أثناء بحثي في سيرة وتاريخ الرموز التاريخية الوطنية والثقافية للشعب الفلسطيني لفت انتباهي الحزن والانكسار الفادحين اللذين رافقا خروج العشرات من الشخصيات الفلسطينية المرموقة، على صخرة النكبة، تمزقت الصورة، وسقطت الأشياء، كانت لديهم آمال عراض، وتوقعات بالنصر وحسم الصراع لصالح الحق الفلسطيني، وعلى الصعيد الشخصي، تدمرت حياتهم وفقدوا كرامتهم وبيوتهم ومصالحهم التجارية، وأرضهم، وانتشروا في أصقاع الأرض لاجئين فقراء بعد أن كانوا أسيادا ووجهاء، من ينسى خليل بيدس العجوز والكاتب السردي العظيم، وصاحب مجلة النفائس؟ من ينسى خروجه المذل من بيته في حي (القطمون،) حيث أصر أن يبقى فيه، رغم فراغ الحي من سكانه، لكنه غيّر رأيه في آخر اللحظات بعد أن سمع عن مجازر يرتكبها الصهاينة، مشى بيدس من القطمون حتى القدس مشيا وهو العجوز الذي لا يقوى على المشي؟ من ينسى خروج المفكر والوطني الكبير خليل السكاكيني من بيته الفاخر في حي القطمون، الذي دفع فيه كل مدخراته، بيته الساحر بمكتبته الضخمة وبستانه المبهر؟ خرج السكاكيني تاركا خلفه مشاريعه الثقافية ومقاهي القدس، وقبر معبودته زوجته سلطانة، وكليته (النهضة) في حي (البقعا الفوقا)، وبقي مع عائلته مصرا على الصمود لكنه مثل (بيدس) غيّر رأيه وخرج بلا عودة، لا شيء معه سوى حقيبة ملابس ومذكرات وحبل النرجيلة دون وعائها.
من ينسى حزن المفكر التربوي الكبير أحمد سامح الخالدي وهو يغادر فلسطين بعد وقوع النكبة إلى لبنان سنة 1948، بعد أن وضع حرم «الكلية العربية» التي كان يرأسها، تحت حماية الصليب الأحمر لوقوعها في منطقة قتال؟ لقد وجّه نشاطه في لبنان للتأليف ولمساعدة اللاجئين الفلسطينيين وتعليم أبنائهم، وبنى مدرسة لهم في قرية الحنيّة من أعمال صور ما زالت قائمة إلى الآن، (لقد انكسرت روحي) قال لزوجته اللبنانية وهما يغادران البلاد إلى الأبد، أما قصة المحامي والشاعر والمترجم الفلسطيني اللبناني وديع البستاني فتشكل نموذجا لضراوة هذا النوع المخيف من الانكسار، شهد البستانيّ معركة حيفا وسقوطها بيد الهاجاناه وما اقترفته من جرائم بحقّ فلسطين وشعبها، وهاله عظم المآسي التي حلّت بأبناء مدينته حيفا، وهو المدافع عنها وعن شعبها مدّة ثلاثين عامًا، فالتزم بيته ولم يغادره، ودخلته عناصر من الهاجاناه ووطّنت بعض أُسَرِ المستوطنين المهاجرين في شقق العمارة التي بناها بنفسه. وُضع أبو فؤاد (كنية البستانيّ) تحت الرّقابة ومُنِعَ من التّحرّك مدّة طويلة، أمّا أبناؤه، فكان قد أرسلهم إلى بيروت علّ الأحوال تهدأ، لكنّا لم تهدأ حتّى اليوم. لم يتأقلم البستانيّ مع الحالة السّياسيّة والإداريّة الجديدة الّتي حلّت على وطنه، فترك حيفا عائدًا إلى بيروت عام 1953، لكنّ الموت خطفه مطلع عام 1954، في القرية الّتي وُلِدَ فيها.
كانت حسرة النّكبة والمآسي الّتي شهدها، والظّلم والقمع الّذي لَحِقَ بشعبه في فلسطين، وخسارته لمحبوبته حيفا، ذات أثر كبير في نفسه، فقال مخاطبًا ياسمينة زرعتها ابنته ليلى في ساحة بيته بحيفا:
يا ياسـمـينـةَ لـيـلـى
يا سلوتي فـي نـواهـا
نوّرتِ لـي بـسـمـاتٍ
ضحّاكـةً فـي لمـاهـا
هـذي جـنـايـةُ حـــرٍّ
لم يدرِ كيفَ جنـاهـا
أبـاكِ يـرى ثـراهــا
دمعًا دمًا لا مـيـاهـا
غنّى العروبةَ عُمْرًا
وعاشَ حتّى رثاها
ولعبد القادر المظفر السياسي والمناضل قصة انكسار أخرى، درس المرحلة الابتدائية والإعدادية في مدارس القدس، وتتلمذ على أيدي كبار علمائها، بمن فيهم والده، الذي توفي عام 1895م.
وبعد وفاة أبيه بسنتين سافر ليواصل دراسته في الأزهر الشريف، وانكب على التحصيل إلى أن تخرج فيه بشهادة الأهلية سنة 1918م، ثم عاد إلى القدس حيث اشتغل بالتجارة إلى جانب اهتمامه بالشأن العام، كان شديد الولاء للعثمانيين، كارها للإنجليز، تعرض للاعتقال والملاحقات، شارك في مؤتمر التسليح بنابلس عام 1931 وشغل مناصب كبيرة في المؤتمرات الإسلامية للدفاع عن المقدسات الإسلامية.
وبعد خروجه من السجن عام 1933، انسحب المظفر من الحياة السياسية يائسا منهكا وتوقف عن المشاركة في نشاطات الحركة الوطنية الفلسطينية وقيادتها، انخرط في تجارته وأعماله الخاصة، وبنى عمارة ضخمة في يافا ليستثمرها في مستقبله، لكن النكبة هجمت عام 48 وكسرت ظهر حلمه، غادر إلى عمَّان تاركا عمارته في يافا التي سمّاها (المظفر) حيث توفي هناك ودفن في مقبرة الساهرة في القدس.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من ینسى
إقرأ أيضاً:
الاحتلال: إطلاق 20 صاروخًا من لبنان باتجاه عكا وخليج حيفا
أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الأحد، أنه تم رصد إطلاق 20 صاروخًا من الأراضي اللبنانية باتجاه مدينتي عكا وخليج حيفا شمال فلسطين المحتلة ، وأوضح الاحتلال أن منظومة الدفاع الجوي اعترضت عددا من هذه الصواريخ، بينما سقط البعض الآخر في مناطق مفتوحة.
وفقًا لبيان جيش الاحتلال، فإن الصواريخ أُطلقت في وقت متزامن باتجاه مناطق مأهولة بالسكان، ما دفع صافرات الإنذار للانطلاق في مدن وبلدات شمال إسرائيل، وأكد البيان أن "القوات تعمل على تقييم الأضرار الناتجة عن الهجوم، مع استمرار التحقيقات لتحديد الجهة المسؤولة عن الإطلاق".
في أعقاب الهجوم، أفاد متحدث باسم جيش الاحتلال بأن "مثل هذه الهجمات تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة"، مشيرًا إلى أن الجيش يحتفظ بحق الرد في التوقيت والمكان المناسبين.
على صعيد متصل، دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى اجتماع طارئ لمناقشة التطورات الأمنية، وقال نتنياهو في تصريح مقتضب: "إسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي تهديد لأمن مواطنيها".
تسبب الهجوم في حالة من الهلع بين السكان، حيث أظهرت مقاطع مصورة انتشارًا واسعًا لقوات الشرطة وفرق الإسعاف في المناطق المستهدفة، ولم ترد حتى الآن تقارير عن وقوع إصابات أو أضرار كبيرة، بحسب السلطات المحلية.
يأتي هذا التصعيد في وقت حساس يشهد فيه لبنان وإسرائيل توترًا متزايدًا على خلفية المواجهات العسكرية في جنوب لبنان وتبادل الهجمات بين حزب الله وإسرائيل، وتشهد المنطقة الحدودية تحركات عسكرية مكثفة من كلا الجانبين، ما يزيد المخاوف من انزلاق الأوضاع إلى مواجهة أوسع.
دعا المجتمع الدولي إلى ضبط النفس ووقف التصعيد، حيث أبدى المبعوث الأممي الخاص للسلام في الشرق الأوسط قلقه إزاء تدهور الأوضاع الأمنية، مطالبًا جميع الأطراف بالالتزام بالقوانين الدولية والامتناع عن الخطوات التي تزيد من حدة التوتر.
ومن المتوقع أن تتواصل المشاورات الدولية والإقليمية للسيطرة على الوضع ومنع التصعيد المتبادل بين الجانبين.