مسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور
تاريخ النشر: 9th, August 2024 GMT
أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
مسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور
تأليف
فيصل عبد الرحمن علي طه
*****
عرض وتحليل
أحمد إبراهيم أبوشوك
(1)
تمهيد
أهدى ليَّ الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه نسخةً من كتابه عن “مسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور”، الصادر عام 2023، والذي نُشر أصله في شكل مقالاتٍ منجمةً في بعض الصحف العربية، التي تصدر في السودان، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة المتحدة؛ ولذلك يلحظ القارئ نوعاً من التقديم والتأخير في المعلومات، وتكرار بعضها حسب السياقات المعرفية التي اقتضتها ظروف نشر كل مقالٍ.
(2)
رسم حدود الدول المُستعمرة والمشكلات الناتجة عنها
يرى فيصل أنَّ الدول الاستعمارية الأوربية قد رسمت حدود الدول التي فرضت سلطانها عليها “بنهجٍ عشوائيٍ تحكميٍ، دون مراعاة لحقوق القبائل في الأراضي التي تشغلها، أو لحقوقها في الأراضي التي لا تشغلها؛ ولكنها اعتادت دخولها في إطار ممارستها لأنشطتها المعيشية التقليدية.” (فيصل، ص 47). وقد استشهد في ذلك بإحدى خطب لورد سالزبوري (Lord Salisbury)، رئيس وزراء بريطانيا (1895-1902) التي أشار فيها ضمناً إلى مثل هذه العشوائية، وبمرافعة موريتانيا أمام محكمة العدل الدولية بشأن الفتوى التي طلبتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عن الصحراء الغربية. فلا يسمح المجال بتفصيل هذه الشواهد وعلاقتها بعشوائية الطموح الإمبريالي؛ لكن عن النزاع الحدودي بين مصر والسودان، يقول المؤلف أنَّ حظ عرض 22 درجة شمال خط الاستواء قد أدخل “عشراً من القرى التابعة لمركز حلفا السوداني في إقليم مصر”، علماً بأن هذه القرى تمتد من الشمال إلى الجنوب على ضفتي النيل، وتشكل تجمعاً نوبياً متجانساً، وتنفرد كل قرية منها باسم خاص لها، مثل: فرص (شرق وغرب)، وجزيرة فرص، وسرة (شرق وغرب)، ودبيرة (شرق وغرب)، وأشكيب (شرق) وأرقين (غرب)، ودغيم وعنقش ودبروسة. وبالكيفية نفسها يرى المؤلف أن خط عرض 22 درجة شمال قد أدخل أراضي ومراعي بعض فروع قبيلة البشاريين السودانية في الإقليم المصري. ويبدو أن الحكومة المصرية قد استدركت خطل هذا النهج العشوائي في ترسيم الحدود المصرية-السودانية، الأمر الذي دفع ناظر الداخلية المصري إلى إصدار قرارين، أحدهما في 26 مارس 1899، وثانيهما في 25 يوليو 1902 والقرار المؤيد له في 4 نوفمبر 1902، وبموجب ذلك أصبح مثلث حلايب، الذي تقطن معظم فضاءاته قبائل البشاريين والأمرار، تابعاً لسلطة السودان الإدارية؛ وقبائل العبابدة، باستثناء المليكاب، تابعة لسلطة مصر الإدارية؛ والقرى النوبية الواقعة داخل نتوء وادي حلفا، التي أشرنا إليها أعلاه، تابعةً لسلطة السودان الإدارية. ومن هذه الزاوية ينظر فيصل بعدسة قانونية إلى قراري ناظر الداخلية المصري، ويعتبرهما قراران إداريان مفصِّلان ومكمِّلان للتقسيم الإداري الذي وضعته اتفاقية 1899 للحدود الفاصلة بين مصر والسودان، دون مراعاة لنقاط بداياتها شرقاً وغرباً، أو حقوق القبائل التي تقطن المناطق المشار إليها. وإن الأوضاع التي رسخها القراران “تحمل نفس الصفة الإدارية التي حملها خط 22 شمال، فهي ليست مؤقتة، ولا يمكن تكييفها كحالة تنازل عن الإدارة من جانب مصر؛ لأنها تمت تنفيذاً لاتفاقية 19 يناير 1899” (فيصل، ص 52).
(3)
الأساس القانوني للحدود الفاصلة بين مصر والسودان
أوضح المؤلف بجلاء أن الأساس القانوني للحدود الفاصلة بين مصر والسودان يتمحور بصفة رئيسة حول اتفاقية 19 يناير 1899 بهدف إدارة السودان في المستقبل، والتي نصت مادتها الأولى على أن “لفظة السودان” تطلق “على جميع الأراضي الكائنة إلى جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض، وهي: أولاً الأراضي التي لم تخلها قط الجنود المصرية منذ عام 1882؛ أو ثانيًا، الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل ثورة السودان الأخيرة وفقدت منها وقتياً، ثم افتتحتها الآن حكومة جلالة الملك والحكومة المصرية بالاتحاد؛ أو ثالثاً، الأراضي التي قد تفتتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعدا”. (فيصل، ص 80-81) ويقيد الإطلاق الإداري الخاص بتحديد الحدود حسب نص اتفاقية 19 يناير 1899 القراران اللذين أصدرتهما نظارة الداخلية المصرية في 26 مارس 1899 و25 يوليو 1902، ثم أيدت القرار الثاني في 4 نوفمبر 1902. وبموجب هذين القرارين أضح مثلث حلايب ونتوء وادي حلفا تابعين للإدارة السودانية. وفي ضوء هذه النصوص يطرح فيصل قضية التكييف القانوني، وبناءً عليه يصف الاتفاقية بأنها ذات طابع إداري؛ لأن مصر لم تكن وقت التوقيع عليها تملك أهلية إبرام معاهدات سياسية؛ فضلاً عن أن الاتفاقية نفسها نصت على أن الغرض الأساس منها “إدارة السودان في المستقبل”؛ وبموجب ذلك لا يترتب عليها سيادة لدولتي “الفتح”، أو الدولة المصرية على السودان، بل أن قرارات نظارة الداخلية المصرية القاضية بتعديل الحدود بين مصر والسودان تعتبر قرارات إدارية ملزمة وجابةً لما قبلها. ويرى فيصل أن الحدود السياسية لدولة السودان قد أخذت شكلها القانوني “بعد أن قرر البرلمان السوداني بالإجماع في 19 ديسمبر 1955 أن السودان أصبح دولة مستقلة كاملة السيادة واعترفت مصر وبريطانيا بذلك في أول يناير 1956. وقد سبق اعتراف مصر وبريطانيا بالسودان دولة مستقلة ذات سيادة إجازة البرلمان السوداني في 31 ديسمبر 1955 لدستور السودان المؤقت، والذي ينص في المادة (2/2) على أن الأراضي السودانية تشمل جميع الأقاليم التي كان يشملها السودان الإنجليزية-المصري قبل العمل بهذا الدستور مباشرة.” (فيصل، ص 20-21). وفي إطار التدليل على ذلك، يشير المؤلف إلى الانتخابات البرلمانية السودانية لسنة 1953، التي أُجريت في مثلت حلايب ونتوء وادي حلفا عملاً بقانون الحكم الذاتي لسنة 1953، وفاز محمد كرار كجر في الدائر 70 الأمراء والبشاريين (الحزب الوطني الاتحادي)، ومحمد نور الدين أحمد في الدائرة 29 وادي حلفا (الحزب الوطني الاتحادي)، دون أدنى اعتراض من الحكومة المصرية.
(4)
كيف بدأت مشكلة الحدود المصرية-السودانية؟
بدأت المشكلة حسب سردية الدكتور فيصل عندما بعثت الحكومة المصرية مذكرة إلى حكومة السودان في 29 يناير 1958، مدعيةً فيها أن “إدخال المنطقة الواقعة شمالي وادي حلفا ومنطقة حلايب الواقعة على ساحل البحر الأحمر ضمن الدوائر الانتخابية السودانية يتعارض مع اتفاقية 19 يناير 1899 بين مصر وبريطانيا، ويشكل بذلك خرقاً للسيادة المصرية؛ لأن هذه المناطق مصرية ولا يحق للحكومة أن تشملها ضمن الدوائر الانتخابية السودانية. وطالبت الحكومة المصرية بإلغاء الحدود التي أنشأتها أوامر نظارة الداخلية المصرية في 26 مارس 1899 و4 نوفمبر 1902 على اعتبار أنها كانت حدوداً إدارية والعودة إلى الحدود التي أنشأتها اتفاقية 19 يناير 1899 على أساس أنها تمثل الحدود السياسية بين مصر والسودان.” (فيصل، ص 9). وبناءً على هذا الادعاء أوضحت الحكومة المصرية في مذكرة بتاريخ 9 فبراير 1958 إلى رئيس الوزراء عبد الله خليل أن الحكومة المصرية “قررت أن تتيح لسكان منطقتي وادي حلفا وحلايب فرصة الاشتراك في الاستفتاء على رئاسة الجمهورية العربية المتحدة بين الرئيسين جمال عبد الناصر وشكري القوتلي،” والمزمع عقده في 21 فبراير 1958. وبناء على هذه المذكرات أرسلت الحكومة المصرية قوات حرس الحدود ولجان الاستفتاء إلى المنطقتين المشار إليهما. دفع هذا الأمر رئيس وزراء السودان، حسب رأي المؤلف، إلى الاتصال هاتفياً بالحكومة المصرية لإرجاء مسألة الحدود إلى ما بعد الانتخابات السودانية؛ لكن دون جدوى. وأخيراً بعث وزير خارجيته، محمد أحمد محجوب إلى القاهرة في 18 فبراير 1958؛ لمناقشة مقترح التأجيل مع الرئيس جمال عبد الناصر. فعرض محجوب طلب التأجيل للمرة الثانية، وتعهد بأن الحكومة السودانية لن تستند إلى إجراء الانتخابات السودانية كبينة لتأييد ادعاء السيادة على المناطق المتنازع عليها. ألا أن الحكومة المصرية رفضت هذا العرض، واقترحت ألا تُجرى أي انتخابات ليس في المناطق المتنازع عليها فحسب، بل وإنما في كل أجزاء دائرة وادي حلفا ودائرة البشاريين (حلايب). ومن جانبها رفضت الحكومة السودانية هذا الاقتراح واقتراح آخر يقضي بأن تجرى الانتخابات السودانية والاستفتاء المصري بشرط أن توضع صناديق الاقتراح خارج المناطق المتنازع عليها. ونتيجة لتأزم الأمر بالكيفية المشار إليها، رفع رئيس الوزراء السوداني شكوى إلى رئيس مجلس الأمن، في 20 فبراير 1958، مفادها “أن مصر قد حشدت قوات عسكرية على الحدود المشتركة، وبما أنها تصر على إجراء الاستفتاء في إقليم السودان، وبما أن السودان عازم على حماية إقليمه، فإن الموقف قد يؤدي إلى إخلال بالسلم، وإذا لم يسيطر عليه فلربما يتطور إلى نزاع مسلح.” (فيصل، ص 40). وأثناء انعقاد مجلس الأمن للنظر في الشكوى السودانية في 21 فبراير 1958، تلا مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة، عمر لطفي، بياناً صحفياً أمام المجلس فحواه موافقة الحكومة المصرية على تأجيل بحث مسألة الحدود المتنازع عليها إلى ما بعد الانتخابات السودانية لسنة 1958. وبموجب ذلك أجلَّ المجلس النظر في النزاع، حتى يتسنى للدولتين إيجاد تسوية مرضية للطرفين، وحفظت الشكوى في جدول أعمال المجلس، وأصبح تاريخ إحالتها إلى مجلس الأمن “تاريخاً حرجاً، بمعنى أن النزاع ينبغي أن يتقرر على أساس الوضع الذي كان قائماً في ذلك التاريخ. ولن تؤخذ في الاعتبار الأعمال والأنشطة التي يكون قد باشرها أحد الطرفين في المناطق المتنازع عليها بعد ذلك التاريخ بقصد تحسين أو تدعيم مركزه القانون.” (فيصل، ص 7). وبالفعل أُجريت الانتخابات البرلمانية في السودان لعام 1958، وفاز في الدائرة 143 وادي حلفا محمد نور الدين أحمد (حزب الشعب الديمقراطي)، وفي الدائرة 96 الأمرار (حلايب) محمد محمد موسى حمد (حزب الشعب الديمقراطي)، والدائرة 97 البشاريين حامد كرار أحمد (حزب الشعب الديمقراطي). ومنذ عام 1958 ظلت المنطقتين محل نزاع بين مصر والسودان، حيث غمرت مياه السد العالي نتوء وادي حلفا وهَجَّرت أهله، وبسطت القوات المصرية سيطرتها على مثلث حلايب في 9 ديسمبر 1992. ورداً على هذا التعدي، يذكر المؤلف أن علي أحمد سحلول، وزير الخارجية السودانية آنذاك، بعث رسالة إلى رئيس مجلس الأمن، في 27 ديسمبر 1922، موضحاً فيها “أن القوات المصرية توغلت بتاريخ 9 ديسمبر 1992 في الأراضي السودانية لمسافة 28 كيلومتراً جنوب مدينة حلايب السودانية في محافظة حلايب، وعلى الطريق الذي يربطها بميناء بورتسودان.” رد عمرو موسى، وزير الخارجية المصري آنذاك، إلى رئيس مجلس الأمن برسالتين في 3 و14 يناير 1993، واعتبر في إحداهما أن رسالة الخارجية السودانية فيها مساس بسيادة مصر على أراضيها، وإن مصر لم تنقطع سيادتها على المنطقة الإدارية الواقعة شمال خط العرض 22 منذ توقيع وفاق 1899. (فيصل، 57-58). وفي ظل هذا النزاع الحدودي المستمر ظلت الشكوى السودانية في جدول أعمال مجلس الأمن الدولي، تُجدد سنوياً من قِبَل حكومة السودان.
(5)
أين تكمن أهمية كتاب “مسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور”؟
تكمن أهمية الكتاب في النقاط الآتية:
أولاً، أعدَّ الكتاب مؤلف ثبت وصاحب كسب رصين في مجال القانون الدولي في أعرق الجامعات البريطانية (كمبردج) وخبرة واسعة في مجال القانون الدولي وقضايا منازعات الحدود، ولذلك جاءت مقالاته بلغة قانونية رفيعة، ومنهج بحثي مركبٍ، يجمع بين قراءة السياق التاريخي الذي نشأت في الاتفاقيات الخاصة بقضايا الحدود المصرية-السودانية، وتحليل نصوص الاتفاقيات والقرارات الإدارية وتفكيكها في إطار ثوابت فقه القانون الدولي، والاستئناس بالمذكرات التفسيرية الشارحة للاتفاقيات والمواقف السياسية ذات الصلة. فضلاً عنه ثبت الملاحق، الذي يحتوي على وثائقٍ مهمةٍ وذات صلةٍ بموضوع النزاع. ومن هذه الزاوية، يصلح كتاب “مسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور” أن يكون مرجعاً لطلبة القانون الدولي ومراكز منازعات الحدود في الجامعات السودانية وغيرها.
ثانياً، يقدم الكتاب رؤية كلية للتعامل بجدية مع قضية مثلث حلايب، كما يسدي نصحاً قيماً للقائمين على أمر الخارجية السودانية، الذين وصف تعاملهم مع القضية بالتهاون، ومن الشواهد الدالة على ذلك تراخي المسؤولين السودانيين عندما احتلت القوات المصرية مثلت حلايب عام 1992، وعندما أصدر مجلس الوزراء المصري بياناً بشأن الاتفاق على تعيين الحدود البحرية بين جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية، علماً بأن سيادة الدولة الساحلية تقوم إلى سيادتها لإقليمها البري، وكذلك تراخيهم في تجديد ملف الشكوى المودعة بأضابير مجلس الأمن منذ عام 1958.
ثالثاً، لا يغني هذا العرض والتحليل عن قراءة الكتاب قراءة كلية؛ لأنه قد أُسس على فرضيات قوية، وتفكيك علمي مُحْكَم للمفاهيم المرتبطة بقضية السيادة، والتمييز بين الحدود السياسية والحدود الإدارية، وعلاقة السيادة البرية بالسيادة على الإقليم البحري. وفوق هذا وذاك، الطرح الشامل والمناقشة الموضوعية لمسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور. وبذلك قدم المؤلف سردية مميزة في ضوء فقه القضاء والتحكيم الدوليين، جديرة بالتدبر والاعتبار.
رابعاً، ينبه فيصل الحكومة السودانية إلى أهمية تجديد الشكوى في مجلس الأمن بصفة دورية، كما يجب عليها أن تسجل اعتراضاتها إلى المجلس بشأن أي تعديات تحدث، أو اتفاقيات بحرية أو برية ذات صلة بالمنطقة المتنازع عليها. وأن تدرك السلطات السودانية أن تاريخ إحالة النزاع إلى مجلس الأمن في 20 فبراير 1958، هو التاريخ الحرج الذي يجب أن تصدر أي هيئة تحكيم قرارها النهائي انطلقاً منه وفي ضوء الوثائق والمستندات المقدمة من الطرفين، ولا تأخذ في “الاعتبار الأعمال والأنشطة التي يكون قد باشرها أحد الطرفين في المناطق المتنازع عليها بعد ذلك التاريخ بقصد تحسين أو تدعم مركزه القانوني.” (فيصل، ص 7). وبذلك يكون الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه قد قدم النصح بمنعرج اللوى، وعل القائمين على أمر السودان يدركونه قبل أن يأتي ضحى الغد.
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الحدود المصریة السودانیة المناطق المتنازع علیها الخارجیة السودانیة بین مصر والسودان الحکومة المصریة الداخلیة المصری الحدود السیاسیة القانون الدولی السودانیة فی الأراضی التی السیادة على أن الحکومة مجلس الأمن إلى رئیس التی أ
إقرأ أيضاً:
على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (8 – 20)
"لن يستطيعَ أحدٌ أن يركبَ على ظهرِك، ما لم تَكنْ مُنحنياً"
مارتن لوثر كينج
النور حمد
مصر وثورة ديسمبر 2018
منذ أن فشلت خطة حكومة صدقي باشا، ومن بعده الرئيس جمال عبد الناصر في جعل الأحزاب الاتحادية السودانية وكيلاً لخدمة مصالح مصر في السودان، بسبب ثبوت ضعف قدراتها على أداء تلك المهمة، على الرغم من الولاء الشديد الذي ظلت تبديه لمصر، اتجهت الأنظمة المصرية إلى خطةٍ أخرى. تمثَّلت تلك الخطة في عرقلة الديمقراطية في السودان عن طريق صنع الانقلابات العسكرية، أو الإسراع في دعم التي لم تشارك في صنعها، والتسويق لقبولها في البلدان العربية. ظلت الأنظمة المصرية المتعاقبة حريصةً على الدوام على أن تكون الأنظمة في السودان أنظمةً عسكرية. لذلك، كان أفضل الخيارات للأنظمة المصرية المتعاقبة أن يحكم السودان جنرالٌ بيدٍ من حديد، ويكون في نفس الوقت معتمدًا عليها في الدعم السياسي والدبلوماسي ليصبح، من ثم، خاضعًا لإرادتها. وقد ظلت الأنظمة المصرية المتعاقبة تمارس في هذا المنحى مختلف صنوف الابتزاز للجنرالات الذين تعاقبوا على حكم البلاد. حدث هذا مع الفريق إبراهيم عبود، الذي أعانها في ترحيل أهالي حلفا وإغراق الأراضي السودانية، بكل ما حوت من مقدرَّات، لتتمكن مصر من إنشاء السد العالي. كما حدث مع الرئيس جعفر نميري الذي بدأ قوميًا عربيًّا وانتهى بإعلان نفسه خليفة للمسلمين في السودان في عام 1983. واستمر أيضًا نهج الهيمنة والتحكم من على بعد في فترة حكم الرئيس عمر البشير الذي بدأ عدوًا لمصر حين كان هو والدكتور حسن الترابي في مركب واحد. لكن ما لبث أن أبعد البشير الترابي عن السلطة في نهاية التسعينات من القرن الماضى وسار كسابقيه في طريق الخنوع للإرادة المصرية.
نزعة الترابي في تصدير الثورة إلى العالم الإسلامي، وأحلامه الشاطحة بخلق قوة إسلامية مناطحة للغرب، ورطت نظامه في أخطاء فادحة. هذه الأخطاء الفادحة إلى جانب استخفافه بالرئيس عمر البشير ومحاولة جعله مجرد دمية تجلس في الواجهة، باعدت بين الرجلين. الأمر الذي قاد إلى ما سُمي "المفاصلة" التي جرت في نهاية التسعينات من القرن الماضي. هذه الأخطاء وهذا التباعد بين الحليفين صب، في المحصلة النهائية، في مصلحة النظام المصري. من هذه الأخطاء الفادحة التي صبت في صالح مصر، محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا في عام 1995، التي ثبت أن نظام البشير في السودان هو الذي دبرها. كما سبقت ذلك استضافة النظام السوداني للإرهابي أسامة بن لادن وأيضًا مشاركة النظام في تفجير السفارتين الأمريكيتين في شرق أفريقيا، وفي حادثة المدمرة كول على سواحل اليمن. كل هذه الأفعال التي أغضبت العالم وأزعجت الإقليم، منحت مصر فرصةً ذهبيةً لتنخرط في ترويض نظام الإسلامويين في السودان، عن طريق الضغوط. أصبحت مصر، داعمةً بالصوت العالي للعقوبات على السودان. وقد كسبت مصر من ذلك على صعيدين. الصعيد الأول: ترويض نظام الرئيس عمر البشير ووضعه تحت قبضتها. أما على الصعيد الآخر، تكبيل السودان من أن يصبح قوة اقتصادية لها قدرات صناعية، لأن تحول السودان إلى دولة تصنع منتجاتها يحرمها من واحد من أهم أهدافها وهو أن يبقى السودان مجرد مصدر تأخذ منه المواد الخام لتُصَنِّعَها هي وتصدرها نيابة عنه. وسنعرض إلى ذلك بتفصيل أكبر، في حلقةٍ قادمة. خلاصة القول، عبر تشديد العقوبات على نظامه وتزايد ضغوط العزلة عليه، أدرك الرئيس المخلوع عمر البشير أن مصر هي من يسمع منها المجتمعان؛ الدولي والإقليمي، فيما يتعلق بشؤون السودان. فانتقل من حالة العداء الأولى ونهج المصادمة ومحاولة الاستقلال بالقرار السياسي إلى حالة من الرضوخ والاستسلام التام.
مصر والفريق البرهان
أما السيطرة المصرية على مجريات الأمور في السودان، عبر حاكمٍ عسكريٍّ سوداني، التي ظهرت في فترة صعود الفريق عبد الفتاح البرهان إلى دست الحكم في السودان منذ 2019، فقد فاق كل ما حدث في السابق. فمنذ صعود البرهان إلى الحكم، كرئيسٍ لمجلس السيادة للفترة الانتقالية، وفقًا للوثيقة الدستورية، قام بإلقاء نفسه بالكلية في الحضن المصري. ويبدو أن البرهان قد عرف بالتجربة الطويلة، ومن كونه ضابطًا قياديًّا ضمن منظومة حكم الرئيس البشير، أن مصر تريد، على الدوام، حاكمًا عسكريًا للسودان وأنها لا تترد قط في دعمه. بعبارة أخرى، وقوع من يحكم السودان تحت سيطرتها يضمن له أطول مدةٍ للبقاء في السلطة. هنا، تطابقت رغبة مصر مع رغبة الفريق البرهان في تحقيق رؤيا أبيه بأنه سيكون حاكمًا على السودان. وهي رؤيا لم يجد الفريق البرهان بأسًا في أن يحكيها للناس في أول مقابلةٍ متلفزةٍ له مع قناةٍ فضائيةٍ دوليةٍ، بعد توليه رئاسة مجلس السيادة. أيضًا، عرف البرهان أن وجود الإسلاميين في صفه في اللحظة الراهنة، على أهميته بالنسبة له، سوف يقف، في لحظةٍ قادمةٍ ما، حائلاً بينه وبين تحقيق حلمه بالانفراد بالسلطة. وهو يعرف أصلاً أن مصر ستقبل مرحليًا دعم الإسلامويين له حتى تجتاز سيطرته على الأمور مرحلة الخطر، لكنها ستدفعه لاحقًا للتخلص منهم. كل هذه العوامل جعلت الفريق البرهان يختار إسناد ظهره بالكامل إلى مصر. باختصار شديد، وجد الفريق البرهان في مصر ضالته، ووجدت مصر فيه ضالتها. ومن هنا، بدأ تعاون مصر والبرهان للقضاء على الثورة السودانية، عبر مختلف التكتيكات.
تزايد التعاون الاستخباراتي
منذ أن اعتلى الفريق البرهان رئاسة مجلس السيادة، تكثفت زيارات اللواء عباس كامل، مدير المخابرات المصرية، المعلنة وغير المعلنة، إلى السودان. كما تكررت زيارات الفريق عبد الفتاح البرهان، المعلنة وغير المعلنة، ومعه فريق مخابراته إلى القاهرة. لم يكن يمضي شهر أو شهران، إلا وكان عباس كامل وفريقه الاستخباراتي في الخرطوم. لقد كان التنسيق بين المخابرات المصرية والفريق البرهان وأجهزته الأمنية من أجل إجهاض الثورة، واضحًا وضوح الشمس. وقد كانت هناك محطاتٌ بارزةٌ عكست ذلك التنسيق. ومن أغرب الأمور التي حدثت بعد الثورة، لجوء مدير جهاز المخابرات السودانية في فترة حكم البشير، صلاح قوش، إلى مصر. فرئيس جهاز المخابرات هو حامل أسرار الدولة، ولا ينبغي أن يصبح عقب تركه منصبه ضيفًا على دولة أخرى، بل، وبصفة لاجئ. خاصةً في حالة العلاقة بين مصر والسودان التي تحكمها الأطماع وتديرها مصر على أساسٍ أمني واستخباراتي بحت.
هذا التهاون الأمني السوداني الذي خلقه نظام الفريق البشير، حدث في سابقةٍ أخرى، لا تقل غرابة. فمدير مكاتب الرئيس المخلوع عمر البشير، طه عثمان الحسين، الذي قام البشير بطرده من منصبه، التقطته المملكة العربية السعودية عقب طرده مباشرةً وعينته مستشارًا لديها للشؤون الإفريقية. أيضًا، لجأ إلى مصر واحدٌ من أكبر رموز نظام البشير وهو والي البحر الأحمر السابق، محمد طاهر آيلا. أقام آيلا في مصر لمدة ثلاث سنوات عقب قيام الثورة وعاد بعد انقلاب البرهان في أكتوبر 2021، ليجري استقباله في بورتسودان بصورةٍ رسمية، رغم أنه كان من المطلوبين للعدالة الذين هربوا في بدايات الثورة. وقد وصل آيلا إلى بورتسودان في وقت اكتملت فيها حلقات مؤامرة خنق حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، خاصة عقب إغلاق الميناء والطريق البري الرابط بين الميناء وبقية البلاد. لذلك، كان واضحًا لمن يتابعون تصاعد تضييق الخناق على الثورة، آنذاك، أن مطبخًا للتآمر على الثورة السودانية ظل يقوم بمهمته من القاهرة، بالتنسيق مع الفرق البرهان وقوى الثورة المضادة في الداخل السوداني.
مصر ومجزرة فض الاعتصام
كان أول تحدي للبرهان ولمصر، الاعتصام الضخم الذي أقامه الثوار على مدى أربعة أشهر أمام مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم. ورغم تصريحات القادة العسكريين بأن الاعتصام لن يجري فضه، شرعت القوى الأمنية في شيطنة الاعتصام بإدخال المخدرات والمتعاطين إليه عبر عناصرها. كما أدخلت فتياتٍ وشبانٍ مكلفين بالقيام بأفعالٍ مخلة بالآداب وتصويرها ونشرها لتستخدمها غرف الثورة المضادة الإلكترونية في تشويه صور الاعتصام والمعتصمين أمام الرأي العام. وبعد واحدةٍ من زيارات البرهان إلى القاهرة وعودته إلى الخرطوم حدثت مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو 2019. وقد كانت استنساخًا لتجربة مجزرة فض اعتصام رابعة العدوية في القاهرة بواسطة قوات الأمن المصرية.
لم يقض فض الاعتصام على جذوة الثورة كما كان منتظرًا منه. وظهرت الثورة أكثر قوةً وزَخْمًا في التظاهرات التي ملأت شوارع الخرطوم، في 30 يونيو 2019. أحنى البرهان وعسكريوه رؤوسهم، مؤقتًا، لتلك العاصفة. وتوصل الحوار بين قوى الحرية والتغيير إلى إنتاج الوثيقة الدستورية التي بموجبها تشكل مجلس السيادة وتشكلت الحكومة الانتقالية التي ترأسها الدكتور عبد الله حمدوك. لكن التكتيكات للقضاء على الثورة، لم تتوقف قط. فقد تضافرت جهود الفريق البرهان، والعسكريين في مجلس السيادة، وحزب الرئيس البشير المحلول، المؤتمر الوطني، الذي ظل رغم حله ممسكًا بكل مفاصل الحكم، في وضع العراقيل أمام حكومة حمدوك. وكان الهدف من ذلك، أن يفقد الشعب الثقة في كفاءتها، ويتهيأ الرأي العام من ثم للإطاحة بها.
تجفيف السوق وخلق الضوائق
كان أول ما بدأ به الفريق البرهان وقوى النظام القديم في هذا المخطط، هو تجفيف السوق من السلع الضرورية. فشرعوا في خلق الاختناقات في الوقود؛ من بنزين وجازولين وغاز طهي. كما خلقوا، أيضًا، أزمةً في دقيق الخبز، بل وفي إمدادت الكهرباء والمياه. إلى جانب ذلك، أشعلت الأجهزة الأمنية اضطراباتٍ عرقيةً داميةً في عددٍ من مدن السودان. كما عمدوا إلى خلق سيولةٍ أمنيةٍ غير مسبوقةٍ في العاصمة. وأصبحت ما تسمى عصابات "النيقرز" التي يشرف عليها جهاز الأمن، تنهب الناس في الشوارع، في وضح النهار، تحت التهديد بالسواطير والمُدَي، مع تقاعسٍ مُتَعَمَّدٍ من قِبَل قوات الشرطة عن التدخل. ثم أعقبوا ذلك بإغلاق الميناء والطريق البري الرابط بين ميناء بوتسودان وبقية مدن البلاد، كما سبق أن ذكرنا. وتولى تلك المهمة الزعيم القبلي في شرق السودان، محمد الأمين تِرِك مستخدمًا أفراد قبيلته. والرجل أصلاً عضوٌ في المؤتمر الوطني، حزب الرئيس المخلوع عمر البشير الذي حكم البلاد لعقود. حدث هذا الإغلاق في سبتمبر 2021 واستمر لمدة شهر تقريبا. وبعد أن اكتمل الخنق وتأزمت الأوضاع المعيشية وجرى إظهار حكومة حمدوك بمظهر العاجز عن الحكم، وإظهار ضعفها عبر حملات إعلاميةٍ ضخمةٍ لبلبلة الرأي العام، نفَّذ الفريق البرهان انقلابه على الوثيقة الدستورية، وأطاح بحكومة عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر 2021. حدث ذلك، أثناء فترة إغلاق محمد الأمين تِرِك للميناء وللطريق البري. وقد تغاضى الفريق البرهان وعسكريوه عن ذلك التعدي الخطِر الذي تمثل في إغلاق الميناء وقطع الطريق البري، فلم يقوموا بأي تدخل رغم خطر تلك التعديات الخطِرة على اقتصاد البلاد ومعاش الناس. وبالفعل، أحدث إغلاق الميناء والطريق البري أزمةً في دقيق القمح وفي نقل البضائع بين الميناء وبقية البلاد، كما ضاعف أسعار السلع، بصورةٍ كبيرةٍ جدا.
ميناء العين السخنة بدلا عن بورتسودان
منذ نوفمير 2020 أخذت المشاكل المفتعلة تحيط بميناء بورتسودان. وقد كان من الممكن حل تلك الإشكالات لولا أن تلك الإشكالات قد تُركت لتتفاقم عمدًا ويجرى، من ثم، توظيفها سياسيًا. أحدثت مشاكل الميناء تذمرًا كبيرًا في أوساط المصدِّرين *والمتورِّدين* . وبدأت تظهر أقتراحات بالتحول إلى ميناء مصوع على البحر الأحمر في دولة إريتريا. وهو ميناء يبعد حوالي 500 كيلو متر من وسط السودان. وقيل في تبرير التحول إليه أنه ميناء تعمل به 9 رافعات حديثة، في حين أن ميناء بورتسودان تعمل به 6 رافعات وهي رافعات كثيرة الأعطال. في نفس تلك الفترة، أعلنت جمهورية مصر العربية أنها قد رحبت بطلباتٍ تلقتها من شركات سودانية لفتح الموانئ المصرية لعمليات الإستيراد وتصدير المنتجات السودانية. (راجع صحيفة "الراكوبة" الإلكترونية على الرابط: https://shorturl.at/gw9ih ). ومن الغريب، أن تتلقى مصر الطلبات من الشركات السودانية لاستخدام ميناء العين السخنة الذي يبعد من الخرطوم في وسط السودان أكثر من 1600 كيلومترا، ومن مدينة نيالا في دارفور أكثر من 2500 كيلومترًا. ولا يكون الاختيار لميناء مصوع الذي يبعد 500 كيلو متر من مدينة القضارف في شرق السودان، وحوالي 1700 كيلومترا من نيالا في دارفور. كما أوردت صحيفة "العربي الجديد"، أن وزارة المالية المصرية قالت إنه تم التوافق مع الجانب السوداني على الإجراءات اللوجستية اللازمة لاستخدام الموانئ المصرية، خاصة ميناءي العين السخنة والسويس، في تصدير المنتجات السودانية واستيراد احتياجات السودان من العالم. (راجع: صحيفة "العربي الجديد"، على الرابط: https://shorturl.at/pNwK5).
الشاهد، عندما قام الزعيم القبلي محمد الأمين ترك بإغلاق الميناء والطريق البري الرابط بين الميناء وبقية البلاد في سبتمبر 2021، تحولت حركة الصادر والوارد إلى ميناء العين السخنة والسويس في مصر. وهو أمر صب في مصلحة مصر التي أصبحت المنفذ البحري الوحيد لحركة الصادر والوارد السودانية. قاد هذا التحول إلى زيادة تكاليف الشحن والنقل، وأدى، في نهاية الأمر، إلى ارتفاع السلع في السودان. فازداد بذلك الضغط على المواطنين الذين كانوا يعانون أصلاً من الضغود المفتعلة التي ظل الفريق البرهان وقوى النظام القديم يخلقونها لخدمة أهدافهم السياسية المتمثلة في القضاء على الثورة. حين اكتملت دائرة الضغوط على المواطنين على هذا النحو ووصل الخنق المتعمد للمواطنين ذروته، نفَّذ الفريق البرهان انقلابه في 25 أكتوبر2021 على الوثيقة الدستورية ليطيح بحكومة عبد الله حمدوك ولتتداعي الأمور، في نهاية تفاعلاتها، إلى هذه الحرب البشعة المدمرة التي تجري حاليًا.
(يتواصل)
elnourh@gmail.com