إلى أين تتجه الانتخابات الرئاسية التونسية؟
تاريخ النشر: 9th, August 2024 GMT
في انتظار إعلان مجلس "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" في تونس عن القائمة الأولية للمقبولين يوم الأحد المقبل، بلغ عدد الملفات التي وصلت إلى الهيئة -بعد أن تجاوز أغلبها كل التضييقات التشريعية والإدارية- 17 ملفا من جملة 114 ملفا قام أصحابها بسحب استمارات التزكية الشعبية. وإثر الإعلان المرتقب عن القائمة النهائية الأولية للملفات المقبولة سيمر المترشحون إلى مرحلة ثانية من الفرز "القضائي" أمام المحكمة الإدارية في طوريها الابتدائي والاستئنافي.
من الناحية القانونية الصرفة، توجد أمام أنظار الهيئة العديد من الملفات التي ستسقط لعدم استيفائها الشروط، كعدم حصول أصحابها على البطاقة عدد 3 (بطاقة السوابق العدلية)، أو عدم اكتمال عدد التزكيات المطلوبة، أو وجود قضايا منشورة في حق أصحابها، أو صدور أحكام قضائية ضد بعضهم مما يمنعهم من الترشح مدى الحياة. وهي وضعية ستضيف العديد من المترشحين الجديين (مثل السادة عماد الدايمي وعبد اللطيف المكي ومنذر الزنايدي وهشام المدب، وغيرهم من الشخصيات المحسوبة على المعارضة الجذرية أو على المنظومة القديمة) من السباق الانتخابي، مما يجعل التنافس ينحصر مبدئيا -في انتظار صدور القائمة النهائية- بين الرئيس وموالاته النقدية من جهة، وبين بعض الشخصيات المحسوبة على المعارضة برموزها الحزبية أو المستقلة.
الانتخابات -بصرف النظر عن الانتقادات الموجهة للمسار الانتخابي برمته- ستكون إما تفويضا شعبيا جديدا للرئيس كي يستكمل مشروعه السياسي (الديمقراطية المباشرة والنظام الرئاسوي وإنهاء الحاجة للأجسام الوسيطة أو على الأقل تدجينها)، وإما أن تكون إنهاء لذلك التفويض والدفع بالفلسفة السياسية لتصحيح المسار إلى هامش التاريخ
ولكنّ هذه القسمة التي تنبني على موقف المترشحين من إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 وعلى اختلاف توصيفاتهم لها دستوريا (هل هي مؤسسة على قراءة ما فوق دستورية أم هي انقلاب على الدستور) سرعان ما تتداعى إذا ما انتقلنا إلى الموقف من سياسات "تصحيح المسار" وخياراته الكبرى، خاصة فيما يتعلق بالاستهداف المُمنهج للأجسام الوسيطة وللمؤسسات الدستورية وغير الدستورية، وكذلك التضييقات المتعددة على مكونات المجتمع المدني وعلى العمل النقابي وحرية الإعلام.
فنحن سنجد أنفسنا هنا أمام قسمة ثانية تقوم على التقابل بين الرئيس وجميع المترشحين، بمن فيهم أولئك الذين شكلوا حزامه السياسي وآلته الدعائية قبل إعلان الإجراءات وبعدها. وهو ما يعني "نظريا" أن الانتخابات -بصرف النظر عن الانتقادات الموجهة للمسار الانتخابي برمته- ستكون إما تفويضا شعبيا جديدا للرئيس كي يستكمل مشروعه السياسي (الديمقراطية المباشرة والنظام الرئاسوي وإنهاء الحاجة للأجسام الوسيطة أو على الأقل تدجينها)، وإما أن تكون إنهاء لذلك التفويض والدفع بالفلسفة السياسية لتصحيح المسار إلى هامش التاريخ.
لو أردنا التعمق أكثر في الحكم الوارد أعلاه (أي تقابل الرئيس مع سائر منافسيه بلا استثناء)، فإننا سنحتاج إلى إدخال بعض التعديلات عليه كي يكون أكثر تطابقا مع التاريخ والواقع على حد سواء، ولذلك قدمنا لهذا التخصيص بمفردة "نظريا" لوصف التقابل بين الرئيس والعديد من منافسيه. فالمترشحون المنتمون إلى أحزاب الموالاة النقدية أو المعارضة الخطابية (مثل حركة الشعب والوطد) لا يمكن أن يكونوا في وضع تقابل تضاد حقيقي مع الرئيس، فهؤلاء هم من مهد الطريق لـ25 تموز/ يوليو 2021، وهم من اعترفوا بشرعيته منذ ساعاته الأولى، وهم أيضا من يشتركون مع الرئيس- إلى زمن قريب- في رفض العودة إلى دستور 2014 وإلى النظام البرلماني المعدل.
فهل يعكس تغير موقفهم من الرئيس تغيرا موازيا في وعيهم السياسي؟ بل هل يعكس أي نقد ذاتي لمكبوتاتهم الأيديولوجية ورهاناتهم الهوياتية التي أفسدت مسار الانتقال الديمقراطي؟ وكيف يمكن الثقة في وعود تطلقها شخصيات لم تأخذ مسافة جزئية من تصحيح المسار إلا بعد أن ذهب خراجه لغيرهم فكانت مغارمهم منه دون مغانمهم؟ بل كيف يمكن الثقة فيمن تناقضه الثانوي -إلى حد الآن- هو مع الرئيس ومشروعه والمحور الإقليمي الذي يدعمه، وتناقضه الرئيس مع حركة النهضة وحلفائها من جهة أولى، ومع الإرادة الشعبية التي دفعت بهم إلى مركز الحقل السياسي من جهة ثانية؟
كيف يمكن الثقة فيمن تناقضه الثانوي -إلى حد الآن- هو مع الرئيس ومشروعه والمحور الإقليمي الذي يدعمه، وتناقضه الرئيس مع حركة النهضة وحلفائها من جهة أولى، ومع الإرادة الشعبية التي دفعت بهم إلى مركز الحقل السياسي من جهة ثانية؟
إن الإجابة عن الأسئلة السابقة ستكون محددا مركزيا في نوايا التصويت. فإذا كانت القاعدة الانتخابية الصلبة للرئيس لا تتجاوز العشرة في المائة من مجموع الناخبين المسجلين، فإن هؤلاء المترشحين يشتركون مع الرئيس في القاعدة الانتخابية ذاتها، بل يشكلون نواتها الأيديولوجية وآلتها الدعائية. وقد يكون من العسير عليهم أن يعولوا على دعم القواعد الانتخابية لباقي المترشحين المرفوضين في القائمة الأولية رغم تقديم مطالبهم للهيئة، وسيكون من شبه المحال أن يستفيدوا من قواعد المترشحين المقبولين والذين سيغادون السباق الانتخابي من الدور الأول (تحديدا أولئك المعارضين لتصحيح المسار معارضة جذرية)، وهو ما يعني محدودية حظوظ "الموالاة النقدية" في تجاوز الدور الأول مهما كانت أسماء الذين ستعلن هيئة الانتخابات عن قبولهم النهائي لخوض الانتخابات الرئاسية.
في صورة عدم حصول مفاجآت أثناء عملية الفرز الأولي للترشحات ومن بعدها مرحلة تقديم الطعون في طوريها الابتدائي والاستئنافي، يبدو أن التنافس سيكون أساسا بين الرئيس المنتهية ولايته وبين المرشح المستقل الدكتور ذاكر الأهيذب. ونحن لا نبني هذا الحكم على منطق الرغبة أو التشهّي، بل هو حكم مبني على استقراء في سير المترشحين الجديين ومواقفهم قبل 25 تموز/ يوليو 2021 وبعده، وكذلك على التوجه العام الرافض لسياسات تصحيح المسار المصحوبة بتزايد نسب الفقر والمديونية والتضخم. فإذا ما سلّمنا بمحدودية القاعدة الانتخابية للرئيس ولرموز الموالاة النقدية، فإن بقية القواعد الانتخابية التي تشترك في النقد الجذري لتصحيح المسار لن تجد مرشحا أفضل من الدكتور الأهيذب.
فرغم كل الاحترازات الموجهة ضده (كانتمائه السابق للتيار الديمقراطي المتهم بالتمهيد لإجراءات 25 يوليو صحبة حركة الشعب وورثة التجمع المنحل، والمغذي للصرعات السياسية على أساس الهوية الأيديولوجية في إطار تقاربه مع اليسار الوظيفي)، فإن استقالة المرشح ذاكر الأهيذب من التيار بسبب الموقف من المساواة في الميراث وكذلك الاقتراب الخطير مع مكونات اليسار الوظيفي، تجعل من هذا الاحتراز غير ذي معنى.
ولعل أعظم ما يُقوّي من فرص هذا المرشح في منافسة الرئيس -إن لم يُستبعد من القائمة النهائية- هو أنه متخفف من الأيديولوجيات النسقية وصراعات الهوية القاتلة، وهو مثال ناجح للتونسي "السوي"، أي ذاك الشخص الذي استفاد من المدرسة العمومية باعتبارها مصعدا اجتماعيا، وحافظ على علاقة متوازنة بين الموروث الديني المستنير والفلسفة الحداثية التي لا تتحرك في أفق الاستئصال والتغريب وتكريس التبعية والتخلف ونموذج الدولة الريعية. كما أنه رغم انتمائه إلى أصول جهوية غير تلك التي ينحدر منها أغلب السياسيين منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، فإنه لا يتبنى أي خطاب جهوي مضاد، وهو ما يعني قدرته على التجميع وعلى تقديم رسائل طمأنة لعموم المواطنين بعيدا عن الصراعات الأيديولوجية أو الجهوية والفئوية.
إما أن يقتنع عموم المواطنين بضرورة التجاوز الجدلي لما قبل 25 تموز/ يوليو وما بعده -أي المحافظة على ما فيهما من إيجابيات دون السلبيات- فيسندون هذا المترشح أو من يرون فيه القدرة على التجميع بعيدا عن الخطابات الشعبوية والنزعات الاستئصالية، وإما أن تتواصل سطوة العقل السياسي "الهوياتي" المؤدلج والمتلاعب به من لدن الآلة الدعائية لمنظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها الإقليميين والدوليين
ولكنّ كل هذه "الخصال" ستكون أمام تحديين كبيرين؛ أولهما لا سلطة له عليه (القبول أو الرفض النهائي)، أما التحدي الثاني فهو موكول إلى قدرة فريق حملته الانتخابية على تقديم برنامج معقول والنجاح في السياسة التواصلية بتقديم مواقف واضحة ولا تقبل اللبس في المسائل الخلافية في المستوى السياسي (الموقف من دستور 2014 ومن طبيعة النظام السياسي، والموقف من الصراعات الهوياتية، والموقف من إصلاح السلطات وأجهزة الدولة والإعلام والمجتمع المدني والعمل النقابي.. الخ)، مع احترام الناخب ومواجهته بحقيقة الوضع وطبيعة الممكنات وما قد تستلزمه من تضحيات ومن تنازلات فردية وجماعية في إطار سلطة شفافة وخاضعة للمراقبة والمساءلة.
إننا أمام خيار انتخابي منفتح على نتيجتين متناقضتين ولكنهما ممكنتين نظريا وواقعيا: إما أن يقتنع عموم المواطنين بضرورة التجاوز الجدلي لما قبل 25 تموز/ يوليو وما بعده -أي المحافظة على ما فيهما من إيجابيات دون السلبيات- فيسندون هذا المترشح أو من يرون فيه القدرة على التجميع بعيدا عن الخطابات الشعبوية والنزعات الاستئصالية، وإما أن تتواصل سطوة العقل السياسي "الهوياتي" المؤدلج والمتلاعب به من لدن الآلة الدعائية لمنظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها الإقليميين والدوليين، فتكون نتائج الانتخابات القادمة -مهما كان الفائز من أنصار تصحيح المسار وموالاته النقدية- معبرا لمرحلة جديدة من مراحل الأزمات الدورية للحقل السياسي التونسي، مع ما يعنيه ذلك من سيناريوهات كارثية في مستوى المؤشرات الاقتصادية والحريات الفردية والجماعية، بل في مستوى السلم الاجتماعية المهددة بمركزة السلطة وغياب منطق الشراكة وعجز النخب عن بناء المشروع الوطني الجامع دون إقصاء على أساس الهوية.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه تونس الانتخابات قيس سعيد تونس انتخابات الرئاسة مرشحين قيس سعيد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القائمة النهائیة لتصحیح المسار تصحیح المسار بین الرئیس مع الرئیس وإما أن إما أن من جهة
إقرأ أيضاً:
إلى أين تتجه غزة في ظل الصمت الدولي عن الإجرام الصهيوني؟
الثورة / يحيى الربيعي
على امتداد قطاع غزة المحاصر، تتكشف فصول مأساة إنسانية غير مسبوقة، حيث تتحول الحياة اليومية إلى كابوس مرعب، وتتلاشى أبسط مقومات البقاء أمام أعين العالم الصامت، الحاجة «أم أحمد»، رمز لمعاناة آلاف الفلسطينيين، تجسد بذهابها المتكرر إلى عيادة «الأونروا» بحثاً عن علاج لأمراضها المزمنة، الواقع المرير الذي يواجهه سكان القطاع، عودتها في كل مرة خالية الوفاض، ليس بسبب ندرة الدواء فحسب، بل بسبب نفاده التام نتيجة الحصار الخانق وإغلاق المعابر الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي منذ الثاني من مارس المنصرم.
تصاعدت التحذيرات الدولية والفلسطينية من كارثة إنسانية غير مسبوقة في قطاع غزة، وسط استمرار هجمات العدو الإسرائيلي وتشديد الحصار، ما دفع منظمات دولية إلى وصف الوضع بأنه “جحيم” و”مقبرة جماعية” للسكان والعاملين في المجال الإنساني.
غزة مقبرة جماعية
حذّرت الأمم المتحدة من أن سكان غزة يعيشون “أسوأ فترة” منذ بداية الحرب، مع تحوّل القطاع إلى “جحيم” بسبب النقص الحاد في الغذاء والدواء والوقود، وفق تصريحات أجيت سانغاي، مدير مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينية، وأكد سانغاي توقف المساعدات منذ مارس ما يفاقم معاناة أكثر من 2.4 مليون فلسطيني.
من جهته، نبّه مدير عام منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم إلى أن الهجمات على المستشفيات تهدّدُ بوقف الخدمات الصحية، التي تعتمد على مولدات كهرباء واليت باتت أمام تهديد حقيقي بتوقفها بسبب نقص الوقود ودعا إلى “حماية المرافق الصحية ورفع الحصار فورًا”
بينما حذّرت منظمة “أطباء بلا حدود” من تحوّل غزة إلى «مقبرة جماعية» نتيجة الهجمات المتعمدة على العاملين في المجالين الطبي والإنساني، ووصفت الوضع بأنه “تطهير عرقي يستهدف ملامح الحياة”، وأضافت أن الحصار الكامل على غزة أدى إلى نفاد مخزون الغذاء والوقود والأدوية، وحذّرت من أن نقص الوقود في مختلف مناطق غزة سيؤدي إلى توقف الأنشطة الطبية بشكل حتمي، بسبب اعتماد المستشفيات على المولدات الكهربائية.
ودعت المنظمة سلطات العدو الإسرائيلي إلى رفع الحصار اللاإنساني والقاتل على غزة فورًا، وشددت على ضرورة حماية حياة المدنيين الفلسطينيين، وضمان سلامة العاملين في القطاعين الطبي والإنساني، ووصفت “أطباء بلا حدود”، في تصريحات سابقة، الوضع الكارثي في غزة، بأن “رائحة الموت تفوح في كل مكان”، وأن العقيدة العسكرية الإسرائيلية ترتكز على مبدأ الانتقام العشوائي الأعمى. واعتبرت المنظمة أن ما يجري هو “تطهير عرقي يستهدف ملامح الحياة في غزة”.
الجريمة في الذريعة
المشهد المأساوي يتجاوز حدود الرعاية الصحية ليطال كل تفاصيل الحياة في غزة. لا حليب للأطفال، لا خبز يسد الرمق، لا دواء يخفف الألم، ولا غذاء يقي من شبح المجاعة الذي يخيم بثقله على أكثر من 2.3 مليون إنسان، وإن وُجدت بعض هذه الضروريات شحيحة، فإن أسعارها الملتهبة تقف عائقاً أمام جيوب الغزيين التي أنهكتها سنوات الحرب والحصار المتواصلة.
وفي ظل هذا الحصار المطبق، عاد الموت ليفرض حضوره القاتم مجدداً منذ الثامن عشر من مارس، بعد أن استأنف الاحتلال عدوانه الوحشي تحت ذرائع هي في ذاتها تندرج ضمن جرائم تصفية للقضية الفلسطينية. زعم الاحتلال أن هذه العمليات تهدف إلى إجبار المقاومة الفلسطينية على إطلاق الأسرى ونزع سلاحها، بينما أن الحقيقة على الأرض تتجاوز هذه المزاعم لتكشف عن استهداف ممنهج لتصفية الشعب الفلسطينية وتهجيره وسلبه حقه في الأرض والحياة، فقد ارتفعت حصيلة الشهداء منذ استئناف العدوان إلى 1652 شهيداً و4391 جريحاً، معظمهم من النساء والأطفال، ليرتفع العدد الإجمالي لضحايا حرب الإبادة المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023م إلى أكثر من 51 ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى.
لم يكتف الاحتلال بالقتل المباشر، بل عمد إلى استخدام التجويع والعطش والحرمان من العلاج كسلاح فتاك ضد الفلسطينيين، فقد استهدف أكثر من 37 مركزاً لتوزيع المساعدات و28 تكية طعام، في محاولة واضحة لتطبيق سياسة التجويع كأداة حرب، وهو ما أكده المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، محذراً من كارثة إنسانية حقيقية ومجاعة وشيكة تهدد حياة أكثر من 1.1 مليون طفل يعانون من سوء تغذية حاد.
كل شيء في غزة على حافة الانهيار
وتتفاقم الكارثة مع منع الاحتلال دخول أي شاحنات إغاثة أو وقود إلى القطاع، تاركاً آلاف الشاحنات المحملة بالمساعدات عالقة على المعابر لأسابيع طويلة، هذا الحصار الشامل يضرب أساسيات البقاء، ويدفع المرافق الخدمية والإنسانية إلى حافة الانهيار التام، حيث تعمل المستشفيات بقدرات محدودة وتنذر بالتوقف الكامل خلال أسابيع قليلة بسبب نفاد الوقود والأدوية.
لم تتردد وكالة «الأونروا» في دق ناقوس الخطر، معلنة نفاد مخزونات الغذاء التي دخلت القطاع خلال فترة وقف إطلاق النار، محذرة من خطر المجاعة الوشيك، وهو ما أكده المفوض العام للوكالة، فيليب لازاريني، الذي اتهم إسرائيل صراحة باستخدام الغذاء والمساعدات الإنسانية كسلاح في غزة، واصفاً الحصار الخانق بأنه «عقاب جماعي».
ولم يكن استخدام التجويع سلاحاً خفياً، بل تجلى في تصريحات علنية لمسؤولين إسرائيليين، على رأسهم ما يسمى بوزير الحرب «يسرائيل كاتس» والمدعو وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير، اللذين أعلنا صراحة منع دخول المساعدات للضغط على حركة حماس، في تجاهل تام للقانون الدولي والأعراف الإنسانية.
إن ما يجري في غزة ليس أزمة إنسانية، وإنما جريمة إبادة جماعية منظمة ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي بدعم أمريكي وصمت دولي مخزٍ، فآلة القتل الصهيونية تواصل غاراتها الوحشية على الأحياء السكنية المكتظة، مستخدمة قنابل شديدة التدمير تسفر عن تدمير كامل للمنازل ومقتل وإصابة المئات من المدنيين في كل غارة، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ.
الصمت رخصة مفتوحة
ورغم المناشدات المتكررة من العالقين تحت الأنقاض، فإن عمليات الإنقاذ تجري ببطء شديد وبأدوات بدائية، مما يزيد من أعداد الضحايا الذين يفقدون حياتهم اختناقاً أو متأثرين بجراحهم، وفي محاولة لتبرير جرائمها، تلجأ سلطات الاحتلال إلى الادعاءات الكاذبة باستهداف «قياديين عسكريين في حماس»، دون تقديم أي دليل ملموس أو السماح بتحقيق مستقل في هذه الادعاءات.
يؤكد خبراء القانون الدولي أن هذه الادعاءات لا تعفي إسرائيل من مسؤولياتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك إجراء التحقيقات الفعالة ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات وجبر ضرر الضحايا، كما أن صمت المجتمع الدولي وتقبله الضمني لهذه الادعاءات يمنح إسرائيل عملياً رخصة مفتوحة لمواصلة استهداف المدنيين تحت غطاء قانوني زائف.
ويشدد المحللون العسكريون على أنه حتى في حال وجود مقاتل في مكان ما، فإن ذلك لا يبرر هذه المجازر الوحشية ولا يسقط عن سلطات الاحتلال التزاماتها القانونية بموجب القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك مبادئ الإنسانية والتمييز والضرورة العسكرية والتناسب واتخاذ الاحتياطات الواجبة.
ويؤكد خبراء القانون الدولي أن وقائع هذه المجازر تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن قوات الاحتلال تتعمد استهداف المناطق المكتظة بالمدنيين، مع علمها بأن غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وتستخدم أسلحة ذات قدرة تدميرية عالية دون مراعاة لمبدأ التمييز أو اتخاذ الاحتياطات اللازمة لحماية المدنيين. هذه العمليات العسكرية غير القانونية ترتقي إلى جرائم دولية مكتملة الأركان تستوجب الملاحقة القضائية والمساءلة الجنائية الدولية.
وصمة عار على جبين الإنسانية
إن تحول المجازر الجماعية بحق الفلسطينيين إلى مشهد مألوف يثير الصمت هو وصمة عار على جبين الإنسانية، فتسامح النظام الدولي مع هذه الجرائم ليس مجرد إخفاق أخلاقي، بل هو إخلال جسيم بالالتزامات القانونية للدول والمجتمع الدولي، ويحول القتل الجماعي للفلسطينيين إلى سياسة علنية تُنفذ على مرأى من العالم.
إن منهجية القتل الإسرائيلية تشير بوضوح إلى سياسة ترمي إلى القضاء على المدنيين الفلسطينيين في كل مكان في قطاع غزة، وبث الذعر بينهم، وحرمانهم من الإيواء والاستقرار، ودفعهم للنزوح القسري المتكرر، وإهلاكهم وإخضاعهم لظروف معيشية قاتلة.
ختاماً، فإن المجتمع الدولي بأسره مطالب بتحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية والتحرك العاجل لوقف جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، واتخاذ جميع التدابير الفعلية لحماية المدنيين الفلسطينيين، وضمان امتثال الكيان الصهيوني لقواعد القانون الدولي وقرارات محكمة العدل الدولية، ومساءلته ومحاسبته على جرائمه، كما أن العالم مطالب بتنفيذ أوامر القبض الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في هذه الجرائم، وفرض عقوبات اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية على الكيان المؤقت بسبب انتهاكاته المنهجية للقوانين الدولية والأعراف الإنسانية، بما في ذلك حظر تصدير الأسلحة إليه ووقف كافة أشكال الدعم والتعاون معه، بل إن تفعيل قنوات المساءلة والمحاسبة يجب أن يطال الدول المتواطئة والشريكة في هذه الجرائم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، إن صمت العالم تواطؤ، وتقاعسه جريمة أخرى تضاف إلى سجل الاحتلال الأسود.