خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف
تاريخ النشر: 9th, August 2024 GMT
مكة المكرمة
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور بندر بن عبدالعزيز بليلة ، المسلمين بتقوَى اللهِ، وشكره على ماحباهم بهِ وأسداهُ، وعلى ما خصَّهم بهِ وأولاهُ، فنِعمُ اللهِ عليكُم تترَى، لا تُعَدُّ ولا تُحصَى .
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام : خلقَ اللهُ النفسَ البشريةَ، وأودعهَا طبائعَ وأخلاقاً، لتكونَ أكثرَ اِئتلافاً واتِّفاقاً، لِما يعرضُ لها في دينِها ودُنياها.
وأوضح أن أمر الله جاءَ لعبادهِ تَشْريعًا وتَكْلِيفًا، بِتزكِيَة هذه النفسِ وتَهذِيبِهَا، لِيُسْلَكَ بها سَبِيلُ المُتَّقِينَ، ويُنْتَهَجَ بها نهْجُ الصَّالِحينَ المُصْلِحِينَ.
وأضاف الشيخ الدكتور بندر بليلة أنَّ مِن أعظَمِ هذهِ الطَّبائعِ أثراً على العبادِ، خُلُقَ الإِلْفِ والِاعْتِيادِ، وهُوَ في ذاتِهِ خُلُقٌ يَدُلُّ على استكمالِ النِّعَمِ ودوامِها، وثُبُوتِها واستقرارِها، واستمرارِها واستمرائِها وهُوَ لعَمْرُ اللهِ خُلُقٌ ينبَغِي أن يدفَعَ بالمؤمنِ إلى مَزيدٍ مِن الشُّكرِ والاِعترافِ، والتَّوْبةِ والاِزْدِلافِ.
وبين فضيلته أن الإلفُ هو المقوِّمُ الأكبرُ الَّذِي يقفُ وراءِ ثباتِ العبدِ على الاستقامةِ، والباعثُ لهُ على السيرِ على منهاجِ الصَّلاحِ والدِّيانةِ، إذا ما عوَّدَ صاحبَهُ على الطاعةِ، وربَّاهُ على البِرِّ والعبادةِ، فيألَفُ العباداتِ، ويعتادُ فعلَ الخيراتِ، مِن صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقةٍ، وتِلاوَةٍ للقرآنِ، وصِلةٍ للأرحامِ، وسعيٍ في تَفريجِ الكُرُباتِ، وقضاءِ الحاجاتِ، وصُنعِ المعروفِ وإغاثةِ الملهوفِ، وهذا إلفٌ محمودٌ، مرغَّبٌ فيهِ مقصودٌ، يُشكرُ عليهِ صاحبُهُ، ويزدانُ بهِ حائزُهُ، حينَ يقودُ نفسَهُ لدروبِ الطاعاتِ، فتصبحُ لهُ عادةً، يصعُبُ عليهِ انفكاكُهُ منهَا، ولا يَتَصَوَّرُ نفسَهُ بدُونِها، وهذَا وأَيْمُ اللهِ لهو التَّوفِيقُ للهِدَاية وللبِرِّ، ولِلصَّلاحِ وطِيبِ الأثرِ.
وأشار إلى أن أضربِ الإلفِ المحمودِ ما أودعهُ اللهُ في الإنسانِ من تعوُّدٍ على المصائبِ، وقُدرةٍ على تحمُّلٍ المتاعبِ، ولولَاهُ لما صفتْ حياةُ أولئكَ الذينَ نزلتْ بهِمُ الشدائدُ، وأحاطتْ بهِمُ المُدلهِّماتُ؛ لأنَّ صدمةَ المصيبةِ إنَّما تؤلـِمُ أوَّلَ حدوثِها، كما قال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى.» متفقٌ عليهِ، ثُم ما إن تلبَثُ حتَّى تخِفَّ وطأتُها، ويسهُلَ أمرُها، فتتقبَّلُها النفسُ وترضَى بها، تسلِيمًا للهِ وإذعانًا، ورِضًا بقضاءِ اللهِ وقَدرِهِ وإيماناً، وهذهِ مِن النِّعمِ الَّتي تستوجبُ الشكرَ، ذلكَ أنَّ المصائبَ لا يدومُ أثرُها، إذاً فتتنغَّصُ حياةُ أصاحبِها، ويعسُرُ عليهِم قَبولُها.
ولفت إمام وخطيب المسجد الحرام إلى أن هناكَ إِلفٌ مذمومٌ، صاحبُهُ ملومٌ، وهو إلفُ نِسيانِ النِّعمِ، والغفلةُ عن ذكرِها وشُكرِها، وذلكُمْ هو بَريدُ كُفرانِها، المُؤذنُ بزوالِها، فلا يَعتَرِفُ للهِ بنعمَةٍ، ولا يُقِرُّ له بِمنَّةٍ، ورُبَّما نَسبَها إلى نفسِهِ وإلى آبائِه وأجدادِهِ، كُفرًا منهُ وجُحودًا .
وأبان أن معالجةُ ذلكَ، إنَّما تكونُ بالحرصِ على عَدِّ النِّعمِ واستشعارِها، والاعترافِ بها للمُنعمِ وادِّكارِها، وإعقابِ ذلكَ حمدًا وشكرًا، قولًا باللِّسانِ وفعلًا.
وأشار فضيلته إلى أنَّ أَقْبَحَ أنواع الإلفِ: إِلْفُ المَعْصِيَةِ واعتيادُها، والتغافُلُ عن شُؤمِها وبلائِها، وأشنعَ مِن ذلكَ: عدَمُ التأثُّمِ مِن فعلِهَا، وعدَمُ التأَلُّمِ من مُقارفَتِها، حتَّى تُصبِحَ كأنَّها مِن قَبِيل المُباحاتِ، حينهَا يُختمُ على قلبِ صاحِبها، وهذِهِ لعمرُ اللهِ مِن أعظَمِ العُقوباتِ، الَّتي تستنزِلُ غضبَ رَبِّ الأرْضِ والسَّماواتِ .
وأكد إمام وخطيب المسجد الحرام أن الشفاءُ من ذلكَ بأوانِ الأَوْبةِ، ودوامِ التَّوبةِ، حتَّى تبقَى في النفسِ وحشَةٌ مِن كُلِّ معصيَةٍ وخطيَّةٍ، ونُفرةٌ مِن كُلِّ زَلَّةٍ ورَدِيَّةٍ، وذلكَ من أماراتِ الإيمانِ، في جامعِ الترمذيَّ وصححَهُ، قال صلى الله عليه وسلم « مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ ».
وفي نفس السياق، أوصى إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ أحمد بن طالب حميد في خطبة الجمعة المسلمين بتقوى الله تعالى قال جل من قائل ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) .
وقال فضيلته: يقول الله جل وعز: (ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيل لَّهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ).، فكل خلق الله بأمره، وتحت سلطانه وقهره، وبمقتضى علمه وقدره؛ فلا الأسباب تخلق، ولا الأعمال ترزق، ولا الأدواء تعدي، ولا الأهوال تردي، ولا الأقوات تغذي، ولا الطبيب يشفي، ولا العائل يكفي.
ونوه فضيلته أن الله سبحانه شرع الأسباب رحمة بخلقه، وأقام حياتهم على مقتضى سنن حكمته وحكمه، وعلق بها آثارها، وأظهر في البرية أسرارها، وبث في الخلق علومها، وأورثهم فهومها، فمن أخذ بأسباب الخير ورث خيرًا، ومن أخذ بأسباب الشر ورث شرًا.
وأضاف فضيلته: صح الخبر عن سيد البشر أنه لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا نوء ولا صفر؛ فلا العدوى تخلق الأدواء، ولا مع حركة الطير شر ولا خير، ولا البوم والغراب تأتي بالخراب، ولا الأنواء والنجوم تنزل بسيب الغيوم، ولا حلول شهر صفر يحل مشؤوم الأثر؛ وصحت الأخبار عن النبي المختار في اجتناب أسباب الأذى والهلاك، كمقاربة المجذوم، والورود على بلد الوباء، فالفرار من القدر بالقدر، والتوكل على الصمد البر.
وبيّن فضيلته أنه من انقبض عن شي أقبل عليه لحال شهده أو قال سمعه، فلا يصدنه، وليتوكل على مولاه، وعليه بلا حول ولا قوة إلا بالله فإنها رأس التوكل وكنز العبد في الجنة، وليقل اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك، فإن قعدت ولم تمض فقد طعم قلبك طعم الإشراك.
واختتم فضيلته الخطبة بقوله: اعلموا أن من مشروع الأسباب أن يتحول المرء عن دار أو زوج أو دابة أو تجارة أو حال، لا يجد خيرها ولا يأنس بركتها، أو وجد معها النقص والمحق والضرر، مع استقامة الأسباب ظاهرًا؛ واعلم عبدالله أن كل زمان شغلته بطاعة الله فهو بركة ستجد أنوارها، وكل زمان شغلته بمعصية الله فهو شآمة ستذوق مرارتها؛ وفر من مواطن الآثام ومواقع الحرام فرارك من سيء الأسقام؛ وكما أنه لا يمنع حذر من قدر، فإن الله يمحو بالدعاء ما يشاء، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر”.
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: المسجد الحرام المسجد النبوي خطبة الجمعة إمام وخطیب المسجد المسجد الحرام ى الله
إقرأ أيضاً:
مجمع البحوث: الإسراء والمعراج معجزة ربانية وتجربة فريدة للنبي
أكد مجمع البحوث الإسلامية أن رحلة الإسراء والمعراج كانت تجربة استثنائية وفريدة للرسول صلى الله عليه وسلم، حدثت بشخصه الكريم في حالة من الصفاء الروحي والجسدي.
أُتيح خلالها للجسد الشريف تجاوز قوانين الطبيعة التي اعتادها البشر، حيث بلغت الروح قمة الإشراق، وتهيأت النفس لتتلقى النفحات الربانية في هذه الرحلة العظيمة.
وأشار المجمع، مستشهدًا بكلمات الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، إلى أن محاولة إدراك هذه المعجزة واستيعاب تفاصيلها الدقيقة ترتبط بمدى فهم الإنسان لحقيقة المادة والروح، وما أودعه الله فيهما من خصائص وقوى.
فالإسراء والمعراج ليس مجرد حدث تاريخي، بل هو رسالة إيمانية تعكس قدرة الله المطلقة وكرم مقام نبيه الكريم.
وقد شكّلت هذه الرحلة المباركة محطة مهمة في تاريخ الرسالة الإسلامية، إذ أسري بالرسول الكريم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماوات العلا.
وهناك أطلعه الله على آيات كبرى وأسرار عظيمة تعكس عظمته سبحانه وتعالى.
وختم المجمع حديثه بالتأكيد على أهمية فهم هذه المعجزة في إطارها الروحي والإيماني، بعيدًا عن محاولات التشكيك أو محاكاة القوانين البشرية المحدودة، فالمعجزات الإلهية هي تجليات لقوة الله وعظمته التي لا حدود لها.
وفي سياق متصل، قال الدكتور عطية لاشين أستاذ الفقه بكلية الشريعة والقانون وعضو لجنة الفتوى بالأزهر أن هناك عدة دروس مهمة لنا في حياتنا من معجزة الإسراء والمعراج:
1. الإيمان بقدرة الله المطلقة
• الله سبحانه وتعالى أظهر قدرته في هذا الحدث العظيم، إذ أسرى بعبده محمد ﷺ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به إلى السماوات في ليلة واحدة.
• قال الله تعالى: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى” (الإسراء: 1).
• هذا يُعلمنا أن قدرة الله فوق كل شيء، وأن المستحيل بالنسبة للبشر ليس مستحيلًا على الله.
• ليلة الإسراء والمعراج كانت تكريمًا للنبي ﷺ، حيث صعد إلى السماوات العلى، وبلغ سدرة المنتهى، وسمع خطاب الله.
• لقاء النبي بالأنبياء في السماوات يؤكد أنه خاتم النبيين، ويدل على عظمة مكانته عند الله.
• الصلاة فُرضت في ليلة الإسراء والمعراج، مما يدل على عظمتها ومكانتها في الإسلام.
• الصلاة هي الصلة المباشرة بين العبد وربه، وقد كانت أول عبادة فرضت بهذه الطريقة، مما يبين أنها عماد الدين.
• الدرس هنا أن الصلاة ليست مجرد تكليف، بل هي راحة للمؤمن وتثبيت له.
• الإسراء إلى المسجد الأقصى يدل على مكانته العظيمة عند الله، فهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
• هذا يُعلمنا أهمية ارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى وضرورة حمايته والدفاع عنه.
• رحلة الإسراء والمعراج جاءت بعد عام الحزن، لتكون تثبيتًا للنبي ﷺ وإظهارًا لعظمة رسالته.
• كذلك، تُعلّمنا أنه بعد كل محنة تأتي منحة، وأن الله لا يترك عباده المؤمنين في الشدائد دون عون ونصر.
• حادثة الإسراء والمعراج اختبار للإيمان بالغيب؛ فقد كذب بها المشركون، بينما صدقها المؤمنون وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
• يُعلمنا هذا أن الإيمان بالغيب جزء أساسي من عقيدة المسلم، وأن المؤمن يثق بوعد الله حتى لو لم يدركه بعقله.
• النبي ﷺ رأى مشاهد من الجنة والنار في هذه الليلة. ومنها رؤيته لمن يزرعون ويحصدون في يوم واحد، فقال جبريل: “هؤلاء المجاهدون في سبيل الله.”
• هذا يعلّمنا أهمية العمل الصالح والجهاد في سبيل الله لنيل ثواب الآخرة.
8. الحذر من المعاصي وأثرها
• رأى النبي ﷺ في المعراج مشاهد تعذيب العصاة، مثل:
• أناس يخمشون وجوههم وصدورهم: هؤلاء الذين كانوا يغتابون الناس.
• أناس يأكلون لحومًا منتنة: هؤلاء الذين يأكلون الربا.
• هذه المشاهد تذكرنا بخطورة الذنوب والمعاصي وضرورة التوبة والابتعاد عنها.
• رؤية النبي ﷺ للملائكة وعباداتهم في السماوات العلى تُبرز قيمة الإخلاص لله في العبادة والعمل.
• كما أن اختيار النبي ﷺ للبن بدلاً من الخمر في تلك الليلة، جاء تعبيرًا عن الفطرة السليمة، وهذا درس للمسلمين للتمسك بالفطرة والبعد عن الانحرافات.
10. ضرورة اليقين والصبر في مواجهة التحديات
• حادثة الإسراء والمعراج كانت اختبارًا كبيرًا للإيمان، حيث كذب بها المشركون، لكن النبي ﷺ واجه ذلك بيقين كامل وصبر عظيم.
• هذا يعلمنا أن الثبات على الحق يحتاج إلى يقين بالله وصبر على الابتلاءات، وأن النصر يأتي بعد الصبر.
• رؤية النبي ﷺ لمشاهد الجنة والنار تُذكّرنا بالمصير الذي ينتظرنا يوم القيامة.
• هذه المشاهد تدفعنا للعمل الصالح، والابتعاد عن الذنوب، والاستعداد للقاء الله عز وجل