رواياتي كلّها، وحوّلتها أحياناً إلى مركز ليس للسرد فحسب وإنّما للصراعات والأحداث السياسيّة الكبرى، وعمليّة تحويل الهامش إلى مركز في الفنّ ليست عمليّة بسيطة. أشعر في كلّ مرّة أنّني استنفدت المكان، لكنّ الفنّ يعرف كيف يجدّد موارده، وعموماً لست أسيرة المكان، فـ (سماء قريبة من بيتنا) انتقلت بالمتلقّي إلى حلب وعمّان بشكل أكثر كثافة، لأنّ تصميم العمل يناسبه مركزان سرديّان مختلفان، وروايتي الجديدة مثلاً لا تحضر الرقّة فيها على الإطلاق.

*هل يراودك هاجس الدخول في المعترك السياسي كما عمك الدكتور عبد السلام العجيلي الذي كان ذات يوم فاعلاً في المشهد السياسي السوري إلى جانب اشتغاله في الطب والأدب؟

الجواب لا. فالكتابة الأدبيّة مفعمة بالوعي السياسيّ الناضج والمسؤول، والكاتب في النهاية هو ضمير الأمّة، ولا يستطيع الخضوع لبراغماتيّة السياسيّ. لاشكّ في أنّ اللحظة التاريخيّة التي عاش فيها الدكتور عبد السلام العجيلي كانت مختلفة تماماً، وتجربته كانت مختلفة، فمن النيابة المبشّرة بحياة ديمقراطيّة حقيقيّة في سورية إلى الجهاد في فلسطين، إلى مواجهة قرار الانفصال لإنقاذ سورية من البراغماتيّة المتنفّعة والعاجزة عن رؤية مستقبل اقتصادي قوي للبلاد، اليوم الخريطة الجيوسياسيّة كلّها متحرّكة، لا يوجد عند السياسيّ العربيّ استراتيجيّات، إنه يشتغل على الأمر الواقع، او كما نقول: يوم بيوم.

*منجزك الأدبي محط اهتمام، ومحط عين الجوائز، ولكن لم يصل بها الحظ حيث النهاية السعيدة، وقلت ذات مرة "الحصول على هذه الجوائز كان مرهونًا بالعلاقات الشخصية والآيديولوجيّات المختلِفة، وعلى الأخص بنوعية المادة المطروحَة" هل لازلت على هذا القول حتى لو حصلت على إحدى الجوائز المهمة يوما ما، أو لكونك في لجان تحكيم احدى الجوائز..؟.

وصلت مراراً إلى ما وصفته بالنهاية السعيدة، فقد حصلت على جائزة الدولة في الأردن عن (عين الهرّ)، وحين حصلت على جائزة (الملتقى) للفصّة القصيرة العربيّة في الكويت في دورتها الثانية، وأنا أعدّ وصول روايتين تباعاً للقوائم القصيرة للبوكر نهاية سعيدة جدّاً بحسب تعبيرك، فليس أمراً بسيطاً أن تصل في نصّين مختلفين، ولجنتي تحكيم مختلفتين ومئات المنافسين في كلّ دورة، وتكون في قائمتين قصيرتين لجائزة عالميّة، كما أنّ (سرير بنت الملك) وصلت إلى القائمة القصيرة للأدب المترجم لجائزة بانيبال في لندن، نعم الحصول على الجائزة في بعض الدورات، ومع بعض اللجان ليس محكوماً بالنصّ الأفضل، فالصراع بين الاتجاهات الإديولوجيّة، والاصطفافات غير الأدبيّة، والمماحكات الشخصيّة، يقصي النصّ الأفضل فتضطرّ اللجنة إلى التوافق على النصّ الأقل جودة، يعني تفوز بعض النصوص (فرق حساب) كما نسمّيه بالعاميّة، وأنا حيث أحضر في أيّة لجنة أمثّل صوت الفنّ، وصوت المعيار الجماليّ، وصوت الموضوعيّة.

*غالبا ما يبحث الكاتب عن الإثارة والتعاطي مع ثالوث الممنوعات في الأدب "الدين والجنس والسياسة" بطريقة أو بأخرى لجذب القارئ والتسويق، أين أنت من هذا الموضوع في كتاباتك..؟

لا شكّ في أنّ العلاقة مع التابو من صلب الحياة، لكن بالنسبة لي ليس المحظور هو الهدف، بل معاناة الفرد معه، ول أصوّر تلك المعاناة في علاقة مباشرة بل أناور للكشف عن الأنساق المضمرة المختبئة وراء الشعارات والجماليّات، للتنبيه عليها، وذلك من خلال إعادة تركيب العلاقات، وتقديم الحياة السريّة للشخصيّات، وتحليل العلاقة فنيّاً بين طبقات المجتمع، وتفكيك الروابط بينها. لقد وجد الفنّ لقول الحقيقة بعيداً عن الفجاجة، وهذا الفرق بين الفنّان وغير الفنّان.

*تُرجمت بعض رواياتك الى اللغات الأجنبية هل تعتقدين أن الترجمة تساهم في إيصال الصوت للقارئ الغربي ضمن هذه المساحة، وهل تعتقدي أن الغرب يقرأ لنا كما نقرأ له..؟

نعم، ترجمت رواياتي، وقصصي، ومقالاتي النقدية إلى حوالي عشر لغات، وأجد أنّ الترجمة مهمّة في إيصال صوت الكاتب، ورؤيته، وانتمائه الثقافيّ ومرجعيّاته، وقضاياه الاجتماعيّة والوطنيّة والقوميّة. وجدت الغرب يقرأ بشكل ممتاز حين يكون واثقاً من دار النشر والمترجم، فبإمكان الترجمة الموثوقة إيصال صوت الكاتب العربيّ إلى فضاءات لم يكن يفكّر بها، إنّه يصل إلى طلبة الجامعات والباحثين حول العالم، وتقام حول الأدب المترجم الدراسات والندوات، ويستطيع الكاتب تغيير وجهة نظر هؤلاء المثقّفين، والذين سيكونون فاعلين في مستقبل بلادهم، وهم الناخبون القادمون لقياداتهم وزعاماتهم، تأثير الأدب مستمرّ وممتدّ، وليس آنيّاً.

* في إطار مسألة الترجمة طالعني رأي للروائي طاهر الزهراني ويعلن فيه عدم اهتمامه بالسعي لترجمة عمله إلى لغة أخرى، متسائلاً: ماذا يعني ذلك الحرص أو الهوس الذي يسعى له كاتب حتى يقرأ له قارئ غير عربي بلغة أخرى!.ويبرر: لو تتبعنا رحلة كل عمل محلي في العالم سنجد أن مصيره سيكون على رف صغير في مكتبة عامة أو في مكتبة جامعة أجنبية، قد يجذب في أقصى الأحوال دارساً للأدب في ذلك البلد لدراسته، حتى الدراسة لهذا العمل سيكون تناوله من أجل مسائل نقدية أو استشراقية بحتة.

ويشدد: "أنا لا يهمني القارئ الأجنبي أبدا"؛ إلى أي حد تتفقين مع مثل هذه المقولة؟

أفهم قول الصديق طاهر الزهراني، وأعرف ما يشير إليه هو في سياق آخر، ولعلّ تجربتي مختلفة في حقل الترجمة، والمسألة بالنسبة لي لم تكن سعياً ولا هوساً، تلقّيت عروضاً عديدة لترجمة رواياتي، ومن دور نشر مرموقة ومن مترجمين مهمّين، وتحقّق لي ترف الاختيار لمن يخدم النصّ أكثر ولا يكون لديه أجندات لا تتناسب مع مشروعي. لاشكّ في انّ طبيعة النصّ، وأسلوب الكاتب، وطبيعة القضايا المطروحة تلعب دوراً مهمّاً في اختيارات المترجمين ودور النشر العالميّة، فالمعايير التي تكون في ذهن الكاتب العربيّ ليست هي التي في حسابات المترجم، وطبعاً هناك دور نشر عندها أجندات استشراقيّة قديمة أو مستحدثة، وهي كثيرة، وهناك دور نشر تتلقّى أجراً من بعض الكتّاب أو المؤسسات الوطنية لقاء ترجمة بعض الأسماء، لكن في المقابل هناك دور مهمة تعنى بقضايا العالم وآدابها، وتبحث عن النصوص الغنيّة بدلالاتها الاجتماعيّة العامّة، وبموقع بلدانها من حركة التاريخ، وهذه الدور مع مترجميها تقصي النصوص الزائفة التي تكتب تحت تأثير صورة نمطيّة تجاريّة من أجل الترجمة، كما تقصي النصوص المغرقة في محليّة لا تهمّ المتلقّي خارج حدود قريته أو مدينته.

*كيف تقرأين المشهد الروائي العماني والقصصي بشكل عام بعين الباحثة والناقدة والروائية المتابعة..؟

لاشكّ في أنّ الأدب العمانيّ تجلّى بوضوح في السنوات الأخيرة مع نصوص مهمّة للروائيين والقاصّين، الذين أظهروا تفاصيل مجتمعهم وقضاياه الراهنة، وإشكاليّاته التاريخيّة، فسلطنة عمان لها خصوصيّة ثقافيّة لا تشبه بها غيرها من الجغرافيّات الأخرى المجاورة بالتأكيد، نتيجة تاريخها السياسيّ وعلاقاتها مع إفريقيا الشرقيّة والشواطئ الفارسيّة، وتاريخها مع الاستعمار الإنجليزيّ، ممّا جعل النقّاد والمترجمين ينظرون إلى أدبها بوصفه معبّراً عن حالة إكزوتيكيّة، وجاءت الجوائز الأخيرة لتعزّز هذا الانتشار للأدب العمانيّ مؤخّراً، ولعلّني أذكر من الأسماء التي قرأت لها ودرستها: محمود الرحبي، وسليمان المعمري، وجوخة الحارثي، وبشرى خلفان، ويحيى سلام المنذري، ومنى حبراس، وزهران القاسمي، أمّا في الشعر فبالطبع هناك سيف الرحبي وسعيد صقلاوي.

*غالبا ما نقرأ تقسيمات رواية تاريخية، وأخرى واقعية واجتماعية، وأدب حرب، أدب المهجر...الى آخر هذه التسميات التي تدور في فلك الأدب، أليس الأدب واحد، وهل أنت مع هذه التسميات..؟

هي طريقة أكاديميّة لتسهيل الدرس والبحث، لكن هناك مدارس كبرى مثل الكلاسيكية، والرومانسيّة، والواقعيّة، ذات محدّدات عامّة تتعلّق بحقب تاريخية، ومفاهيم جماليّة، وطبقية واقتصادية، واجتماعيّة مرتبط بعضها ببعضها الآخر، وضمنها تيّارات أصغر، هذا ما تفترضه دراسة تاريخ الأدب، وإلاّ كيف ستدرس مئات النصوص عبر الحقب الزمنية!

*هل يمكننا أن نقول أنه بات لدينا في سوريا أدب حرب خلال ال13 عاماً الموجعة جداً..؟

نعم، هناك نصوص كتبت من الداخل وعن الداخل، وأخرى كتبت عن الهجرة واللجوء من جغرافيات متباينة، ومنها ما كتب بوصفه جزءاً من أدب المنفى، والنصوص القادمة التي ستنتج ستكون ذات مسافة جماليّة من الحدث، وحسب تجربتي ستكون أنضج، إذ مازال الكتّاب حول العالم يكتبون عن لحظة الحرب العالميّة الثانية وعقابيلها، وعن حرب فييتنام، وعن ربيع براغ وعن سقوط جدار برلين، وعن الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وما زالت مدوّنة الحرب في سورية في صفحاتها الأولى، والتاريخ النقدي سيفرز النصوص ويحدد جودتها بالتأكيد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بالنسبة لی التاریخی ة الجمالی ة الشخصی ات ة القصیرة الثقافی ة یمکن أن ی الأدبی ة ة الأدب من أجل ة التی التی ت الرق ة

إقرأ أيضاً:

"سعاد مكاوي.. بين بريق الفن وانطفاء الأضواء: لماذا اعتزلت النجمة التي أبهرت الجمهور؟"

 

 

تحل اليوم الذكرى الميلادية للفنانة الراحلة سعاد مكاوي، إحدى أبرز نجمات الفن في الخمسينيات والستينيات. ورغم أن مسيرتها الفنية زاخرة بالأعمال الناجحة والأغنيات التي لا تزال عالقة في الذاكرة، فإن حياتها الشخصية ومسارها الفني شهدت منعطفات مثيرة للجدل، جعلتها واحدة من أكثر الشخصيات التي حيرت جمهورها ونقادها على حد سواء.

 

 

ويبرز الفجر الفني في هذا التقرير عن أبرز المحطات الفنية ل سعاد مكاوي

 

من "منديل الحلو" إلى "غازية من سنباط"

شاركت سعاد مكاوي في حوالي 20 فيلمًا تركت بصمتها في السينما المصرية، من أشهرها "منديل الحلو"، "أسمر وجميل"، "لسانك حصانك"، "نهارك سعيد"، وآخرها فيلم "غازية من سنباط" عام 1967. وقد استطاعت، من خلال أدائها المميز، أن ترسم لنفسها مكانة خاصة، خاصة في تقديم الثنائيات الغنائية مع النجم الكوميدي إسماعيل ياسين، حيث اشتهر دويتو "عايز أروّح" من فيلم "المليونير" كأيقونة من أيقونات السينما الغنائية.

العودة التي لم تكتمل

بعد اعتزالها المفاجئ للفن لسنوات، عادت سعاد مكاوي إلى الساحة في التسعينيات لإحياء بعض الحفلات الغنائية، لكنها سرعان ما اختفت مجددًا بلا عودة. ويُقال إن السبب كان إحباطها بسبب غياب التشجيع الذي كانت تحتاجه للاستمرار، ليصبح ذلك الغياب الأخير في مسيرتها، تاركة وراءها تساؤلات حول ما إذا كان قرارها نابعًا من إحباط فني أو ظروف شخصية.

حياة شخصية مضطربة

تزوجت سعاد ثلاث مرات؛ الأولى من الموسيقار الكبير محمد الموجي، ثم من المخرج عباس كامل، وأخيرًا من الموسيقار محمد إسماعيل. لكن يبدو أن حياة النجمة اللامعة خلف الكاميرات لم تكن بنفس البريق الذي عرفه جمهورها. فاعتزالها الفن والطرب لم يكن مجرد قرار مهني، بل ربما كان هروبًا من خيبات شخصية أثرت على طموحها الفني.

 

أغنيات لا تُنسى.. وإرث باقٍ

رغم تقلبات حياتها، لا تزال أغنيات سعاد مكاوي ترددها الأجيال حتى اليوم. من أشهر أغنياتها: "لما رمتنا العين"، "قالوا البياض أحلى"، والأوبريت الإذاعي الشهير "عواد باع أرضه". كما غنت لكبار الشعراء والملحنين، ما جعلها رمزًا من رموز العصر الذهبي للأغنية المصرية.

 

ما لا شك فيه هو أن سعاد مكاوي كانت نجمة أضاءت سماء الفن المصري ثم انطفأت فجأة، تاركة إرثًا غنائيًا وسينمائيًا يثير الإعجاب، لكنه يترك أيضًا حيرة حول الأسباب التي دفعتها إلى الانسحاب دون عودة.

مقالات مشابهة

  • محمد الشيخي: التشكيلة التي بدأ بها هيرفي رينارد اليوم كانت خاطئة
  • طلب البعثة الاممية التي قدمه حمدوك كانت تصاغ وتُكتب من داخل منزل السفير الانجليزي في الخرطوم!!!
  • تدمير آليتين عسكريتين للاحتلال بمن فيها بعمليات للمقاومة في غزة
  • "سعاد مكاوي.. بين بريق الفن وانطفاء الأضواء: لماذا اعتزلت النجمة التي أبهرت الجمهور؟"
  • د. آمال عثمان تكتب: الأوركسترا الملكي البريطاني في قلب التاريخ
  • في ذكرى ميلاد النمر الأسود.. كيف كانت علاقة الفنان أحمد زكي بنجله هيثم؟
  • ما هي الأهداف التي يمكن لأوكرانيا ضربها في روسيا بعد قرار بايدن؟
  • الحراك الثوري يدين عمليات التعذيب التي تمارسها قوات "درع الوطن" لرئيس مكتبه السياسي
  • ” عندما يكون الفن القوة التي تتحكم في التعايش السلمي ونبذ الاعراف البالية “فصلية “
  • ماتاريلا: "لا يمكن رفض القوانين إلا إذا كانت غير دستورية"