جدل العلاقة بين النّص المسرحي والخشبة
تاريخ النشر: 8th, August 2024 GMT
آخر تحديث: 8 غشت 2024 - 11:58 صعباس منعثر ثمة مقولة ترسخت في الأدبيات المسرحية حد أن عدها الكثيرون مسلمة رياضية: (النص المسرحي ناقص، ولا يكتمل إلا على خشبة المسرح). هذه المسلمة يندر أن توضع على مشرحة الشك، او تتعرّض لأي صيغة عقلانية من التساؤل والتأمل. على النص المسرحي أن يلتزم بالقاعدة، ولا يكتمل حتى لو كان مكتملا إلا عند تحوله إلى فن إخراجي لا علاقة له بالنص اطلاقاً.
لكن قبل الخوض في المقولة دعونا نتابع عملية تشكلها عبر أهم المحطات المسرحية في التاريخ.فكرة أن النّص المسرحي لا يكتمل إلا على الخشبة ترتكز على أن المسرح ليس مجرد نص مكتوب. ففي المسرح الإغريقي، كانت النّصوص المسرحية تُكتب لتُعرض في المهرجانات الدّينية، وكان الكاتب المسرحي، مثل اسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس، يكتب النّصوص مع وعي تام بأنها ستُقدم أمام جمهور فعلي. وفي المسرح الإليزابيثي، كانت النّصوص المسرحية تُكتب لتُعرض وليس لتُقرأ فقط. شكسبير، على سبيل المثال، كتب نصوصه لتُقدّم أمام الجمهور الانكليزي في مسرح الكلوب. ومع ظهور الحركة الواقعية في المسرح أواخر القرن التّاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان كتّاب مثل هنريك إبسن وأنتون تشيخوف، يدركون أن النّصوص المكتوبة بحاجة إلى تفاعل حقيقي بين الممثلين والجمهور، فالنّص المسرحي إطار يمكن أن يتغير ويتطوّر مع كلّ عرض. يؤكد آرتو أنه لا يمكن اعتبار النّص المسرحي مكتملاً بدون شعرية المسرح، التي تظهر، باعتقاده، في العناصر المسرحية الخالصة: أي الصّوت والحركة واللون وليس من بينها النّص المسرحي. وكذلك بريخت يرى ان التفاعل مع الجمهور يتمّ بوسائل ليست نصية فقط مثل الرّقص والغناء واللوحات وغيرها.. فاللحظة الحية على المسرح تضيف أبعاداً جديدة إلى النّص غير متوفرة في بنيته السّردية، من قبيل تفسير المخرج، بالإضافة إلى عمل العناصر الفنية الأخرى مثل الإضاءة، الدّيكور، والأزياء التي تساهم في خلق المعنى وايصاله الى الجمهور. المسرح، اجمالاً، هو تجربة حسية كاملة تشمل الرّؤية، السّمع، وأحياناً حتى الرّائحة واللمس. وهذا يدلل على أن مقولة (لا يكتمل النّص المسرحي إلا على الخشبة) تبدو جزءاً من تطوره الطبيعي. وبالعكس من كل ذلك، يمكن أن يكون النّص المكتوب مكتملاً بذاته أو يحمل قيمة فنية مستقلة، أي أن يتمتع النّص المكتوب بجمال لغوي وبنية درامية معقدة تجعل منه قطعة أدبية كاملة، يمكن قراءتها وفهمها دون الحاجة إلى تجسيدها على الخشبة، مثل النّصوص الكلاسيكية (شكسبير) التي تتمتع بقيمة أدبية وفلسفية تجعلها قابلة للفهم والتقدير من خلال القراءة وحدها. كتب جورج برنارد شو مسرحيات تحتوي على رسائل وأفكار يمكن فهمها وتقديرها من خلال القراءة، هارولد بينتر كتب مسرحيات غامضة تحتوي على قيمة أدبية مستقلة حتى قبل عرضها على المسرح، وصمويل بيكيت اهتمّ بالتفاصيل اللغوية والبنية الأدبية مما يعزز استقلالها مثل توم ستوبارد، الذي يولي أهمية كبيرة للبنية الأدبية واللغوية لنصوصه بحيث تُقرأ وتُدرس لأسلوبها الأدبي المعقد وأفكارها الفلسفية، ناهيكَ عن اوغست سترندبرك بنصوصه المغرقة في موضوعات وجودية مبهمة. اعتماداً على ما سبق، يبدو أن النّص يتحرك حيناً كموجة وحيناً كجُسيم. لكن الثورة على النّص قد انبثقت من أن المخرجين المسرحيين، الذين يميلون إلى الطبيعة البصرية والحركية للعرض بالضد من طبيعة النّص التّجريدية واعتماده على الكلمة، اعتبروا الفنّ المسرحي تابعاً للأدب، مما يتطلّب الخروج عليه وتغييره. لذلك كان اكبر تمرّدا قام به المسرح أن زعزع هذه التبعية، وكلّ المناهج المسرحية التجديدية تبدأ من هذه النقطة كمركز لتجريبها وخروجها عن السائد. غير أن مسألة التّمرد على النّص او تحطيمه ليست لها علاقة بالنص في حد ذاته، بل بنوايا المخرج وإمكانية فنّ المسرح والعلاقات البنيوية المختلفة بين النص والعرض. بمعنى آخر أن النّص المسرحي لا يقول لك حطمني أو تناولني كما أنا؛ لأن الخيار في ذلك عائد اليك والى رؤيتك والمدرسة أو المدارس المسرحية التّي تعتمد عليها. النّص يقول كلمة واحدة فقط: افعل ما تشاء فأنا كما أنا بين دفتي كتاب أو على الورق أو حيثما تمّ نشري، دائم، أما الشّكل الذي انبثق مني على الخشبة فهو اختيار ومخيلة آنية، لأنه بعد سنة او ربما بعد يوم لا أكثر سيأتي مخرج آخر برؤية مختلفة، قد يحطمني بالكامل او يلتزم بي بالكامل او يتراوح بين التّحطيم والتحايث، لكنّه في كل الاحوال بناء مؤقت لا يُلزم غير صاحبه. إنّ النّص المسرحي قابل للتغير والتلون، ولا يحدث في زمن خارج النّص بل داخله وفي امكنته، بينما يحدث العرض داخل امكنة حقيقية لها أبعاد الطول والارتفاع والامتداد كما هو المكان الحقيقي. في العرض المسرحي، يتم تفاعل العناصر المسرحية بضمنها النص او بدونه لتقديم تجربة على خشبة محددة في زمن محدد وتاريخ محدد. النّص المسرحي على العكس تماماً هو لغة، كلام، أدب فيه عنصر لغوي واحد فقط يتم ايصال الموضوع والأجواء ومكان الحدث والحبكة والصراع من خلاله ولا شيء غيره. فمهما استعان النّص بأشياء كثيرة وتنتمي إلى عالم الواقع فهو يستعين بها ككلمة مكونة من حروف. يضاف إلى ذلك أن العرض براغماتي لديه جمهور محدد، كأن يكون الجمهور الانكليزي في نهاية العصر الفكتوري، وله رسالة معينة فيطرح بذلك قضايا تهمّ الانسان الانكليزي الفكتوري، بينما جمهور النّص المسرحي هو البشرية في أي زمان ومكان. بناءً على كلّ ما استعرضناه من خصائص واختلافات، نجد أن مقولة (لا يكتمل النّص المسرحي الا على الخشبة)، هي مقولة فارغة، فالنّص المسرحي مكتمل من غير عرض مسرحي، والخشبة بنية سمعبصرية متميزة ولا تتقاطع مع النّص المسرحي لان عناصرها مميزة ومختلفة، والنص الحاضر في العرض (والذي يسمى نص العرض) هو اختيار المخرج مما يمكن أن يبقى من نص المؤلف، والسّبب في ذلك أن ثمة خلطا والتباسا بين فنّ أدبي- مكتوب مستقل مكانه الورق، وفنّ مادي بامتياز مكانه الخشبة.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: على الخشبة لا یکتمل أن الن ص
إقرأ أيضاً:
احتفاء خاص بمهرجان شرم الشيخ| جلال الشرقاوي.. رمز المسرح العربي وإرث فني خالد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تحمل الدورة التاسعة من مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي برئاسة المخرج مازن الغرباوي، التي تنطلق مساء اليوم الجمعة وتستمر حتى 20 نوفمبر الجاري، اسم المخرج والأكاديمي جلال الشرقاوي "14 يونيو 1934 - 4 فبراير 2022"، الذي يعد أحد الأسماء اللامعة في تاريخ المسرح المصري والعربي، ويمتد مشواره الفني على مدار أكثر من خمسة عقود، لم يكن مجرد مخرج فقط، بل كان له أيضا حضور قوي كفنان متعدد المواهب، حيث تنقل بين مجالات الإخراج، التمثيل، والكتابة المسرحية.
لعب جلال الشرقاوي دورًا كبيرًا في تطوير فن المسرحاشتهر جلال الشرقاوي بإخراج العديد من الأعمال المسرحية التي أثرت في الحركة الفنية العربية، وكان له دور كبير في تطوير فن المسرح، خاصة من خلال مسرحياته التي تجمع بين الكوميديا والدراما، كما عمل في مجال التلفزيون والسينما، لكنه يُعتبر من أبرز المخرجين المسرحيين في تاريخ الفن المصري.
حصل جلال الشرقاوي على بكالوريوس العلوم من جامعة القاهرة عام 1954، ودبلوم خاص تربية وعلم النفس من جامعة عين شمس عام 1955، وبكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية بتقدير امتياز عام 1958، ودبلوم إخراج من معهد "جوليان برتو" للدراما في فرنسا عام 1960، ودبلوم إخراج من المعهد العالي للدراسات السينمائية من فرنسا عام 1962 قسم إخراج، ومنذ سنواته الأولى بمعهد فنون مسرحية أظهر موهبة واضحة في مجال المسرح، حيث بدأ حياته الفنية في السبعينيات، واستطاع أن يكون له حضور بارز بفضل أسلوبه الفريد في الإخراج.
أخرج جلال الشرقاوي العديد من المسرحيات التي لاقت نجاحًا كبيرًا وأثرت في الجمهور العربي، حيث امتاز أسلوبه بالمزج بين الفكاهة والعمق الدرامي، من أبرز أعماله على سبيل المثال وليس الحصر: "مدرسة المشاغبين، كبارية، قصة الحي الغربي، الجوكر، طيب رغم انفه، البغبغان، راقصة قطاع عام، عطية الإرهابية، الجنزير، حوده كرامة" وغيرها من الأعمال التي ظلت حاضرة في أذهان المواطنين.
لم يقتصر جلال الشرقاوي فقط على الأعمال التقليدية، بل سعى لتطوير فن المسرح المصري عبر إدخال أفكار وأساليب جديدة.
كانت لديه قدرة متميزة على دمج القضايا الاجتماعية والإنسانية في قالب فني ممتع، كما أنه سعى إلى جعل المسرح وسيلة لتقديم رسائل ثقافية ومجتمعية هامة.
عمل جلال الشرقاوي على توجيه جيل من الفنانين الشبان، وركز في أعماله على القضايا الاجتماعية والإنسانية التي تهم المجتمع المصري والعربي مثل الفقر، والتعليم، والتفاوت الطبقي، بالإضافة إلى أسلوبه الكوميدي، حيث كان يستخدم الفكاهة ليس فقط للإضحاك بل أيضًا لطرح قضايا حقيقية ومهمة، وكذلك الإخراج المبتكر، فكان يولي اهتمامًا خاصًا بالديكور والإضاءة في أعماله، مما ساعد على إضافة طبقات إضافية من المعنى للمسرحيات.
رغم أن جلال الشرقاوي اشتهر في الأساس بالإخراج المسرحي، إلا أنه شارك أيضًا في أعمال تلفزيونية وسينمائية، لكن في الغالب كان تركيزه الأكبر على المسرح حيث كان يشعر أنه يمكنه أن يُعبّر عن أفكاره وأسلوبه بشكل أوسع.
أصبح جلال الشرقاوي بفضل رؤيته الفنية رمزًا من رموز المسرح العربي، وأسهم في تعليم وتوجيه العديد من الفنانين، وكان له دور محوري في تطوير فن المسرح في مصر والعالم العربي، وأدى ذلك إلى تقديره وحصوله على جوائز متعددة طوال مسيرته الفنية.
حصل جلال الشرقاوي على العديد من الجوائز والتكريمات طوال حياته، تقديرًا لإبداعاته الفنية التي أسهمت بشكل كبير في إثراء الثقافة المسرحية في العالم العربي، كما يعد من الأسماء التي لن تُنسى في تاريخ المسرح العربي، وسيظل إرثه الفني مصدر إلهام للأجيال القادمة من المبدعين والفنانين.