الفنان والجنرال والحاجّة (1 -2)
The Artist, the general and the Hajjah (1-2)
Leila Aboulela ليلى أبو العلا
لطالما شُغِفْتُ بثلاث شخصيات تاريخية أسكتلندية ولجت في مخيلتي وبعض رواياتي: ديفيد روبرتس (1786 – 1864م)، شارلس غوردون (1833 – 1885م) والليدي ايفيلين كوبوولد (1867 – 1963م). وكانوا كلهم قد وُلِدُوا قبل سنوات طويلة من إجازة قوانين الإتحاد (The Acts of Union) التي أقرها البرلمانان الإنجليزي والأسكتلندي عام 1707م، وقادت لإنشاء برلمان موحد لبريطانيا العظمى في ذلك العام.
كان ديفيد روبرتس فناناً حظيت مطبوعاته الحجرية عن مصر بشعبية كبيرة، ويسهل التعرف عليها على الفور حتى يومنا هذا. وكان تشارلز غوردون بطلاً عسكرياً فيكتورياً، وواحداً من أقدم الأمثلة على ضجة إعلامية كبيرة. ونفد حظ غوردون (إبان عمله كحكمدار عام للسودان) عندما حاصر أنصار المهدية الخرطوم، واغتالوه. وكانت الليدي ايفيلين كوبولد أرستقراطية ورحالة، اعتنقت الإسلام وكانت أول امرأة أوروبية في التاريخ تقوم بأداء فريضة الحج.
ومن بين تلك الشخصيات الثلاث كانت ايفيلين كوبولد في رأيي هي الشخصية الأوضح صلةً بالمرتفعات الأسكتلندية. وكنت قد درست شيئاً عن الجنرال غوردون في المدرسة بالسودان، وكنت أحسبه رجلاً إنجليزياً. والسبب في هذا أن السودانيين يشيرون لكل البريطانيين الذين حكموا السودان في الفترة ما بين 1898 و1956م بـ "الإنجليز". ولم يكن يفعلون هذا جهلاً، بل لأن الإمبراطورية البريطانية كانت بالفعل "إنجليزية"، وكان كل الأسكتلنديين الذين كانوا يعملون في بناء الإمبراطورية ويقومون بإدارتها يقدمون أنفسهم على أنهم إنجليز. أما عند الحديث عن الشؤون العالمية، فقد كانت حتى الصحافة الأسكتلندية نفسها تستخدم في تلك الأيام اسم "إنجلترا" عند الإشارة للدولة. وبصورة مماثلة، كنت على علم بأعمال ديفيد روبرتس الفنية، بيد أن كنت أجهل أنه مولود في أدنبرا عاصمة أسكتلندا. كنت ولا أزال أسعى دوماً لمعرفة الصلات بين السودان وأسكتلندا – البلد الذي جئت منه، والبلد الذي أعيش فيه الآن. وأعمل – عبر الأعمال الروائية – على التقريب بينهما كي أعطى معنىً لمساري الشخصي.
وفي روايتي المعنونة "الهدهد يحكي Bird Summons" التي صدرت عام 2019م تقوم ثلاث نساء برحلة برية عبر المرتفعات الأسكتلندية لزيارة قبر زينب (الليدي ايفيلين كوبولد). وتقول قائدتهن سلمى:
" قد لا يتسنى لنا قط أن نفهم كيف يكون حال الواحدة منا لو كانت البنت الكبرى لإيرل دنمور السابع، أو لو كان لنا بيت في "ماي فير" بلندن، وعِزبة مساحتها 15,000 فدان في المرتفعات الأسكتلندية. غير أن الليدي ايفيلين كوبولد هي امرأة مثلنا، زوجة وجدة. هي تعبد من نعبد، على الرغم من محافظتها على ثقافتها، ورغماً عن أنها كانت ترتدي الأزياء الإدواردية، وتصطاد الغزلان، وأوصت بأن تعزف موسيقى مزمار القرب في جنازتها. هي "أم" الاسلام في أسكوتلندا، ونحتاج لها لنتخذها قدوة لنا".
وظلت النساء الثلاث في غضون تلك الرحلة البرية عبر الأراضي الأسكتلندية، يتسامرن ويتجادلن، ويتحدثن في هواتفهن مع أفراد من أسرهن، وخُطابهن السابقين في بلادهن الأصلية، ويبحثن في طرق تجاوز العقبات التي تحول دون وصولهن إلى قبر الليدي ايفيلين كوبولد في عِزبة جلينكارون. عادةً ما يتردد الغرباء في بريطانيا في التفاعل مع الآخرين ويشعرون بالتقلقل وعدم الاستقرار، بينما تجد النساء الثلاث في الليدي ايفيلين كوبولد صلة ما من شأنها أن تجعلهن أكثر راحةً وثباتاً في المحيط الأسكتلندي العام. وفي تجاوز للأصل والعرق، حرصن على زيارة قبر شخصية "مثلهن"، سيدة صلت كما كن يصلين، وآمنت بالله وقرأت القرآن كما كن يفعلن. وعلى الرغم من الفجوة الكبيرة بينها وبينهن، فإن رحلة أولئك النسوة هي تجسيد للإصرار على الإخوة الإسلامية.
كان ما جمع بين سلمى ومنى وإيمان هو أنهن مسلمات وعربيات جئن للعيش في أسكتلندا في مرحلة ما من حياتهن. وكن يؤمن بأنهن نساء صالحات يؤدين ما هو مفروض على المسلمة أدائه. ورغماً عن ذلك، وحتى في حياتهن التقليدية تلك، هناك دوما خطر الضلال عن الطريق المستقيم. ليس لدى سلمي أي نية لإقامة علاقة حب مع أمير، وتشعر بالأمان وهي تغازله في محادثات هاتفية من على البعد. ولكنها بهذا الفعل تخون زوجها، وتخطو الخطوة الأولى في طريق هدم زواجها منه، وكذلك هدم حياتها الناجحة. وترى منى أنها أم رائعة، وتضحي بكل شيء من أجل ابنها المعاق. وباستغراقها في رعايته، تهمل كل شيء آخر، وتظلم نفسها في نهاية المطاف. أما إيمان فتحس بأن لديها ما يسوغ تمردها على القيود المفروضة على أنوثتها، غير أنها في الواقع تحتاج إلى النضج أكثر حاجتها للحرية.
وتوقفت رحلة النساء عند بلوغهن ضفاف بحيرة نيس (Loch Ness) من أجل الاستراحة في دير تم تحويله إلى منتجع. هل بمقدورهن إيجاد صلة ما بالرهبان المسيحيين الذين كانوا يوماً يتعبدون بذلك الدير؟
" كن سيفهمن بعضهن البعض، ويسألن المغفرة من ذات الرب، ويتبعن أوامره ويجتنبن نواهيه، ويتعرضن أحياناً لتجارب تقودهن للضعف والخطيئة والندم، ثم يأتي من بعد ذلك الخلاص".
هناك العديد من الدوافع والأحاسيس والملاحظات التي تدخل في صنع الرواية! لقد ذهلت وفزعت حقاً عند مشاهدتي لبرنامج تلفزيوني تم فيه أخذ شبان مسلمين من وسط المدينة لزيارة كاتدرائية في الريف الإنجليزي. وكان ذلك البرنامج التلفزيوني قد أُنْتِجَ في غضون سنوات الحرب على الإرهاب، حيث كان من الضروري لوسائل الإعلام أن تطبق بيديها على "مشكلة المسلمين". وفي ذلك المناخ، تم تصوير الصغار وهم يقولون إنهم لا يشعرون بأي صلة على الإطلاق بالكاتدرائية أو الريف، ولا يعنيا لهم أي شيء، على الرغم من أنهم وُلِدُوا ونشأوا في مكان قريب من موقع الكاتدرائية. أصبت بالإحباط لأني كنت شخصيا أشعر بعكس ما شعروا به تماماً. فقد كنت أجد صلة ما بيني وبين القلاع الأسكتلندية المهدمة وكل ما له صلة بآثار الماضي. أحس بارتباط بيني وبين المسيحيين المؤمنين الذين كانوا يصرمون غالب ساعات يومهم في العبادة والقبول بمصيرهم. هم أقرب لي من البريطانيين المعاصرين.
وفي رواية "الهدهد إن حكى" مكنني "سحر الواقعية" من ربط الحاضر بالماضي، ومن نقل الإحساس بالجوانب غير المرئية للتجربة الدينية. وفي إثناء محاولتهن لزيارة قبر الليدي ايفيلين كوبولد مررن بتجربة مظاهر سريالية للأخطار الروحية التي كن يُوَاجِهْنَها. وتأخذ عواقب اختياراتهن الحياتية أشكالاً ملموسة تشكل تهديداً وتصدر تحذيراً. وبعيداً عن المدينة (التي تمثل زَواجِر وقُيُود وشَكليّات وبعض الطقوس الدينية والعلمانية)، فإن الحرية الروحية التي تواجهها المرأة واسعة وخارجة عن السيطرة. وكما تمكنت الليدي ايفيلين من تغيير حياتها، بقيامها بالحج إلى مكة كأول امرأة أوروبية، وتغدو أول حاجة بريطانية، كذلك قطعت النساء العربيات في اسكتلندا مسافات طويلة في رحلتهن الاستكشافية واكتسبن فهماً أفضل لأدوارهن وحقائق وجودهن. وفي الهواء الطلق، شَعَرْنَ بأن عبادتهن لله تشهد عليها الطبيعة.
" وهي تقوم بتلك الرحلة، كانت منى تتسأل – دون إفصاح – إن كانت تصنع تاريخاً لم تسبقها عليه امرأة من قبل. ربما كانت تلك أول مرة ترتل فيها آيات القرآن بهذا الجزء من الأرض. ربما سيشهد لها الساحل والسهل العشبي المنخفض والأحجار الرملية بما سمعته من آيات". وفي فصل آخر:
" كانت سلمى تتخذ من العشب الأخضر سجادةً للصلاة، ومن الريح حمايةً لها، وأحست بأن ركبتيها ترتكزان على هذه القطعة من الأرض. فتكلمت بهذا وقالت: أَشْهِدُوا لي يوم أحتاج إليكم، يوم تستطيعون أن تتكلموا ولا أتكلم أنا".
صادفت سيرة الليدي ايفيلين كوبوولد لأول مرة عند قراءتي لمختارات مايكل وولف الكلاسيكية الرائعة التي صدرت عام 1997م تحت عنوان "عشرة قرون من كتابات الرحالة عن الحج الإسلامي Ten centuries of travelers writing about the Muslim Pilgrimage "، وليس بذلك الكتاب ذكر سوى لقلة قليلة من الكاتبات. وبهذا فإن ما سطرته الليدي ايفيلين في مؤلفها الذي صدر عام 1934م بعنوان "رحلة إلى مكة Pilgrimage to Mecca" كان له أثر كبير في نفسي. ونُشِرَ الكتاب مرة أخرى في عام 2009م عن طريق ناشر عربي، مع مقدمة طويلة وممتازة بقلم وليام فيسي، أورد فيها سيرة المؤلفة، إضافة لتقويم نقدي لليدي ايفيلين كوبولد بحسبانها كاتبة دنيوية مُحَنّكة تعرفت على عدد من الكتاب كان منهم ت. لورانس ومارماديوك بيكثال. وكانت قد قضت سنوات طفولتها في مدينتي الجزائر والقاهرة جرياً على عادة العائلات الارستقراطية في العهد الفيكتوري، وكانت تقضي غالب وقتها مع العاملين المحليين في مقر إقامتها. وكانت مربياتها مسلمات، وكانت ترافقهن عندما يغشين المساجد. وكان الآذان يترك في نفسها تأثيراً عميقاً. وزارت الليدي ايفيلين الفاتيكان وهي امرأة ناضجة في صحبة بعض الأصدقاء، وسألها البابا إن كانت كاثوليكية. وجاء في مقدمة كتابها "... ذهلت للحظات عند سماعي لسؤاله، ثم أجبته بأني مسلمة. لا أدعي معرفة ما دهاني لأنني لم أكن قد فكرت في الإسلام منذ سنوات عديدة. واشتعلت في ذهني فكرة اعتناق الإسلام، فقررت حينها وأنا في ذلك المكان أن أقرأ وأدرس عنه. وكلما قرأت أكثر ودرست بصورة أعمق، أصبحت أكثر اقتناعا بأن الإسلام هو الدين الأكثر عملية ...".
كان إعجابي بالليدي ايفيلين - الذي كان يلامس حد الاحترام المختلط بالرهبة - قد أمات في نفسي القدرة على تخيلها والكتابة عنها في رواية. حاولت أن أصورها كما هي، وليس بحسبانها شخصيةً خيالية. لا أستطيع أن أقول على لسانها ما لم تقله، أو أن أضعها في مواقف من نسج خيالي. ونتيجة لذلك، فشخصية الليدي ايفيلين في رواية "الهدهد إن حكى" هي شخصية مبجلة عند النسوة الثلاث اللواتي قمن بزيارة قبرها. فهذه الرواية تدور حول أولئك النسوة، وهي بالقطع ليست عن الليدي ايفيلين. كانت تلك السيدة المبجلة تمثل مصدر إلهام بالنسبة لهن؛ وحملن كتابها في أيام رحلتهن، وكن في غاية الاعجاب والتأثر بقصة اعتناقها للإسلام. وكنت شخصياً في غاية التأثر بقصة دفنها، وأسال ما قرأته عن ذلك مدامعي. وكان ما كتبته عن ذلك في آخر فصول الرواية يماثل بلوغ الوجهة النهائية.
"حين توفيت الليدي ايفيلين في يناير من عام 1963م في إحدى دور رعاية المسنين بمدينة إنفرنيس اتصلت هاتفيا بالمسجد في مدينة ووكنغ. وكانت القصة التي سمعها إمام ذلك المسجد في غاية الغرابة: سيدة أسكتلندية ارستقراطية عمرها يفوق التسعين عاما قد وضعت في وصيتها شروطا عند دفنها، منها أن تدفن وفقاً لتعاليم دينها المختلف عن ديانة بقية أفراد عائلتها ومن حولها من الناس. وشملت وصيتها أن يؤم صلاة جنازتها إمام يقيم الصلاة عليها باللغة العربية. وكانت ترغب في أن تُعزف أيضا موسيقى القرب عند دفنها، وألا يشهد صلاة جنازتها أي قسيس مسيحي. وأوصت كذلك أن تدفن ووجهها مستقبل لمكة، وأن يكون قبرها في موقع يمكن فيه للأيائل الحمراء أن تقفز فيه. استقل الإمام الليلي القطار متجهاً نحو إنفرنيس القاصية جداً، وكما ذكر لاحقاً فتلك مسافة تعادل المسافة بين لاهور وكراتشي ..."
alibadreldin@hotmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
بول إيلوار شاعر المقاومة النازية.. هل كانت حبيبته جالا سببا في شهرته؟
تحل اليوم ذكرى ميلاد الشاعر الفرنسي بول إيلوار (14 ديسمبر 1895)، أحد أبرز مؤسسي الحركة السريالية وأحد رموز المقاومة الأدبية ضد النازية. اشتهر بلقب “شاعر الحرية” لما حملته قصائده من معانٍ عميقة تدعو للحرية والسلام، ليصبح من أكثر الشعراء السرياليين تأثيرًا في القرن العشرين.
وُلد بول إيلوار باسم يوجين إميل بول جريندل لعائلة متواضعة، حيث كان والده محاسبًا ووالدته خياطة. في سن السادسة عشرة، أصيب بالسل مما اضطره للتوقف عن الدراسة والإقامة في مصحة حتى عام 1914. هناك التقى بالشابة الروسية هيلينا دياكونوفا، التي أطلق عليها اسم “جالا”، وأصبحت ملهمته الأولى، حيث كتبت له ذات يوم: “ستصبح شاعرًا عظيمًا”. رغم ظروف الحرب العالمية الأولى، حافظا على التواصل الذي شكّل أحد أسس مسيرته الأدبية.
تأثير الحرب على حياتهفي عام 1916، أُرسل بول للعمل في مستشفى عسكري حيث كان يقوم بكتابة رسائل لعائلات الجنود القتلى والجرحى وحفر القبور. هذه التجربة القاسية صقلت مشاعره، وبدأت تظهر بوضوح في أعماله الأولى مثل “الواجب والقلق” و*“قصائد صغيرة من أجل السلام”* الصادرة عام 1919، التي لفتت الأنظار إلى موهبته.
مسيرته الأدبية والسرياليةفي عشرينيات القرن الماضي، انضم إيلوار إلى الحركة السريالية، وعبر عن فلسفتها في أعماله التي امتزجت بين الواقعية والأحلام. أصدر أعمالًا بارزة مثل “الموت من عدم الموت” عام 1924 خلال فترة اكتئاب مر بها، إلا أن دعمه لقضايا الحرية والمقاومة ظلت محورًا رئيسيًا في شعره.
ورغم العلاقة العميقة بينه وبين جالا، لم يكتب لهما الزواج، إذ تزوجت لاحقًا من الرسام السريالي سلفادور دالي. توفي بول إيلوار في 18 نوفمبر 1952 إثر نوبة قلبية، وشهدت جنازته في باريس حشدًا ضخمًا يعبر عن مكانته في قلوب الشعب. وقد وصف الكاتب الفرنسي روبرت ساباتير يوم رحيله قائلًا: “كان العالم كله في حداد”.