مسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور
تاريخ النشر: 9th, August 2024 GMT
أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
مسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور
تأليف
فيصل عبد الرحمن علي طه
*****
عرض وتحليل
أحمد إبراهيم أبوشوك
(1)
تمهيد
أهدى ليَّ الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه نسخةً من كتابه عن “مسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور”، الصادر عام 2023، والذي نُشر أصله في شكل مقالاتٍ منجمةً في بعض الصحف العربية، التي تصدر في السودان، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة المتحدة؛ ولذلك يلحظ القارئ نوعاً من التقديم والتأخير في المعلومات، وتكرار بعضها حسب السياقات المعرفية التي اقتضتها ظروف نشر كل مقالٍ.
(2)
رسم حدود الدول المُستعمرة والمشكلات الناتجة عنها
يرى فيصل أنَّ الدول الاستعمارية الأوربية قد رسمت حدود الدول التي فرضت سلطانها عليها “بنهجٍ عشوائيٍ تحكميٍ، دون مراعاة لحقوق القبائل في الأراضي التي تشغلها، أو لحقوقها في الأراضي التي لا تشغلها؛ ولكنها اعتادت دخولها في إطار ممارستها لأنشطتها المعيشية التقليدية.” (فيصل، ص 47). وقد استشهد في ذلك بإحدى خطب لورد سالزبوري (Lord Salisbury)، رئيس وزراء بريطانيا (1895-1902) التي أشار فيها ضمناً إلى مثل هذه العشوائية، وبمرافعة موريتانيا أمام محكمة العدل الدولية بشأن الفتوى التي طلبتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عن الصحراء الغربية. فلا يسمح المجال بتفصيل هذه الشواهد وعلاقتها بعشوائية الطموح الإمبريالي؛ لكن عن النزاع الحدودي بين مصر والسودان، يقول المؤلف أنَّ حظ عرض 22 درجة شمال خط الاستواء قد أدخل “عشراً من القرى التابعة لمركز حلفا السوداني في إقليم مصر”، علماً بأن هذه القرى تمتد من الشمال إلى الجنوب على ضفتي النيل، وتشكل تجمعاً نوبياً متجانساً، وتنفرد كل قرية منها باسم خاص لها، مثل: فرص (شرق وغرب)، وجزيرة فرص، وسرة (شرق وغرب)، ودبيرة (شرق وغرب)، وأشكيب (شرق) وأرقين (غرب)، ودغيم وعنقش ودبروسة. وبالكيفية نفسها يرى المؤلف أن خط عرض 22 درجة شمال قد أدخل أراضي ومراعي بعض فروع قبيلة البشاريين السودانية في الإقليم المصري. ويبدو أن الحكومة المصرية قد استدركت خطل هذا النهج العشوائي في ترسيم الحدود المصرية-السودانية، الأمر الذي دفع ناظر الداخلية المصري إلى إصدار قرارين، أحدهما في 26 مارس 1899، وثانيهما في 25 يوليو 1902 والقرار المؤيد له في 4 نوفمبر 1902، وبموجب ذلك أصبح مثلث حلايب، الذي تقطن معظم فضاءاته قبائل البشاريين والأمرار، تابعاً لسلطة السودان الإدارية؛ وقبائل العبابدة، باستثناء المليكاب، تابعة لسلطة مصر الإدارية؛ والقرى النوبية الواقعة داخل نتوء وادي حلفا، التي أشرنا إليها أعلاه، تابعةً لسلطة السودان الإدارية. ومن هذه الزاوية ينظر فيصل بعدسة قانونية إلى قراري ناظر الداخلية المصري، ويعتبرهما قراران إداريان مفصِّلان ومكمِّلان للتقسيم الإداري الذي وضعته اتفاقية 1899 للحدود الفاصلة بين مصر والسودان، دون مراعاة لنقاط بداياتها شرقاً وغرباً، أو حقوق القبائل التي تقطن المناطق المشار إليها. وإن الأوضاع التي رسخها القراران “تحمل نفس الصفة الإدارية التي حملها خط 22 شمال، فهي ليست مؤقتة، ولا يمكن تكييفها كحالة تنازل عن الإدارة من جانب مصر؛ لأنها تمت تنفيذاً لاتفاقية 19 يناير 1899” (فيصل، ص 52).
(3)
الأساس القانوني للحدود الفاصلة بين مصر والسودان
أوضح المؤلف بجلاء أن الأساس القانوني للحدود الفاصلة بين مصر والسودان يتمحور بصفة رئيسة حول اتفاقية 19 يناير 1899 بهدف إدارة السودان في المستقبل، والتي نصت مادتها الأولى على أن “لفظة السودان” تطلق “على جميع الأراضي الكائنة إلى جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض، وهي: أولاً الأراضي التي لم تخلها قط الجنود المصرية منذ عام 1882؛ أو ثانيًا، الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل ثورة السودان الأخيرة وفقدت منها وقتياً، ثم افتتحتها الآن حكومة جلالة الملك والحكومة المصرية بالاتحاد؛ أو ثالثاً، الأراضي التي قد تفتتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعدا”. (فيصل، ص 80-81) ويقيد الإطلاق الإداري الخاص بتحديد الحدود حسب نص اتفاقية 19 يناير 1899 القراران اللذين أصدرتهما نظارة الداخلية المصرية في 26 مارس 1899 و25 يوليو 1902، ثم أيدت القرار الثاني في 4 نوفمبر 1902. وبموجب هذين القرارين أضح مثلث حلايب ونتوء وادي حلفا تابعين للإدارة السودانية. وفي ضوء هذه النصوص يطرح فيصل قضية التكييف القانوني، وبناءً عليه يصف الاتفاقية بأنها ذات طابع إداري؛ لأن مصر لم تكن وقت التوقيع عليها تملك أهلية إبرام معاهدات سياسية؛ فضلاً عن أن الاتفاقية نفسها نصت على أن الغرض الأساس منها “إدارة السودان في المستقبل”؛ وبموجب ذلك لا يترتب عليها سيادة لدولتي “الفتح”، أو الدولة المصرية على السودان، بل أن قرارات نظارة الداخلية المصرية القاضية بتعديل الحدود بين مصر والسودان تعتبر قرارات إدارية ملزمة وجابةً لما قبلها. ويرى فيصل أن الحدود السياسية لدولة السودان قد أخذت شكلها القانوني “بعد أن قرر البرلمان السوداني بالإجماع في 19 ديسمبر 1955 أن السودان أصبح دولة مستقلة كاملة السيادة واعترفت مصر وبريطانيا بذلك في أول يناير 1956. وقد سبق اعتراف مصر وبريطانيا بالسودان دولة مستقلة ذات سيادة إجازة البرلمان السوداني في 31 ديسمبر 1955 لدستور السودان المؤقت، والذي ينص في المادة (2/2) على أن الأراضي السودانية تشمل جميع الأقاليم التي كان يشملها السودان الإنجليزية-المصري قبل العمل بهذا الدستور مباشرة.” (فيصل، ص 20-21). وفي إطار التدليل على ذلك، يشير المؤلف إلى الانتخابات البرلمانية السودانية لسنة 1953، التي أُجريت في مثلت حلايب ونتوء وادي حلفا عملاً بقانون الحكم الذاتي لسنة 1953، وفاز محمد كرار كجر في الدائر 70 الأمراء والبشاريين (الحزب الوطني الاتحادي)، ومحمد نور الدين أحمد في الدائرة 29 وادي حلفا (الحزب الوطني الاتحادي)، دون أدنى اعتراض من الحكومة المصرية.
(4)
كيف بدأت مشكلة الحدود المصرية-السودانية؟
بدأت المشكلة حسب سردية الدكتور فيصل عندما بعثت الحكومة المصرية مذكرة إلى حكومة السودان في 29 يناير 1958، مدعيةً فيها أن “إدخال المنطقة الواقعة شمالي وادي حلفا ومنطقة حلايب الواقعة على ساحل البحر الأحمر ضمن الدوائر الانتخابية السودانية يتعارض مع اتفاقية 19 يناير 1899 بين مصر وبريطانيا، ويشكل بذلك خرقاً للسيادة المصرية؛ لأن هذه المناطق مصرية ولا يحق للحكومة أن تشملها ضمن الدوائر الانتخابية السودانية. وطالبت الحكومة المصرية بإلغاء الحدود التي أنشأتها أوامر نظارة الداخلية المصرية في 26 مارس 1899 و4 نوفمبر 1902 على اعتبار أنها كانت حدوداً إدارية والعودة إلى الحدود التي أنشأتها اتفاقية 19 يناير 1899 على أساس أنها تمثل الحدود السياسية بين مصر والسودان.” (فيصل، ص 9). وبناءً على هذا الادعاء أوضحت الحكومة المصرية في مذكرة بتاريخ 9 فبراير 1958 إلى رئيس الوزراء عبد الله خليل أن الحكومة المصرية “قررت أن تتيح لسكان منطقتي وادي حلفا وحلايب فرصة الاشتراك في الاستفتاء على رئاسة الجمهورية العربية المتحدة بين الرئيسين جمال عبد الناصر وشكري القوتلي،” والمزمع عقده في 21 فبراير 1958. وبناء على هذه المذكرات أرسلت الحكومة المصرية قوات حرس الحدود ولجان الاستفتاء إلى المنطقتين المشار إليهما. دفع هذا الأمر رئيس وزراء السودان، حسب رأي المؤلف، إلى الاتصال هاتفياً بالحكومة المصرية لإرجاء مسألة الحدود إلى ما بعد الانتخابات السودانية؛ لكن دون جدوى. وأخيراً بعث وزير خارجيته، محمد أحمد محجوب إلى القاهرة في 18 فبراير 1958؛ لمناقشة مقترح التأجيل مع الرئيس جمال عبد الناصر. فعرض محجوب طلب التأجيل للمرة الثانية، وتعهد بأن الحكومة السودانية لن تستند إلى إجراء الانتخابات السودانية كبينة لتأييد ادعاء السيادة على المناطق المتنازع عليها. ألا أن الحكومة المصرية رفضت هذا العرض، واقترحت ألا تُجرى أي انتخابات ليس في المناطق المتنازع عليها فحسب، بل وإنما في كل أجزاء دائرة وادي حلفا ودائرة البشاريين (حلايب). ومن جانبها رفضت الحكومة السودانية هذا الاقتراح واقتراح آخر يقضي بأن تجرى الانتخابات السودانية والاستفتاء المصري بشرط أن توضع صناديق الاقتراح خارج المناطق المتنازع عليها. ونتيجة لتأزم الأمر بالكيفية المشار إليها، رفع رئيس الوزراء السوداني شكوى إلى رئيس مجلس الأمن، في 20 فبراير 1958، مفادها “أن مصر قد حشدت قوات عسكرية على الحدود المشتركة، وبما أنها تصر على إجراء الاستفتاء في إقليم السودان، وبما أن السودان عازم على حماية إقليمه، فإن الموقف قد يؤدي إلى إخلال بالسلم، وإذا لم يسيطر عليه فلربما يتطور إلى نزاع مسلح.” (فيصل، ص 40). وأثناء انعقاد مجلس الأمن للنظر في الشكوى السودانية في 21 فبراير 1958، تلا مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة، عمر لطفي، بياناً صحفياً أمام المجلس فحواه موافقة الحكومة المصرية على تأجيل بحث مسألة الحدود المتنازع عليها إلى ما بعد الانتخابات السودانية لسنة 1958. وبموجب ذلك أجلَّ المجلس النظر في النزاع، حتى يتسنى للدولتين إيجاد تسوية مرضية للطرفين، وحفظت الشكوى في جدول أعمال المجلس، وأصبح تاريخ إحالتها إلى مجلس الأمن “تاريخاً حرجاً، بمعنى أن النزاع ينبغي أن يتقرر على أساس الوضع الذي كان قائماً في ذلك التاريخ. ولن تؤخذ في الاعتبار الأعمال والأنشطة التي يكون قد باشرها أحد الطرفين في المناطق المتنازع عليها بعد ذلك التاريخ بقصد تحسين أو تدعيم مركزه القانون.” (فيصل، ص 7). وبالفعل أُجريت الانتخابات البرلمانية في السودان لعام 1958، وفاز في الدائرة 143 وادي حلفا محمد نور الدين أحمد (حزب الشعب الديمقراطي)، وفي الدائرة 96 الأمرار (حلايب) محمد محمد موسى حمد (حزب الشعب الديمقراطي)، والدائرة 97 البشاريين حامد كرار أحمد (حزب الشعب الديمقراطي). ومنذ عام 1958 ظلت المنطقتين محل نزاع بين مصر والسودان، حيث غمرت مياه السد العالي نتوء وادي حلفا وهَجَّرت أهله، وبسطت القوات المصرية سيطرتها على مثلث حلايب في 9 ديسمبر 1992. ورداً على هذا التعدي، يذكر المؤلف أن علي أحمد سحلول، وزير الخارجية السودانية آنذاك، بعث رسالة إلى رئيس مجلس الأمن، في 27 ديسمبر 1922، موضحاً فيها “أن القوات المصرية توغلت بتاريخ 9 ديسمبر 1992 في الأراضي السودانية لمسافة 28 كيلومتراً جنوب مدينة حلايب السودانية في محافظة حلايب، وعلى الطريق الذي يربطها بميناء بورتسودان.” رد عمرو موسى، وزير الخارجية المصري آنذاك، إلى رئيس مجلس الأمن برسالتين في 3 و14 يناير 1993، واعتبر في إحداهما أن رسالة الخارجية السودانية فيها مساس بسيادة مصر على أراضيها، وإن مصر لم تنقطع سيادتها على المنطقة الإدارية الواقعة شمال خط العرض 22 منذ توقيع وفاق 1899. (فيصل، 57-58). وفي ظل هذا النزاع الحدودي المستمر ظلت الشكوى السودانية في جدول أعمال مجلس الأمن الدولي، تُجدد سنوياً من قِبَل حكومة السودان.
(5)
أين تكمن أهمية كتاب “مسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور”؟
تكمن أهمية الكتاب في النقاط الآتية:
أولاً، أعدَّ الكتاب مؤلف ثبت وصاحب كسب رصين في مجال القانون الدولي في أعرق الجامعات البريطانية (كمبردج) وخبرة واسعة في مجال القانون الدولي وقضايا منازعات الحدود، ولذلك جاءت مقالاته بلغة قانونية رفيعة، ومنهج بحثي مركبٍ، يجمع بين قراءة السياق التاريخي الذي نشأت في الاتفاقيات الخاصة بقضايا الحدود المصرية-السودانية، وتحليل نصوص الاتفاقيات والقرارات الإدارية وتفكيكها في إطار ثوابت فقه القانون الدولي، والاستئناس بالمذكرات التفسيرية الشارحة للاتفاقيات والمواقف السياسية ذات الصلة. فضلاً عنه ثبت الملاحق، الذي يحتوي على وثائقٍ مهمةٍ وذات صلةٍ بموضوع النزاع. ومن هذه الزاوية، يصلح كتاب “مسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور” أن يكون مرجعاً لطلبة القانون الدولي ومراكز منازعات الحدود في الجامعات السودانية وغيرها.
ثانياً، يقدم الكتاب رؤية كلية للتعامل بجدية مع قضية مثلث حلايب، كما يسدي نصحاً قيماً للقائمين على أمر الخارجية السودانية، الذين وصف تعاملهم مع القضية بالتهاون، ومن الشواهد الدالة على ذلك تراخي المسؤولين السودانيين عندما احتلت القوات المصرية مثلت حلايب عام 1992، وعندما أصدر مجلس الوزراء المصري بياناً بشأن الاتفاق على تعيين الحدود البحرية بين جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية، علماً بأن سيادة الدولة الساحلية تقوم إلى سيادتها لإقليمها البري، وكذلك تراخيهم في تجديد ملف الشكوى المودعة بأضابير مجلس الأمن منذ عام 1958.
ثالثاً، لا يغني هذا العرض والتحليل عن قراءة الكتاب قراءة كلية؛ لأنه قد أُسس على فرضيات قوية، وتفكيك علمي مُحْكَم للمفاهيم المرتبطة بقضية السيادة، والتمييز بين الحدود السياسية والحدود الإدارية، وعلاقة السيادة البرية بالسيادة على الإقليم البحري. وفوق هذا وذاك، الطرح الشامل والمناقشة الموضوعية لمسألة حلايب ونتوء وادي حلفا المغمور. وبذلك قدم المؤلف سردية مميزة في ضوء فقه القضاء والتحكيم الدوليين، جديرة بالتدبر والاعتبار.
رابعاً، ينبه فيصل الحكومة السودانية إلى أهمية تجديد الشكوى في مجلس الأمن بصفة دورية، كما يجب عليها أن تسجل اعتراضاتها إلى المجلس بشأن أي تعديات تحدث، أو اتفاقيات بحرية أو برية ذات صلة بالمنطقة المتنازع عليها. وأن تدرك السلطات السودانية أن تاريخ إحالة النزاع إلى مجلس الأمن في 20 فبراير 1958، هو التاريخ الحرج الذي يجب أن تصدر أي هيئة تحكيم قرارها النهائي انطلقاً منه وفي ضوء الوثائق والمستندات المقدمة من الطرفين، ولا تأخذ في “الاعتبار الأعمال والأنشطة التي يكون قد باشرها أحد الطرفين في المناطق المتنازع عليها بعد ذلك التاريخ بقصد تحسين أو تدعم مركزه القانوني.” (فيصل، ص 7). وبذلك يكون الدكتور فيصل عبد الرحمن علي طه قد قدم النصح بمنعرج اللوى، وعل القائمين على أمر السودان يدركونه قبل أن يأتي ضحى الغد.
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الحدود المصریة السودانیة المناطق المتنازع علیها الخارجیة السودانیة بین مصر والسودان الحکومة المصریة الداخلیة المصری الحدود السیاسیة القانون الدولی السودانیة فی الأراضی التی السیادة على أن الحکومة مجلس الأمن إلى رئیس التی أ
إقرأ أيضاً:
لماذا يبسّط البعض مفهوم الهوية وقيمتها الوطنية ؟
لا شك أن قضية الهوية الوطنية أو الهوية الثقافية، من أهم قضايا انتماء الفرد في الأمة، له ما للأمة من واجبات وما عليه من التزامات ومسؤوليات، وهذا الانتماء الوطني، قد يتعرض للانسحاق في هذه الهوية بمفهومها الشامل من خارجها إن لم يتحصن الفرد من الاختراق الثقافي، وحتى الهوية قد تتعرض لما هو أخطر وهو الاستلاب أو الانشطار بين هويته وهويات أخرى مناقضة لهويته، مما يهدد الشخصية الفردية أو الجماعية للذوبان في هويات أخرى مخالفة له في الفكر والثقافة، وهو ما يسهم في تقويض المقومات الحضارية للأمة، ويجعلها مهددة بالانصهار تمامًا في ثقافة أخرى، أو يجعلها مضطربة وهامشية في مرجعيتها الفكرية والثقافية، مما يجعل الانتماء هشًا وقابلًا للوقوع في الذوبان، وربما اتجه إلى انتماء آخر غير الانتماء الثابت للأمة التي ينتمي إليها، وهذا مكمن الخطر في مسألة الهوية الوطنية والثقافية والفكرية. والبعض من أبناء الأمة للأسف، يطرحون قضية الهوية دون المعرفة الصحيحة للهوية حتى في الفكر الغربي، وكأنها الهوية في مفهومها تعني: (أنت.. وهو)، أو أن الهوية تبسط، كما قال أحدهم في بعض تعليقاته على مفهوم الهويـة، ممن تأثر بالفكر الغربي، أو كما يعتقد ذلك، أن الهوية هي كأنك: تقابل أحد الأشخاص وتسأله، من أي دولة أنت؟ أو من أي أمة أو شعب؟ ويرد عليك أنا من الدولة كذا، أو من شعب أو أمة كذا، وفي المقابل السائل يعرف نفسه بنفس التراتبية للشخص الآخر، وعنده هذه هي الهوية بحسب فهمه المحدود؟! فهذا التبسيط المخل لمعنى الهوية لا يصف شيئا صحيحا لمفهوم الهوية الشامل كما تعرف عند علماء الاجتماع أو السياسة في عصنا الراهن.
وهذه الفكرة عند هؤلاء لا تعتبر هاجسًا يعتد به باعتباره مهمًا للانتماء الوطني والثقافي، أو لأهميته الفكرية بالنسبة له، طالما أنها ممارسة يومية معتادة، كما يراها فلان يقابل فلان!، ولكن هذا التوصيف، لا يجرد مسألة الهوية الوطنية أو الهوية الثقافية من مضامينها التي وضعت لها من الأساسية، كما عُرفت من المفكرين في أي أمة من الأمم، ولكنه يجردها تماما من جوهرها الأساسي بذلك التبسيط غير الدقيق لمفهومها كما يطرحها البعض، ويراها، كما تصور له عقله وفهمه، فمنذ أقدم العصور حتى الآن، فالهوية هي الهوية التي تعني الانتماء لأمة قائمة بشعب وأرض وثقافة، فتجريد هذا المفهوم من جوهره الأهم وطبيعته الفكرية والثقافية، مخالف لحقيقة الهوية عند كل الأمم والحضارات، وماهيتها وأسسها في الثقافات والحضارات، والوحدة الاجتماعية القائمة في الانتماء الواحد ، وكذلك مقومات وجود الفرد في هذه الثقافة والقيم التي يمتلكها ويتمسك بها، وسبل عيشه التي أصبحت تراثًا كبيرًا ممتدًا لقرون للإنسان، وهذه كلها سمات تميزه عن غيره من الشعوب الأخرى في جوانب ومشارب كثيرة ومتعددة؛ لأن هذا الاختلاف والتمايز، هو الذي يجعل كل أمة، لها قيم وثقافة مختلفة، وهذا هو قيمة التعدد والتنوع، وتلك مسألة جوهرية، وهي أيضًا ثراء ثقافي وتراثي للمجتمعات المتعددة في الثقافات والهويات.
حتى في المجتمعات الغربية، فكرة الهوية هي نفسها، كما نحددها عندنا في المجتمعات العربية الإسلامية، خاصة في قضية الانتماء لأمة لها رؤيتها وفكرها وثقافتها، ففي كتاب المؤلف الفرنسي «اليكس ميكشيللي»:(الهوية)، يرى أن الهوية في أساسها: «الشعور بالانتماء كنتاج لعمليات التكامل الاجتماعي ولعملية تمثل القيم الاجتماعية السائدة في إطار الجماعة... وذلك لأن الكائن الإنساني يعيش في وسط اجتماعي يغمره بمعاييره ونماذجه السلوكية». كما أن اللغة.. أي لغة تعد من أساسيات الهوية الوطنية، فإذا توارت اللغة عن أمة من الأمم، وضعفت، تحل بدلها اللغات الأخرى المنافسة، والشعوب التي حاربت الغزاة، جعلت هويتها الوطنية، تسير جنبا إلى جنب مع حركتها في محاربة الاستعمار والحفاظ على الثقافة، وما فعله الزعيم الهندي مهاتما غاندي، عندما كان يسافر للغرب، ويفاوضهم كان يصطحب معه شاة التي يشرب منها الحليب، مع احتفاظه بملابسه الوطنية الأكثر تواضعًا كما عرف عنه، وهذا بلا شك له مغزى، وهو التمسك بالهوية الوطنية، في ظل الهجمة الاستعمارية عسكريًا وسياسيًا، وثقافيًا، وتبعه الزعيم الهندي نهرو أيضًا في الكثير من تحركاته في الحفاظ على الوطنية خلال رئاسته للهند، والغرب نفسه -في بعض بلدانه- شديد الحرص على التمسك بالهوية الوطنية واللغة في المقام الأول، مع ما يجمعهما من روابط الدين والجغرافيا والاتحاد الخ، لكنهم في قضية اللغة لا مساومة عليها، والإشكالية الراهنة أن الآخر المختلف، يسعى بكل قوة أن يلغي هوية أي أمة من الأمم في راهننا، ويحاول تقديم هويته ورؤيته الفكرية، سواء من خلال الاختراق الثقافي التي بلا شك تلعب دورًا كبيرًا في ضرب الهويات الأخرى أو استلابها أو تمييعها، وهناك صراع فكري متحرك، ومواقع تشتغل على محو الهوية وتجريدها من مضامينها وممانعتها، وجعلها هوية مهلهلة، بحسب ما قاله د. تركي الحمد (من أنت؟ قال: أنا ابن فلان)! وهذه الخلاصة للأسف تقزيم للهوية وتذويبها عن تجسيدها لميراث كبير وخصائص ومميزات متعددة المجالات، وليس هذا الفهم القاصر الذي يقترب من السذاجة!.
وقد أشرت في كتابات سابقة عما تشعر به فرنسا منذ عدة عقود، وتتحدث عن الاختراق الثقافي لثقافتها من الثقافة الإنجليزية، وهو ما يهدد هويتها اللغوية، أو ما أسمته بالغزو الثقافي الأمريكي على الوجه الأخص، وهناك الكثير من الآراء حول هذه المسألة للعديد من المفكرين الفرنسيين في قضية الاختراق الأمريكي للثقافة الفرنسية.. وكندا أيضا تحدثت على لسان رئيس وزرائها الأسبق، عما تشعر به من خطر على هويتها الثقافية من الاختراق الثقافي الأمريكي فقال: «إننا شعر أننا أمام قدم فيل ضخم ـ يقصد الولايات المتحدة الأمريكية ـ ، فإن أي شعرة تتحرك في جسمه تهز كندا، ومهما كانت أوجه الشبه والتقارب بين البلدين فإن كندا دولة أخرى ولها ثقافة أخرى». وهذه الدول بالرغم من التقارب الفكري والثقافي والديني، يشعرون بالخطر على الهوية الذاتية، بالرغم من التقارب الكبير، فلماذا نحن نتهاون، ونشعر بالهزيمة الفكرية، ونأتي بمبررات لنتوافق مع فكر الآخر وثقافته، وهويته، هذا الشعور، هو الانسحاق والذوبان والانكسار، وهي بلا شك حالة نفسية تجعل الآخر هو النموذج الذي يجب أن يحتذى ويتم تقليّده، وفق مقولات لا تتوافق مع النظرة نفسها لمسألة الهوية الذاتية التي بعض الغربيين ينقدها بقوة، والغرب نفسه يرفض ذلك -كما أشرنا آنفًا- عن رفضه التام للذوبان ومسح الهوية الثقافية ، وقد عبر عن ذلك أصدق تعبير ما قاله المفكر المغربي الراحل د. محمد عابد الجابري، عندما قاله في كتابه [ المسألة الثقافية]، «إن الاختراق الثقافي هو اختراق للهوية أساسًا. لنقل إذًا إننا نقصد بـ ((الثقافة)) هنا : ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات التي تحتفظ لجماعة بشرية تشكل أمة أو ما في معناها بهويتها الحضارية في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء». ولا شك أن قضية الهوية تراهن عليها الأمم التي تواجه التحديات والضربات، وأمتنا تواجه هذا التحدي، لذلك تعتبر الهوية خط الدفاع عن المخاطر، ومنها قضية القدس، وما يسمى بصفقة القرن؛ لان هذه الرمزية تجعل مسألة الحفاظ على المقومات مسألة وجود جزء من الهوية، لا مسألة حدود.
ولذلك من المهم أن نربي الأبناء التربية القويمة، التي تحافظ على هويتنا وقيمنا الثقافية والفكرية، وعن اتباع وتقليد الآخر في قضايا ليست من صميم العلم والفكر والقيم الصحيحة، التي لا تخالف الدين والعادات المستقرة للامة، وبعضهم يضعف أمام قدرات الآخر لخلل في قدراته العلمية والتكنولوجية وما قاله العلامة ابن خلدون في قولته الشهيرة (أن المغلوب مولع باقتداء الغالب)، ونحن فعلًا في هذا المسار ونرجو ألا يتحقق هذا الأمر، لكن لماذا أمم أخرى ضعيفة، بل وأقل ضعفًا، قاومت الاختراق واستطاعت أن تحافظ على ذاتها من الذوبان مما يحدثه الاختراق الفكري، ونحن في دول المنطقة، للأسف نكاد أن نقع فيما وقعت فيه دول في الشمال الإفريقي، حيث استطاع الاستعمار في القرن الماضي أن يفرض لغته فرضًا، وأن يحارب اللغات الأصلية لتلك الشعوب لمحوها من الجذور، وحقق نجاحًا مهمًا، فلا تزال آثاره باقية حتى الآن، والبعض ممن تأثر بالغرب يرى وبشكل صريح، دون أن يخفي اتجاهه الفكري أن الحضارة المعاصرة حضارة عالمية واحدة ولا تعددية في الحضارات أو الثقافات، ولم يعد التمايز ينفع في هذا العصر أيضًا، فأحد المثقفين العرب سخر من القضية ولا شك أن مثل هؤلاء متأثرون بالغرب في فكره ورؤيته تجاه تعدد خيار الثقافات وتعددها مجرد أوهام ليس لها وجود في هذا العصر، وهذه تعني إقصاء الثقافات والهويات الأخرى، وجعل الثقافة الغربية، هي السائدة، وهذا ما حذرت منه منظمة «اليونسكو» قبل سنوات التي أكدت في عدة توصيات انبثقت عن مؤتمرات عديدة، حول السياسات الثقافية وكيفية النهوض الذاتي على ضرورة درء الخطر الثقافي وصيانة الهوية الثقافية للشعوب. وهذه مسألة صحيحة، وليست أوهامًا، أو تخيلا عند البعض، ولذلك الاعتزاز والتمسك بالهوية الوطنية، حاجة وضرورة من عدم التعدي الفكري والثقافي، وفي غياب ذلك فهو الانصهار في الثقافة المهيمنة، وهذا هو مربط الفرس في مخاطر الانصهار الذي تسعى إليه دول بعينها، وهي مع أنها تحذر من الأخطار على هويتها وثقافتها، لكنها كانت تحارب بكل قوة الثقافات الأخرى لتكون ثقافتها هي الثقافة العالمية الوحيدة في هذا العالم!.